قَدّم لَه ثَواب الحجّ كُلّ عام
كان في النجف الأشرف رجل من الحجاز يطلب العلم يُدعى الشيخ علي الفرعي و كان قريناً للمقدس الشيخ علي مغنية في التقى و الفضل ، و رفيقاً له في الدرس و البحث ، فقضيا شطراً من الدهر متلازميْن جادّيْن في تحصيل العلم مجاهديْن في سبيله حتى بلغا منه الذروة العليا .
و قد أصابهما من الفقر و العوز ما يصيب كلّ عالم و طالب و مؤمن و متعمِّم هاجر الى النجف و درس فيه ، و من الصدف الغريبة ان الفقر كان ـ و ما يزال و لن يزال ـ حليفاً لأهل العفاف و الفضل ، و وصفاً لازماً لذوي الإخلاص و الإيمان ، و كان اساتذتنا اذا تذمر أحدنا من الحاجة و شكا من الدين يطيبون نفسه بحديث قدسي : « جعلت العلم في الجوع ، و الناس يطلبونه في الشبع » و كنا ذات يوم في حقل من الشيوخ و الطلاب ، فدخلنا في فنون من الأحاديث ، فانجرّ الكلام الى النجف و ما تحويه فقال المرحوم أخي الشيخ عبدالكريم : و ماذا في النجف غير المشايخ و الفقر ، فاعترضه أحد الظرفاء و قال : لا يا مولانا ليس هناك اثنان فالمشايخ هم الفقر ، و الفقر هو المشايخ ! و كلما كان الانسان عريقاً في المشيخة متقوماً في التحصيل و الفضل كان نصيبه من العوز و الفقر أكبر و أوفر .
لذا بلغت حاجة العليين الكبيرين العاملي و المدني([1]) مبلغهما من العلم و الايمان ، و انسدّتْ دونهما السيل ، و ضاقت عليهما الارض بما رحبت ، و كان الشيخ الحجازي يرقب من ذويه و أرحامه أن يرسلوا له نفقات السفر الى موطنه حيث انتهى من دراسته ، و حاز الشهادة الكبرى بالاجتهاد المطلق ، فتأخروا عليه فأرسل اليهم يحثّهم و يستنجدهم ، و صادف في هذا الحين الذي ينتظر فيه الشيخ الجواب من قومه وصول خمسين ليرة ذهباً الى المقدس الشيخ علي مغنية من ذويه في جبل عامل بعثوا بها اليه لوفاء ديونه و نفقات سفره الى بلاده ، و لما قبضها أحب أن يؤثر بها صاحبه الحجازي ، و يقدمه على نفسه و ولده ، و لم يخش الاّ شيئاً واحداً و هو أن يرفضها الشيخ علي الفرعي لعلمه بأن صاحبها الشيخ علي مغنية أحوج اليها منه ، فرأى ان « يحتال » للأمر ، فأخذ المال و ذهب الى رفيقه و قال له : بشراك فقدجاء الفرج ، و تيسّر ما عُسّر من أمرك ، أتاك المال من الحجاز و قبضتُه لك ، و هذا هو خمسون ليرة ذهباً ، فطابت نفس الشيخ و انشرح صدره ، و تسلم المال و يده ترتعش سروراً ، و وجهه يطفح بشراً ، فوقى ديونه و قضى حوائجه و ابتاع أدوات سفره ، و ودّع رفيقه عائداً الى بلاده يحدوه الشوِ ، و يهزّه الطرب اذ ترك النجف موفور الكرامة عالي الرأس ، ليس لدائن عليه حق ، و لالغريم درهم ، و لما وصل الشيخ الى الحجاز علم كل شيء و فهم وجه « الحيلة » و مرماها ، و بأي شيء يشكر هذه النعمة التي أنقذته من التهلكة ، لم يَرَ خيراً من الإسراع بإرجاع المال الى صاحبه مشفوعاً بكتاب يعترف فيه بالفضل و الجميل ، و قبل أن يباشر بتهيئة المال تسلّم كتاباً من صاحبه الشيخ علي مغنية يقول فيه بعد التهنئة بوصوله سالماً : ايها الأخ الجليل اياك أن تفكر في إعادة المال ، فإنه من الله و في سبيله ذهب ، هو لك بأجمعه ، لاأريد منك وفاء و لاجزاء .
و كأني بالشيخ و قد دمعتْ عيناه إكباراً لهذا الايثار الخالص المفاداة النادرة ! ماذا يصنع الشيخ الحجازى ؟ بينا يرى نفسه عاجزاً عن شكر المنعِم و هو يظن انه يقبل المال منه و اذا به يضيف الى الاولى نعمة أجل و اعظم ! ما يصنع ؟ و بأي شيء يكافىء الشيخ علي مغنية ؟ و لم يكن المال من أهدافه و لاالمادة من غاياته ، و لاهو منها في شيء فقد تعالتْ نفسه عن العالَم السفلي الى الملكوت الأعلى حيث لايصعد الاّ نبي مرسَل أو ملك مقرَّب ، فمن أراد مكافأة الشيخ علي مغنية فليعمل له في هذا السبيل سبيل الروح و القداسة لاسبيل المال و الشهوات ، إذن وجد الشيخ علي الفرعي الطريق الذي يمكن ان يؤدي به بعض ما عليه من حق ، فآلى على نفسه أن يحج الى بيت الله عن الشيخ علي مغنية في كل عام ما دام حيّاً ، و وفى بعهده و بقي مثابراً على ذلك حتى وافته المنية .
أجل قد يفعل الانسان الخير رغبة في مرضاة الله ، و طمعاً في السعادة بعد هذه الحياة و فراراً من العقاب و العذاب ، و قد يفعل الخير لأنه مفطور على الخير ، فيصدر عنه من تلقاء نفسه لم يدفعه اليه عامل خارجي من رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب .
و لكن الشيخ علي مغنية لم يُقدِم على تلك السماحة و المفاداة إلا بدافع نفسه و خلوص ضميره ، و لم يستمد الخير و الصلاح الاّ من ينبوعه الفياض .
رجل منقطع عن أرحامه و أهله ، منقطع عن موارده و بلده لايملك من دنياه شيئاً سوى خمسين ليرة ذهباً تعادل يومذاك ألفاً أو تزيد ، هو أحوج اليها ممن كان و يكون يؤثر بها رجلا لن يراه بعد اليوم ، و ليس له فيه و لا في قومه أيّ غاية أو مأرب .([2])
--------------------------------------------------------------------------------
[1]ـ العاملي هو الشيخ مغنية من جبل عامل و المدني هو زميله الشيخ علي من الحجاز ـ نسبة الى المدينة المنوّرة ـ .
[2]ـ مع علماء النجف الأشرف / ص 187 مع تصرّف يسير .