• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الامام الحسين

  • 1
  • 1

    أرجوك أن توزعني شكراً على
    حبّ الحسين أبتغيه شافعا
     
    يقرب منك مطمئنّاً بالذي
    كتبته له ويدنو خاضعا
     
    يسير نحو الموت في عجالةٍ
    ولا يبالي أن يرى المصارعا
     
    يأنس بالقتل الذي أردته
    يأتي إليك راضياً وقانعا
     
    وشبله الأكبر يأبى الضيم في
    أرض الوغى ولا يخاف رادعا
     
    حتى الرضيع باسمٌ كأنه
    يرى لدى الخُلد له مراضعا
     
    وابن أخيه يستسيغ الموت لا
    يأبى بأن يرى المنايا يافعا
     
    ويفقد الصبر على عبّاسه
    ومِن رضاه يرتضي تواضعا

    محمدرضا المُهري

  • 1

    ألا  أيــــها  القــــبر  الـــزكيُّ  المــــشرّف                  علــــيك  دمــــوع  مـــن  محبــيك  تذرف
    رحــــاب  بــــها  نــــور  الجـــلالة  ساطع                  لكم  قـــــادني  شـــــوق  لهـــا  وتــشوّف
    وقــــبر  ثـــــوت  فــــيه  سلــــيلة  حــيدر                  تمـــــيل  لــه  الألــــباب  دومـــاً  وتعطب
    مـــــقام  زهــــا  قــــدراً  وأصبح  مــــلجأً                  ومعــــــتكفاً  فــــيه  المــــلائك  تعــــكف
    وعــــيبة  عــــلم  الله  عـــــالمة  الــورى                  ومن  مثـــلها  فــــي  رهــط  أحمد  يُعرف
    وأيّ  فـــــؤاد  لا  يـــــذوب  تـــصــــدّعـــاً                  إليه  غــــدا  قـــــلب  المــــــتيّم  يُـــــدلف
    مــــــقام  تـــــجلّى  الله  فــــوق  شــعاعه                  وعـــــيني  لـــه  مــن  خشية  الله  تطرف
    إليـــــها  ذووا  الحــــاجات  تهوي  كطائر                  يهزّ  جــــناحيه  حـــــبوراً  ويهــــتـــــف
    نقـــــيبة  أهــــل  البـيت  روحي  لها  الفدا                  فمـــــا  خــــاب  مــــن  قد  جاءها  يتلهّف
    أبـــــوها  أميــــــر  المــــؤمنين  ومن  له                  مـــــواقف  لا  تخــــفى  ولا  هـي  تضعف
    أبوها  هو  الساقي  على  الحوض  في  غدٍ                  وأمٌّ  هـــــي  الــــزهراء  بالفضل  أعرف
    عـــليها  رزايا  الـــدّهر  تــــترى  وأنـــها                  أشـــــدّ  مـــــن  الــكرب  العظيم  وأعنف
    كــــأن  لـم  تـــكن  تدري  الأعادي  لزينبٍ                  مـــــقامٌ  رفـــيعٌ  عـاطر  الرّوض  مؤنف
    لهـــــا  خـــــلقٌ  كــــالفجر  عــمّت  ظلاله                  ومكـــــرمة  بــاتت  على  الناس  تشرف
    وقــاست  خطوباً  وهي  مهضومة  الحشا                  كمـــــا  هضـــــم  المظلوم  والمــــتحيَّف
    مصــــاب  غــــدت  تبكي  العيون  له  دماً                  وكلّ  محـــــبٍ  دمــــــعه  مــــــتــــــوكّف
    لهـــا  فـي  عراص  الطفّ  أسمى  مواقف                  يذلّ  لها  جيـــــش  العــــــدو  ويـــــرعف
    فـــفي  كــــربلا  قـــــد  ساندت  ثورة  الإبا                  فـــــلم  تخـــــش  مــن  جور  ولا  تتخوّف
    أتـــــت  زيــــنب  للـــشِّمر  تشفي  غليلها                  لـــــــتزجره  طـــــوراً  وأخــــرى  تعنف
    تــــقول  لــه:  هـــل  ترضَ  بالغدر  شيمة                  وقد  جــــئت  بـالأمر  الذي  ليس  يوصف
    أتــــجهل  مَــن  مِـن  فــضله  غمر  الورى                  إمام  الهــــدى  والـــــزّاهد  المتـــــعفّف
    ولــــست  بــــناسٍ  يوم  سيقت  بشجوها                  إلى  الشــــام  فـــي  ظهر  الهوازل  تردف
    ومـــن  حـــــولها  أيـــــتـــام  آل  محــــمد                  تـــــساق  وفـــي  قــيد  من  الذلّ  متطرف
    بـــــأقــــوالها  هـــــزَّت  عــــروش  أميّةٍ                  وليــــس  يخـــــفها  نـــــازلٌ  متـــــطرّف
    وقــــد  رفـــــــعـــت  للحـــقِّ  أعظم  رايةٍ                  يـــــضجُّ  الـــــدهر  الغـــــشوم  ويعصف
    إليــــــك  ابـــــنة  الــــزهراء  غُرَّ  قصائدٍ                  منــــــشَّرة  والقـــــلب  بــــاسمك  يهتف

    الأستاذ السيد سلمان هادي آل طعمة

  • 1

    كان التاريخ ولا زال اللاعب الأساس في رسم معالم الكثير من المعارف الدينية والإسلامية، وانسياقاً مع هذا النوع من التأثير أدرج مجموعة من العلماء والباحثين الأحداث التاريخية التي أحاطت بالنهضة الحسينية في قائمة الأسباب المانعة من الالتزام بوثائق ومستندات أهدافها السياسية.
    ونحن قد تعرّضنا في مقال سابق لبيان بعض الأسباب والمبررات التي دعت جملة واسعة من أولئك العلماء والباحثين لإنكار الأهداف السياسية للنهضة الحسينية، فذكرنا منها الأسباب العقدية والتراثية، وأجبنا عنهما بما يتناسب مع الآفاق العامة للبحث، ونحاول في هذا المقال أيضاً أن نستعرض واحدة من أهم الأسباب والمبررات التاريخيّة، وذلك في إطار العنوان التالي:
    الخروج لإسقاط الأنظمة الحاكمة لم يكن سبيلاً ومنهجاً في سيرة الأئمة عليهم السلام(أسباب تاريخية)
    إنّ الفكرة المطروحة تحت هذا العنوان ملخّصها هو: أن كل الأئمة المعصومين عليهم السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ـ باستثناء الإمام الحسين عليه السلام في موقفه الأخير ـ لم يُسجّل لهم التاريخ موقفاً سياسياً يُمثّل جانباً من جوانب الثورة والانقلاب والخروج على السلطات غير الشرعية لإسقاطها وإقامة الحكومة الإسلامية الإلهية العادلة بقيادة خليفة الله في أرضه.فأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد بقي جليس داره زمناً طويلاً، ولم يرصد له التاريخ تحركاً سياسياً أو تخطيطاً عسكرياً لإسقاط النظام الحاكم آنذاك، بل كان مستشاراً دينيّاً وقانونيّاً وسياسيّاً لذلك النظام في كثير من القضايا المهمّة والمفصليّة، وحينما جاءه المسلمون يبايعونه على الخلافة ـ بعد مقتل عثمان ـ اعتذر في بداية الأمر عن قبول بيعتهم، وطلب منهم أن يلتمسوا غيره، وشارطهم على أنه سيكون داعماً للحكومة التي يختارونها، ولعل أسباب ذلك هو أن الأُمة قد انحرفت بعد نبيّها عن مسارها الصحيح الذي اختطَّه لها، ولم يبقَ بالإمكان فرصة إصلاحها، بإقامة حكومة إلهية على يد الخليفة المعصوم، باستثناء ما سيقوم به المهديّ عليه السلام. وحتى بعد قبوله عليه السلام استلام السلطة كان يعلم من أول الأمر بفشل مشروع الإصلاح، ولم يكن هدفه من ذلك تحقيق ما اندفعت الجماهير له وتخيّلته ممكناً، من إصلاح الأوضاع العامّة أو تعديل مسار السلطة في الإسلام. وإنما كان الدافع الأساس هو عهد النبي صلى الله عليه وآله له بالقيام بالأمر إذا وجد أنصاراً.
    كذلك الإمام الحسن عليه السلام، حيث اضطر لترك الخلافة وتسليمها لمعاوية بن أبي سفيان، وبغض النظر عن الحديث في ظروف ومبررات ذلك، فهو عليه السلام في نهاية المطاف قد تنازل عن الخلافة لحساب معاوية، ما يعني أن الأُمة لا زالت غير مؤهَّلة لتشكيل حكومة إسلامية عادلة.
    والإمام الحسين عليه السلام لم يتحرّك أيضاً بعد أخيه الحسن عليه السلام للقيام بالثورة والانقلاب لإقامة دولة الإسلام، لا في زمان معاوية ولا زمان ابنه يزيد، وهو إنما خرج أخيراً لطلب الشهادة بأمر إلهي، لمّا حوصر وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
    والصورة أوضح وأجلى بالنسبة إلى سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام، من زمن إمامة علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، إلى زمن الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام، والفترة التي أعقبتها حينما غاب ابنه المهدي عليه السلام، حيث لا نجد في فصول سيرتهم عليهم السلام أيّ تحرك باتجاه التغيير السياسي أو الانقلاب العسكري، بل كانوا يأمرون أصحابهم بالجلوس والسكون والالتزام بالهدنة وانتظار الفرج على يدي القائم من آل محمد عليهم السلام، خصوصاً في زمن الإمام الصادق عليه السلام، مع أن فرصة التغيير السياسي كانت كبيرة جدّاً في فترة إمامته عليه السلام.
    روى الكليني بسنده عن عبد الحميد الواسطي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «قلت له: أصلحك الله! لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر، حتى ليوشك الرجل منا أن يسأل في يده؟ فقال: يا [أبا] عبد الحميد! أترى مَن حبس نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلى والله، ليجعلن الله له مخرجاً، رحم الله عبداً أحيا أمرنا» ([1]).
    وروى النعماني في الغيبة بسنده عن عبد الرحمن بن كثير، قال: «كنت عند أبي عبد الله عليه السلام يوماً وعنده مهزم الأسدي، فقال: جعلني الله فداك، متى هذا الأمر الذي تنتظرونه، فقد طال علينا؟ فقال: يا مهزم، كذب المتمنّون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلمون، وإلينا يصيرون» ([2]).
    وهذا كلّه يكشف عن أن منهج الأئمة عليهم السلام وسيرتهم بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم يكن قائماً على التدبير والتخطيط لإسقاط الأنظمة الظالمة في زمانهم، واستبدالها بالحكومة الإلهية العادلة. بل إن سيرتهم عليهم السلام وسيرة أتباعهم قد جرت على مبدأ السكوت والجلوس والانتظار والترقّب، إلى أن يأذن الله بأمره؛ وذلك لأن الأُمّة قد فقدت قابلية الإصلاح والتغيير حينما انحرفت عن مبدأ الإمامة والخلافة الإلهيّة بعد وفاة نبيّها الأكرم صلى الله عليه وآله، فأضحى الإصلاح وإرجاع السلطة في الإسلام إلى مسارها الصحيح متعذراً، بعد الانحراف الكبير الذي تورّطت به الأمّة، وكان الأئمة عليهم السلام يعلمون بذلك من اليوم الأول للانحراف، وإن لم يتسنّ لهم التصريح به والتأكيد عليه إلّا بعد فاجعة الطف.
    وحينئذ يكون الإيمان بثبوت أهداف سياسية انقلابيّة وثورية للنهضة الحسينية، مما يتنافى مع المنهج الصحيح والتوجّه العام والسيرة العملية المعروفة لأئمة أهل البيت عليهم السلام، في كيفية تعاملهم مع السلطات غير الشرعية، الحاكمة في زمانهم، حيث كانت قائمة على مبدأ المهادنة وعدم التصدّي لمواجهة الحاكم، مع أن بعض تلك السلطات قد لا يقل ظلماً وجوراً وتهتّكاً عن حكومة يزيد بن معاوية.

    الإجابة عن هذه الإشكاليّة
    النهضة والإصلاح والتغيير السياسي في منهج وسيرة أهل البيت عليهم السلام
    نعتقد بأن هذه الإشكاليّة والرؤية المجتزأة في تحديد سيرة ومواقف المعصومين عليهم السلام تجاه السلطات الحاكمة في زمانهم، غير واقعيّة ولا مطابقة لأُسلوبهم في التعامل مع طبيعة الواقع الديني والاجتماعي والتقلّبات السياسية والاضطرابات الأمنيّة والاقتصاديّة والمذهبيّة التي عايشوها آنذاك. وللوقوف على حقيقة الأمر نقول:
    إننا وبشكل صريح وواضح نرفض هذه الإشكالية من الأساس، ولا نقبل بفكرة أن الأئمة عليهم السلام لم يسعوا على الإطلاق لاستلام الحكم وإصلاح الأُمور وبناء دولة الحقّ والعدل بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. بل نعتقد بأن سيرتهم كانت قائمة على العكس من ذلك، حتى بعد انحراف الأُمّة عن مسارها الصحيح في مسألة الإمامة والخلافة، خصوصاً في الفترة التي سبقت شهادة الحسين عليه السلام، والتاريخ والنصوص الدينية المتضافرة خير شاهد ودليل على ما ندّعي، ولنأخذ جولة سريعة حول أهم الأحداث والنصوص الواردة في هذا الإطار ضمن العناوين التالية([3]):

    1ـ المبادئ السياسية للنهضة العلوية
    نعتقد بأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد سعى بقوّة وبشكل جادّ للقيام بنهضة تصحيحيّة شاملة، كما سعى أيضاً بالسبل المتاحة والمشروعة لاستلام السلطة والخلافة وإقامة حكم الله في الأرض بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، والشواهد التاريخية والروائية على ذلك كثيرة جداً، ومستفيضة نصّاً ومعنًى، نذكر فيما يلى بعضها:

    الشاهد الأول: الحركة السلمية لإسقاط الحكومة غير الشرعيّة
    لقد واصل الإمام علي عليه السلام رفضه واستنكاره لخلافة أبي بكر، ومقاطعتها، وامتناعه عن أداء البيعة، وتحصّنه هو وأهل بيته وأتباعه في بيت فاطمة سلام الله عليها، والمطالبة المستمرّة بحقّه المشروع بالخلافة وقيادة الأُمّة، واعتبار ما حصل انقلاباً على الشرعية.
    يقول عليه السلام في إحدى خطبه حول هذه النقطة بالخصوص: «وقال قائل: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص. فقلت: بل أنتم ـ والله ـ لأحرص وأبعد، وأنا أخص وأقرب، وإنما طلبت حقاً لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه... اللهم، إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي» ([4]).
    وقد شكّل ذلك العصيان المدني والسياسي اللافت خطراً شديداً على تشكيلة الحكومة الجديدة، واعتبره قادة الحركة الانقلابية توهيناً وإضعافاً لهيبة الخلافة والدولة في نفوس عامّة المسلمين، ما استدعى منهم إصدار التوجيهات والأوامر بالتحرك العسكري لقمع المعارضة، وإعلان حالة الطوارئ، وفرض الأحكام الجاهليّة اللا عرفية، التي انتهكت حرمة البيت النبوي الطاهر، وتجاوزت على البضعة النبوية الشريفة بالضرب والتعنيف، وقد وقعت في أكثر من مناسبة مشادّات كلامية ومناوشات بين أفراد في المعارضة وبين قيادات حكومية وعسكريّة في الحزب الحاكم([5]).
    هذه وغيرها من الأحداث ـ في سياق الحركة السلميّة العلوية للمطالبة بالحقوق الدينيّة والسياسيّة ـ كوّنت رؤية واضحة لدى الرأي العام تجاه الخلافة القائمة وعدم شرعيتها. وهذا خير شاهد على التدخل المباشر من قِبَل المعصوم في صناعة القرار السياسي وتعيين نظام الحكم والسلطة، ولكن بالطرق السلميّة.

    الشاهد الثاني: الحركة الثورية لإسقاط الحكومة غير الشرعية
    لقد ترأّس الإمام علي عليه السلام حركة ثورية لإدارة دفّة التغيير السياسي والحكومي، واتخذ خطوات ميدانية بقيادته الحكيمة لإسقاط خلافة الانقلاب السقيفي، الفاقد للأهلية والكفاءة في قيادة الأُمّة الإسلاميّة، وهنالك نصوص تاريخية وروائية كثيرة جدّاً، يمكن رصدها وتتبّعها لفهم معالم وآفاق هذه النهضة العلوية الرائدة، وتفصيل الكلام في هذه النقطة قد يخرجنا عن هدف هذا المقال، ولكننا نحاول التأشير على بعض مشاهد وصور تلك النهضة إجمالاً، فمن ذلك على سبيل المثال:
    1ـ ما رواه الخصيبي في كتابه الهداية الكبرى، بسنده عن الإمام الحسن عليه السلام، حينما عاتبوه على صلحه مع معاوية، وتركه الخلافة له كما سيأتي، فأجابهم قائلاً: «لو أني في ألف رجل، لا والله إلّا مائتي رجل، لا والله إلّا في سبع نفر لما وسعني تركه، ولقد علمتم أن أمير المؤمنين دخل عليه ثقاته حين بايع أبا بكر، فقالوا له مثلما قلتم لي، فقال لهم مثلما قلت لكم، فقام سلمان والمقداد وأبو ذر وعمار وحذيفة بن اليمان وخزيمة بن ثابت وأبو الهيثم مالك بن التيهان، فقالوا: نحن لك شيعة ومن ورائنا شيعة لك، مصدقون الله في طاعتك. فقال لهم: حسبي بكم. قالوا: وما تأمرنا؟ قال: إذا كان غداً فاحلقوا رؤوسكم واشهروا سيوفكم وضعوها على عواتقكم وبكّروا إليّ؛ فإني أقوم بأمر الله ولا يسعني القعود عنه. فلمّا كان من الغد بكّر إليه سلمان والمقداد وأبو ذر وقد حلقوا رؤوسهم وأشهروا سيوفهم وجعلوها على عواتقهم، ومعهم عمار بن ياسر... فلما قعدوا بين يديه عليه السلام نظر إليهم... فقال: اغمدوا سيوفكم، فو الله، لو تمّ عددكم سبعة رجال لما وسعني القعود عنكم»([6]).
    فهذا النص صريح في أن من الوظائف المصيريّة والأوامر الإلهيّة التي كان يرى الإمام علي عليه السلام ضرورة القيام بها ـ بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ـ هو النهوض والتحرّك المسلّح لإسقاط الخلافة المنتحلة، والتصدّي لإقامة أمر الله وحكمه في الأرض بإمامته وقيادته عليه السلام، وقد أعطى الأوامر والتوجيهات اللازمة في هذا المجال، وكان يكفيه للخروج وتحقيق الأهداف في ذلك الحين سبعة من الرجال المخلصين، المضحّين لدينهم ومبادئهم. لكنه عليه السلام لم يجتمع لديه حتى هذا العدد القليل من الأعوان والأنصار، وهو ما اضطرّه للبيعة واستبعاد الخيار العسكري.
    2ـ خطبته عليه السلام المشهورة في مسجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، حينما تخاذلت الأُمّة في الدفاع عن حقّه بالإمامة والخلافة، يقول فيها عليه السلام، بعد تقديم الحمد والثناء لله تعالى، والصلاة على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: «أيها الأُمة التي خُدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت، واتّبعت أهواءها، وضربت في عشواء غوايتها، وقد استبان لها الحق فصدّت عنه»، في إشارة واضحة منه عليه السلام إلى أن خلافة السقيفة كانت خدعة مفضوحة بفكرتها ورجالاتها وتشكيلتها، وأن الخدعة انكشفت للأُمّة بالجهود السلميّة التي بذلها عليه السلام، فظهرت بذلك معالم الحقّ والحقيقة، ولكن الأُمّة تخاذلت، واتّبعت أهواءها، وصدّت عن الحق، ونامت على وسائد الخديعة والذلّ.
    ثم يواصل عليه السلام كلامه في تعنيف الأُمة وتوبيخها على تضييعها هذا الحق الإلهي، الذي فيه صلاح البلاد والعباد والسعادة في الدارين، إلى أن يقول عليه السلام: «أما والله، لو كان لي عدّة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر ـ وهم أعداؤكم ـ لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق وتنيبوا للصدق، فكان أرتق للفتق، وآخذ بالرفق، اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين»، فكان الإمام عليه السلام على استعداد تامّ لخوض حرب شاملة، هدفها إسقاط الحكم الفاسد وإرجاع الحقّ لأهله، ويؤكّد بشكل واضح وصريح على أن المصلحة في ذلك، وأنه لا مصلحة في المهادنة والسكوت. ولكن لا حرب بلا جيش، ولا صولة بيدٍ جذّاء!!
    ثم خرج عليه السلام من المسجد، فمرّ بحظيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: «والله، لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه. فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلاً على الموت، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلّقين، وحلّق أمير المؤمنين عليه السلام، فما وافى من القوم محلقاً إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وجاء سلمان في آخر القوم، فرفع يده إلى السماء، فقال: اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون»([7]). ومضمون النصّ واضح لا يفتقر إلى التعليق. ويظهر منه أنه عليه السلام كان يجلس لاستقبال المبايعين على التضحية والقتال في سبيل الحقّ، وقد أقنع ـ بكلامه وخُطبه وتحركاته الواسعة ـ مجموعة كبيرة من الصحابة، قادرة على التغيير وصناعة المستقبل بما يتوافق مع الإرادة الإلهيّة، لولا الخيانة والخذلان.
    3ـ ما يروى عن سليم بن قيس، أنه قال: «سمعت علياً يوم الجمل ويوم صفين يقول: إني نظرت فلم أجد إلا الكفر بالله، والجحود بما أنزل الله، بمعالجة الأغلال في نار جهنم، أو قتال هؤلاء، ولم أجد أعواناً على ذلك. وإني لم أزل مظلوماً منذ قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله، ولو وجدت قبلُ الناس أعواناً على إحياء الكتاب والسنّة كما وجدت اليوم لنا لم يسعني القعود»([8]).
    فكان البحث جارياً عن الأعوان والأنصار منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وما كان يسع عليّاً عليه السلام القعود عن حقّه، لولا اليد الجذّاء وتخاذل الشعب وفقدان الناصر. والنصّ يُشير بوضوح إلى أن هناك نهضة علوية تستهدف إحياء الكتاب والسنّة، والتغيير الثوري المسلّح، ولكنها نهضة لم ترَ النور بسبب تخاذل الأُمّة وتقاعسها عن الحقّ. كما أن النصّ واضح أيضاً، في كون الجلوس عن الحق، ومهادنة الطغاة، مع وجود الأعوان والأنصار، من الأُمور التي تستلزم لصاحبها الكفر بالله، والجحود بكتابه، واستحقاق الدخول إلى نار جهنّم، فهي من الكبائر بامتياز.
    4ـ يواجه الإمام عليه السلام في هذا النصّ قيادات الحزب الحاكم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ويُصارحهم بأبعاد حركته السياسية الثورية التي كانت تؤرّقهم آنذاك، ويخاطبهم عليه السلام بالقول: «ولو كنت في أربعين رجلاً، لفرقت جماعتكم، فلعن الله قوماً بايعوني ثم خذلوني»([9]).
    فكان هناك تخطيط عسكري من قِبله عليه السلام، وبيعة له على التحرّك المسلّح لإسقاط النظام، وكاد أن ينجح الأمر لولا الخذلان، ولعلّ نظام الحكم الانقلابي قد بلغ من القوّة والاستحكام ما احتاج فيه الإمام عليه السلام لزيادة سقف الأعوان والمؤيدين من سبعة رجال إلى الأربعين رجلاً.
    5ـ في مضمون آخر ذي صلة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام، بعد أن كشف له طموحات القوم ومخططاتهم ورغبتهم الجامحة في تولّي السلطة والحكم: «إن وجدت عليهم أعواناً فجاهدهم ونابذهم، وإن أنت لم تجد أعواناً، فبايع واحقن دمك». فقال علي عليه السلام مخاطباً مجلس الشيوخ!!: «أما والله، لو أن أُولئك الأربعين رجلاً الذين بايعوني وفوا لي لجاهدتكم في الله» ([10]).
    فلم تكن وصية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام هي السكوت والقعود عن حقّه بشكل مطلق وفي جميع الأحوال، وإنما جعل ذلك ظرفاً اضطراريّاً ومشروطاً بعدم وجود المؤيدين والأعوان، وأن عليه أن يسعى لتكوين قوّة فدائية ضاربة؛ يستعين بها لتقويم الانحراف الذي ظهرت معالمه في الأُمّة، ويظهر من كلامه عليه السلام أنه قد عمل فعلاً بالفرض الأول من الوصية، فاستنصر الناس وتهيّأ للجهاد وجمع الأعوان، وأن هناك أربعين رجلاً من الأصحاب ـ في أقلّ التقادير ـ قد بايعوه بالفعل على الجهاد لإسقاط نظام الحكم، ولكنهم خذلوه، فاضطر للسكوت والمهادنة.
    6ـ وهناك نصّ روائي يُبيّن طبيعة التحرك والتخطيط العلوي لجمع الأعوان، وكسب الأنصار، والتأكيد على ضرورة التحشيد البشري والعسكري؛ للخروج على الخلافة غير الشرعية، وهو ما شاهده سلمان، ورواه توصيفاً وتوثيقاً لتلك المرحلة الحسّاسة، إذ يقول: «فلما كان الليل حمل عليّ فاطمة على حمار، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين، فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتى منزله وذكر حقّه ودعاه إلى نصرته، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة وأربعون رجلاً، فأمرهم أن يُصبحوا بكرة محلّقين رؤوسهم، معهم سلاحهم، وقد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة»([11]).
    لقد احتشدت في هذا النص معان ومضامين بالغة الخطورة والأهمية، تحكي آفاق وأُسلوب وآليات النهضة العلوية للتغيير، تلك النهضة التي أقعدها خذلان الأُمة وضعف إرادتها، حيث حمل عليه السلام ثقل النبوة وحرم الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين، وخرج بهم في هيئة وكيفية خاصّة، وبشيء من السريّة والخفاء والكتمان؛ وذلك بغية إقناع الأُمّة بحقّه، ودعوة الناس لنصرته، ومبايعته على الموت والجهاد في سبيل الله؛ لتصحيح المسار الذي لا زال في بدايات الانحراف والضلال، وقد اختار للتغيير والتصحيح الأُسلوب العسكري المسلّح؛ لخطورة الموقف، وضرورة الإصلاح.

    نكتفي بهذا القدر من النصوص والإيضاحات، ويمكننا أن نجمل مفاصل هذه النهضة العلوية المباركة بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في النقاط التالية:
    1ـ كان الإمام علي عليه السلام يعلم بواقع المؤامرة؛ حيث أخبره النبي صلى الله عليه وآله بذلك، وأطلعه على ما يُضمره القوم من مطامع وشهوات تجاه الزعامة والحكم.
    2ـ إن النبي صلى الله عليه وآله قد أوصى عليّاً عليه السلام، في حال تفاقمت الأُمور، وانقلب القوم على الشرعيّة السماويّة، بأن يسعى لتشكيل قوّة عسكريّة مسلّحة لوأد الفتنة وإفشال المؤامرة، وإكمال مسيرة بناء الدولة الإسلاميّة العادلة؛ فكان الخروج المسلّح للتغيير من الوظائف الإلهيّة، بأمر مباشر من النبي صلى الله عليه وآله.
    3ـ كذلك أوصى النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بالجلوس والسكوت واستبعاد الخيار العسكري إن لم يجد ما يكفي من الأتباع والمؤيدين، ويُفهم من النصوص الواردة في هذا المجال أن خيار السكوت كان خياراً اضطراريّاً، وعلاجاً طوارئيّاً في أسفل قائمة الحلول، ولم يكن هو الأصل في التأسيس لكيفية مواجهة السلطات والحكومات الفاسدة والمنحرفة.
    4ـ ابتدأت الحركة العلوية بشكل سلمي؛ لكشف خيوط المؤامرة والخديعة والشعارات المزيّفة، متمثّلة في بداية الأمر بالمقاطعة والاستنكار والمطالبة بالحقّ ورفض البيعة والعمل على كشف الأوراق، وقد نجحت هذه الحركة السلميّة في فضح المؤامرة ورجالاتها أمام الرأي العام، وأضحى المسلمون على بيّنة من أمرهم، يعلمون أن الحقّ مع علي عليه السلام، لا مع غيره. واستشعاراً بخطورة هذه الحركة، اتخذت الحكومة القائمة تدابير أمنيّة صارمة لإسكات هذا الصوت المعارض، والمطالب بحقوقه المشروعة.
    5ـ كانت الحركة والنهضة العلوية المباركة تحمل شعارات التغيير والإصلاح، وإحقاق الحق، والدفاع عن الدستور الإسلامي (الكتاب والسنّة النبويّة)، وإقامة حكم الله في الأرض.
    6ـ بعد أن جُوبه الخيار السلمي بالعنف الحكومي، وارتسمت الصورة الواضحة للخلافة غير المشروعة، وعملاً بالوصيّة النبوية الشريفة، سعى الإمام عليه السلام بشكل جادّ ومتكرّر لاستنهاض الأُمّة وتحشيد المسلمين وإقناعهم بضرورة تبنّي الخيار العسكري لاسترجاع الحقوق وردع البغاة والطامعين والمتسلّقين على أكتاف المسلمين، وأن الخروج المسلّح لتحقيق الإرادة الإلهيّة أصلح للأُمّة من المهادنة والسكوت على الباطل، بل يُعدّ هذا الأمر من الكبائر مع إمكانيّة التغيير.
    ويظهر من بعض النصوص أنه عليه السلام قد تحرك بهذا الاتجاه مراراً وتكراراً، وحاول استنهاض الأُمة في ظروف ومناسبات مختلفة. كل ذلك بتدبير خاص ومدروس ومُتقن، مُحاطاً بدرجة عالية من السرية والخفاء والكتمان، وفي وفد مفاوض إلهي رفيع المستوى، ضمّ أهل الكساء والمباهلة وآية التطهير.
    7ـ أصابت تلك الجهود المباركة أهدافها، وأسفرت عن تشكيل جيش متكامل، وقوّة عسكريّة كبيرة قادرة على التغيير، وقد بايعوا الإمام عليه السلام على الجهاد في سبيل الله والموت بين يديه. وصرّح عليه السلام في أكثر من موقف بأنه مستعدّ لخوض حرب عامّة وشاملة ضدّ كل مَن يقف بوجه الإصلاح والتغيير، واسترجاع الحقوق المسلوبة، وإقامة حكم الله في الأرض، وليس ذلك إلا لخطورة الموقف وحساسيّة المرحلة.
    8ـ أصدر الإمام عليه السلام لأتباعه مجموعة من التوجيهات والأوامر والتدابير السياسيّة والأمنيّة، كان من جملتها المحافظة على سريّة الحركة إلى حين مجيء ساعة الحرب، وأن يكونوا على استعداد كامل للمواجهة، وأن يحلقوا رؤوسهم؛ ليتميّزوا بالهيئة والشكل عن غيرهم، ويُوحوا لأعدائهم بأنهم مستميتون في سبيل مبادئهم، ويُدخلوا في قلوبهم الرعب، وقد أمرهم عليه السلام بالإبكار مصبحين واضعين سيوفهم على أكتافهم، إما التغيير أو الموت.
    9ـ لكن المؤسف في الأمر هو أن الأُمة قد تخاذلت في أداء وظائفها، وتخاذل المؤيّدون وتراجعوا تدريجيّاً عن بيعتهم، اتباعاً للهوى، وطلباً للسلامة الدنيويّة على حساب الدين ومصلحة الإسلام.
    10ـ اضطر الإمام عليه السلام بعد الخذلان للبيعة والمهادنة، وحينما استدعاه الحزب الحاكم للبيعة تحت طائلة العنف والتهديد، صارحهم بحركته السياسية وتخطيطه العسكري، الذي كان كثيراً ما يؤرّقهم ويُخيفهم، وقد أطلعهم بشكل واضح على أنه كان عازماً على استئصالهم وإقصائهم عن سدّة الحكم، لولا تقاعس وخذلان الناس والأعوان.
    وحاصل ما ذكرناه في هذه النقطة وسابقتها: أن هناك نهضة إصلاحية وتصحيحية منظّمة، قادها الإمام علي عليه السلام، حملت شعارات: التغيير، وإحياء الكتاب والسنّة، والدفاع عن الشرعيّة الإلهية، وإسقاط الخلافة المبتدعة والخارجة عن القانون، وإقامة حكومة الإسلام بقيادة علويّة ربّانيّة. ولكن النجاح لم يُكتب لهذه النهضة المباركة بسبب سوء اختيار الأُمّة المتخاذلة، وفقدان الأنصار المؤمنين بالنهضة وقائدها.

    الشاهد الثالث: التصدّي الفعلي لتسلّم مقاليد الحكم والسلطة
    تسنّم أمير المؤمنين عليه السلام وبشكل مباشر ورسمي كرسي الخلافة، وإدارة شؤون الدولة الإسلامية، بعد مقتل عثمان وإقدام أغلب الصحابة والمسلمين على مبايعته، وقد رسم للسياسة صورة رائعة، وأعطى رؤية متكاملة حول نظام الحكومة الإسلاميّة، فكان ولازال علي بن أبي طالب عليه السلام الحاكم الأبرز والأمثل والأعدل في تاريخ الحكومات الإسلامية والعالمية، وقد صُنّفت حول شخصيّته السياسية المحنّكة وحكومته الرائدة الكتب والبحوث والدراسات، وانتُخبت أقواله ومواقفه وسيرته مع الرعية والولاة والحكومات والأنظمة غير الإسلامية مصدراً ومنهاجاً عالمياً في الأُمم المتحدة، ولازال المفكّرون من القرّاء والدارسين لهذه الشخصية العظيمة على أعتاب سلّم المجد العلوي، ولازالت جميع الدول والحكومات مدعوّة لدراسة أبعاد الحكومة والقيادة العلوية والاقتداء بها للخروج من أزماتها الدوليّة والمحلّيّة.
    وقد حملت هذه الحكومة الإلهية في جنباتها كلّ خير للأُمّة الإسلامية وللإنسانيّة جمعاء، وتضمّنت من الأقوال والنصوص والمواقف والشواهد ما يكرّس وبشكل واضح وجلي كلّ ما ادّعيناه في هذه الإجابة الأُولى، من أن سيرة المعصومين عليهم السلام قائمة على التخطيط لبناء دولة الحق واستلام مقاليد الحكم.
    وكم يُعجبني أن أستعرض هنا بعض الفصول السياسية الضخمة في حياة علي عليه السلام، من قبيل ما يرتبط بإعلان الدستور (الكتاب والسنّة)، وتحديد الرؤية الإسلاميّة السياسية تجاه الحكم ومبادئه وعلاقته بالدين والسماء، وتشكيل حقائب الحكومة الصالحة وتعيين وظائفها التنفيذيّة، وبناء الدولة الكريمة، واختيار الولاة والقضاة والموظفين والعمّال، وتنظيم الموازنة الماليّة والاقتصاديّة، وإنشاء منظومة الحقوق ودوائر ودور الرعاية الاجتماعية، ورفع راية الإصلاح والتغيير والتطوير، والاهتمام بالتنمية البشريّة، ومحاربة الفساد بكل أشكاله، ودعم التسليح العسكري، وتعبئة الجبهات ضد الأعداء على كافة الأصعدة، وغير ذلك من روائع الموسوعة السياسيّة العلوية. ولكنه يطول بذلك المقام وتتسع دائرة المقال بما يخرجنا عن نقطة البحث؛ ولذا نكتفي بأصل الفكرة في هذا الشاهد، وهي مسألة التصدّي الفعلي لاستلام الحكم والتأسيس لمعالم الحكم الإسلامي؛ فإنه خير شاهد على أن قيادة الأُمة بالحقّ دينيّاً وسياسياً من الأُمور المتيسّرة والممكنة حتى بعد انحرافها في الحُقب الماضية، وأن ذلك من الوظائف الموكلة للإمام المعصوم عليه السلام، إذا أحسنت الأُمة اختيارها، ووقفت إلى جانبه، وقدّمت الدعم البشري لحكومته الإلهية.
    وأما قصّة رفض الإمام علي عليه السلام للخلافة وامتناعه عن استلام الحكم والسلطة بعد مقتل عثمان، لمّا انهال عليه الناس للبيعة، فليست أسبابها عدم أهلية الأُمّة لقيادة المعصوم في بناء الدولة وتشكيل الحكم الإسلامي، وإلا كان من المفترض رفض الخلافة على أيّة حال، فقبوله عليه السلام يكشف عن أهليّة الأُمة لذلك لو أحسنت اختياراتها([12])، وإنما أراد عليه السلام بذلك الرفض والامتناع عن قبول الخلافة في بداية الأمر أن يسجّل استنكاراً واعتراضاً على الذين توجّهوا لغيره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وأقرّوا بخلافته بسوء اختيارهم، من دون أن يتحلّى ذلك الغير بأي صفة من مواصفات العلم والحلم والحكمة والقدرة على قيادة المجتمع، فمنعوه عليه السلام حقّه الطبيعي والمشروع في تولّي الخلافة ظلماً وعدواناً. وينضاف إلى ذلك أيضاً الظرف الحرج والحساس جدّاً الذي كانت تمرّ به الأُمّة بعد مقتل الخليفة عثمان؛ حيث كان سيُتّهم بدمه كل مَن يجلس في مكانه لتولّي الخلافة، وسيتحمّل المتصدّي أيضاً أعباء الإرث الثقيل للفساد المستشري الذي تورّطت به الحكومة السابقة، على كافّة الأصعدة وفي جميع المستويات، وهذا ما حصل بالفعل.
    ومن مجموع ما بيّناه إجمالاً يتضح: أن سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ومواقفه وأقواله وتحركاته عموماً كانت قائمة على تبنّي الرؤية السياسية، والتدخّل العسكري، والتصدّي للإصلاح والتغيير، وإقامة حكم الله في الأرض، ولكن سكوته عليه السلام عن ذلك في فترة معيّنة من حياته المباركة كان سببه الأساس هو الاضطراب والتردد والتخاذل من قِبل الأُمّة والمجتمع الإسلامي بصورة عامّة. وهذا ما اختلفت ظروفه وشرائطه في زمن الإمام الحسين عليه السلام، فاختلفت في ضوئه الصورة والنتائج، كما سيتبيّن.

    2ـ المبادئ السياسية للنهضة الحسنية
    أيضاً نعتقد بأن الإمام الحسن عليه السلام قد تصدّى بشكل واضح وصريح لإكمال صروح المسيرة الربانيّة والنهضة الإصلاحية بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وقد باشر في التأسيس لإقامة دولة إلهية إسلامية عادلة بإمامته وقيادته عليه السلام، في إطار نهضة تغييرية إصلاحية واسعة الأبعاد، والحديث في هذه النقطة يطول أيضاً، وشواهده الروائية والتاريخية كثيرة جدّاً ومستفيضة، وجديرة بالدراسة والبحث والتدقيق، ولكن سنقتصر على اقتطاف بعضها؛ للتدليل على ما نقول:

    الشاهد الأول: الخطابات السياسيّة والقيادية
    والأبرز في هذا المجال خطبته عليه السلام صبيحة الليلة التي دفن فيها أمير المؤمنين عليه السلام، حيث استعرض أثناء مراسم العزاء والتأبين المسيرة الدينية والإيمانيّة والاجتماعيّة والسياسية والجهاديّة والقياديّة التي حفلت وتميّزت بها حياة أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم انتقل بعد ذلك مباشرة للتعريف بشخصيته المباركة، وأنه الامتداد الطبيعي للبيت النبوي والعلوي، وأنه الكفوء والأهل والأحقّ باستلام زمام الأُمور وتولّي قيادة الأُمة، قال عليه السلام: «أيها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودّتهم على كل مسلم... »([13]). «ولقد حدّثني حبيبي جدي رسول الله صلى الله عليه وآله أن الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منا إلا مقتول أو مسموم»([14]).
    فانتسب الحسن عليه السلام إلى جدّه وأبيه، وعرّف نفسه بمواريث النبوة والوصاية والمُلك والإمامة وهداية الأُمة والدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأكّد على أن مودّة أهل البيت عليهم السلام فرض واجب على كافة المسلمين، وأن المعصومين من أهل البيت عليهم السلام هم أئمة الخلق وساداتهم بالحقّ.
    وقد فهم الحاضرون من هذه النُّبذة التعريفيّة أنه عليه السلام قد عرض نفسه الكريمة لتولّي الخلافة والحكم وقيادة الدولة الإسلامية خلفاً لأبيه أمير المؤمنين عليه السلام؛ ولذا نهض عبد الله بن عباس مباشرة يدعو الحاضرين لمبايعة الحسن عليه السلام، قائلاً: «معاشر الناس، هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس، وقالوا: ما أحبه إلينا! وأوجب حقّه علينا! وتبادروا إلى البيعة له بالخلافة... فرتب عليه السلام العمال وأمّر الأُمراء، وأنفذ عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) إلى البصرة، ونظر في الأُمور» ([15]).
    ثم إنه عليه السلام خطب الناس بعد البيعة قائلاً: «نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول الله صلى الله عليه وآله في أُمته، والتالي كتاب الله، فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعول علينا في تفسيره، لا نتظنّى تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإن طاعتنا مفروضة؛ إذ كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة» ([16]). ويُمثّل هذا الخطاب التاريخي إعلاناً رسميّاً رئاسيّاً لثالث حكومة إلهيّة في الإسلام بقيادة المعصوم من حزب واحد، هو حزب الله الغالب، ويجب على الأُمّة السمع والطاعة لأوامر وتوجيهات هذا الحزب الإلهي المبارك.
    وكان الحسن عليه السلام يؤكّد دائماً على حقّه الشرعي وأحقيّته بالخلافة والحكم، ويُطالب باسترجاع هذا الحق في مواضع كثيرة، ومناسبات مختلفة، حتى قال له معاوية ـ بعد واحدة من خطبه عليه السلام البليغة التي ألهبت مشاعر المجتمع الشامي ـ: «أما إنك ـ يا حسن ـ قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك. فقال الحسن عليه السلام: أما الخليفة فمَن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وعمل بطاعة الله عز وجل، ليس الخليفة مَن سار بالجور وعطّل السُّنن واتخذ الدنيا أمّاً وأباً» ([17]). وفي خطبة أُخرى أيضاً في مجلس معاوية يقول عليه السلام: «أصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمداً منها، وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمداً منها، وأصبحت العجم تعرف حق العرب بأن محمداً منها، يطلبون حقنا، ولا يردون إلينا حقّنا»([18]). هو المنطق ذاته وذات الشعارات التي حملتها النهضة الحسينية المباركة، ولكن الدور والقرار والمشهد السياسي قد يختلف باختلاف ظروف الواقع الإسلامي المتقلّب والمتردّي.

    الشاهد الثاني: التصدّي لمباشرة شؤون الخلافة والحكم
    حيث تولّى عليه السلام وبشكل مباشر إدارة شؤون الحكومة والدولة الإسلاميّة، ففي ضوء النص السابق لما بويع الحسن عليه السلام وأعلن تولّيه الأمر وقيادته للأُمة، بادر مباشرة لتشكيل الحكومة وتعيين الحقائب الوزاريّة وتخصيص وتشخيص سائر الأُمور التنفيذية والمالية ذات العلاقة، فرتّب العمال وأمّر الأُمراء ونظر في الأُمور. وكتب لمعاوية يأمره بطاعته والانقياد لأوامره، ويقول له: «إن علياً لما توفّاه الله ولّاني المسلمون الأمر بعده، فاتق الله يا معاوية، واُنظر لأُمّة محمد صلى الله عليه وآله، ما تحقن به دماءها وتصلح به أمرها» ([19]). وفي نص آخر مماثل يقول فيه عليه السلام: «فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك ـ يا معاوية ـ على أمر لست من أهله... إن علياً لما مضى لسبيله... ولّاني المسلمون الأمر بعده... فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي؛ فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب. واتق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فو الله، ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخُل في السلم والطاعة، ولا تُنازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويُصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين» ([20]).
    وقد تضمّنت هذه النصوص والمكاتبات التاريخيّة المهمّة معالم الرؤية السياسيّة الثاقبة والمتميّزة للإمام الحسن عليه السلام إزاء التأسيس للدولة العادلة، والتصدّي لمحاربة البغاة والمفسدين والإرهابيين القتلة، الطامحين في إقامة دولة داعشية أُمويّة تكفيرية، بقيادة معاوية بن أبي سفيان، تُبنى هياكلها على جماجم المسلمين، تُكفّرهم وتقتات من دمائهم. ولا بأس بالتنصيص على أهم ما جاء فيها؛ لارتباطها بواقعنا المعاش:
    1ـ معاوية الذي انخرط في حزب (بيعة المسلمين) المزعومة لأشياخه، وبنى مجده على أنقاض ورفات خلفاء تلك البيعة، يبدأ الإمام الحسن عليه السلام بإلزامه بما ألزم به نفسه، فها هي بيعة المسلمين قد تمّت له عليه السلام بما لا ينقص عن مبايعة السابقين، وعلى معاوية أن يُذعن ويخضع وينقاد لولايته وخلافته الإسلامية الشرعية، وأن يلتزم الجانب السلمي في التعاطي مع هذا الأمر.
    2ـ يواصل الإمام عليه السلام التأكيد على حقّه في قيادة الأُمّة، وأنه من الحقوق المعلومة والثابتة، التي لا تفتقر إلى بيعة مَن بايع أو طاعة مَن يطيع، وإنما البيعة والطاعة من آليات وسبل تفعيل ذلك الحقّ الإلهي، يُشير إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: «فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله، وعند كل أوّاب حفيظ، ومَن له قلب منيب... ولا تنازع الأمر أهله ومَن هو أحق به منك». ويؤكّد عليه السلام على أن خير الأُمّة صلاحها في إرجاع الحقّ لأهله، حيث يقول: «ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين».
    3ـ التأكيد على عدم أهلية معاوية للمنصب الحساس الذي يشغله، وعليه أن يتنحّى عن منصبه، وأنه ينبغي أن تكون الأهلية والكفاءة هي المعيار الأساس في تولّي المناصب السيادية والحكومية.
    4ـ الدعوة إلى السلم، والطاعة، وتقوى الله، والانقياد للشرعية، وتوحيد الكلمة، وإطفاء الإرث العدواني الثقيل، وتوخّي الإصلاح وصلاح الأمّة، وترك البغي والتمادي في الغيّ والباطل، وعدم منازعة أهل الحقّ في حقّهم، وحقن دماء المسلمين، والتزام مبدأ التداول السلمي للسلطة.
    5ـ وقد ختم الإمام عليه السلام كتابه لمعاوية بالتهديد ولغة السلاح والقتال إن أبى معاوية التعامل بالطرق السلمية والدبلوماسية، قائلاً: «وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيّك، سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين».
    ثم إنه عليه السلام قام بتجييش الجيوش وتحشيدها والرفع من معنوياتهم، وخرج الجيش الإسلامي بقيادته لقتال البغاة ـ معاوية وأتباعه بعد أن رفضوا دعوته للطاعة والسلم ـ وقد زاد في عطاء الجيوش وتجهيزهم وتسليحهم([21]). والحديث في هذه النقطة بالخصوص يتّسع ويطول، ونحن اليوم بأمسّ الحاجة لدراسة معالم وأبعاد السياسة الحسنية المباركة، ومعرفة دورها في التعامل مع الأزمات الاجتماعيّة والسياسية والأمنية والعسكرية، التي واجهها المجتمع الإسلامي، قبل الالتجاء إلى الموافقة على عقد الهدنة مع معاوية. وسوف نتجنّب الولوج في هذه النقطة أيضاً رعاية للإيجاز والاختصار.

    الشاهد الثالث: فقدان الناصر وخذلان الأُمة
    هناك مجموعة كبيرة جدّاً من الأحاديث والنصوص التاريخية، الواضحة والصريحة في أن الخروج المسلّح ضد معاوية وإسقاط حكمه وإقامة حكم الله في الأرض، كان هو الحل الأمثل والأفضل، بل هو المتعيّن مع وجود الأنصار المؤمنين بنهضة الإصلاح والتغيير، كما أشرنا آنفاً إلى بعض تلك النصوص. وقد سار الإمام الحسن عليه السلام بشكل عملي لإنجاز هذه المهمّة العسكريّة المصيريّة والحسّاسة، فخرج بالجيوش ليختبر نيّاتهم وطاعتهم، ففشلوا في الاختبار فشلاً ذريعاً([22]).
    وكان الحسن عليه السلام كثيراً ما يُهدّد معاوية بالجيش الإسلامي، ويضع الخيار العسكري دائماً على طاولة المداولة والمفاوضات، برجاء أن ينهض الجيش بهذه المهمّة والمسؤوليّة الحسّاسة، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في نص سابق، وهو ما جاء أيضاً بشكل صريح في كتاب بعثه لمعاوية بعد أن نفّذ عليه السلام عقوبة الإعدام بحق شخصين منافقين من جواسيس معاوية، يقول فيه: «أما بعد، فإنك دسست إليّ الرجال كأنك تحب اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله» ([23]).
    ولكن التاريخ يرسم صورة مختلفة للجيش الإسلامي آنذاك، فكان وللأسف جيشاً متداعياً، خائر القوى، منهزماً ومكسوراً من الناحية الإيمانيّة والنفسية والإعلاميّة، خائفاً مهزوزاً متململاً من كثرة الحروب وطول أمدها وامتداد تاريخ المسيرة الجهاديّة، قد وضع الدنيا وزينتها أمام طموحاته وأمانيه، وجعل التضحية في سبيل الدين والمبادئ آخر ما يفكّر فيه ويهتمّ به، وسجّل انهزامات متتالية في شتّى الميادين، حتى كاد هذا الجيش الضعيف المخترق والمكشوف أن يُسلّم الحسن عليه السلام أسيراً بيد معاوية، وهذا ما صرّح به الإمام عليه السلام في محضر معاوية، حينما خطب الناس قائلاً: «أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أوْلى الناس بالناس في كتاب الله، وعلى لسان نبي الله، فأقسم بالله، لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها، ولما طمعتَ فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ولّت أُمة أمرها رجلاً قط وفيهم مَن هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل... وقد تركت الأُمة علياً عليه السلام وقد سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي عليه السلام: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فلا نبي بعدي. وقد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله من قومه، وهو يدعوهم إلى الله، حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية. قد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً، وقد جعل الله النبي صلى الله عليه وآله في سعة حين فرّ من قومه، لمّا لم يجد أعواناً عليهم، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله، حين تركتنا الأُمة وبايعت غيرنا ولم نجد أعواناً. وإنما هي السُّنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً» ([24]).
    وأما أنصاره والمحيطون به، فقد تحدّث هو عليه السلام عنهم قائلاً: «يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي... والله، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. فو الله، لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسيره أو يمنّ عليّ، فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدهر» ([25]).
    وفي نص آخر يقول عليه السلام: «أما والله، ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا... وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عِزٌّ ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت، بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله. فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة» ([26]).
    وفي نص ثالث يؤنِّب أنصاره على الاختراقات الخطيرة والخيانات العسكريّة التي انتشرت في جيشه ومعسكره، حيث يقول عليه السلام: «ويلكم! والله، إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظن أنّي إن وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي صلى الله عليه وآله وإنّي أقدر أن أعبد الله عزّ وجلّ وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم، فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديكم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ). فجعلوا يعتذرون بما لا عذر لهم فيه» ([27]).
    ويقول أيضاً عليه السلام في مقام بيان سبب تسليمه الخلافة لمعاوية: «والله، ما سلّمت الأمر إليه، إلّا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري، حتى يحكم الله بيني وبينه» ([28]).
    وبهذا الكلام كان الحسن عليه السلام يستقبل مَن يعاتبه من أصحابه في مسألة الصلح والهدنة، فمن ذلك ما تقدمّت الإشارة إليه في ملامح النهضة العلوية، حيث أجاب عليه السلام حجر بن عدي الطائي بالقول: «والله، يا حجر! لو أني في ألف رجل، لا والله إلّا مائتي رجل، لا والله إلّا في سبع نفر لما وسعني تركه... وتالله، يا حجر! إني لعلى ما كان عليه أبي أمير المؤمنين لو أطعتموني» ([29]).
    وبنفس المضمون ما روي عن علي بن محمد بن بشير الهمداني، قال: «خرجت أنا وسفيان بن ليلى، حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيب بن نجبة وعبد الله بن الوداك التميمي، وسراج بن مالك الخثعمي، فقلت: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! قال: وعليك السلام، اجلس، لستُ مذلَّ المؤمنين، ولكني معزّهم، ما أردت بمصالحتي معاوية إلّا أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال» ([30]).
    ويُعقّب السيد المرتضى على مثل هذه النصوص قائلاً: «لأن المجتمعين له من الأصحاب وإن كانوا كثيري العدد، فقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية، وقد كانوا صبوا إلى دنيا معاوية... فأظهروا له عليه السلام النصرة، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعاً في أن يورّطوه ويسلموه، فأحسّ بهذا منهم قبل التولّج والتلبّس، فتخلّى من الأمر، وتحرّز من المكيدة» ([31]).

    ونستنتج من مجموع هذه النصوص المتضافرة الأُمور التالية:
    1ـ إن الإمام الحسن عليه السلام كان عازماً على السير قُدماً في تولّي شؤون الخلافة الإلهيّة، والاستمرار في بناء الحكومة العادلة وتشييد صرح الدولة الإسلاميّة الكريمة.
    2ـ كان يرى عليه السلام أنه هو المؤهل والأوْلى والأحقّ في تولّي الحكم وقيادة الأُمّة في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وآله، قبل بيعة الناس له، وأنّ على معاوية أن يطيعه ويخضع لحكمه الإلهي العادل كما تقدّم، وأن الناس لو أطاعوه وبايعوه ونصروه لأعطتهم السماء قطرها، والأرض بركتها.
    3ـ إنه عليه السلام كان عازماً على محاربة الفساد والقضاء عليه بشتّى الوسائل والسبل المشروعة، وابتدأ عليه السلام بمحاولة القضاء على حكومة معاوية بن أبي سفيان، التي كانت تمثّل أبرز مظاهر الفساد، وتشغل مساحة جغرافية كبيرة وواسعة ومهمّة في كيان الدولة الإسلاميّة. فاختار عليه السلام الحلّ العسكري والخروج المسلّح لاستئصال جذور الشجرة الخبيثة والغدّة الأُمويّة التي ابتُلي بها المجتمع الإسلامي، وكان عدد الجيش وعدّته كافيين لبلوغ هذه الغاية، ولكن الأُمّة عصت أوامره وخذلته وتقاعست عن الجهاد في سبيل الله، وقدّمت المصالح الشخصية والرغبات الفرديّة الخاصّة، على سعادة البشريّة ورقيّها وصلاح أمرها.
    4ـ إنه عليه السلام لو وجد أعواناً وأنصاراً لما بايع معاوية، ولقاتله ليله ونهاره، وأن العزة والنصرة والكرامة بقتاله والقضاء عليه، ولم تكن المصلحة أبداً في الصلح لو اختارت الأُمّة طريق الجهاد، بل كان في الصلح ذلة ومهانة لهم وللأجيال اللاحقة، فاختار القوم العيش بالذلّ وفضّلوا الحياة الرخيصة وقدّموها على خيار العزّة والإباء والنصر، فبايعت الأُمة معاوية خاضعة خاسئة، وأُجبر الحسن عليه السلام على قبول الصلح وفي العين قذى؛ ليلملم ما تبقّى للمؤمنين من العزّة والكرامة، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيدي الأُمة المتخاذلة، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
    5ـ كانت هناك مؤامرات تُحاك ليلاً ونهاراً، وخيانات وانقلابات عسكريّة متوالية، هدفها القضاء على خلافة الحسن عليه السلام، والتجاوز على شخصه الكريم، ونهب تراثه وتسليبه، وتسليمه لمعاوية ليرى فيه رأيه، إما القتل أو الإذلال، فكان الصلح خياراً مُرّاً لا مناص منه.

    الشاهد الرابع: ما تضمّنته بنود الصلح والهدنة مع معاوية
    إن الإمام الحسن عليه السلام قد صالح معاوية على «أن له ولاية الأمر بعده، فإن حدث به حدث فللحسين» ([32])، ويُعدّ هذا البند من البنود المهمّة التي تصدّرت القائمة، وتكرر ذكرها في خطب الإمام الحسن عليه السلام بعد توقيعه على كتاب الصلح، وهذا ما يكشف وبوضوح عمّا نروم إثباته، من أن الإمام الحسن عليه السلام كان ينظر إلى الحكم الإلهي والقيادة الربانيّة على يد المعصوم في هذه الأرض من الفرائض التي يجب النهوض بها، ولكنها كانت وللأسف فاقدة لشروطها المرتبطة بواقع الأُمّة، ومتى ما تحقّقت الشروط كان على الإمام المعصوم أن ينهض للقيام بدولة الحق والعدل.
    ويُضاف إلى ذلك أيضاً البنود الأُخرى التي تضمّنت روح التدخل السياسي من قِبل المعصوم؛ لسدّ منافذ الفساد والانحراف في الحكومات غير الكفوءة، من قبيل ما يرتبط بالقضايا الأمنية العامّة، وترك تتبع الناس وقتلهم على المذهب والهوية والانتماء، واحترام رموز الأُمّة وقادتها، والمحافظة على أموال الشعب وصرفها في مستحقّيها، وغيرها من البنود الأُخرى.

    الشاهد الخامس: التهديد والإنذار المتواصل
    كان الإمام الحسن عليه السلام دائماً ما يوجّه التهديد والإنذار لمعاوية، بأنه يراقب المشهد السياسي عن كثب، وأنه سيعمل على دراسة الأُمور مجدّداً، وإعادة النظر في قرار الصلح، والانقلاب عليه بإلغائه، في حال تفاقمت الأُمور، وتدهورت الأوضاع الأمنية والاجتماعيّة، واستشرى الفساد، وتعرّض المسلمون عموماً وأتباع أهل البيت عليهم السلام على وجه الخصوص للسوء والاضطهاد والمطاردة من قِبل السلطة الظالمة.
    ويمكننا أن نستشعر ذلك بوضوح في ردّ له عليه السلام على إساءة واعتداء في الكلام على شخصه الكريم من قِبل عمرو بن العاص في مجلس معاوية، يقول فيه عليه السلام: «يا معاوية، لا يزال عندك عبد راتعاً في لحوم الناس، أما والله، لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأُمور وتحرج منه الصدور» ([33]).
    وفي نصّ آخر طويل ومفصّل، يردّ فيه عليه السلام بقوّة على كلام مسيء تحدّث به مروان بن الحكم في مجلس معاوية، فأذهل بكلامه عليه السلام الحضور، وأسكت الطغاة وألجم أفواههم وألقمها حجراً، حيث يقول: «ثم تزعم أني ابتُليت بحلم معاوية. أما والله، لهو أعرف بشأنه وأشكر لنا إذ ولّيناه هذا الأمر، فمتى بدا له، فلا يغضين جفنه على القذى معك، فو الله، لأعنفنّ أهل الشام بجيش يضيق فضاؤه([34])، ويستأصل فرسانه، ثم لا ينفعك عند ذلك الروغان والهرب» ([35]). إن هذا المنطق العاصف والقوي والمرعب لطواغيت الأُمّة، يكشف وبوضوح عن أن الإمام الحسن عليه السلام قد مهّد الأُمور لتنفيذ ما يقول، وعمل على التأسيس لقاعدة شعبية عريضة وواسعة في المجتمع الإسلامي، وهيأها للتغيير والانقلاب، في حال تطلّب الأمر ذلك، ولكنه عليه السلام كان ملزماً بالصلح. وهناك شواهد للتدليل على هذه الحقيقة أعرضنا عن ذكرها خوف الإطالة.

    3ـ المبادئ السياسية للنهضة الحسينية
    كان هذا العنوان بالخصوص هو الموضوع الأساس الذي دعانا لكتابة المقال، وقد عرضنا في مقالات ماضية جملة من الشواهد والنصوص فيما يرتبط بالتدليل على المبادئ والأهداف السياسية للنهضة الحسينية المباركة، وذكرنا من ضمن تلك الشواهد: حركة التغيير ونصوص الإصلاح الحسيني، ومواقف الإمام الحسين عليه السلام وأقواله وتصريحاته ومكاتباته ورسائله السياسية إلى أهل الكوفة والبصرة وغيرهما، مضافاً إلى أقواله وأحاديثه وخطبه عليه السلام في طريقه إلى الكوفة وفي فترة تواجده بكربلاء.
    واستنتجنا من مجموع تلك الشواهد أن الإمام الحسين عليه السلام قد قام بنهضة إصلاحيّة عامّة وشاملة، كان من أهم أهدافها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدّي للظلم والجور والفساد، ونصرة المظلومين والمضطهدين، والإطاحة بالنظام الأُموي المُستبدّ، وإرجاع الحق إلى أهله، وإقامة حكم الله في الأرض، وتشكيل حكومة إلهية بقيادة خليفة الله في خلقه، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، وحفظ الحرّيات الدينية والإنسانية المشروعة، وأداء الحقوق والواجبات الدينيّة والاجتماعيّة، وإجراء الحدود، وتنفيذ القوانين، والعمل بالأحكام الشرعية.
    وقد تهيّأت كافة السبل والأسباب والعوامل لانتصار هذه النهضة النوراء، وبزوغ الفجر الحسيني الصادق، وإقامة الحقّ والعدل في ربوع البلاد، وذلك من زوايا وجهات مختلفة ومتنوّعة، منها:
    1ـ هلاك معاوية، الذي أحكم قبضته على الناس بالظلم والقتل والجور وانتهاك الحرمات.
    2ـ انقضاء مدّة الهدنة وأمد الصلح الحسني، الذي التزم به الحسين عليه السلام مع وجود معاوية في سدّة الحكم([36]).
    3ـ ضعف الحكومة الأُموية المتمثّلة بيزيد المتهتك الطائش.
    4ـ سأم الناس وامتعاضهم الشديد من الحكم الأُموي الجائر، الذي تجاوز كل القيم الإسلامية والبشرية، وأرهق الأُمّة بصنوف الاضطهاد والإرهاب، من القتل والتشريد والتجويع والتضييق الخانق للحريات الدينية والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
    5ـ اشتياق المسلمين وحنينهم للعدالة العلوية الضائعة.
    6ـ المنزلة المتميزة والمقام الرفيع الذي يشغله الإمام الحسين عليه السلام في نفوس المسلمين.
    7ـ وجود الشخصيّة القويّة والمؤهلة لقيادة الأُمة.
    8ـ توفر القدر الكافي من الأعوان والأنصار، الذين بايعوا الإمام الحسين عليه السلام على الخلافة والجهاد والنصر وبذل النفس والتفاني بين يديه، بنوايا حقيقية وصادقة، اختبرها السفير الحاذق والرائد الفطن والثقة من أهل البيت مسلم بن عقيل عليه السلام، وعكسها بأمانة تامّة على الإمام عليه السلام، في كتاب يحمل بشائر التغيير، ويدعوه للإسراع في القدوم إلى العاصمة العلويّة هادياً مهديّاً.
    وهذا ما لم يتوفر لأمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ولا للحسن عليه السلام حينما اضطر للصلح مع معاوية كما ألمحنا سابقاً. بل سبق أيضاً التصريح بأنهما عليهما السلام سيخرجان للتغيير والانقلاب على السلطات غير الشرعيّة لو اجتمع لهما العدد المطلوب من الأتباع والأنصار، وقد حُدّد ذلك العدد في بعض النصوص بسبعة من المضحين، أو بأربعين، بحسب اختلاف الظرف وطبيعة الموقف، وهذا العدد من الأبطال وأكثر منه قد التفّ حول الحسين عليه السلام في كل الظروف، قبل حادثة كربلاء وحين وقوعها.
    يُضاف إلى ذلك كلّه تردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية وتدهورها وانحدارها بما لا يترك مجالاً للجلوس والسكوت؛ وفي ضوء هذا وذاك اختلفت المرحلة وتغيّرت الأوضاع وتحركت رياح الثورة والتحرير، فتوجهت أنظار الأُمّة لمنقذها، فأصبح الإمام في قطب دائرة المسؤولية السياسية، وتوجّب عليه الخروج لإسقاط النظام الظالم وإقامة الحكومة الإلهية العادلة.
    وأما لماذا لم تُحقّق النهضة الحسينيّة المباركة هذا النوع من الأهداف السياسيّة؟ ولماذا لم يحصل التغيير السياسي والحكومي، ولم تسقط دولة بني أُميّة؟ ولماذا لم تُشرق الأرض بصبح العدالة الحسينيّة؟ ولماذا انقلبت الظروف وتغيّرت إلى مأساة وثأر تطلبه السماء؟ فلهذا كلّه شأن آخر وحديث مستأنف، نتمنّى أن نحظى بفرصة بحثه ودراسته في مقالات لاحقة.
    اتضح إلى هنا: أن الانقلاب على الحكومات الظالمة والفاسدة، والعمل على إسقاطها وإقامة حكم الله في الأرض، هو المنهج الإلهي والسبيل القويم الذي سار عليه سادة الخلق وأئمة الهدى عليهم السلام بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. والإمام الحسين عليه السلام قد اتخذ ذات المواقف العلوية والحسنية، ولكنّ اختلاف الظروف والشرائط والأحداث هو الذي غاير في فوارق الصورة وملامح المشهد.

    4ـ مواقف وأقوال الأئمة عليهم السلام من ذرية الحسين عليه السلام بعد شهادته
    نعم؛ نحن نعتقد بأن منهج وأُسلوب التعامل مع السلطات الحاكمة قد تغير بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام مباشرة، وكان السبب الرئيس في ذلك هو انكفاء الأُمّة وفقدان الأعوان والأنصار المؤهلين لرفع راية الإصلاح والتغيير بما يناسب الوقت والمرحلة، والنصوص والشواهد التاريخية والروائية الدالة على ذلك كثيرة ومتضافرة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
    منها: ما تحدّث به الإمام زين العابدين عليه السلام مع أهل الكوفة، حينما أبدوا استعدادهم لمبايعته والقتال بين يديه لإسقاط حكومة يزيد بن معاوية، بعد أن ألهب مشاعرهم بخطاب حول مأساة كربلاء، يحرق القلوب، يقول فيه: «أنا ابن مَن انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتُهب ماله، وسُبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن مَن قُتل صبراً، وكفى بذلك فخراً»، ثم توجّه إلى الناس قائلاً: «رحم الله امرئاً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي»، فأجابوه بأجمعهم: «نحن كلّنا يا بن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، لنأخذن يزيد لعنه الله، ونبرأ ممن ظلمك». فأجابهم عليه السلام بما يُحدّد وبوضوح الموقف السياسي الإلهي تجاه الأُمّة المتخاذلة في ظل الحكومات الظالمة، قائلاً: «هيهات هيهات! أيها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما آتيتم آبائي من قبل؟! كلّا وربّ الراقصات، فإن الجرح لما يندمل»، ثم انتقل لتحديد الوظيفة الفعليّة لهذه الأُمّة الضعيفة، قائلاً: «ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا» ([37]). فكانت هذه المرحلة العصيبة والحساسة بعد شهادة الحسين عليه السلام أدنى ما تتطلبه هو تحييد الأُمّة من الناحية السياسية، في ظل التخاذل الكبير، الذي وصفته السيدة زينب عليها السلام في الموقف ذاته، مخاطبة أهل الكوفة بقولها: «خوّارون في اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيّعون للذمة» ([38]).
    ومنها: قول الإمام الباقر عليه السلام: «إذا اجتمع للإمام عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، وجب عليه القيام والتغيير»([39]). وهذا يكشف بجلاء عن أن الأُمّة لا زالت مؤهلة للنهضة والتغيير في زمان الإمام الباقر عليه السلام، والمشكلة في توفّر الأنصار، واستمرّت الحال كذلك في زمن المعصومين من ذريّته عليهم السلام. كما أن النص صريح أيضاً في أن القيام والتغيير السياسي من الأُسس الدينيّة والأهداف الحيويّة التي يرصدها ويُتابعها كلّ إمام، متابعة ميدانيّة وبشكل متواصل، ومتى ما تحقّقت الشرائط والظروف المناسبة، خرج للتغير وإقامة حكم الله في الأرض.
    ومنها: ما هو المشهور والمروي عن مأمون الرقي، قال: «كنت عند سيدي الصادق عليه السلام، إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلّم عليه، ثم جلس، فقال له: يا بن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حق تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟! فقال له عليه السلام: اجلس يا خراساني رعى الله حقك. ثم قال: يا حنفية، أسجري التنور. فسجرته حتى صار كالجمرة، وابيضّ علوه، ثم قال: يا خراساني، قم فاجلس في التنور، فقال الخراساني: يا سيدي يا بن رسول الله، لا تعذبني بالنار! أقلني أقالك الله. قال: قد أقلتك، فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله. فقال له الصادق: الق النعل من يدك واجلس في التنّور. قال: فألقى النعل من سبابته ثم جلس في التنور، وأقبل الإمام يحدث الخراساني حديث خراسان، حتى كأنه شاهد لها، ثم قال: قم يا خراساني واُنظر ما في التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربعاً، فخرج إلينا وسلّم علينا، فقال له الإمام: كم تجد بخراسان مثل هذا؟ فقلت: والله، ولا واحداً. فقال عليه السلام: لا والله، ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»([40]). فكان التغيير السياسي والقيام بنهضة إصلاحيّة في الأُمة من المرتكزات المتأصّلة في نفوس الشيعة والموالين لأهل البيت عليهم السلام، وكان الإمام عليه السلام على دراية تامّة بمتطلّبات المرحلة، ومن أهمّ متطلباتها وجود الأنصار المؤيدين والمخلصين لدينهم وإمامهم، الذين يحملون ما يحمله هارون المكي من تسليم وإخلاص وتفانٍ بين يدي إمامه وقائده وسيّده الصادق عليه السلام، وهذا ما لم يظفر به أحد من الأئمة المعصومين، إلّا الإمام الحسين عليه السلام، فخرج بأهله وأصحابه المخلصين؛ لطلب الإصلاح والتغيير.
    ومنها: ما روي عن عبد الله بن بكير، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال: «يا بن بكير، إني لأقول لك قولاً قد كانت آبائي عليهم السلام تقوله: لو كان فيكم عدّة أهل بدر لقام قائمنا، يا عبد الله، إنا نداوي الناس ونعلم ما هم، فمنهم مَن يصدقنا المودّة يبذل مهجته لنا، ومنهم مَن ليس في قلبه حقيقة ما يظهر بلسانه، ومنهم مَن هو عين لعدونا علينا، يسمع حديثنا، وإن أطمع في شيء قليل من الدنيا، كان أشدّ علينا من عدونا»، ثم شرع عليه السلام باستعراض الأوصاف والخصائص المطلوبة في أنصار النهضة والتغيير، قائلاً: «ينتظرون أمرنا ويرغبون إلى الله أن يروا دولتنا، ليسوا بالبذر المذيعين، ولا بالجفاة المرائين، ولا بنا مستأكلين، ولا بالطمعين، خيار الأُمة، نور في ظلمات الأرض، ونور في ظلمات الفتن، ونور هدًى يُستضاء بهم، لا يمنعون الخير أولياءهم، ولا يطمع فيهم أعداؤهم، إن ذُكرنا بالخير استبشروا وابتهجوا واطمأنت قلوبهم وأضاءت وجوههم، وإن ذُكرنا بالقبح اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وكلحت وجوههم، وأبدوا نصرتهم وبدا ضمير أفئدتهم، قد شمّروا فاحتذوا بحذونا وعملوا بأمرنا، تعرف الرهبانية في وجوههم، يصبحون في غير ما الناس فيه، ويمسون في غير ما الناس فيه، يجأرون إلى الله في إصلاح الأُمة بنا، وأن يبعثنا الله رحمة للضعفاء والعامة، يا عبد الله، أولئك شيعتنا، وأولئك منّا، أولئك حزبنا وأولئك أهل ولايتنا»([41]). إذن هذه هي المواصفات الحقيقيّة لحزب أهل البيت عليهم السلام، والذي يطمحون لتشكيله وإصلاح الأُمّة به، ولكنه لم يجتمع هذا الحزب الإلهي بتلك الخصائص كما أشرنا، إلا تحت قيادة الإمام الحسين عليه السلام، فنهض بالأمر.
    ومنها: ما روي عن عبد العظيم الحسني، قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى عليهم السلام: «يا مولاي، إني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فقال عليه السلام: ما منا إلّا قائم بأمر الله، وهادٍ إلى دين الله، ولكن القائم الذي يُطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه... يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر: (ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلاً من أقاصي الأرض... فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد وهو: (عشرة آلاف) رجل، خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عز وجل» ([42]).
    ومن هنا؛ نجد أن النصوص الكثيرة والمتضافرة قد نصّت على محورية أصحاب الإمام المهدي عليه السلام في مسألة شرائط الظهور وقيام دولة المعصوم الإلهية العالمية العادلة. كما ورد ذلك في كلام الإمام الصادق عليه السلام، حيث يقول: «كأني أنظر إلى القائم عليه السلام على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدّة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه على خلقه» ([43]).
    ثمّ إن هناك مواقف سياسية كثيرة ومتنوّعة صدرت من الأئمة عليهم السلام في أزمنة ومراحل مختلفة، جميعها يؤكّد ما بيّناه، من أن الأصل في حركة المعصوم هو الإصلاح والتغيير السياسي وإقامة الدولة الإلهيّة، وأن هذا من الأُمور الممكنة والمتيسّرة، إلا في حال فقدان الشرائط التي يتطلبها التغيير، وأهمّها توفّر الأنصار واستعداد الأُمّة لذلك، ومن تلك المواقف السياسيّة على سبيل المثال:

    1ـ الدعم السري المتواصل لكثير من الحركات الثوريّة، التي كانت تخرج لمقارعة الطغاة والدفاع عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
    2ـ العمل بشكل دؤوب ومتواصل لبناء المجتمع الإيماني الصالح المتماسك والقويّ والقادر على إدارة شؤونه بشكل ذاتي ومستقلّ.
    3ـ تكريس فكرة مقاطعة الجبت والطاغوت في نفوس أتباع أهل البيت عليهم السلام، وأن الحكومات القائمة باطلة وغير شرعية ومُفسدة في الأرض، وأن الحكومة التي ينبغي ترقّبها والاستعداد لها هي حكومة المعصوم، القائمة على أسس العدالة والقسط.
    4ـ المنع من التحاكم للجبت والطاغوت، وتغذية المجتمع الإيماني بالفقه الفردي والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي والسياسي وغير ذلك، ممّا يُغني الشيعة عن الاحتياج لأروقة الحكّام والسلاطين.
    5ـ ترسيخ عقيدة المهدي، التي تمثّل فكرة مقاطعة ومقارعة الطغاة، والسعي لإقامة حكم الله في الأرض.
    لكننا أعرضنا عن البحث التفصيلي في جميع هذه المواقف والأدوار والسياسات المتنوعة، طلباً للاختصار وبما يُناسب طبيعة المقال.

    نتائج البحث
    أولاً: إنّ الأُمّة كانت مؤهلة للإصلاح والتغيير السياسي بقيادة المعصوم، حتى بعد الانحراف عن الحقّ الذي تورّطت به الأُمّة بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
    ثانياً: إن المنهج القويم والأصل في حركة المعصومين عليهم السلام هو القيام والنهوض لمقارعة الظالمين، والعمل على إسقاط الحكومات الباطلة والفاسدة، والتخطيط لإقامة حكم الله في الأرض، ولكن مع توفر الشرائط ومقوّمات الخروج، والتي من أهمّها وجود الأعوان والأنصار، المؤمنين بالفكرة، والمخلصين لها.
    ثالثاً: لقد توفّرت كافّة الشرائط المطلوبة للنهوض في الفترة الزمنيّة لإمامة الحسين عليه السلام، فنهض للتغيير والإصلاح في الأُمة، ولكن الخذلان بعد ذلك هو الذي أدى إلى النتيجة المأساوية.
    رابعاً: تُعدّ المهادنة للسلطات الفاسدة من الكبائر، ولا يُصار إليها إلا في حال الضرورة القصوى، وحينما تتقطّع كافة السُّبل للتغير والإصلاح.
    خامساً: إن للأئمة عليهم السلام أدوارهم المختلفة بحسب اختلاف الوقائع والظروف المتلوّنة والمتغيّرة التي يعيشونها، ومنها نستلهم الشرعية والنهج الصحيح، وليس من الصائب تغليب دور على حساب الآخر، فلو ثبت أن الخروج لإسقاط السلطة الظالمة من مبادئ النهضة الحسينية، فليس لنا التشكيك في ذلك عطفاً على أدوار بعض الأئمة عليهم السلام في ظروف خاصّة مغايرة ومختلفة، عاشوها في فترة إمامتهم، فالأهداف الإلهية متنوّعة والأدوار مختلفة.
    سادساً: إن هناك نهضة علوية ونهضة حسنية ونهضة حسينية، تعاقبت وتسلسلت في مسار واحد، واستهدفت استئصال الأنظمة الفاسدة، والانقلاب عليها، وإقامة حكم الله في الأرض، وكان الأئمة من وُلد الحسين عليهم السلام يسعون لذلك النحو من التغيير، ويأملون في تحقيقه لإصلاح الأُمّة، ولكن من دون جدوى، فاضطروا بشكل طارئ للقبول بالمهادنة، والجلوس عن حقّهم. هذا. ونسأل الله تعالى العفو والمعافاة في الدنيا والآخرة.
    ------------------------------------------------------------------------------------------
    [1] الكليني، محمد يعقوب، الكافي: ج8، ص270ـ273.
    [2] النعماني، محمد بن إبراهيم، الغيبة: ص204.
    [3] كان من المفروض أن ننطلق من نصوص وشواهد المبادئ السياسيّة للنهضة المحمّدية المباركة؛ لكونها مبدأ التأسيس للحكومة الإسلاميّة، وتمثّل انعطافة كبيرة وعظيمة جدّاً في بناء الحكومة الإلهيّة العالميّة بصورة عامّة، فهي امتداد لحكم الله في الأرض، وتأسيس لحكومة الإسلام، وتأتي الحركة السياسيّة للمعصومين من أهل البيت عليهم السلام في إطار حركة ذلك الحزب الإلهي الممتدّ من آدم خليفة الله في أرضه إلى نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء. لكننا تركنا البحث في هذه النقطة؛ لأنّ بحثها يطول كثيراً ويتجاوز دائرة هذا المقال، ولأن صاحب الإشكالية يفترض أن الظرف والموقف اختلف، قبل انحراف الأُمّة وبعد انحرافها، وإن كنّا لا نرتضي ذلك بشكل مطلق.
    [4] نهج البلاغة: ص246.
    [5] اُنظر تفصيل ذلك في كتاب: الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1.
    [6] الخصيبي، الحسين بن حمدان، الهداية الكبرى: ص193.
    [7]  الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص32ـ33.
    [8] القمي، سديد الدين شاذان، الروضة في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام: ص204.
    [9] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص109.
    [10] الهلالي، سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس: ص155.
    [11] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص107.
    [12] المراد من الأهلية هي القابلية الفعلية والإمكان الوقوعي، بمعنى أن في الأمّة قابليّة وإمكانيّة الإصلاح الوقوعي والفعلي بقيادة المعصوم في المجال السياسي، وهي مبتنية على التسليم بانحراف الأمة بعد نبيّها عن مسارها الصحيح، وسوف نبيّن لاحقاً بأن البحث عن الأنصار والأعوان مترتب على إمكانية التغيير، فلولا ذلك لما سعى المعصومون من أهل البيت عليهم السلام لتشكيل قوّة مسلّحة تستهدف التغيير والإصلاح السياسي. فالسعي لجمع الأعوان المخلصين لمبادئ التغيير يستلزم أهليّة الأمّة لذلك، وخذلان الأعوان والأنصار لا يستلزم أبداً سقوط تلك الأهلية والقابليّة في الأمّة.
    [13] الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص172.
    [14] القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر: ص162.
    [15] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص8 ـ 9.
    [16] المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص349.
    [17] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج1، ص419.
    [18] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص178.
    [19] ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج16، ص24 ـ 25. وفي لفظ الإربلي في كشف الغمّة: «فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما نزل به الموت ولّاني هذا الأمر من بعده، فاتق الله يا معاوية، واُنظر لأُمة محمد صلى الله عليه وآله ما تُحقَن به دماؤهم، وتُصلَح به أُمورهم» ج2، ص192. وفي هذا النص نسب الإمام الحسن عليه السلام توليته الأمر لأمير المؤمنين عليه السلام، فهو الذي ولاه الأمر وليست الأُمّة، والأُمة ليست من وظائفها إلا البيعة للمعصوم، وهذا أنسب بالرؤية العقديّة في مذهب الإماميّة.
    [20] ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج3، ص34.
    [21] اُنظر تفصيل ذلك في المصادر التالية: ابن شهر آشوب، محمد بن علي، المناقب: ج3، ص194ـ 195. ابن أبي الحديد، عز الدين، شرح نهج البلاغة: ج16، ص30 وما بعدها. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص33 وما بعدها.
    [22] هناك تفاصيل مؤلمة حول هذه النقطة، يمكن ملاحظتها في أغلب الكتب التاريخية والروائية.
    [23] أبو الفرج الأصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص33.
    [24] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص8.
    [25] المصدر السابق: ج2، ص10.
    [26] الديلمي، الحسين بن أبي الحسن، أعلام الدين في صفات المؤمنين: ج2، ص292.
    [27] الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع: ج1، ص221.
    [28] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص12.
    [29] الخصيبي، حسين بن حمدان، الهداية الكبرى: ص193.
    [30] الدينوري،  أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص221.
    [31] المرتضى، علي بن الحسين، تنزيه الأنبياء: ص221ـ 222.
    [32] ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: ص67.
    [33] المرعشي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحق: ج11، ص244، نقلاً عن البيهقي في كتابه المحاسن والمساوي.
    [34] وفي لفظ آخر:  «فو الله، لأثخننّ أهل الشام بجيش يضيق عنها فضاؤها». الخوئي، حبيب الله، منهاج البراعة: ج19، ص153.
    [35] المرعشي، شهاب الدين، شرح إحقاق الحق: ج11، ص222، نقلاً عن البيهقي في كتابه المحاسن والمساوي.
    [36] اُنظر: الدينوري، أحمد بن داود، الأخبار الطوال: ص222.
    [37] ابن طاووس، علي بن موسى، الملهوف: ص92ـ93.
    [38] المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص322.
    [39] القاضي النعمان، أبو حنيفة، دعائم الإسلام: ج1، ص342.
    [40] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج1، ص363.
    [41] الطبرسي، أحمد بن علي، مشكاة الأنوار: ص128.
    [42] الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة: ص377ـ 378.
    [43] المصدر السابق: ص672ـ673.

    {الشيخ قيصر التميمي}
    المصدر : مؤسسة وارث الأنبياء

  • 1

     

    آیة الله العظمی الصافی الکلبایکانی:
    الإسلام دین السّلام و الخیر للبشریّة/و الذین یشوّهون صورة الإسلام بشکل شنیع و بشع بعیدون عن نبیّ الرّحمة مسافة بعیدة.
    الیوم 24 صفر المظفر 1437 المصادف 6 دسامبر 2015 إنعقد المؤتمر الدولی حول الأربعین و وفاة النبی الأعظم و استشهاد الإمام المجتبی علیهماالسلام بتنظیم المرکز الاسلامی للإمام علی علیه‌السلام بحضور جمع من العلماء و المحقّقین من مختلف الدول الأروبیة و مختلف الأدیان و الجنسیات لأربعینیة الإمام الحسین علیه‌السلام و ذکری وفاة‌ النبیّ المصطفی صلی الله علیه و آله و إستشهاد الإمام الحسن علیه‌السلام فی مدینة ‌کلزن کلیشان الآلمانیة. و قد إفتتح المؤتمر ببیان الشیخ الصافی مد ظله الوارف المتعلَق بهذه المناسبة و إستمرّ المؤتمر بإلقاء المحاضرات و تقدیم المقالات من قبل العلماء و المحقّقین.
    و أشار سماحة المرجع الدینی فی بیانه: بأن الإسلام دین السّلام و الخیر للبشریة و الذین یشوّهون صورة‌ الإسلام بشکل شنیع و بشع هم الذین یبعدون عن نبیّ الرحمة و ‌سیرته مسافة بعیدة.
    و هذا تفصیل بیان سماحته:

    الإسلام دین السّلام و الخیر للبشریّةبسم الله الرحمن الرحیم

    الحمدلله ربّ العالمين والصّلوة والسّلام علي حبيب اله العالمين وافضل السّفراء المقرّبين أبي القاسم المصطفي محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين سيّما بقية‌الله في الأرضين.
    قال الله الحکيم: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»
    السّلام عليکم و رحمةالله وبرکاته
    بکلّ أدب أقدّم إحترامی و تقدیری للأعضاء المشارکین فی هذا المؤتمر المنوّر و أتمنّی أن تشمل الأنوار القدسیّة و العنایة ‌الرّحمانیّة حضّار هذا المجلس و أن تتمّ الفائدة منه بواسطة‌ فیض الوسائط الإلهیة.
    نقدّم أحرّ التّعازی لساحة بقیة‌الله الأعظم الإمام المنتظر و لکم بمناسبة‌ وفاة‌ الرّسول الأکرم و إستشهاد الإمام الحسن المجتبی و الإمام الرضا علیهم‌السلام و أقدّر بتمام التقدیر و الإجلال أکبر اجتماع بشری فی العصر الحاضر بمناسبة أربعینیة‌ سیّد الشّهداء علیه‌السلام.
    إن وجود النبیّ الأعظم وجود لا نظیر له؛ جامع العظمة و الکرامة الإنسانیة بأکملها و من المستحیل شرح عظمته فی مقال بل حتی فی کتاب.
    و إذا صحّ التعبیر عن النّبی بالبطل و ناسب هذا اللّقب بمقامه السامی و الرّفیع؛ دعوناه به؛ کما قال المؤرخ الشهیر توماس کارلایل: النّبی وحده یستحق لقب البطل من بین کلّ الأنبیاء، فهو البطل فی کل ما یتعلّق بالعظمة و خاصة فی دعوته و رسالته الإلهیة.
    فمن بین الذین طالبوا بالإصلاحات الإجتماعیة و الثّورات فی تاریخ البشر، کانت بعثة ‌الرّسول هی المتمیّزة علی کلّ الدّعوات فی الدّعوة إلی التّوحید و إعلاء کلمة لا إله إلا الله و علی حدّ قول الکاتب الشهیر الفرنسی فی کتاب الحضارة العربیة و الإسلامیة بین الأدیان: الإسلام هو الفخر لأن لا وجود فی نظامه للإستغلال و الإضطهاد و فیه إدانة لتضییع حقوق الإنسان و هو یدعو إلی التّواضع و إلغاء التمییز العرقی و العنصری.
    نعم، حقیقة ‌هذه الدعوة هی الأمر بالعدل و الإحسان و الخیر کما ورد فی القرآن: إن الله یأمر بالعدل و الإحسان و إحیاء مکارم الأخلاق و محاسن الآداب و سبل الخیر للإنسانیة و کما قال هو صلی‌الله علیه و آله: بعثت لأتمم مکارم الأخلاق.
    نعم، هو نبیّ الرّحمة و الإحسان. هو القدوة الکبری للشّرف و الإنسانیة هو الذی دعا النّاس للمحبّة و الأخوّة و المساواة و العمل الصّالح.
    و هو الذی أوصی النّاس بإلتزام الصّدق فی القول و العمل و الإبتعاد عن التکبّر و الغرور و الفخر و دعاهم إلی التواضع و الزّهد و أخیراً أذکر أنه هو نبیّ الرّحمة ‌بعث للعالمین جمیعاً و ما أرسلناک إلا رحمة‌ للعالمین.
    و مع الأسف ممّن شوّه سمعة‌النبیّ بجهلهم و أغراضهم الفاسدة و هذا السلوک بعید کل البعد بمقدار مسافة بعیدة عن سیرة نبیّ الرّحمة.
    فقد ظلموا القرآن و الإسلام و جفوا حقّ الرّسول الأکرم بإعطاء صورة ‌شنیعة و سیّئة عنه صلی الله علیه و آله و عن الإسلام النّقی.
    و نحن بدورنا نتحمل مسئولیة کبیرة ملقاة علی أعناقنا فیجب علینا کمسلمین أن نجعل العالم یتوجّه إلی هذا الدین المنجی للبشریة کما ورد فی القرآن «الصُّلح خیر»
    الإسلام دین السّلام؛ هو النّاصح و الهادی للعالمین هو المرشد للباحثین عن السّبل السلیمة ‌و الصراط الستقیم.

    لطف الله الصافی
    صفر المظفر1437

  • 1

    ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ (1)
    ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ (2) .
    روى شرف الدين النجفي في كتابه تأويل الآيات : قال : قال أبو عبد الله(ع) : اقرءوا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم ، فإنها سورة الحسين بن علي ، و ارغبوا فيها رحمكم الله ، فقال له أبو أسامة و كان حاضرا المجلس : كيف صارت هذه السورة للحسين(ع) خاصة ؟
    فقال : ألا تسمع إلى قوله تعالى : ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ (2) ؟ إنما يعني الحسين بن علي (ع) ، فهو ذو النفس المطمئنة الراضية المرضية و أصحابه من آل محمد (صلوات الله عليهم) الراضون عن الله يوم القيامة و هو راض عنهم ، و هذه السورة [نزلت‏] في الحسين بن علي عليه السلام و شيعته ، و شيعة آل محمد خاصة ، من أدمن قراءة الفجر كان مع الحسين(ع) في درجته في الجنة ، إن الله عزيز حكيم .

    الرؤية الاجمالية للسورة
    الامر المقسَم به في في قوله تعالى ﴿... وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ (3) لابد ان يكون قضية واضحة كل الوضوح لأهل مكة ، وغيرهم وكونها قضية تكشف عن امر الهي يرتبط بالهداية لا ينكره احد .
    ان اعظم مشهد في الجزيرة العربية قبل البعثة هي قضية ابراهيم واسماعيل في الليالي العشر من ذي الحجة وفجر اليوم العاشر منه ، حيث بني البيت الحرام واختتم بالحجر الذي طبعت عليه اقدام ابراهيم وهو ابن مائة سنة اثرها وقد بقي الحجر والاثر الى زمن نزول القرآن بل الى زماننا هذا تتناقل خبره الاجيال ويشهده زوار البيت حقيقة قائمة ، كما تتناقل الاجيال قصة ابتلاء الله ابراهيم بذبح ولده اسماعيل وفداء الله له بكبش عظيم على مرأى ومشهد من الناس .
    وقصة ابراهيم وابتلائه بذبح ولده مدوَّنة في سفر التكوين من التوراة بل ويعرف هؤلاء ان الله تعالى اكرم اسماعيل بان جعل من ذريته النبي واثني عشر عظيما من اهل بيته ، ويعرف ذلك اهل مكة ، لانهم ذرية اسماعيل التي استوطنت البيت منذ نشأته تنتظر تحقق الوعد الالهي لإسماعيل .
    والامر المقسم به في قوله تعالى ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ (4) اختلف فيها المفسرون على اراء شتى لم تثبت بدليل وغاب عنهم الرأي الباده الذي تفرضه اللغة والسياق ،
    اما ﴿ وَالشَّفْعِ... ﴾ (4) (الشفع) في اللغة فهو ضم الشيء الى مثله ويقال للمشفوع شفع ، ومعنى ذلك يقسم الله تعالى بفجر وليالي عشر من شهر آخر تشابه تلك التي من شهر ذي الحجة بكونها كشف عن امر الهي يرتبط بالهداية .
    واما ﴿... وَالْوَتْرِ ﴾ (4)، فهو الظلامة في دم .
    اما ﴿ وَاللَّيْلِ... ﴾ (5) اذا يسرِ فهو كناية عن اخذ الثأر وزوال الهم الذي انتجته الظلامة .
    وفي ضوء الرواية التي اوردناها في صدر البحث يتضح ان الليالي العشر هي العشر الاول من شهر المحرم سنة 61هـ وفجرها هو يوم العاشر الذي قتل فيه الحسين(ع) واهل بيته واصحابه ، والوتر هي ظلامة الحسين(ع) ، والليل اذا يسر هو ظهور المهدي واخذه بثأره .
    ويتضح من ذلك ايضا ان الله تعالى اقسم بقضية واضحة لدى قريش واهل الكتاب ترتبط بالليالي العشر وفجر عاشورائها من ذي الحجة وهي قصة ابراهيم واسماعيل وبناء البيت ورؤيا ابراهيم في ذبح ولده ، وتصديق ابراهيم واستجابة اسماعيل لطلب ابيه يوم العاشر يوم النحر وفداء الله تعالى له بذبح عظيم وما رتب الله تعالى على ذلك من الامامة الالهية لإبراهيم واسماعيل والطاهرين من ذريته ، ثم انطلق منها للأخبار عن قضية مشابهة ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ (6) تبرز فيها العناصر نفسها الليالي العشر ، وفجر عاشرها ، ورؤيا للرسول بذبح ولده على يد شر خلقه دون ان يفدي الله تعالى هذا الولد البار بابيه ليكون دمه وترا (ظلامة) الهيا يأخذ الله تعالى بثأره باستئصال كل قوى الظلم والفساد من على الارض فيتحول الهم والغم الى سرور .
    فيكون القسم بشيء مضى وبشيء سوف يقع، وهو اسلوب لا يمارسه الا الخالق القدير على كل شيء ، الذي يستوي عنده الماضي والمستقبل .
    وقد اخبر انبيائه بهذا الامر المستقبلي بشكل تفصيلي (7) .
    وهذا الإخبار المستقبلي عند تحققه سيكون من اهم الادلة على أحقية هذه القضية في نفسها فضلا عن دليل جديد على أحقية القرآن الكريم وانه وحي الهي .
    ثم تذكر السورة بعد ذلك نماذج ممن الامم التي ظلمت واسفت في ظلمها كيف انتقم الله تعالى منها ، وهم قوم عاد وثمود وفرعون .
    كأنَّ السورة تريد ان تقول : ان الذين يظلمون الحسين(ع) وصحبه سوف يكون مصيرهم مصير قوم عاد وثمود وفرعون .
    ثم تتحدث السورة بعد ذلك عن الانسان وحبه للمال والحياة الدنيا وايثارهم الدنيا على الاخرة .
    وهددتهم بالعذاب الأخروي ثم اختتمت السورة بتوجيه الخطاب الى الحسين (ع) ووصفه بكونه صاحب النفس المطمئنة المسلمة لأمر الله ، مهما كان الابتلاء عظيما ولم تر عين مثل ما جرى في كربلاء .
    نظير اطمئنان وتسليم ابويه ابراهيم واسماعيل . ولكن ذلك كان اختبارا وما جرى في كربلاء كان حقيقة .


    تفسير العلامة الطباطبائي رحمه الله
    قال العلامة الطباطبائي رحمه الله :
    قوله : ﴿... وَالْفَجْرِ ﴾ (8) المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضا أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجة .
    و قوله : ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ (9) لعل المراد بها الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم .
    و قوله : ﴿ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ (4) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجة و العشر الأول من لياليها .
    و قوله : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ (5) أي يمضي فهو كقوله : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ (10) . و ظاهره أن اللام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل .
    و قوله : ﴿ هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ (11) الاستفهام للتقرير ، و المعنى أن في ذلك الذي قدمناه قسما كافيا لمن له عقل يفقه به القول و يميز الحق من الباطل ، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر- و لا يقسم إلا بما له شرف و منزلة- كان من القول الحق المؤكد الذي لا ريب في صدقه .
    و جواب الأقسام المذكورة محذوف (12) . انتهى كلام العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى .

    فهمنا لمصداق الآيات
    قوله تعالى ﴿... وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ (3) : الفَجْر ضوء الصباح و هو حُمْرة الشمس في سواد الليل وهو الفجر الصادق ، و الفَجْر : تَفْجيرُكَ الماء . و انْفَجَر الماءُ و الدمُ و نحوهما من السيّال و تَفَجَّرَ : انبعث سائلًا (13).
    ليس من شك ان الله تعالى حين يقسم بمخلوقاته فهو يريد ان يلفت نظرنا الى اهمية خاصة بذلك المقسم به ، وقد اقسم بالليل والنهار والسماء والارض والشمس والقمر ؛ لكونها آيات الهية تبين حكمة صنعه تعالى ، فهل يا ترى الفجر المقسم به هنا هو مطلق ظاهرة الفجر اليومية او فجر يوم خاص ، والظاهر هو انه اراد فجر يوم خاص لمكان الليالي العشر التي اعقبته ، فإنها ليالي مبهمة لا يزيل ابهامها الا فجر يومها العاشر الذي يأتي بعدها، وغير خفي على احد من المطلعين على تاريخ اقوام الجزيرة العربية من عهد ابراهيم والى اليوم ان فجر يوم العاشر من ذي الحجة هو فجر يوم تقديم القرابين لله تعالى من الحجاج وايضا ممن لم يوفق للحج إذ يستحب له ان يذبح اضحية في بلده . فهو فجر اعظم يوم في ايام السنة كلها على الاطلاق . وهو فجر اقدام ابراهيم ليذبح ولده اسماعيل لرؤيا رآها واستجاب له اسماعيل وصبر لأبيه يذبحه.
    وفي ضوء ذلك فان الليالي العشر هي الليالي العشر من ذي الحجة وفجر عاشورائها ، ويبدو ان الايام التسعة كانت لبناء البيت من اسماعيل وابراهيم فقط ، وانتهى البناء بآية الهية وهي تأثر الحجر بقدمي ابراهيم على كبره وضعفه فهو ابن مائة سنة ولكن شاء الله تعالى ان يجعل الحجر يلين عند قدمي ابراهيم ليطبع صورة قدميه المباركتين ، وهي باقية الى اليوم رغم مرور اربعة الاف سنة عليها .
    وإذا قدَّرنا ان ابراهيم كان قد اعلن عن فريضة الحج منذ ان شرع في بناء البيت ، واراه الله تعالى ان قربانه يوم العاشر من ذي الحجة هو ولده اسماعيل ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ (14) . واعلن الخبر للمسلمين آنذاك ، ومن ثم صارت الليالي العشر ليالي عبادة مركزة من ابراهيم واسماعيل ليستقبلا الابتلاء برحابة صدر ، وحين يحاورهما الناس الذين من حولهما لا يجدون منهما الا الثبات على التسليم لأمر الله والاستعداد ا لتام لإنفاذ امره.
    واقدم ابراهيم على ذبح ابنه وأَمَرَّ السكين على رقبته جادا في ذبحه والناس يضجون تالماً ورقّةً ، ولم تؤثر السكين وفدى الله تعالى اسماعيل بكبش عظيم نزل من الجبل امام الحجيج يقصد اسماعيل ورمى بنفسه الى جنبه وادرك الناس انهم امام اية الهية لان الكبش الوحشي عادة يشرد من الناس وهذا الكبش قصدهم ورمى بنفسه عند اسماعيل ، ونزل الوحي ليكرم ابراهيم واسماعيل بالإمامة الالهية الهادية ثم اكرمه بان جعل اعظم الانبياء وخاتمهم واهل بيته الاثني عشر من صلبه.
    وهكذا فان فجر يوم العاشر من ذي الحجة هو اعظم يوم في تاريخ الرسالات الالهية وفي تاريخ ابي الانبياء ابراهيم ويرتبط ايضا بالنبي والامة المسلمة التي جعلها الله تعالى شاهدة على الناس بعده وهم اهل بيته.
    وفي ضوء ذلك فان هذه الليالي وفجر عاشورائها تستحق اهتمام الله تعالى ليقسم بها وقد اضافها الى الله تعالى الى موعد موسى فقد كان واعده ثلاثين ليلة من ذي القعدة واتمها بعشر من ذي الحجة (15) .
    قوله تعالى ﴿ وَالشَّفْعِ... ﴾ (4) : الشَّفْعُ : ضمّ الشيء إلى مثله ، و يقال لِلْمَشْفُوعِ : شَفْعٌ ، و الشَّفَاعَةُ : الانضمام إلى آخر ناصرا له ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً... ﴾ (16) ، ﴿... وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً... ﴾ (16)، أي : من انضمّ إلى غيره و عاونه ، و صار شَفْعاً له ، أو شَفِيعاً في فعل الخير و الشّرّ ، فعاونه و قوّاه ، و شاركه في نفعه و ضرّه (17) .
    ولا نجد نظيرا شافعا شبيها وناصرا لرسالة ابراهيم واسماعيل وامامتهما الالهية الهادية خلال الفين وخمسمائة سنة غير رسالة محمد (ص) التي استهدفت تحرير دين ابراهيم من بدع خزاعة حين جاءت بالأصنام ونصبتها على الكعبة ، وبدع قريش بعد وفاة عبد المطلب حين ادعت لنفسها انها ال الله وليس هاشم وعبد المطلب وولده ابو طالب .
    ونهضة ولده الحسين(ع) التي استهدفت تحرير دين محمد(ص) وهو دين ابراهيم من بدع قريش المسلمة وبدعة معاوية في حصر خلافة النبي والامامة الالهية الهادية في معاوية وولده يزيد وذرية يزيد وخُيِّر بين البيعة لتكريس البدعة او القتال والقتل ، فاختار القتل على تكريس البدعة (لو لم يكن لي في الدنيا ملجأ ما بايعت يزيد) نظير قول جده النبي لعمه ابي طالب (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على ان اترك هذا الامر ما تركته او اهلك دونه) (18) .
    ولولا الحسين(ع) ما عرف المسلمون الحج الابراهيمي وسنن محمد(ص) فيه ولا عرفوا امامة اهل البيت التي دعا اليها النبي (ص) . وبذلك تطابق المشهدان من حيث الهدف ومن حيث الشكل تطابقا عجيبا ، لقد بقيت تجربة ابراهيم واسماعيل والليالي العشر من ذي الحجة وعاشورائها وما افرزته من تكريس التوحيد والامامة الالهية الهادية في ابراهيم وذريته الطاهرة فردا في التاريخ حتى شعفتها تجربة محمد (ص) وولده الحسين (ع) ، ومن الطريف ان ابراهيم رأى في الرؤيا انه يذبح ولده ، وان محمدا (ص) يرى فتنة بني امية في الرؤيا التي تستلزم ان ينهض ولده الحسين (ع) لمواجهتها وحينئذ لا بد من ان يقتل مظلوما ويفتح الطريق للإمامة الهادية التي جعلها الله ورسوله في علي واهل بيته .
    وشاء الله تعالى ان يجعل من قبر الحسين (ع) مثابة للناس يقصدونه في الليالي العشر وعاشورائها وكل ايام السنة كما جعل بيت ابراهيم مثابة للناس في الليالي العشر وعاشورائها وهو يوم النحر وكل ايام السنة .
    نعم الفارق الاساس هو ان اسماعيل لم يذبح بيد ابيه الرؤوف الرحيم لان القضية كانت اختبارا للوالد وولده ، بينما ذبح الحسين (ع) على يد شمر شر خلق الله وفصل راسه ورؤوس اهل بيته واصحابه ليتركوا مجزرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء لا لشيء الا لانهم قالوا لا للمنكر واصروا على موقفهم ودافعوا عن انفسهم فقاتلوا وقتلوا .
    وفي الروايات عن اهل البيت: ما يفيد ان الله تعالى اوحى لنبيه ابراهيم بعيد الواقعة بخبر حبيبه محمد (ص) ومصيبة سبطه الحسين (ع) وكان الله تعالى جعل الرؤيا للاختبار من جهة ولتهيئة ابراهيم لتلقي خبر مصيبة الحسين (ع) وهي عزيزة على جده محمد بل عزيزة على جده ابراهيم .
    روى الشيخ الصدوق عن الفضل بن شاذان قال : سمعت الرضا (ع) يقول : أوحى الله عز وجل إليه : يا إبراهيم من أحب خلقي إليك ؟ فقال : يا رب ما خلقت خلقا هو أحب إلي من حبيبك محمد صلى الله عليه وآله فأوحى الله تعالى إليه أفهو أحب إليك أم نفسك قال : بل هو أحب إلي من نفسي ، قال : فولده أحب إليك أم ولدك : قال : بل ولده ، قال : فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟ قال : يا رب بل ذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبي ، قال : يا إبراهيم فان طائفة تزعم أنها من أمة محمد ستقتل الحسين (ع) ابنه من بعده ظلما وعدوانا كما يذبح الكبش ، و يستوجبون بذلك سخطي ، فجزع إبراهيم عليه السلام لذلك ، وتوجع قلبه ، وأقبل يبكي (19) .
    قوله تعالى ﴿... وَالْوَتْرِ ﴾ (4): الوَتْرُ و الوِتْرُ و التِّرَةُ : الظلامة في الذَّحْل (20) والموتر الذي قتل له قتيل ولم يأخذ بثأره . ولن نجد وِترا في تاريخ الاسلام بل في تاريخ البشرية له اهمية خاصة في حفظ الدين كدم الحسين(ع) وقد ادخر الله تعالى التاسع من ذرية الحسين (ع) ليأخذ بثأره في آخر الزمان من كل الظالمين الراضين بقتل الحسين (ع) وبذلك يزول الظلم من على وجه الارض كليا ويرث الصالحون الارض .
    وهكذا يكون القسم بالوتر قسما بظلامة الحسين (ع) وهي ظلامة تستحق ان يقسم الله تعالى بها لما حققته من حفظ لدين محمد ودين ابراهيم دين الله تعالى من التحريف هذه الظلامة التي جعلت الموتور فيها هو الله تعالى (السلام عليك يا ثار الله والوتر الموتور) لان الله تعالى هو الذي كلف الحسين (ع) بالنهضة عن طريق نبيه محمد ووفى الحسين (ع) بنهضته كما وفى اسماعيل وصبر على حز المدية وفداه الله بذبح عظيم وجعل الامامة في ذريته . وكذلك جعل الله تعالى الامامة في ذرية الحسين(ع) لما صبر على هذه النهضة .
    قوله تعالى : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ (5) : قسم بالمهدي بن الحسين عليهما السلام الذي يزول به ليل الظلم كليا وتشرق الارض بنور عدله وعلمه .
    قوله تعالى : ﴿ هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ (11) : معنى الاستفهام هنا التفخيم و التعظيم للأمور المقسم بها (21) .
    و حاصل معنى الآيات : ان من كان ذو لبّ من الناس علم ان قصة ابراهيم واسماعيل وبقاء البيت الذي رفعا قواعده وبقاء الحجر الذي يحمل اثر قدمي ابراهيم وبقاء زمزم فياضة بالماء وتحقق دعاء ابراهيم من استمرار أناس مسلمين في ذريته وبعثة احدهم وهو محمد (ص) اليهم خاصة ثم الى الناس عامة ليجدد ملة ابراهيم وشريعته يعد من اعظم الادلة على وجود خالق عزيز حكيم كما هو من اعظم الادلة على النبوة الابراهيمية .
    وكذلك علم ان الإخبار بشفعها كما بينا ، والقسم بهذا لشفع لأنه ظلامة وترة والقسم بأخذ الثأر لان الله تعالى ادخر التاسع من ذرية المقتول ظلما وعدوانا ليأخذ بثأره المناسب له وهو ان يقتل كل الراضين بقتله في آخر الزمان ولا يجرؤ على النطق به الا الخالق العزيز الحكيم وحده وفيه ايضا ان القرآن لم تقف نبوءاته بالواقع المعاصر للنبوة بل تجاوزها الى مئات السنين .
    لقد اكرم الله تعالى اسماعيل بان جعل في ذريته طاهرين ومنهم خاتم الانبياء وسيدهم النبي الموعود ، واوصياءه ، وجعل ذلك نبوءة ابراهيم في الكعبة لتحقق بعد الفين وخمسمائة سنة تقريبا ، وهو فعل لا يقدر عليه الا الخالق ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (22).
    وليس من شك ان هذا الرسول هو محمد والامة المسلمة هي علي والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين: .
    هم الشفع لإبراهيم يقوون امر دينه وامامته الالهية الهادية .
    المثل الذي ضربه الله تعالى للقوم الظالمين
    قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾ (23) جمل اعتراضية بين القسم وجوابه .
    هذه ثلاث امثلة ضربها الله تعالى لمن سوف يتصدى لتجهيز الجيوش لقتل الحسين(ع) ، انه مهما كانت قوتهم سوف يكون مصيرهم مصير قوم عاد وثمود وفرعون الذين طغوا في البلاد كما طغى بنو امية في البلاد .
    ﴿... وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ... ﴾ (24).
    ﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾ (25) .
    ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ (26) .
    ﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ... ﴾ (27) .
    ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا... ﴾ (24).
    قوله تعالى : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ (28) : جواب القسم ، فصل بينه وبين القسم بجمل اعتراضية كان لا بد منها . ومعنى جواب القسم : ان الله تعالى يرقب عمل الناس و يحصيه عليهم و يجازيهم به . و في الآية تعليل ما تقدم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله : ﴿... رَبَّكَ... ﴾ (28) بإضافة الرب إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أن سنة العذاب جارية في أمته ص على ما جرت عليه في الأمم الماضية .
    قوله تعالى : ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ (29)
    في الآيات تعليق الهي على هلاك الظالمين في الدنيا ثم تذكير بعذاب الاخرة وهو عذاب ليس كعذاب الدنيا .

    النفس المطمئنة هي الحسين (ع)
    قوله تعالى : ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ (2) .
    النفس المطمئنة هي النفس الساكنة التي لا تقلق من صعوبة الموقف وشدته وانسجاما مع مفتتح السورة والامثلة المضروبة للظالمين وهذه الامثلة تستبطن ما يصنعه الظلمة وجندهم بالمؤمنين واختتمت السورة بمخاطبة النفس المطمئنة ان تدخل الجنة وفيه ايماء ان هذه النفس كانت في حال يفرض عليها القلق الشديد لما كانت تشهده من مشاهد تتفطر لها الصخور الصم ، وتذوب لها القلوب اسى وجوى ، ولكنها كانت نفسا ساكنة على الرغم من كل عوامل القلق كانت مطمئنة بذكر الله تعالى ، اذن النفس في الآية ليست أي نفس بل هي التي ستكون محور الشفع في المحنة محور الليالي العشر وعاشورائها في المكابدة والمعاناة الحقيقية ، هذه النفس هي الحسين (ع) ، وذكره عليه السلام بالاطمئنان هو المناسب للحال التي احاطت به ففي مثل تلك الحال يكون القلق هو الاصل في الموقف لوجود العيال والاطفال ويكون الاطمئنان بذكر الله تعالى مع عظم الموقف من صبية مذعورين لما يسمعون من صلصلة السيوف وقصف الرماح ، وبنات مخدرات قلقات من المستقبل المجهول ونساء ثاكلات سوف يفارقن احبتهن مرملين بالدماء يسوقهن العدو سوق الاسارى ليس امرا سهلا ولا يصدر الاطمئنان الا من اولياء لله الذين اختصهم بسكينته وعلى راسهم الحسين (ع) .
    قال الشيخ التستري : وأما صبره عليه السلام فتدبر في أحواله وتصورها حين كان ملقى على الثرى في الرمضاء ، مجرَّح الأعضاء ، بسهام لا تعد ولا تحصى ، مفطور الهامة ، مكسور الجبهة ، مرضوض الصدر ، من السهام مثقوب الصدر بذي الثلاث شعب ، سهم في نحره ، وسهم في حنكه ، وسهم في حلقه . اللسان مجروح من اللوك ، والكبد محترق ، والشفاه يابسة من الظمأ ، القلب محروق من ملاحظة الشهداء في طرف ، ومكسور من ملاحظة العيال في الطرف الآخر ، الكف مقطوع من ضربة زرعة بن شريك ، والرمح في الخاصرة ، مخضب اللحية ، وهو يسمع صوت الاستغاثات من عياله ، والشماتات من أعدائه ، بل الشتم والاستخفاف ، ويرى بعينه إذا فتحها جثث قتلاه واحبائه . ومع ذلك كله لم يتأوه في ذلك الوقت ، ولم تقطر من عينه قطرة دمع ، وإنما قال : صبرا على قضائك ، لا معبود سواك ، يا غياث المستغيثين .
    عن أبى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله : ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ (30) الآية يعنى الحسين ابن على عليهما السلام (31) .
    صلى الله عليك يا ابا عبد الله (32).
    -------------------------------------------------------------------------------------------
    1. القران الكريم: سورة الفجر (89)، من بداية السورة إلى الآية 5، الصفحة: 593.
    2. a. b. c. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآيات: 27 - 30، الصفحة: 594.
    3. a. b. القران الكريم: سورة الفجر (89)، من بداية السورة إلى الآية 2، الصفحة: 593.
    4. a. b. c. d. e. f. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 3، الصفحة: 593.
    5. a. b. c. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 4، الصفحة: 593.
    6. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 3 و 4، الصفحة: 593.
    7. انظر بحثنا حول مصيبة الحسين(ع) في كتب الانبياء السابقين.
    8. القران الكريم: سورة الفجر (89)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 593.
    9. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 2، الصفحة: 593.
    10. القران الكريم: سورة المدثر (74)، الآية: 33، الصفحة: 576.
    11. a. b. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 5، الصفحة: 593.
    12. الميزان في تفسير القرآن، ج‏20، ص: 280 .
    13. لسان العرب مادة فجر .
    14. القران الكريم: سورة الصافات (37)، الآية: 102، الصفحة: 449.
    15. في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد بن عليّ عن أبي عبد اللّه (ع) في قوله: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ... ﴾ ، قال: بعشر ذي الحجّة.
    16. a. b. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 85، الصفحة: 91.
    17. مفردات الراغب الاصفهاني مادة شفع .
    18. ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ،﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ،﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ .
    19. الخصال – الشيخ الصدوق – ص 58 – 59 .
    20. لسان العرب مادة وتر .
    21. إعراب القرآن و بيانه، ج‏10، ص: 469 .
    22. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآيات: 127 - 129، الصفحة: 20.
    23. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآيات: 6 - 13، الصفحة: 593.
    24. a. b. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 137، الصفحة: 166.
    25. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 99، الصفحة: 233.
    26. القران الكريم: سورة الذاريات (51)، الآية: 40، الصفحة: 522.
    27. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 60، الصفحة: 228.
    28. a. b. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 14، الصفحة: 593.
    29. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآيات: 15 - 26، الصفحة: 593.
    30. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 27 و 28، الصفحة: 594.
    31. تفسير علي بن ابراهيم 2/422: حدثنا جعفر بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن موسى عن الحسن ابن على بن أبى حمزة عن أبيه عن أبى بصير .
    32. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة السيد سامي البدري ، محرم الحرام سنة 1432هـ .

    المصدر : مرکز الإشعاع الإسلامي

  • 1

    يعود تاريخ البكاء على الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام في معتقد الشيعة إلى زمان النبي صلى الله عليه وآله ، وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله هو أول من بكى على الحسين عليه السلام ، وتبعه على ذلك صحابته .
    فقد أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 188 عن أم سلمة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ذات يوم في بيتي ، قال لا يدخل عليَّ أحد . فانتظرت فدخل الحسين ، فسمعت نشيج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ، فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي صلى الله عليه وسلم يمسح جبينه وهو يبكي ، فقلت : والله ما علمت حين دخل . فقال إن جبريل عليه السلام كان معنا في البيت ، قال : أفتحبه ؟ قلت : أما في الدنيا فنعم . قال : إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء . فتناول جبريل من تربتها ، فأراها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أحيط بحسين حين قتل قال : ما اسم هذه الأرض ؟ قالوا : كربلاء . فقال : صدق الله ورسوله ، كرْبٌ وبلاء . وفي رواية : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرضُ كربٍ وبلاء . قال الهيثمي : رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال أحدها ثقات . انتهى .وأخرج أحمد في المسند 1 / 85 ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 2 / 375 ، وأبو يعلى 1 / 187 ، والطبراني ، والبزار 3 / 101 ، وابن أبي شيبة في المصنف 7 / 478 ، عن نجي الحضرمي أنه سار مع علي رضي الله عنه ، وكان صاحب مطهرته ، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين ، فنادى علي : اصبر أبا عبد الله ، اصبر أبا عبد الله بشط الفرات . قلت : وما ذاك ؟ قال : دخلت علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وإذا عيناه تذرفان ، قلت : يا نبي الله أغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : بل قام من عندي جبريل عليه السلام ، قال : فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات . قال : فقال : هل لك أن أشمك من تربته ؟ قلت : نعم . قال : فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني أن فاضتا . قال الهيثمي : رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ، ورجاله ثقات ، ولم ينفرد نجي بهذا . انتهى .
    كما يعتقد الشيعة الإمامية بأن البكاء على الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فيه فضل عظيم وثواب لا يحصى ، مع ما فيه من التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وإظهار المحبة لأهل بيته عليهم السلام ، وقد رويت أحاديث دالة على بكاء أئمة أهل البيت عليهم السلام على الحسين عليه السلام .
    منها : ما أخرجه أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء 3 / 138 وتهذيب الكمال 20 / 399 بسنده عن جعفر بن محمد قال : سُئل علي بن الحسين عن كثرة بكائه ، فقال : لا تلوموني فإن يعقوب فَقَدَ سبطاً من ولده ، فبكى حتى ابيضت عيناه ولم يعلم أنه مات ، وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلاً من أهل بيتي في غزاة واحدة ، أفترون حزنهم يذهب من قلبي ؟
    ومنها : ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات ، ص 216 عن هارون بن خارجة ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، قال : كنا عنده فذكرنا الحسين عليه السلام ، فبكى أبو عبد الله عليه السلام ، وبكينا ، قال : ثم رفع رأسه ، فقال : قال الحسين عليه السلام : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا بكى . انتهى .
    وروى الشيعة أحاديث كثيرة في فضل البكاء على الحسين عليه السلام ، منها ما رواه ابن قولويه في كامل الزيارات ، ص 202 عن الربيع بن منذر عن علي بن الحسين عليهما السلام قال : من قطرت عيناه فينا قطرة ، ودمعت عيناه فينا دمعة ، بوَّأه الله بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقابا .
    ولهذا بكى الشيعة منذ الصدر الأول على مصائب أهل البيت عليهم السلام حتى ضُرب المثل ببكائهم ، فقال الميداني في مجمع الأمثال 1 / 316 : أرق من النسيم ، ومن الهواء ، ومن دمع الغمام ، ومن دمع المستهام ، ومن دمعة شيعية ، وهذا من قول الشاعر :

    أرقُّ مِنْ دمعةٍ شيعيةٍ          تبكي عليَّ بنَ أبي طالبِ انتهى .

    وكما حثَّ أئمة أهل البيت شيعتهم على البكاء على الإمام الحسين عليه السلام خاصة وعلى أهل البيت عليهم السلام عامة ، فقد حثوا شعراء الشيعة على النظم في الحسين عليه السلام ، فقد روى ابن قولويه في كامل الزيارات ، ص 210 ، عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ، قال : من أنشد في الحسين عليه السلام بيتَ شِعْر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة ، ومن أنشد في الحسين بيتاً فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنة ، فلم يزل حتى قال : من أنشد في الحسين بيتاً فبكى ـ وأظنه قال : أو تباكى ـ فله الجنة . انتهى .
    ولهذا تنافس الفحول من شعراء الشيعة قديماً وحديثاً على رثاء الحسين عليه السلام ، فجادت قرائحهم بشعر كثير مشتمل على المراثي العصماء التي لم ينظم مثلها .
    ومن جملتها بائية السيد رضا الهندي رحمه الله التي قال فيها :

    وتحزَّبتْ فرق الضلال على ابن مَنْ              في يوم بدر فرَّق الأحزابا
    لم أنـسه إذ قـام فيهم خاطـباً                  فإذا همُ لا يملكون خطابا
    يدعو ألستُ أنـا ابن بـنت نبيكم                 وملاذكم إن صرف دهر نابا
    هل جـئتُ في ديـن النبي بـبدعةٍ              أم كنت في أحكامه مرتابا
    إن لم تديـنوا بالمعـاد فـراجـعوا                  أحسابكم إن كنتمُ أعرابا
    فغدوا حيارى لا يـرون لـوعظـه                   إلا الأسنة والسهام جوابا
    حتى إذا أسـفـت عـلوج أمـية                   أن لا ترى قلب النبي مصابا
    صلَّتْ على جسم الحسين سيوفُـهم         فغدا لساجدة الضُّبى محرابا
    ومضى لهيفا لم يجـد غيـر القـنا               ظلا ولا غير النجيع شرابا
    ظـمآن ذاب فؤاده من غــلـة                    لو مسَّت الصخر الأصم لذابا
    لهفي لجسمك في الـصعيد مجرداً            عريان تكسوه الدماء ثيابا
    لهفي لرأسك فوق مسلوب الـقنا             يكسوه من أنواره جلبابا

    وهي قصيدة طويلة اخترنا بعض أبياتها .
    وقد روي أن بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام كانوا يأمرون بعض شعراء الشيعة بإنشادهم ما قالوه في رثاء الحسين عليه السلام .
    فقد روي أن أبا هارون المكفوف زار الإمام الصادق عليه السلام فقال له : يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السلام . قال : فأنشدته فبكى ، فقال : أنشدني كما تنشدون ـ يعني في الرقة ـ . قال : فأنشدته :

    امرر على جدث الحسين              فقلْ لأعظمه الزكيهْ

    قال : فبكى ، ثم قال : زدني . قال : فأنشدته القصيدة الأخرى ، قال : فبكى ، وسمعت البكاء من خلف الستر (1) .
    وفي رواية أخرى : فبكى وتهايج النساء .
    وفي رواية ثالثة عن عبد الله بن غالب ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ، فأنشدته مرثية الحسين عليه السلام ، فلما انتهيت إلى هذا الموضع :

    لبلية تسقو حسيناً                بمسقاة الثرى غير التراب

    صاحت باكية من وراء الستر : واأبتاه . انتهى .
    وهذه هي البذرة الأولى للمآتم الحسينية التي صار الشيعة يعقدونها في أيام عاشوراء من شهر محرم ، إلا أنها تطوَّرت عبر العصور ، فإنها وإن بدأت بهذه الصورة المبسطة التي كان الشعراء يلقون فيها ما نظموه من الشعر في رثاء الحسين عليه السلام . إلا أن خطباء الشيعة صاروا يلقون الأشعار التي نظمها الشعراء السابقون ، ويضيفون إليها شيئاً مما وقع للحسين عليه السلام وأهل بيته في كربلاء ، ثم أضيفت لتلك المجالس : المواعظ والأحكام وغيرها من الفوائد التي صيَّرت المنبر الحسيني رافداً مهماً من روافد العلم والمعرفة عند الشيعة عبر العصور .
    وأما زيارة الحسين عليه السلام فقد روى فيها الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أحاديث كثيرة في فضلها والحث عليها .
    ويكفي أن أسوق للقارئ بعض العناوين التي ذكرها ابن قولويه في كتابه كامل الزيارات في فضل زيارة الحسين عليه السلام ليتضح مبلغ أهمية زيارة الحسين عند الشيعة :
    من تلك الأبواب : أن زيارة الحسين عليه السلام تعدل زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنها تزيد في العمر والرزق ، وتركها ينقصهما ، وأنها تحط الذنوب ، وأنها تعدل عمرة ، وأنها تعدل حجة ، وأنها تعدل حجة وعمرة ، وأنها تعدل عتق الرقاب ، وأنها تنفِّس الكرب وتُقضى بها الحوائج ، وأن زوار الحسين مشفَّعون .
    وروى ابن قولويه في كامل الزيارة ، ص 275 عن زيد بن علي رضي الله عنه قال : من زار قبر الحسين بن علي عليهما السلام لا يريد به إلا الله تعالى غفر له جميع ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر ، فاستكثروا من زيارته يغفر الله لكم ذنوبكم . انتهى .
    ولهذا تفانى الشيعة في زيارة الحسين عبر العصور رغم الخوف الشديد وما كان يلم بهم من الاضطهاد والقتل والتشريد بسبب ذلك . كما حدث في زمن المتوكل العباسي حيث (أمر بهدم قبر الحسين بن علي عليه السلام ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يُبْذَر ويُسقى موضع قبره ، وأن يُمنع الناس من إتيانه ، فنادى عامل الشرطة بالناس في تلك الناحية : (مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المُطْبِق) (2) .
    وفي البداية والنهاية لابن كثير 8 / 205 ، وسير أعلام النبلاء للذهبي 3 / 317 : أن الماء لما أجري الماء على قبر الحسين ليمحي أثره ، نضب الماء بعد أربعين يوماً ، فجاء أعرابي من بني أسد ، فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمها ، حتى وقع على قبر الحسين ، فبكى وقال : بأبي أنت وأمي ، ما كان أطيبك وأطيب تربتك ، ثم أنشأ يقول :

    أرادوا ليخفوا قبرَه عن عدوه         فطِيْبُ تراب القبر دلَّ على القبرِ (انتهى) .

    وعند الشيعة زيارات مخصوصة للحسين عليه السلام ، هي أهم الزيارات عندهم ، لما فيها من الثواب العظيم التي دلَّت عليه الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وهي :زيارة عاشوراء (في اليوم العاشر من المحرم) ، وزيارة الأربعين (في العشرين من شهر صفر) ، والزيارة الرجبية في الأول والنصف من شهر رجب ، والزيارة الشعبانية في ليلة النصف من شهر شعبان ، وزيارة عرفة (في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة) .
    ولهذا عُني الشيعة بهذه الزيارات عبر العصور أشد العناية ، وحرصوا عليها غاية الحرص .
    ودأب الكثير من الشيعة على زيارة الحسين عليه السلام مشياً على الأقدام ، وهو ما يعبِّرون عنه بـ (البياده) ، وذلك لأن أثوب الأمور أحمزها ، ولما روي أيضاً عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال : (من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ، ومحا عنه ألف سيئة ، ورفع له ألف درجة (3) .
    وأما بعض المظاهر التي تقع من بعض الشيعة مثل ما يسمى بالتطبير وهو الضرب بالسيوف والقامات على الرؤوس ، والضرب على الصدور والظهور بالسلاسل ، وما شاكل ذلك ، فهي أمور مختلف في جوازها وعدمه ، وقد اشترط مرجع الشيعة في عصره السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره فيها عدم حصول الضرر المعتد به .
    ومن الواضح أنه تعبير عملي عن الحزن ، وإظهار ظلامة قتل الحسين ، وللمرء أن يعبر عن مشاعره بما يراه مناسباً ، كما أن له أن يظهر أي قضية تهمه بما يرى أنه يلفت الأنظار إليها ، كما يحصل في هذه العصور من التعبير عن قضايا الناس بالمسيرات السلمية ، أو بالمظاهرات ، أو بالإضراب عن الطعام أو بالاعتصام في مكان ما ، أو نحو ذلك من المظاهر التي اشتهرت بين الناس في هذه العصور (4) .
    -----------------------------------------------------------------------------------------
    1. كامل الزيارات ، ص 208 .
    2. كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير 7 / 55 .
    3. كامل الزيارات ، ص 255 .
    4. نشرت هذه المقالة في الموقع الرسمي لسماحة الشيخ علي آل محسن .

    المصدر : مركز الإشعاع الإسلامي

  • 1

    من العناوين والموضوعات المهمة التي كثر الحديث والجدل حولها ـ وفي مناسبات كثيرة ومواطن عدّة ـ هو موضوع الشعائر والطقوس والمراسم الدينية، وتطبيقاتها المختلفة، كمظاهر إحياء المواليد، ومراسم الاحتفالات والمناسبات الدينية العامّة، والاحتفاء بأيام الإسلام الخالدة، كذكرى المبعث النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، وذكرى يوم المباهلة، وواقعة الغدير، وإحياء المراسم الحسينية، والاهتمام بالأماكن الجغرافية والآثار المكانية الخالدة وعمارتها، والاختلاف إليها وزيارتها والتبرّك بها، سواء التي ضمت بين جنباتها الأجساد الطاهرة للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ، والأنبياء والأولياء والصالحين، أو التي شهدت مواقع ومناسبات إسلامية مشهورة، كموضع غزوة بدر، وموضع غدير خمّ، وغار حراء، والمساجد التي تشرفت بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته فيها، وما شابه ذلك.
    لقد دخلت بعض مفردات هذه الشعائر الدينية ـ أو جميعها ـ كأحد أبرز مواضع الخلاف المذهبي والطائفي، وكذلك أصبحت معياراً للدخول في الإسلام أو الخروج منه، واتُهمت على أساس الإيمان بها وممارستها طوائف عديدة بالشرك أو الكفر أو الزندقة، لاسيما شيعة أهل البيت عليهم السلام  الذين تحملوا الكثير في سبيل إحياء شعائر أهل البيت عليهم السلام ، والتبرك بآثارهم وزيارتها وعمرانها.
    فبحث الشعائر من الأبحاث المهمة والحساسة؛ لوقوعها في دائرة الجدل والأخذ والرد، وكثرة ما يثار حولها من إشكالات وتساؤلات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى؛ فإن مسألة الشعائر الدينية لم تبحث بالتفصيل كقاعدة كلامية أو فقهية سوى ما يذكر هنا وهناك بشكل متناثر وفي أبواب فقهية متعددة؛ فلذا كان من الضروري تسليط الضوء على هذه القاعدة، وبيان حقيقتها وحكمها وحدود موضوعها، ومعرفة المجال الفقهي الذي تنتمي إليه، والتعرف على أدلتها الشرعية، ومن ثُمَّ تطبيقها على الشعائر والمراسم الحسينية التي تُعدّ الفرد الأبرز والأهم من بين أفراد وتطبيقات الشعائر الدينية.حقيقة الشعائر الدينية
    لقد تقرر في علم الفقه وأصوله أنّه لمعرفة حكم من الأحكام، لا بد ـ أولاً ـ من بيان موضوع ذلك الحكم ومتعلّقه، وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحكم وجوباً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان حراماً، وبيان الموضوع يبدأ أولاً من بيان المعنى الموضوع له في اللغة، ومعرفة حدوده وقيوده، وهل أنّ الشارع تصرّف بهذا الموضوع، فنقله عن معناه اللغوي إلى معنى جديد ـ وهو ما يعبر عنه بالحقيقة الشرعية ـ أم أنّه أضاف له قيوداً جديدة، أم تركه على حاله؟
    وهذا البحث يكتسب أهمية كبيرة في الأبحاث الفقهية؛ لأنه في أي مبحث فقهي ينبغي دراسة العناوين الواردة في ألسنة الأدلة لمعرفة الحال، وهل أنّها باقية على وضعها اللغوي، أو أنّ الشارع تصرّف فيها، وأصبحت لها حقيقة شرعية؟ وسبب أهمية البحث هو أنه: إذا كان العنوان باقياً على وضعه اللغوي؛ أمكن التمسّك بإطلاق معناه اللغوي، وأمّا إذا نُقل من قبل الشارع إلى معنى آخر، وحقيقة معيّنة جديدة، فيجب لمعرفة تلك الحقيقة الاعتماد على ألسنة الأدلة الشرعية، وليس لنا الرجوع إلى الوضع اللغويّ الأوّليّ.
    وقد ذكر علماء الأصول أنّ العناوين التي ترد في الأدلة، ولم يدلّ دليل على كونها نُقلت إلى معنى آخر; فهي باقية على معناها اللغويّ.
    وبما أن مفردة الشعائر واردة في لسان عدد من الأدلة الشرعية، كالآيات القرآنية وغيرها من الأدلة؛ فينبغي تقرير مفاد هذا الموضوع وحدوده وقيوده وما يشترك معه في الحقيقة، فنبدأ بدراسة الشعائر لغةً واصطلاحاً في المفهوم العرفي، وفي أقوال العلماء.

    معنى الشعائر في اللغة
    وردت لفظة: الشعيرة والشعار والشعائر في كتب اللغة؛ فقد قال الفراهيدي في العين: «وتقول: أنت الشعار دون الدثار. تصفه بالقرب والمودّة، وأشعر فلان قلبي هماً، أي: ألبسه بالهم حتى جعله شعاراً للقلب.
    وشعرت بكذا أشعر شعراً... ومنه: ليت شعري، أي: علمي، وما يشعرك، أي: ما يُدريك.
    ومنهم مَن يقول: شعرته، أي: عقلته وفهمته...
    والمشعر: موضع المنسك من مشاعر الحج... وكذلك الشعارة من شعائر الحج، وشعائر الله: مناسك الحج، أي: علاماته»[1].
    فالشعائر عند الخليل مفردها شعارة وشعيرة، ثم يضيف: «والشعيرة أيضاً: البدنة التي تهدى إلى بيت الله، وجمعت على الشعائر، تقول: قد أشعرت هذه البدنة لله نسكاً. أي: جعلتها شعيرة تهدى، ويقال: إشعارها أن يجأ أصل سنامها بسكين، فيسيل الدم على جنبها، فيعرف أنها بدنة هدي»[2].
    وقال ابن فارس: «الشعار: الذي يتنادى به القوم في الحرب؛ ليعرف بعضهم بعضاً، والأصل قولهم: شعرت بالشيء إذا علمته وفطنت له، وليت شعري، أي: ليتني علمت... ومشاعر الحج مواضع المناسك، سميت بذلك؛ لأنها معالم الحج. والشعيرة واحدة الشعائر، وهي أعلام الحج وأعماله»[3].
    وقال الجوهري:«والشعائر: أعمال الحج، وكل ما جعل علماً لطاعة الله تعالى... والمشاعر: الحواس... وأشعرته فشعر، أي: أدريته فدرى»[4].
    وقال الزجّاج في شعائر الله: «يعني بها جميع مُتَعبّداتِ الله التي أَشْعرها الله، أَي: جعلها أَعلاماً لنا، وهي كل ما كان من موقف أَو مسعى أَو ذبح، وإِنما قيل: شعائر لكل علم مما تعبد به؛ لأَن قولهم: شَعَرْتُ به. علمته؛ فلهذا سُمّيت الأَعلام التي هي مُتَعبّداتِ الله تعالى شعائر»[5].
    ومن خلال كلمات هؤلاء اللغويين، يمكننا الخروج بنتيجة مفادها: أنّ موارد استعمال مفردة الشعيرة والشعار هي موارد الإعلام الحسّي، والإفصاح بطريقة حسيّة شاخصة عن معنى أو حكم أو سلوك معيّن، وهو ما نسمّيه بالشعار أو الشعيرة، وإن جعلها بعض اللغويين مرتبطة بمناسك الحج خاصة.
    وقد تُضافُ الشعائر إلى لفظ الجلالة الله، فنقول: «شعائر الله»، كما في قوله تعالى: {ذلكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب}[6]، وقد تضاف إلى المذهب، فيقال: شعائر المذهب، وتضاف إلى الحسين عليه السلام ، فتسمّى بالشعائر الحسينيّة، وقد تضاف إلى الدين، فتُعرف باسم شعائر الدين، وشعائر الإسلام.
    وهذه الإضافات ما هي إلاَّ تفريعات وتطبيقات لنفس القاعدة الواحدة.

    موضوع الشعائر في أفق العرف
    إنّ موضوع الحكم كما يبحث عنه في أفقه اللغوي؛ لبيان معناه الذي وضع له اللفظ، وموقف الشارع من هذا الوضع، كذلك هناك مرحلة يمرّ بها موضوع الحكم، وهي ما يعبّر عنه بالوجود الخارجي للموضوع في أفق العرف والعقلاء، وما يعتبرونه ويقننونه في هذا الصدد، والذي يعدّ هذا التقنين العرفي هو الموجد والمحقق للموضوع في الخارج، وهو بمثابة الوجود التكويني للموضوع في ذهن العرف.
    لكن هذا التقنين والتطبيق العرفي للموضوع يمكن أن تطاله يد التشريع الإلهي بالتغيير أو التضييق أو التوسعة، كما حصل لبعض الموضوعات الشرعية، مثل موضوع الطلاق الذي لم يتدخل الشارع في حقيقته ومعناه اللغوي، وإنّما تصرّف في وجوده العرفي، فرفض بعض الصيغ المحققة له عند العرف، كقول الزوج: طلقت امرأتي، أو أطلّقك، وغيرها، وأقرّ ألفاظاً وصيغاً خاصة، مثل: أنت طالق، بصيغة اسم الفاعل.
    وأمّا إذا لم يتصرف الشارع في موضوع الحكم في هذه المرحلة، فالقاعدة الأولية تقتضي أن يبقى على وجوده عند العرف والعقلاء، وهو بمثابة الرضا به الإمضاء له.
    وفي محلّ البحث، فإنّ موضوع الشعائر الوارد في عموم بعض الأدلة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}[7]، وقوله عزوجل : {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[8]، وغيرها من الآيات، والتي يظهر منها أنّ الشارع لم يتصرف في مرحلة التطبيق الخارجي لموضوع الشعائر، فما يختاره عرف المتشرعة ويتسالمون عليه من سلوك ما، أو ممارسة فعلية، أو ما يحتفون به من مَعْلَمٍ جغرافي أو رمزي، فيتفشَّى وينتشر ويتمُّ تداوله واستعماله، ويُجعل تبياناً وعلامة وإعلاماً حسياً لمعنى من المعاني الدينية، يكون من مصاديق الشعائر وتتجسّد فيه ماهيتها، فالشعيرة والشعار علامة وضعية حسية، لها نوع من الاقتران والربط والعلقة الاعتبارية ـ عند العرف والعقلاء ـ بينها وبين معاني واعتبارات دينية خاصة؛ لغرض إبرازها والاحتفاء بها.

    الشعائر وعلاقتها بمناسك الحج
    إنّ مفردة الشعائر ـ كما هو واضح ـ قد وردت في آيات عديدة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[9]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلَائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}[10]، وكان سياق الحديث في هذه الآيات عن مناسك الحج وأفعاله وما يرتبط به؛ مما جعل بعض العلماء من أهل السنة يذهب إلى أنّ الشعائر مختصة ببعض مناسك الحج أو جميعها، ولا تشمل هذه القاعدة بقية الأبواب الفقهية، بل ورد عن  ابن عباس، أنّه قال: «إنّ الشعائر مناسك الحج»[11]، وخصّها أبو عبيدة، والزجاج بالهدايا المشعرة لبيت الله الحرام[12]، فيما ذهب الماوردي والقاضي أبو يعلى إلى أنّ الشعائر هي أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة[13].
    ولكن هذا الرأي لم يكن سديداً؛ لأن مجرد وجود قرينة السياق لا تصلح دليلاً فيما لو وجد ما يعارضها من أدلة واستظهارات؛ ولذلك ذهب بعض العلماء من أهل السنة إلى أن  قاعدة الشعائر لها دائرة أوسع من مناسك الحج وما يرتبط به، ففسّر عطاء شعائر الله بأنها جميع فرائضه، فقال ـ حين سئل عن قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ} : «حرمات الله: اجتناب سخط الله، واتباع طاعته، فذلك شعائر الله»[14]، وارتضى ابن جرير الطبري ما ذهب إليه عطاء من توجيه وتفسير؛ لأن الشعائر حسب رأيه هي المعالم؛ فيكون معنى الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تستحلوا ـمعالم الله، فيدخل في ذلك مناسك الحج وغيرها من حدود الله وفرائضه، وحلاله وحرامه؛ لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أمارات بين الحق والباطل، يعلم بها حلاله وحرامه وأمره ونهيه، ولا حجة لمَن يرى التخصيص[15].
    وذهب إلى التعميم الحسن البصري، فعدّ الشعائر دين الله كله[16]، وقال القرطبي في معناها: «وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أَشعر به وأُعِلمَ... فشعائر الله أعلام دينه»[17].
    وأمّا علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فلم يقيد القاعدة منهم سوى الشيخ النراقي قدس سره  في عوائد الأيام[18]، فكل مَن تعرّض إلى الحديث عن القاعدة قال بعموميتها، كالشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره  الذي ذهب إلى أنّ قبور الأئمة قد شعّرت، فهي من الشعائر، فتجري عليها أحكام المساجد[19]، ومن الذين عمموا الشعائر الشيخ صاحب الجواهر قدس سره ؛ حيث ذهب إلى التعميم عند حديثه حول حرمة تنجيس الأضرحة المقدسة والمصحف ووجوب تطهيرهما، فقال: «وهو جيد فيهما، وفي كل ما عُلم من الشريعة وجوب تعظيمه وحرمة إهانته وتحقيره»[20]، ويتبين كذلك تعميم الشعائر من فتوى الميرزا النائيني قدس سره  في مسألة الشعائر الحسينية، والتي عبر عنها بأنها شعائر الله، واستدلّ لها بآية: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[21]،[22]، ويظهر من السيد الحكيم قدس سره  عدم تخصيصه الشعائر بباب معين؛ وذلك عند الحديث عن الشهادة الثالثة أشهد أنّ علياً وليّ الله في الأذان والإقامة؛ حيث مال إلى وجوبها، لا من باب أنها جزء من الأذان، بل من باب أنّها أصبحت شعاراً للمذهب ورمزاً له، قال: >بل ذلك ـ في هذه الأعصارـ معدود من شعائر الإيمان ورمز التشيع؛ فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً، لكن لا بعنوان الجزئية من الأذان<[23].
    هذه باقة من أقوال العامة والخاصة، تثبت بأن الشعائر لا تختص بمناسك الحج أو العبادات، وإنما لها شمول لكلّ الأحكام والأمور الدينية، وما يمكن أن يقال في توجيه التعميم وتكييفه صناعياً: هو ما تقدّم من أنّ الشعيرة والشعار قاعدة تمثّل الجانب الإعلامي والإعلائي لفعل أو سلوك عبادي، فهي صفة عارضة طارئة على ذلك الفعل، لا أنها عينه، فهي مثل ما لو قلنا: الإنسان أبيض، والإنسان قائم. فالبياض والقيام ليست هي الماهية النوعية للإنسان، بل هي من عوارضه التي يمكن أن تزول عنه، فموضوع الشعائر أمر ثانوي آخر غير موضوع الفعل أو السلوك نفسه، فلا اتحاد بينهما من جهة الموضوع.
    من هنا؛ لو أريد أن تكون الجنبة الإعلامية سمة بارزة لبعض مناسك الحج فلا يعني أنّ الشعائر هي الأفعال والمناسك نفسها، كما قد يفهم من قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[24]، بل هذه المناسك والأفعال من تطبيقات المعنى العام لموضوع شعائر الله، ومن الآية المتقدمة نفسها يمكننا فهم عدم انحصار الشعائر في مناسك الحج، بقرينة مِنْ التبعيضية الدالة على كون الشعائر أعم من أعمال الحج، كما توجد روايات تُبيِّن افتراق الشعيرة في البُدْن، عن وجوب أصل البدن أو غيرها من أنواع الهدي، منها: ما يدل على استحباب أن يكون الهدي أقرن سميناً، فعن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام  أنه سُئل عن الأضحية، فقال: «أقرن، فحل، سمين، عظيم العين والأذن»[25]، وهو نوع من أنواع تعظيم شعائر الله، ومن الروايات ما دل على أن يكون الهدي مما حضر عرفة[26]، وفيه من الدلالة على التبليغ والدعاية والترويج لفريضة الحج ما لا يخفى.
    فالشعيرة ـ من حيث الحقيقة والموضوع والمتعلّق ـ تختلف عن الأفعال الأصلية للعبادة كمناسك الحج مثلاً.
    نعم، سمّيت مناسك الحج مشاعر دون غيرها من العبادات؛ من جهة أنّ الحج يمثّل مؤتمراً عالمياً ومكاناً واحداً يجتمع فيه المسلمون من كل لونٍ وعرقٍ ولغةٍ، فيصبح كلُّ ما يمارسونه من أعمال ـ بصفتها المجموعية ـ يحوي جانباً إعلامياً يُبيِّن عظمة هذا الدين، ويُظهر سمة المحبة والأُلفة بين أفراد الأمة الإسلامية.

    خصائص وسمات الشعائر الدينية
    من خلال ما تقدم من أبحاث، ظهرت بعض سمات وخصائص هذه الشعائر الدينية، مثل كونها تمثّل فقرة الإعلام في الفقه والدين الإسلامي، وكذلك ظهر أنّ معنى الشعائر ووجودها اتّخاذي واعتباري، أي: حسب اتّخاذ العرف واعتباره، فقبل أن يتواضع عليها العرف والمتشرعة ويتخذوها، لا تكون شعيرة ومشاعر، بل تتخذ شعيريّتها بعد أن تنتشر وتتفشَّى ويُتداول استعمالها، وتصبح بشكل رسمي شعيرةً وشعائر، ويشملها عموم الآيات المتقدمة: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}, و{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ}، وقد بقيت عدة سمات وخصائص امتازت بها الشعائر الدينية، يمكن إجمالها في النقاط التالية:

    أولاً: إنَّ الشعائر تتضمّن في متعلّقها سمة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهي تختلف عن جهة الإعلام والنشر ـ وإن كانت هي إحدى نتائجه ـ وهذه السمة موجودة في لسان الأدلّة أيضاً، كقوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شعَائِرَ اللهِ}، فالتعظيم هو العلوّ والرفعة والسموّ، وكذا في{لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ}، أي: لا تبتذلوها، ولا تستهينوا بها.

    ثانياً: إنّ مسألة إقامة الشعائر وتعاهدها والمداومة عليها وإحيائها، لا تخصّ القيادة الدينية والمرجعية وأجهزتها فحسب، وإنّما تضطلع بمهمة إقامتها جميع طبقات وشرائح المجتمع الإسلامي؛ فلذا ناسب إدراجها في باب الفقه الاجتماعي، من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تندرج تحت الفقه السياسي أو غيره من الأبواب.

    ثالثاً: إنّ وجود الشعيرة متقوم بالوضع والاعتبار، فهي علامات موضوعة لمعانٍ معيّنة، وهذه العلاقة التي تنشأ بينها وبين ما وضعت له، بعضها يكون شديداً؛ بحيث تكون علاميّة هذه الشعيرة عليه واضحة لدى كل الأذهان، وبعضها تكون علاميّته معروفة في مكان معين وعند طائفة من الناس، أو شريحة من الشرائح، وهذه الخصيصة للشعائر الدينية مؤثرة في أحكامها من حيث التعظيم وعدم الاستهانة.

    رابعاً: إنّ الشعائر الدينية بما أنها علامة على معان دينية سامية، وهذه المعاني يختلف بعضها عن البعض الآخر قدسيةً وتعظيماً؛ فتختلف الشعائر الدالة على هذه المعاني تبعاً لذلك، فمثلاً: الهاتِكُ لحرمة الكعبة يُحكَم عليه بالارتداد والقتل، بخلاف الهاتك لحرمة المسجد الحرام؛ فلا يحكم عليه بالكفر[27]، وهذا الاختلاف في الحكم بين الكعبة كشعار، وبين المسجد الحرام كذلك، من أوضح الأدلة على ما ذكر في المقام، فالشعائر تختلف في الأهمية والمنزلة بحسب المعنى الذي تدلّ عليه، وهذا بدوره يؤثر على تعظيم هذه الشعائر.

    خامساً: مصداق عناوين الشعائر الدينية يجب أن يكون مصداقاً مُحلّلا في نفسه بالحلّية بالمعنى الأعمّ، الشاملة للمستحبّ والواجب والمكروه والإباحة الخاصّة، في مقابل خصوص الحرمة.
    ويستدلّ العلماء على أنّ المصداق لا بدّ أن يكون مُحلّلا بالمعنى الأعمّ، من جهة أنّ الأمر الشرعيّ بطبيعة عامّة، كالصلاة، والزكاة، والاعتكاف، والشعائر، يُستفاد منه التخيير العقليّ أو الشرعيّ في تطبيق الطبيعة الكلّية على المصاديق، وهذا التجويز والتخيير من الشارع ـ في تطبيق هذا المعنى العامّ على المصاديق ـ يتناول حتّى المصاديق المكروهة، ولا مانع من ذلك، مثل: الصلاة في الحمّام، والصلاة في المقبرة، والصلاة في الأرض السبخة مثلاً، وهي وإن كانت مكروهة، إلاَّ أنّها صلاة سائغة ومشروعة[28].
    نعم، لا ريب في أنّ هذا التطبيق لا يتناول الخصوصيّات المحرّمة؛ حفظاً ورعاية للتوفيق بين أغراض الأحكام الشرعيّة، فزيارة القبور في نفسها بما هي شعيرة من الشعائر ـ لو كان فيها ضرر يسير في نفسها ـ لو شك في أنه هل فيها عنوان مفسدة ذاتيّة أو لا؟ في حالة الشكّ وعدم وجود الدليل نُجري أصالة البراءة، ثمّ بعد ذلك نستدلّ بالعنوان الثانويّ، وهو إحياء الشعائر، فيحصل الجمع بين الجنبَتين، كما إذا أراد المكلّف أن يُصلّي الصلاة الواجبة التي لها حكم أوّليّ وشكّ في غصبيّة المكان، فيجري البراءة أوّلاً، ثمّ يقوم بأداء الصلاة؛ فيكون مصداقاً للواجب.

    حكم الشعائر الدينية
    يتكون الدليل الشرعي عادة ـ كما قُرِّر في علم الفقه وأصوله ـ من ثلاثة أركان:
    الأول: الموضوع، وهو ما يمثل قيود الحكم.
    الثاني: المحمول، وهو الحكم الشرعيّ، تكليفياً كان أم وضعياً، كالوجوب، أو الحرمة، أو الملكيّة، أو غير ذلك.
    الثالث: متعلق الحكم، وهو الفعل المطلوب حصوله في الخارج إذا كان الحكم وجوبياً، أو الفعل اللازم تركه إذا كان الحكم تحريمياً.
     ويمكن توضيح ذلك بمثال: فلو جاء دليل مفاده: إذا زالت الشمس فصلِّ، نلاحظ وجود الأركان الثلاثة المشار إليها، وهي: الموضوع: وهو زوال الشمس الذي جُعِل قيداً للحكم. والمتعلّق: وهو صلاة الظهر نفسها. والمحمول، أي الحكم: وهو الوجوب في المثال.
    وكذلك الأمر في مسألة الشعائر الدينية، فموضوع دليلها هو الشعائر بما لها من جنبة إعلامية حسية لمعنى من المعاني الدينية، أو فعل من الأفعال العبادية، وقد تقدم الحديث عنه. ومتعلّق دليلها هو التعظيم إن جُعِل الحكم هو الوجوب، أو التهاون إن جُعِل الحكم الحرمة.
    وأما حكم الشعائر الدينية، فهو إمّا وجوب تعظيمها وإحيائها، أو حرمة تحليلها والاستهانة بها.
    وهذا الحكم في قاعدة الشعائر ليس متحداً مع الأحكام الأولية للأفعال العبادية، التي يراد تشعيرها وإظهار الجنبة الإعلامية لها ـ كما يتخيل البعض ـ وإنما له ملاكه الخاص، فهو حكم أولي وليس ثانوياً.
    نعم، يتصادق مع حكم آخر في وجوده الخارجي، كما في بعض مناسك الحج كالهَدي مثلاً، فهي من جهة من شعائر الله؛ فيجب تعظيمها، ومن جهة هي فعل عبادي، لها وجوبها الخاص الذي ينبع من ملاك ومصلحة خاصة.
    ثم إنّ وجوب إقامة الشعائر وإحيائها وجوب كفائي متوجه إلى كافة أفراد المجتمع وطبقاته وفئاته، ويسقط عن الباقين إذا تكفّلت به مجموعة أو شريحة من الشرائح الاجتماعية، بما يحقق إقامة الشعيرة ـ وانتشارها ـ الأهداف المرجوة منها، من إعلاء شأن الدين وإعزازه، وترسيخ تعاليمه في نفوس المجتمع المسلم، وإظهاره بمظهر القوة والهيبة في نفوس أعدائه من الجاحدين والكافرين[29].

    أدلة الشعائر الدينية
    استُدِل للشعائر الدينية بعدة ألسنةٍ وطوائف من الأدلة، وهي:
    الطائفة الأُولى:الأدلة المتضمنة للفظ الشعائر وما يرادفه
    وهي الآيات التي ورد فيها عموم لفظ الشعائر أو ما يرادفه، وهي:
    1ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ، وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ، وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ}[30].
    2ـ قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[31].
    3ـ قوله عزّ وجل: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}[32].
    وقد أدرَج كثير من العلماء قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ...} ضِمن آيات الشعائر أيضاً، مع أنّه لم يرد فيه لفظة الشعائر، والسبب هو: أن حرمات الله تعطي معنى شعائر الله[33]، ولا يعدّ ذلك قياساً.
    وهذه الآيات الشريفة تدلّ على محبوبيّة ورجحان التعظيم لشعائر الله، وهي من أوضح الآيات على إثبات المطلوب.
    وهناك آيات أخرى لها دلالة على تعظيم الشعائر، وعدم التهاون في إقامتها وتشييدها، مثل قوله  عزوجل : {والبُدنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[34]، وهنا وردت مِنْ تبعيضيّة، فيكون المعنى: أنّ البُدن من مصاديق الشعائر، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِما}[35]، وغيرهما من الآيات.

    الطائفة الثانية: الأدلة التي يستفاد منها الجانب الإعلامي وإعلاء الدين
    وهي الأدلّة التي لم يرد فيها لفظ الشعائر، وإنما هي أدلّة عامّة ومطلقة، يظهر منها جانب الإعلام والإعلاء للدين؛ ما جعل بعض العلماء والمحقّقين يذهب إلى استفادة حكم الشعائر منها[36]، وهي:
    1ـ قوله عزوجل : {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[37]، ومن سياق الآيات التي قبلها ـ كآية: {قاتِلُوا الَّذينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}، وآية: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُم وَرُهْبانَهُم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ}ـ يفهم أنّ الآيات بصدد بيان مسألة وجوب الجهاد، وضرورة المعرفة الحقّة والتوحيد ونشر الدين وتبليغه، ثمّ بعد ذلك تُبيّن الآية ذاتها أهميّةَ النور الإلهيّ، ومحاولات أعداء الدين إطفاء ذلك النور، ولكنّ الله سبحانه وتعالى كتب على نفسه إحباط تلك المحاولات الشيطانيّة، ويأبى سبحانه إلاَّ إتمام النور ونشر الصلاح والهدى، ففي هذه الآية الشريفة:
    الموضوع: هو نور الله سبحانه، وهو بدل لفظ الشعائر في آية {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ}، ونور الله سبحانه وتعالى عامّ يشمل جميع الأحكام..
    والمتعلَّق: هو النشر والتبليغ والبيان؛ وهو بدل التعظيم في تلك الآية.
    والحكم: هو وجوب النشر أو حرمة الإطفاء والكتمان.
    فيكون هذا الدليل ـ كقضيّة شرعيّة ـ مرادفاً للآية الشريفة: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ...}.
    2ـ قوله عزوجل : {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال}[38].
    وبملاحظة الآيات السابقة لهذه الآية من سورة النور، وهي: {وَلَقَدَ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأرْض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَة مُبَارَكَة زَيْتُونَة لاَّ شَرْقِيِّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُور يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ} يظهر من سياق هذه الآيات، أنّ المراد من لفظة فِي بُيُوت هي البيوت التي فيها نور الله، والمراكز التي تكون مصادر إشعاع للدين، ومحالّ نشر الهداية والحق، وبيان أحكام الدين الحنيف.
    وهذه البيوت، شاء الله وأراد أن تُرفع وتُكرّم، وأن تُبجّل وتُحترم، وينبغي أن يستمر ويدوم فيها ذِكرُ الله وعبادته وطاعته.
    فهذه الآية من سورة النور، مرادفة لآية تعظيم الشعائر، ولآية: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ}، فالآية الشريفة تدلّ على وجوب نشر ورفع كلّ موطن ومركز ومحلّ يتكفّل ببيان أحكام الله، وتعاليم رسالة السماء، المكنّى عنه في الآية الشريفة بنور الله.
    ومن ذلك يظهر أنّ الشعائر لا تَختصّ بباب دون آخر، فهي لا تختصّ بمناسك الحجّ، ولا بالعبادات، وإنّما تشمل كلَّ ما فيه نشرٌ لأحكام الدين، وتعمّ جميع ما به بيان وتبليغ للمعارف الإسلاميّة المختلفة.
    3ـ قوله تعالى: {إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحَافِظُون}[39].
    هذه الآية تدلّ على أنّ حفظ الدين وحفظ ذكر الله سبحانه، وكذلك حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله الذي هو قوام الدين، وحفظ ذِكر أهل البيت عليهم السلام  الذين هم العِدل الآخر للقرآن، كلّ ذلك يُعتبر من الأغراض الشرعيّة العليا للحقِّ سبحانه وتعالى[40].
    4ـ قوله تعالى: {وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفروا السُفلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[41].
    وتقريب الاستدلال بهذه الآية: أنّ كلّ ما يؤول إلى إعلاء كلمة الله سبحانه، وإذلال وإزهاق كلمة الكافرين، فهو من الأغراض الشرعيّة والمقاصد الدينيّة[42].
    5ـ قوله عزّ من قائل: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِريِنَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}[43].
    إنّ لسان هذه الآية يوضّح بُعداً آخر في حقيقة الشعائر; فإنها تتضمّن في متعلّقها جنبة أخرى، ألا وهي جنبة ازدياد العلو والسُموّ للإسلام والمسلمين، وهذه غير جهة الإعلام، وإن كانت هي إحدى نتائج الإعلام والنشر والإنذار.
    وهناك آيات أخرى يمكن إدراجها في هذه الطائفة من الأدلة تركناها روماً للاختصار.

    الطائفة الثالثة:الأدلة التي يستفاد منها مطلوبية البث والإعلان في أبواب خاصة
    قد استُدلّ أيضاً على قاعدة الشعائر الدينية بما ورد في الأبواب الخاصّة من الأدلّة، مثل الأدلّة الخاصّة في مناسك الحجّ، أو الأدلّة الخاصّة في الشعائر الحسينيّة وغيرها، كقول النبيّ صلى الله عليه وآله: «يا عليّ، مَن عَمّر قبورَكم وتعاهَدها، فكأنّما أعانَ سليمان بن داود على بناء بيت المقدس»[44]، وقول الصادق عليه السلام : «رحِم الله عبداً أحيى أمرنا»[45].
    وما ورد عن زينب عليهاالسلام ، عن أمّ أيمن، عن رسول الله صلى الله عليه وآله ـ في حديث طويل في المصائب التي تحل بأهل البيت عليهم السلام ، لا سيما في كربلاء ـ قال صلى الله عليه وآله في ذيل الحديث فيما يخص مَن يقيمون شعائر أهل البيت عليهم السلام  من الشيعة: «ثم يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نية، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيد الشهداء بتلك البطحاء، يكون عَلَمَاً لأهل الحق، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز، وتَحُفُّهُ ملائكة من كل سماء مائة ألف ملك في كل يوم وليلة، ويصلون عليه ويسبحون الله عنده، ويستغفرون الله لمَن زاره، ويكتبون أسماء مَن يأتيه زائراً من أمتك متقرباً إلى الله تعالى وإليك بذلك، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم...»[46].
    وكذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما سألته فاطمة عليها السلام  عمّن يقيم العزاء للإمام الحسين عليه السلام  بعد أن أخبرها بقتله، فقال: >يا فاطمة، إنّ نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل، في كل سنة<[47].
    وهذا اللسان الثالث من الأدلّة هو عبارة عن أحكام خاصّة في الموارد الأخرى، التي مفادها هو عين مفاد الشعائر، من لزوم البثّ والإعلان.
    فبناء على ما تقدّم، من أنّ المتشرّعة إذا اتخذوا شيئاً ما شعيرةً وعلامةً على معنى ديني سامٍ أو حكم من الأحكام العالية، وأصبحت بالتبادل والاتفاق ـ شيئاً فشيئاً ـ شعيرةً وشعاراً على ذلك المعنى الديني؛ فتكون مصداقاً جديداً لموضوع شعائر الله ـ أو ما يؤدي معناها ـ الوارد في الأدلة؛ فيلزم تعظيمه وتعاهده وإحياؤه.
    وقد يثار إشكال في وجه ما توصلنا إليه من نتيجةٍ، ويدّعى أنّ الشعائر الدينية أمور عبادية جَعْلُها بيد الشارع.

    دعوى توقيفية الشعائر الدينية
    قد يذهب البعض إلى أنّ الشعائر أوامر الله ونواهيه، بمعنى أنها أحكامه، فلا بدّ أن تكون بيده سبحانه وتعالى، فكيف يوكَّل تشريعها إلى غيره؟! {إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ للهِ}[48]، وكذلك يظهر من أدلة الشعائر أن جَعْلَها بيَدِ الله سبحانه، كقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[49].
    ثم إنّ جعل الشعائر بيد العرف يؤدّي إلى اتّساعها وتراميها؛ ما يسمح للمتشرّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر حسب ما يرون، وهذا يستلزم تشريع دينٍ جديدٍ وفق ما تُمليه رغبات المتشرّعة وخلفيّاتهم الذهنية والاجتماعية!

    الجواب
    وللإجابة عن هذه الدعوى يمكننا بسط الكلام ضمن عدة مقدمات، يتضح الجواب من خلال استعراضها:
    المقدمة الأولى: إن ألسنة الأدلة ـ كما مرّ معناـ مختلفة ومتنوعة، ولا ينحصر موضوعها في الشعائر الدينية التي قد يدّعى أنها حقيقة شرعية اخترعها الشارع، فهناك ألسنة أخرى أخذت فيها عناوين ذات حقيقة عرفية لغوية تكفي في إضفاء الشرعية عليها، كَلِسانِ بثّ نور الله وإعلاء كلمته، ولسان الدعوة لإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ، ولسان أهمية تشييد قبور أهل البيت عليهم السلام ، وحكم العقل بلزوم تعظيم الشعائر المنسوبة لله عزوجل ؛ لأنه يصبّ في مجال تعظيم الله تعالى.

    المقدمة الثانية: إنّ التخيير، تارة يكون شرعياً؛ وذلك في حال نصّ الشارع عليه، وأخرى يكون عقلياً؛ وذلك فيما لو أمر الشارع بطبيعة كلّية أو معنى عام، من دون أن يخصص امتثاله بزمان أو مكان أو ظروف معيّنة، فيدرك العقل أنّ الشارع قد خوّل المكلّف في تطبيق الطبيعة على أيّ فرد شاء، ومثل هذا التطبيق لا يعدّ تشريعاً وبدعة؛ لأن المكلّف لا يتعبَّد بخصوصية الفردية كي يُعدّ تجاوزاً لما رسمه الشارع، وإنما يتعبّد بالمعنى العام والطبيعة الموجودة في الفرد، ومن ثَمَّ عُدَّ ممتثلاً، والشعائر من هذا القبيل؛ فالمطلوب تعظيم ما فيه شعار وإعلام وإعلاء لدين الله سبحانه وتعالى.

    المقدمة الثالثة: إنّ الحكم الشرعي في قاعدة الشعائر الدينية هو حكم أولي ناتج من ملاك ومصلحة أولية وليست ثانوية.
    نعم، إن موضوع الشعائر هو عنوان طارئ ثانوي يطرأ على موضوع حكم من الأحكام الشرعية، عندما يراد أن يصبح من علامات الدين وشعيرة من شعائر الله عزوجل ، كما لو أصبح القيام احتراماً للقادم بعد أن لم يكن كذلك، فذات القيام ليس احتراماً، وإنما طرأ عليه وتصادق معه عنوان الاحترام، وأما الحكم بالاحترام، فهو حكم أوليّ ذو ملاك أوليّ، فلا يعد استثنائياً وطارئاً بالنسبة للقيام.
    فالعنوان الثانوي ينقسم إلى عنوان ثانوي في الحكم، وآخر في الموضوع. والفارق بينهما: أن الأول ذو ملاك ثانوي، وبالتالي يكون الحكم فيه استثنائياً، كالحرج والضرر، ومن ثَمَّ عندما تطرأ مثل هذه العناوين تُغيّر الحكم الأولي أو تزاحم ملاكه، بينما الحكم في الثاني أوليّ منبثق عن ملاك أوليّ، فلا يعدّ حكماً استثنائياً طارئاً، وإنما موضوعه طارئ، كما يحصل في حالات اجتماع الأمر والنهي.
    فما يحصل من مستجدات ومستحدثات بعنوان أنها مصاديق لشعائر الله عزوجل ، فهي عناوين طارئة، وليست أحكاماً ثانوية جديدة جاء بها المتشرعة، ولا مانع من أن تكون دائمية، ما دام حكمها أولياً قد حكم به الشارع.
    نعم، لا بد في الفعل المستحدث أن يكون حلالاً في نفسه وقبل أن يتعنون ـ كما بيّنا في خصائص الشعائر ـ بعنوان الشعيرة، وأما إذا كان حراماً، فإن الأمر الشرعي بالطبيعة، لا يتناول الخصوصية المحرمة.
    أما ما ادُّعي: من أنّ ترك الباب مُشْرَعَاً للعرف والمتشرعة في استحداث شعائر جديدة، يستلزم اتساع الشريعة وتبدّل معالمها وشكلها.
    فيمكن المناقشة فيه: بأن التضخم والتوسع، إن كان يصبّ في صالح تجذير الشريعة وتثبيتها، ونشر وبثّ تعاليم الدين وتعميمها وإعلائها، فهو أمر مطلوب ومرغوب فيه، وإن كان التوسّع يعني زوال ثوابت الشريعة وضروراتها، فلا شك هو أمر مرفوض وغير مقبول، فالمستحدث في حقل الشعائر إنما يمكن قبوله فيما لو كان يساهم في حفظ الشريعة وثباتها وإحيائها وإعلائها.
    وأما ما قيل: من أنّ جعل الشعائر بيد العرف والمتشرعة سيؤدي إلى فتح باب التشريع. فهذا القول يمكن أن يكون وجيهاً لو كان للمتشرعة حق التشريع، والحال ليس كذلك؛ فهم لم يمارسوا سنّ قانون أو تشريع، وإنما مارسوا التطبيق المأذون به شرعاً، وهو أمر لا بد منه في أي قانون؛ لأنّ القانون مهما فُصّل على يد المقنّن، إلاَّ أنه لا يمكن أن يكون جزئياً من كلّ جهة؛ ومن ثَمَّ تبقى بعض جهاته عامة كلّية تنظيرية، وهي المنطقة التي خُوّل المكلف فيها أن يطّبق على المصداق الذي يشاء، ومن دون أن يتعبّد بالخصوصية.

    الشعائر الحسينية
    إنّ من أبرز مصاديق وأفراد وتطبيقات الشعائر الدينية هي ما يعبر عنها بالشعائر والمراسم الحسينية، التي تقام في ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام  وأهل بيته وأصحابه في عاشوراء، بعد أن ارتُكِبَتْ في حقهم أبشع جريمة عرفها تاريخ الإسلام؛ لوجود ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسبطه وسيد شباب أهل الجنة، والصفوة من أهل بيته، وخُلّص أصحابه النجباء في الواقعة الدامية.
    إنّ أهمية الحديث عن الشعائر الحسينية ـ من مجالس ومواكب ومراثٍ ومسيراتِ حزن وغيرها ـ ينطلق في واقعه وحقيقته مما ترمز إليه هذه الشعائر بوصفها علامة، ألا وهو نهضة الإمام الحسين عليه السلام  بكل ما تحمله من أهداف سامية وغايات نبيلة، وما لها من أبعاد عديدة جعلت منها قضية الإسلام الأولى، التي أعادت لهذا الدين رونقه وحيويته، بعد أن كاد يفقدها بتسلّط يزيد وأذناب بني أمية على مقاليد السلطة، وتصرفهم بمقدرات أمة محمد صلى الله عليه وآله.
    فمن ثَمَّ؛ كان لا بد ـ من الناحية المنهجية ـ الحديث عن بعض جوانب المعنى الذي ترمز إليه الشعيرة، وهو نهضة الحسين عليه السلام  ولو بشكل موجز؛ إذ لعل من نافلة القول لأمثالنا الحديث عن هذه النهضة الإصلاحية العظيمة التي لم تستطع البشرية ـ لحد الآن ـ أن تدرك كنهها، أو تسبر أغوارها العميقة، وتفهم أهدافها أو غاياتها.
    فعلى صعيد أهداف النهضة الحسينية يتشعب الكلام وتتكثر فروعه، فقد تجلت أهداف النهضة الحسينية بعدة مظاهر وصور، يمكن الوقوف عليها من خلال حركة الإمام الحسين عليه السلام ، ومجمل شعارات الثورة وخطاباتها، ومن هذه الأهداف:
    أولاً: الإصلاح الاجتماعي، فالحسين عليه السلام  بما يمثله من حامٍ وحارس لهذا الدين الحنيف، رأى الأمة سائرة نحو الانحراف والسقوط الاجتماعي؛ نتيجة تسلط الظالمين والطغاة، وانزواء الخيرين والصالحين عن مواقع التغيير والإصلاح؛ فصار لزاماً عليه أن يطلق صرخة الإصلاح المدوية، والتي ما زال يتردد صداها حتى يومنا هذا؛ وذلك في قولته المشهورة: «... وإني لم أخرج أَشِراً ولا بَطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خَرَجْتُ لطَلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكَر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب عليهما السلام...»[50].
    فعلى ضوء كلمة الإصلاح الواردة في كلام الإمام عليه السلام  نفهم أنّ المعروف يشمل كلا بعديه الفردي والاجتماعي، كما يعمّ المعروف الفكريّ والعقديّ والاقتصاديّ والسياسيّ والحقوقيّ وغيره. والمنكر كذلك، بل وكلّما هو مبغوض شرعاً، فإنّه يتناول كلّ المحرمات في كلّ الأبواب، والمعروف يتناول كلّ الأوامر الشرعيّة وجوباً وندباً ورجحاناً.
    ثانياً: الدفاع عن الإمامة الإلهية لأهل البيت عليهم السلام  والاعتراض على متقمصيها والغاصبين لها بدون وجه حقٍ، وهو ما جاء في كلامه عليه السلام  حينما دعاه الوليد بن عتبةـ وهو في المدينةـ لبيعة يزيد، فقال عليه السلام : «إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله. ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»[51].
    وهو ـ بهذا الاعتراض وهذه الإدانة ـ يعترض ويدين كل مشروع الخلافة الخاطئ، الذي كانت نتائجه أن يعتلي شخص مثل يزيد ـ بهذه المواصفات ـ منصب الخلافة وإمرة المسلمين، وفي الوقت نفسه، فإن إباءه عليه السلام  لبيعة يزيد، ونكيره لخلافته يؤدي إلى نوع من التبليغ والنشر لمفهوم الإمامة والدعوة إلى إمامتهم عليهم السلام .
    فمن ثَمّ؛ كانت نهضته عليه السلام  بشكل بارز مَعلَماً لإمامتهم وولايتهم الإلهيّة الحقّة.
    ثالثاً: السعي لإقامة الحكومة الإلهية عبر استلام الخلافة عند توفر الظروف ووجود الناصر، فعندما بايعه أهل الكوفة، وأرسلوا إليه الكُتب للقدوم إليهم، واستنصروه، أصبح من الواجب إجابتهم؛ لأنّ المعصوم عليه السلام  إذا وَجد مَن ينهض به بمقدار العُدّة الكافية والعدد وجب عليه النهوض، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام  في نهج البلاغة: «أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ، أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»[52].
    وهذا الهدف من نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، إنّما وقع له عليه السلام  بعد معرفة أهل الكوفة والعراق بامتناعه وإبائه عن بيعة يزيد، فوجدوا فيه الأمَل للتخلّص من يزيد وظلمه، ولإرساء قواعد العدل، وتشييد بنيانه، لكن هذا الهدف لم يكن هو السبب الوحيد للنهضة، كما تخيّل بعضهم؛ لأنّ هذا السبب ارتفع وانتفى في كربلاء بعد مواجهة أهل الكوفة للحسين عليه السلام .
    مضافاً إلى أهداف وغايات أخرى للنهضة الحسينية، كالدفاع عن نفسه وأهل بيته، وكذلك من أهدافها إعطاء أمثولة في الإباء والعزة والكرامة، وعدم الخنوع والاستسلام والذل للظلم والعدوان، مهما كان العدد قليلاً والعُدة بسيطة، فالموت بعزة وشرف أعلى وأشرف من الحياة بذلّ وهوان «وإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ برما»[53]، وقال عليه السلام :«ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، ونفوس أبية، وأنوف حمية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام»[54].
    هذا، وهناك غايات وأهداف أخرى كثيرة للنهضة الحسينية، يدركها الباحثون والعلماء، وأخرى لم يدركوها بعد، وستبقى هذه النهضة على مر الدهور والأزمان نبعَ عطاءٍ دائم لكل القيم والمبادئ لا ينقطع أبداً؛ فإن نهضة الحسين عليه السلام  بعبارة أكثر اختصاراً هي: بعث للإسلام من جديد.
    إنّ المحافظة على تلك الأهداف والغايات السامية وإبقاءها خالدة في ضمير الأمة، ولضمان استمرارية تأثيرها وتفاعلها في المجتمع المسلم، إنّما يتحقق في ظلّ مراسم وطقوس وممارسات مختلفة وواعية، تحكي معالم هذه النهضة وتبرز جوانبها، وتعمل على إحيائها بشتى الطرق والوسائل الحسية، فتكون ـ بحق ـ علامة على نشر وإعلان وبثّ مبادئ وأهداف ورسالة هذه النهضة الإصلاحية المباركة.
    فالشعائر الحسينية التي يقوم بها ـ ويواظب على إحيائها وتجددهاـ الموالون لأهل البيت عليهم السلام  وشيعتهم، تلفت وتذكّر بتلك الغايات التي نهض الحسين عليه السلام  من أجلها، كما أنها تأتي لتربّي المجتمع الشيعي على روح المقاومة والرفض للظلم والاستبداد؛ حتى أصبح هذا الرفض سمةً من سمات أتباع أهل البيت عليهم السلام .
    وتبقى الشعائر الحسينية على الدوام شاهد إدانةٍ للخط المناوئ لأهل البيت عليهم السلام ، وتفصح عن عدم شرعيته.
    ولا يمكننا ـ كذلك ـ إغفال أنّ الشعائر الحسينية ترجمة عملية حية لمودة أهل البيت عليهم السلام  وموالاتهم، على ما جاء بها القرآن الكريم، والتي تعني في وجهها الآخر التبرّي من أعدائهم وظالميهم وجاحدي فضائلهم.


    أدلة الشعائر الحسينية
    لا تعاني الشعائر الحسينية شحة في مجال الغطاء الشرعي والأدلة الدالة على رجحانها ومشروعيتها، فعلاوة على ما ذكرناه من عمومات الشعائر الدينية التي تشمل ـ بلا شك ـ الشعائر الحسينية، فهناك أكثر من عموم يختص بالشعائر الحسينية يمكن الاستناد إليه:

    الدليل الأول: عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
    لقد ذكرنا في البحث السابق أنّ من أهمّ أغراض الشعائر الحسينيّة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبراز الإمامة الحقّة التي تعتبر من أصدق موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور الاعتقاديّة.
    إذن؛ فأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتناول هذا الباب، ويمكن أن تكون دليلا وبرهاناً عليه، مثل قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[55]، فتقديم هذه الأمة وتفضيلها على سائر الأمم من الأوّلين والآخرين هو نتيجة إقامة هذه الفريضة.
    وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحقق بإقامة الشعائر الحسينيّة بأوضح المظاهر؛ لأنّ الأغراض والغايات التي تنطوي عليها النهضة الحسينيّة لا بدّ أنّها تنتهي ـ بالتالي ـ إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي منها تجديد إنكار كلّ مظاهر الانحراف السارية في المجتمع، وإقامة كلّ معروف غُفل عنه أو هُجِرَ من حياة الأمة الإسلامية على الصعيدَين السلوكي والعَقَدي.
    وكذلك المحافظة على استمرار سلوكيّة المعروف وتطبيقه في المجتمع، مع الالتزام في نَبذ المنكر وإنكارهِ. فهي نوع من حالة الصحوة والسلامة والتوبة الدينيّة، من خلال مواسم ومراسم الشعائر الحسينيّة.

    الدليل الثاني: أدلة الولاية والتولي والمودة لأهل البيت عليهم السلام
    وردت آيات قرآنية صريحة في وجوب التولي والمودة لأهل البيت عليهم السلام ،كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[56]، وقوله تعالى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[57].
    والمودّة تعني المحبّة الشديدة التي تلازم الإبراز والظهور، ومن صورها التأسّي بهم، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم.
    ويمكن ـ كذلك ـ الاستدلال بآيات التبرّي أيضاً، مثل قوله عزّ وجل: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ}[58]، ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل أعداء أهل البيت عليهم السلام  ممّن هتك حرمة النبيّ صلى الله عليه وآله والدين فيهم؛ فينبغي إظهار البراءة وعدم الموالاة لمن حادّ الله ورسوله، ومثل قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً}[59]، وغير ذلك من آيات التولي والتبرّي الكثيرة التي لا ريب في أنّها تشمل ما يقام من مراسم وشعائر في ذكرى عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام ، فالأسى والتألّم لمصابهم، والحزن لحزنهم هو نوع من التولّي لهم والتبرّي من أعدائهم، وكشْفٌ عن التضامن معهم والوقوف في صفّهم.

    الدليل الثالث: عنوان إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام
    حثت بعض النصوص الروائية على إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام ، كما في الحديث القائل: «رحم اللهُ مَن أحيى أمرنا»[60].
    وهذا العنوان قد طُبِّق على إحياء العزاء الحسينيّ، ومذاكرة ما جرى على أهل البيت عليهم السلام  من مصائب؛ فيتناول بإطلاقه الشعائر الحسينيّة، سواء المرسومة في زمنهم عليهم السلام  أو المستحدثة في الأزمنة اللاحقة.
    وذكر سماحة العلامة الشيخ السند دام ظله الوارف ـ في أبحاثه حول الشعائر التي انتظمت في كتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد ـ أنّ هذا المعنى قد ورد في مصادر معتبرة، كبعض كتب الشيخ الصدوق قدس سره ، وكتاب الدعوات للراونديّ قدس سره ، وكتاب المحاسن للبرقيّ قدس سره ، وبصائر الدرجات للصفّار قدس سره ، وكتاب المزار لابن المشهديّ قدس سره ، وقُرب الإسناد للحميري القمي قدس سره ، والمُستطرفات في السرائر لابن إدريس الحليّ قدس سره ، ومصادر أخرى يمكن العثور عليها بالبحث والتتبع.
    وأفاد الشيخ السند دام ظله الوارف أنّ هناك عشرين طريقاً لهذه الروايات[61].

    الدليل الرابع: العمومات الحاثة على زيارة قبور الأئمة عليهم السلام  وتعميرها
    إنّ النصوص الواردة في باب الشعائر الدينيّة تتضمن الحثّ على زيارتهم وتعمير قبورهم وتعاهدها، ويتّضح من ألفاظ وأسلوب الزيارة أنّها نوع ندبة ومأتم يقيمه المؤمن؛ ليستذكر خلال فترة الزيارة، ما جرى عليهم من مصائب، كما جاء في زيارة الإمام الحسين عليه السلام : «السلام عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره... أشهد أنّ دمَكَ سكَن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّةُ العرش، وبكى له جميعُ الخلائق، وبكَت له السماواتُ السبع والأرضونَ السبعُ، وما فيهنّ وما بينهنّ»[62].
    وقوله: «وأشهد أنك ومَن قُتل معك، شهداء أحياء عند ربك ترزقون، وأشهد أن قاتلك في النار»[63].
    وجاء في زيارات أمير المؤمنين عليه السلام : «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أنت أول مظلوم وأول مغصوب حقه»[64]، وقوله: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. وأشهد أن الذين سفكوا دمك واستحلوا حرمتك ملعونون...»[65].
    وهذه المضامين والعبارات التي تفصح عنها هذه الزيارات، نوع ندبة ورثاء لهم، وإعلان وبثّ ونشر لما حصل في حقهم من الظلم والانتهاك، الذي هو انتهاك للدين وطعن بما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وكذلك فيها إعلاء لشأنهم وإعزاز لحقهم، وتقدير وعرفانٌ لما قدموه في سبيل الله تعالى، وتقديمهم على أنهم القدوة والأسوة المثلى في سلوك طريق الحق والهداية، فسلام على أهل بيت النبوة يوم ولدوا ويوم استشهدوا ويوم يبعثون أحياء. ونسأل الله أن يرزقنا محبتهم وخدمتهم وإحياء شعائرهم في الدنيا، وشفاعتهم وجوارهم في الآخرة.
    وهناك أبحاث أخرى عديدة في موضوع الشعائر الحسينية لعلنا نوفق إلى الـتطرق لها في مقالات أخر إن شاء الله تعالى.
    ----------------------------------------------------------------------------------------------------------
    [1] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، العين: ج1، ص251.
    [2] المصدر نفسه.
    [3] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ص194.
    [4] الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية الصحاح: ج2، ص698 ـ 699.
    [5] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج4، ص415.
    [6] سورة الحج: 32.
    [7] سورة المائدة: 2.
    [8] سورة الحج: 32.
    [9] سورة البقرة: 158.
    [10] سورة المائدة: 2.
    [11] الجصاص، أحمد بن علي، أحكام القرآن: ج2، ص376.
    [12] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، زاد المسير: ج2، ص232.
    [13] المصدر نفسه.
    [14] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان: ج6، ص72.
    [15] المصدر نفسه: ج6، ص74.
    [16] ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، زاد المسير: ج2، ص232.
    [17] القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج12، ص56.
    [18] النراقي، أحمد بن محمد مهدي، عوائد الأيام: ص31.
    [19]كاشف الغطاء، جعفر بن خضر، كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء: ج2، ص147.
    [20] الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: ج6، ص98.
    [21] سورة الحج: 32.
    [22] السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ج1، ص46.
    [23] الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى: ج5، ص545.
    [24] سورة الحج: 36.
    [25] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج 14، ص109.
    [26] المصدر نفسه.
    [27] روى الشيخ في التهذيب، عن  الحسن بن محبوب، عن أبي الصباح الكناني، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام  ما تقول فيمن أحدث في المسجد الحرام متعمداً؟ قال: يضرب رأسه ضرباً شديداً. ثم قال: ما تقول فيمن أحدث في الكعبة متعمداً؟ قال: يقتل<. الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج5، ص469.
    [28] اُنظر: الحكيم، محسن، منهاج الصالحين: ج1، ص204. الخوئي، أبو القاسم، منهاج الصالحين: ج1، ص148.
    [29] اُنظر: السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص23.
    [30] سورة المائدة: 2.
    [31] سورة الحج: 32.
    [32] سورة الحج: 30.
    [33]قال السيد الخوئي قدس سره  في بحث الطهارة: >إذا كان تنجيس المشاهد وترك تطهيرها موجبين لهتكها، فلا إشكال في هذه الصورة في أنها كالمساجد يحرم تنجيسها، وتجب الإزالة عنها؛ لأن المشاهد كالصفا والمروة من شعائر الله، ولا إشكال في أن هتك الشعائر حرام، وهو منافٍ لتعظيم حرمات الله سبحانه<. الخوئي، أبو القاسم، كتاب الطهارة: ج2، شرح ص312.
    وقال الشيخ الصالحي المازندراني قدس سره : >لا إشكال في حرمة تنجيس المشاهد ووجوب الإزالة عنها، إذا لزم من التنجيس وترك الإزالة هتك حرمتها؛ نظراً إلى أن الهتك حرام قطعاً؛ والدليل عليه هو أن المشاهد كالمساجد من حرمات الله وشعائره التي لا بد أن تعظم، على ما جاء في قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ...}، وقوله تعالى:  {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}. الصالحي المازندراني، إسماعيل، مفتاح البصيرة في فقه الشريعة: ج3، ص94.
    وقال السيد البجنوردي قدس سره : >فكل ما هو محترم عند الله ـ ومن علائم الدين ـ فهو من حرمات الله ومن شعائره عز وجل<. البجنوردي، محمد حسن، القواعد الفقهية: ج5، ص295.
    [34] سورة الحج: 36.
    [35] سورة البقرة: 158.
    [36] ومن هؤلاء العلماء: الميرزا القميّ قدس سره  ضمن فتواه في كتاب « جامع الشتات » حول الشعائر الحسينيّة، والسيّد اليزديّ قدس سره  صاحب العروة في فتواه، والسيّد جمال الدين الگلبايگانيّ قدس سره . السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: هامش ص34.
    [37] سورة التوبة: 32.
    [38] سورة النور: 36.
    [39] الحجر: 9.
    [40] من إفادات سماحة العلامة الشيخ محمد السند دام ظلّه الوارف في أبحاثه حول الشعائر الدينية المدونة في كتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص37.
    [41] سورة التوبة: 40.
    [42] من إفادات سماحة العلامة الشيخ محمد السند دام ظلّه الوارف في أبحاثه حول الشعائر الدينية المدونة في كتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص37.
    [43] سورة النساء:141.                               
    [44] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص176.
    [45] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص135.
    [46] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: هامش ص444. وعنه المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج28، ص59 ـ 60.
    [47] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص293.
    [48] سورة يوسف: 40.
    [49] سورة الحج: 36.
    [50] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
    [51] ابن طاووس، علي بن موسى بن جعفر، اللهوف على قتلى الطفوف: ص17.
    [52] نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص50.
    [53] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص224.
    [54] ابن نما الحلي، محمد بن جعفر، مثير الأحزان، ص50. ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة: ج3، ص249 ـ 250.
    [55] سورة آل عمران: 110.
    [56] سورة التوبة: 119.
    [57] سورة الشورى: 23.
    [58] سورة المجادلة: 22.
    [59] سورة الأحزاب: 57.
    [60] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص135.
    [61] السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص213.
    [62] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص364.
    [63] المصدر نفسه: ص383.
    [64] الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد: ص745.
    [65] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص378.

    {آية الله الشيخ محمد السند}
    المصدر : مؤسسة وارث الأنبياء

  • 1

    مقدمة
    مثَّلتْ كربلاء ـ المدينة والواقعة ـ مادّةَ بحثٍ جاذبة للكُتّاب والدارسين من مختلف الأمكنة والأزمنة، وهي قبل ذلك كانت وما تزال موضوعاً إبداعيّاً متجدّداً قابلاً للتوظيف الإبداعي والاستنطاق الفني، لِسِعَة معطيات المكان وما دارت عليه من أحداث تاريخيّة مهمّة، تعددتْ دلالاتُها وامتدّتْ، لتتجاوز زمنها وحدودها الجغرافيّة باتجاه وأُفق إنساني مفتوح.
    ونتيجةً لذلك أُضيفت للمكتبة العربيّة عناوين مهمّة اختصّت بدراسة الأدب المكتوب في كربلاء، أو بنوع من أنواعه وأجناسه، وقد حظي الشّعر بعناية وافرة واهتمامٍ كبيرٍ فاق الأجناس الأدبية الأُخرى، لاعتبارات ومزايا فنيّة اختصّ بها الشّعر، وأُخرى متعلقة بسياقاته الثقافيّة، جعلته قريباً من الواقع والقارئ على حد سواء، فكُتبت بحوثٌ ورسائلُ علميةٌ وأطاريحُ جامعيّة تناولت الإمام الحسين عليه السلام في الشّعر العربي قديمه وحديثه[1]، بالإضافة إلى دراسات ومقالات نقديّة كثيرة تناولت وجهاً من وجوه الطفّ أو حدثاً من أحداثه، أو أثراً من آثاره الكبيرة والكثيرة.

    غير أنَّ ما افتقرت إليه المكتبة العربيّة هو الدراسات التي تُعنى بالكشف عن توظيف كربلاء في شعر اللغات والآداب الأُخرى؛ وذلك لما يتطلّبه هذا الأمر من متابعة دقيقة وعدّة بحثيّة فائقة، أهمها إجادة عدد من اللغات الأجنبيّة والاطلاع على ثقافاتها وآدابها. وليس بخافٍ أنّ الحقل البحثي المختص بدراسة ذلك هو الأدب المقارن فهو يسعى إلى الكشف عن العلاقات التي بين الأحداث والوقائع المنتمية إلى جماعات مختلفة ومتباعدة غالباً، من أجل استخلاص القواعد والقوانين التي توجِّه هذه الوقائع، وتحقيق معرفةٍ أوسعَ وأدق بطبيعة تشكُّلِها.
    ومن هنا؛ نال كتاب د. حسين مجيب المصري الموسوم: كربلاء بين شعراء الشعوب الإسلاميّة، دراسة في الأدب الإسلامي المقارن، الصادر عن الدار الثقافية للنشر عام 2000م أهمّيّةً كبيرةً في مكتبة الدراسات الأدبيّة المقارنة عامّة، وفي الدراسات المتعلقة بكربلاء خاصّة. فكان الكتاب فريداً في بابه؛ إذ لم يسبقه أحدٌ من الدارسين إلى الكتابة في هذا الموضوع.

    وفيما يلي نحاول تسليط الضوء على هذا الكاتب والكتاب، وسنقف ـ إن شاء الله ـ عند الكتاب في بعض فصوله ضمن ثلاثة محاور رئيسيّة:
    المحور الأول: مؤلف الكتاب
    وُلِد عميد الأدب الإسلامي المقارن د. حسين مجيب المصري في مدينة القاهرة عام 1916م، اتَّسمت مسيرته مع اللغات الأجنبيّة المختلفة بالنشاط الكبير والمتابعة الدؤوبة، فقد أجاد ثماني لغات إجادة تامّة، من خلال انتسابه إلى معهد اللغات الشرقيّة الذي درس فيه اللغات: الأُرديّة، والإيطاليّة، والألمانيّة، والروسيّة، وكان يترجم منها إلى اللغة العربية ما يعجبه من شعر ونثر. ويُعدّ الباحث الإسلامي الأوّل الذي اشتغل في حقل الأدب الإسلامي المقارن، ودعا الباحثين والكتّاب إلى العناية به والتأليف في موضوعاته.

    قدّم د. المصري للمكتبة العربيّة عشرات المؤلفات والدراسات، مستفيداً في ذلك من ذخيرته المعرفيّة واللغات التي كان يُجيدها ويترجم عنها ويكتب بها أحياناً، فمن مؤلفاته البارزة:
    1ـ كتاب فارسيات وتركيّات ومن أدب الفرس والترك: يُعدّان باكورة مقارناته ما بين الأدبيَن الفارسي والتركي.
    2ـ كتاب رمضان في الشّعر العربي والفارسي والتركي.
    3ـ كتاب سلمان الفارسي بين العرب والفرس والترك، وأبو أيُّوب الأنصاري عند العرب والترك.
    4ـ كتاب المسجد بين شعراء العربيّة والفارسيّة والتركيّة: ودرس فيه أهمّ مظاهر الفنّ الإسلامي والعمارة الإسلاميّة.
    5ـ كتاب غزوات الرسول بين شعراء الشعوب الإسلاميّة وأثر الفرس في حضارة الإسلام، وكتاب في الأدب الشعبي الإسلامي المقارن وغيرها من الكتب.

    وقد نظم الدكتور المصري الشّعر بالعربيّة والتركيّة والفارسيّة والفرنسيّة؛ ومن دواوينه: شمعة وفراشة، وردة وبلبل، همسة ونسمة وغيرها.
    انطلق د. حسين في عنايته بمقارنة الأدب العربي بالآداب الإسلاميّة الأُخرى من اعتقاده بأنّ الأدب العربي يمثّل رصيداً إبداعيّاً ضخماً يستمدّ منه شعراء الشعوب الإسلاميّة وأُدباؤها كثيراً من المعاني والقيم، ولاحظ من خلال متابعته لهذه الآداب أن هناك تشابهاً واضحاً بين الأدب العربيّ وآداب هذه الشعوب نتيجة التأثر بالإسلام وقِيمه وحضارته وتاريخه.
    وظلّ د. حسين مجيب المصري معطاءً، لم يتوقف قلمه عن الكتابة حتى وفاته رحمه الله في يوم السَّبت الثامن والعشرين من شوال 1425ﻫ، الموافق الحادي عشر من شهر كانون الأول 2004م.

    المحور الثاني: جولة تأمّلية في كتابه
    وقفة عامة مع الكتاب
    ينبئ عنوان الكتاب بجهدٍ علميّ كبيرٍ بذله المؤلف في التَّحريّ عن النّصوص الشّعريّة المكتوبة حول كربلاء في الآداب الإسلاميّة المختلفة، واختيار المناسب منها وترجمتها إلى اللغة العربية، ومن ثمّ التَّعريف بكتّابها، وتحليل الجوانب الفنيّة الخاصّة بها، وعقد المقارنة الأدبيّة فيما بينها كلّما اقتضت الدراسة ذلك.
    وحريّ بعمل كهذا أن تقف خلفه دوافع علميّة كبيرة تؤمّن استمراره واكتماله، فالمساحتان الزمانيّة والمكانيّة للموضوع لهما من السعة ما يفرض على الباحث المتابعة الدقيقة والدؤوبة، وهو ما توفّر فعلاً في عملد. حسين المصري، فكانت الانطلاقة من رؤية منهجيّة علميّة، ترى أنّ من شأن الدِّراسة المقارنة للظواهر والموضوعات المشتركة بين آداب الأُمم الإسلاميّة أن توسّع آفاق المعرفة بالتراث الإسلامي، وتكمّلها لدى القارئ العربي.
    وأنّ اختيار كربلاء موضوعاً للدراسة له ما لا يخفى من الأهمّيّة، فهي ظاهرة تاريخيّة مهمّة في التاريخ الإسلامي، تتجه إلى قلوب المسلمين أجمعين وإلى الإنسانيّة جمعاء في قاصية الشرق والغرب.
    ويرى في مصرع الإمام الحسين عليه السلام أنّه يمثّل المواجهة الأزليّة الأبديّة بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، والإيثار والأَثرة، والتَّضحية والانتهازية، وأن ما وقع في كربلاء إنّما يعرض لنا تاريخاً لخلفاء بني أُميّة، وهو تاريخ أصحّ وأدقّ مما قال المؤرخون عنهم. ويُثير هذا الرأي الأخير عدّة أُمور تتعلق بطبيعة علاقة الشّعر بالتاريخ، وحدود التسجيل الشّعري للتاريخ، من غير أن يطغى التاريخي/الواقعي على الأدبي/ المُتخيل، غير أنّ الكتاب لا يقف عند مناقشة ذلك، ويستمرّ في بيان أهمّيّة كربلاء موضوعاً ورمزاً شعرياً، فهي مدينة طَبَّقت شهرتها الآفاق على مرّ العصور والدهور، فالمسلم يزورها للعبرة والذكرى، وغير المسلم للنّظر والمشاهدة، وهي اليوم مزار للزوّار من جميع الأجناس، وسوف يدوم ذلك لها ما دام دين الحقّ على وجه الأرض، وما دام في الدنيا عبّاد المبدأ وأنصار الحقّ والعدل، إنّ لها في التاريخ الإسلامي منزلة لا تُسامى؛ لأنّها مدينة إسلامية خالصة، فقد امتزج ترابها بدم الحسين الشّهيد، وهو من دم رسول الله صلى الله عليه وآله.
    قام الكتاب[2] على مقدّمة، وفصلين تمهيديين؛ حمل الفصل الأوّل عنوان: التّشيّع والشّيعة، اختصّ بتعريف التّشيّع وعرض أُصوله تاريخيّاً، وقد اعتمد المؤلف في ذلك على مصادر هي في حقيقتها غير كافية! ولا يمكن الاكتفاء بها علمياً، فلا بدّ ـ كما هو معروف في مناهج البحث العلمي ـ من الرجوع إلى المصادر الرئيسة للتّعريف بالطوائف والمذاهب، واعتماد مصنفات المذهب المراد تعريفه وبيان عقائده، وهو ما لم يفعله المؤلف؛ مما جعل الحقائق ملتبسة عليه! ومن ثمّ جاء التَّعريف بالتّشيّع مشوّهاً وناقصاً، وكان يريد من هذا الفصل التمهيدي أن يصل إلى ما له صلة بموضوع الكتاب الرئيس، وهو كربلاء في الشّعر! فذكر أنّ الشّيعة قاطبة يتفقون في غايتهم، إلّا أنهم يختلفون في وسيلتهم عند إعلانهم عن فرط حزنهم. وربما أرشد ذلك من صنيعهم إلى تخالفهم في التعبير عن شعورهم على وفق سليقتهم وتفاوتهم في اختيار الرمز والمجاز الذي ينطق عن الحقيقة، وهذا يُعتبر خللاً منهجياً منه!
    ويتكرّر الخلل المنهجيّ نفسه في الفصل الثاني الذي حمل عنوان: كربلاء[3]، وعرض فيه أحداث واقعة الطفّ، فنجد الباحث يعتمد من بين المصادر كتاب الإمامة والسّياسة لابن قتيبة، من غير التثبّت من صحّة بعض الروايات التاريخيّة، لدرجة تناقض معطياتها في أكثر من موضع في الفصل، ولا أرغب في مناقشة المؤلف في تفاصيل ذلك، فغاية المقال هو تسليط الضوء على الجديد من النّصوص الشّعرية الإسلاميّة التي تناولت كربلاء موضوعاً ورمزاً. وهو ما يتناوله المؤلف في أربعة أبواب رئيسة.

    أبواب وفصول الكتاب
    الباب الأوّل: كربلاء في الشّعر العربي[4]
    ضمّ هذا الباب فصلين: استهلّ المؤلف في الفصل الأول ـ كربلاء في الشّعر العربي القديم ـ بعبارة لأبي فرج الأصفهاني من كتابه مقاتل الطالبيّين يقول فيها: ((وقد رثى الحسين بن علي جماعة من متأخري الشّعراء، أستغني عن ذكرهم في هذا الموضع كراهية الإطالة، أمّا مَن تقدّم فما وقع إلينا شيء رُثي به، وكانت الشُّعراء لا تُقدم على ذلك مخافةً من بني أُميّة، وخشيةً منهم))[5] والذي يُلاحَظ أنّ الكاتب وهو في الافتتاحية يُشير إلى ضياع كثير من هذه النّصوص بفعل القمع السّياسي الأُموي، ثم يختار بعد ذلك البدء بأبيات سليمان بن قتة التيّمي ـ من شعراء القرن الأوّل الهجري ـ في رثاء الحسين عليه السلام والتي يقول فيها:

    مررت على أبيات آل محـمد                فلم أرها أمثالها يوم حلّت
    ألم تر أنّ الشمس أضحت مريضة         لفقد حسين والبلاد اقشعرّت
    وكانوا رجاءً ثم أضحوا رزيّة             لقد عظمت تلك الرزايا وجلّت

    ويذكر المؤلف أنّ شعر الرثاء الحسيني تضمّن بُعداً سياسياً يتعلّق بالثَّورة على فساد الدّولة الأُمويّة، إلى جانب البُعد الديني الذي تجلّى في الصّلة الوثيقة ما بين المؤمن وآل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ويُضاف إلى هذين البُعدين ملمحٌ فنيّ من خصائص فنّ الملحمة أو شعر الحرب، يرجئ المؤلف الحديث عنه إلى الفصول الخاصّة بشعر الشعوب الإسلاميّة، متوقّفاً عند شعر السيّد الحِمْيَري الذي كان يُعدّ من أكثر الشّعراء شعراً في الجاهليّة والإسلام، ويستشهد بأبياته:

    اُمرر على جدث الحسين        وقل لأعظُمه الزكيّة
    يا أعظُماً لا زلت من            وطفاء ساكبة رويّـة
    فإذا مررت بقبــــره             فأطل به وقف المطيّة
    وابكِ المطهّر للمطهـر          والمـطـهّرة النـقيّـة
    كبكاء مـعـولة أتـت              يوماً لواحدها المنيّة

    غير أنَّ ما يُؤاخذ عليه عدم اختياره من القصيدة الأبيات التي هي أقرب لما يتحدّث عنه من أبعاد في شعر الرثاء، واكتفى بذكر الأبيات الدالّة على الحزن والألم، وكان الأجدر اختيار قول الشاعر:

    قبرٌ تضمّن طيّباً               آباؤه خير البريّــة
    آباؤه أهل الرياسة             والخلافة والوصيّــة
    والـخـيــر والشـيـم             المهذبة المطيّبة الرضيّـة
    والعن صدى عمر بن         سعد والملمّع بالنقيّة
    شمر بن جوشن الذي         طاحت به نفس شقيّة
    جعلوا ابن بنت نبيهم          غرضاً كما تُرمى الدريّة

    ومن ثمّ يتحدّث عن مذهب السيّد الحميري، ويذكر بعض الآراء في تحديد معتقد الكيّسانية في الإمامة، وانقسامهم بعد وفاة محمد بن الحنفيّة، ثم ينتقل إلى تفسير مفهوم البداء، فيعرض له بشكل مضطرب، يستطرد فيه من غير ضرورة علميّة لذلك، وكان من الممكن أن يكتفي بتعريف بسيط لبعض المفاهيم والإحالة إلى مصادر متخصِّصة في معالجة هذه الموضوعات ومناقشتها.
    وينتقل المؤلف بشكل مفاجئ إلى شاعر من التوّابين هو ابن الأحمر، ويذكر أبياتٍ له في التألّم والحسرة على عدم نصرة الإمام الحسين عليه السلام.
    ثم يُورد أبياتاً للشاعر منصور النمري، متوقّفاً عند ردود فعل هارون الرشيد، منتقلاً إلى قصيدة لأبي دهبل وبعدها قصيدة للشّريف الرضي التي منها:

    يا قتيلاً قـوّض الـدهر به         عــمد الديـن وأعـلام الهـدى
    قتـلوه بـعد علـم مـنهم              أنّـه خامـس أصحـاب الـعبـا
    كيف لم يستعـجل الله لهم          بانقلاب الأرض أو رجم السما
    حملوا رأساً يصلّـون على        جـده الأكـرم طـوعــاً وأبـا

    ويتناول بشكل سريع بعض المزايا الفنيّة لهذا النّصّ، مؤشراً خروج الشّريف الرضي فيه عن ما هو متعارف من شروط القافية في كتابة الشّعر، ويرى أنَّ مرثية الرضي هذه جاءت دون مستوى مراثيه الجياد في الإمام الحسين عليه السلام، التي شغلت اثنتي عشرة صفحة من ديوانه، لعدم مراعاته أُصول القافية المتعارف عليها. وهو أمر لا يُقلّل في رأي المؤلف من شاعريّة الرضي، ولا من المضمون الجيّد في هذا النّصّ.
    والفصل الثّاني حمل عنوان كربلاء في الشّعر العربي الحديث افتتحه بأبيات من قصيدة له تحت عنوان ذكرى الإمام الحسين ـ فهو شاعر كما مرَّ بنا، وله عدّة مجاميع شعريّة مطبوعة ـ يقول في قصيدته:

    شفق الغروب رأيت فيه دماكا             يا مَن مقامك جاوز الأفلاكا
    لو أنّ قلبي كان ترساً حامياً                من طعنة بالسيف كان حماكا
    لو أنّ صدري كان يصلح واقياً            من وطئة لحوافر أنجاكــا
    وبمدمع أجريته في حسرتي                غسَّلتُ جرحك باسماً ضحّاكاً

    ويُورد بعد ذلك للشيخ الصاوي شعلان، ومحمد زكي الحلواني، نصيّن يغلب عليهما توثيق أحداث الطفّ ومصرع الإمام، بطريقة تسجيلية، ثم ينتقل إلى المسرح الشّعري، ويذكر مسرحيتي عبد الرحمن الشرقاوي الحسين ثائراً والحسين شهيداً ويرى أنّ الكاتب صوّر فيهما الواقعة بالتفصيل الذي ورد في التاريخ، ومنح القارئ فرصة الغوص في أعماق الشخوص بطريقة فنيّة رائعة.
    ثمّ ينتقل إلى شعراء العراق، ويذكر في هامش الموضوع أنّه اعتمد في ذلك على ما أرسله له الأُستاذ سليمان هادي آل طعمه من قصائد لشعراء عراقيّين، فيبدأ بقصيدة السيد مرتضى الوهاب، ومحسن أبو الحب، والشيخ محمد علي كمونه، والسيد حسين المرعشي، ومحمد مهدي الجواهري قصيدته: آمنت بالحسين، وقصيدة للشاعر محمد علي الخفاجي. وكان من الممكن الرجوع إلى دواوين هؤلاء الشّعراء، واختيار النّصوص بشكل تتضح فيه ذائقة المؤلف بشكل أفضل، مضافاً إلى ذلك أنّ هذه المراجعة للدواوين ضرورة منهجية كان يجب على الباحث اعتمادها هنا.
    من النّصوص الأُخرى التي اختارها في هذا الفصل قصيدة لمحمد حسن أبو المحاسن، وأُخرى لصدر الدين الحكيم الشهرستاني، وحسين الكربلائي، وسلمان آل طعمه، وقصيدة السيّد رضا الهندي، التي يقول فيها:

    صلَّت على جسم الحسين سيوفهم        فغدا لساجدة الظبى محرابا
    ومضى لهيفاً لم يجد غير القنا            ظِلّا ولا غير النجيع شرابا
    ظمآن ذاب فؤاده من غِلّة                  لو مسّت الصخر الأصم لذابا
    لهفي لجسمك في الصَّعيد مجرّداً         عريان تكسوه الدماء ثيابا

    وأمّا الفصل الثّالث فاختصّ بـكربلاء في الشّعر العربي الشعبي، وهو أمر آخر ينفرد به كتاب د. حسين المصري، فهو يتجاهل الإشكاليّات المثارة حول الشّعر الشعبي، ومدى صلاح مادّته للدراسة والبحث، متجاوزاً محدودية مساحة تلقّي هذا الشّعر التي تنحصر عادة في بيئته المحليّة؛ لاعتماده اللهجة الدَّارجة في الكتابة، فيورد نماذج من هذا الشّعر، ويحاول التعليق على بعضها، معتمداً مصدره نفسه، وأعني به ما أرسله له الأُستاذ آل طعمه من نصوص، فيورد نصوصاً لعبد الأمير الشروفي آل طعمه، والحاج عبد الأمير البناء، والسيّد عبد الحميد آل طعمه، وعبد الكريم الكربلائي، وعزيز الجلجاوي، والشيخ كاظم المنظور الكربلائي.

    الباب الثّاني: كربلاء في الشِّعر الأُردي
    اعتنى الباب الثّاني من الكتاب بـدراسة كربلاء في الشِّعر الأُردي[6]، وحمل الفصل الأول منه عنوان: كربلاء في الشِّعر الأُردي القديم، ويؤشّر المؤلف على هذا الشعِّر تقيَّده بأغراض خاصّة، وابتكار الشُّعراء فيه جديداً في العَروض والمجاز والصِّناعة، غير أنّه يفتقر إلى رصانة الأُسلوب ومتانة السبك وهو أمر يُفسّره الاهتمام بدِقّة اللفظ وكيفية استخدامه؛ إذ كان يُنظر إلى هذا الأمر على أنّه الغاية في البلاغة.

    ومن أبرز الشّعراء الأُرديين: أنيس، الذي يختار له نصّاً يقول فيه:

    جنود الحسين قضوا نحبهم      ومن كوثر يسَّروا شربهم
    وآل النبيّ كابدوا كربهم          وفي الجو قد آنسوا تربهم

    وهو مقطع من قصيدة طويلة يختارها المؤلف من شعر أنيس في رثاء الإمام الحسين عليه السلام وقد ترجمه شعراً على بحر المتقارب، والشاعر الآخر الذي يختاره هو دبير، وهو مشهور بكتابة الرثاء في آل البيت عليهم السلام، وكان يفوق أنيس في خياله الخصب الواسع، وميله إلى إيراد الألفاظ ذات الجرس العالي، مكرّساً معظم شعره الذي يبلغ المجلدين في نظم المراثي، ويذهب أحد النقّاد إلى أن دبير يورد القصة ليحقق تأثيراً في نفس المتلقي عبر حشد التشبيهات والاستعارات والبراعة في استعمال اللغة والخيال، ومن قصائده:

    سماء وفيها اختلاج شديد              وأرض بمَن كان فيها تميد
    شجاع لهم في القتال ظهر              كنورٍ وبين الغمام بهر
    على نحره يده قد وضع                لأهل الضلالة صوتاً رفع
    وقال اُنظروا واعلموا ما صنع        فما مثل هذا إلهي بدع

    يرى د. حسين في هذين الشاعرين أنّهما متكاملان متشابهان، يصوّران الواقع بحياديّة، ويحرصان على عرض ملامح الصورة من غير أن يذكرا انطباعهما، وهو أمر غير متوقَّع من شاعرين جعلا الكتابة في كربلاء مركز اهتمامهما.
    أمّا الفصل الثّاني من هذا الباب، فحمل عنوان كربلاء في الشّعر الأُردي الحديث، وعرض فيه المؤلف نصوصاً لعدة شعراء منهم؛ شمس العلماء مولانا محمد حسين آزاد الدهلوي، الذي يقول:

    ومن جنة قدم الأنبياء               لفرط أساهم أطالوا البكاء
    فدوى نواح ودمع جرى            وروح النبي أتت كي ترى
    وزهراء كانت إلى جنبه           وتبكي وتبكي على ما به
    وظـل علـيّ عـلـيـه ورف          ونور النبي كبرق خطف

    ومن نصّ للشاعر محمد باقر يترجم قوله:

    ألا حبّذا دوحة قد روت        دموع الحسين وقد أثمرت
    وتمَّ التلازم بين النبي          وبين علي فسرٌّ خفـــــي

    ثمّ يعرض نصوصاً أُخرى للشاعرين مولانا حسن رضا خان وفيضي أحمد فيضي، معلّقاً عليها وشارحاً لبعض مضامينها.

    الباب الثالث: كربلاء في الشّعر الفارسي
    ويتناول الباحث في الباب الثّالث موضوعة كربلاء في الشّعر الفارسي[7] عبر فصلين؛ اعتنى الفصل الأوّل بتوظيف كربلاء في الشّعر الفارسي القديم، ويُمهّد للعرض ببيان دور ملوك الدولة الصفويّة في تشجيع الشّعراء الفرس على رثاء أهل البيت ومدحهم، فقد ذكر عن الشاه طهماسب أنّه كان يعدّ الشّعر في غير مراثي أهل البيت تدنيساً للسان.
    ومن أعظم الشّعراء الذين كتبوا في رثاء الحسين عليه السلام الشاعر محتشم كاشاني وكان يُعدّ شاعر بلاط الشاه طهماسب، كتب منظومة من النمط الفارسي المعروف بترجيع بند؛ وهو عبارة عن منظومة تتألّف من عدّة أقسام تُسمى خانات، وكُلّ قسم أو خانة تضمُّ أبياتاً متّفقة في الروي، يتلوها بيت مستقل يتكرر بعد كل قسم منها.

    مأتم فيه بكاء للورى               أنبياء شاهدوا ما قد جرى
    ثم جاء الأولياء يهرعون          لشجيج الرأس كانوا يعولون
    يا لجمر من قلوب جمعوه         لأخيه المجتبى قد رفعوه

    يرى المؤلف في شعر كاشاني أنّه يميل إلى تسجيل الواقع التاريخي، عبر سرد قصصي يصوّر المأساة والفجيعة، ويحرص على إشراك القارئ في هذا الجو المفعم بالأسى، وهو لا يتوقف عند هذا، وإنّما يتجاوزه إلى طلب الثأر والإقدام على القصاص من قتلة الإمام عليه السلام، وهو رأي لا يخفى وضوح البُعد السياسي فيه.
    ومن الشّعر الفارسي كتاب روضة الشهداء لحسين واعظ الكاشفي الذي يُعدّ أقدم كتاب ضمّ قصائد رثاء في الإمام الحسين عليه السلام، منها:

    آدم محزون في هذا البلا            فلك نوح غرقت في ابتلا
    نار نمرود شهدتَ يا خليل         شعلة فاشهد بنار للغليل
    كان هذا للحسين في عزاء         ثم عمَّ الغمُّ كُلَّ الأنبياء

    ويُنبّه المؤلف القارئ إلى أن الشّعر المجموع في كتاب روضة الشهداء ليس من نظم حسين واعظ، فهو مما جمعه وأنشده في مجالس الوعظ والعزاء التي كان يُقيمها أواخر العصر التيّموري في مدينة هراة، ويرى بعض الباحثين والنقّاد أنّ القيمة الفنيّة العالية لهذا الكتاب دفعت الشاعر التركي فضولي البغدادي إلى ترجمته إلى اللغة التركية، مضيفاً إليه بعض النّصوص، ومعدّلاً بعض ما ورد فيها، وقد نقله بعنوان جديد هو حديقة السعداء.
    ويستطرد المؤلف في التَّعريف بالشاعر التركي فضولي البغدادي، في الفصل المخصّص عن الشّعر الفارسي القديم، وكان بإمكانه إرجاء هذا التفصيل إلى الفصل الخاص بالشّعر التركي القديم، وهو خلل منهجي واضح.
     وينتقل بعد ذلك إلى الشاعر الفارسي سنائي صاحب المنظومة الشهيرة حديقة الحقيقة، التي تُعدُّ أطول منظومة فارسية، وأوّل ملحمة صوفية في الأدب الفارسي، ولسنائي شُهرة واسعة في الشّعر الصوفي، ويقال عنه: إنه مهّد بغزلياته لأشهر شعراء الفارسيّة بعده كـحافظ الشيرازي.
    ومما قاله عن كربلاء في حديقة الحقيقة:

    إنّه في كربلا لما نزل         كان جيش لزياد قد وصل
    عنه ماء للفرات قد منع        قلبه من حسرات قد مزع

    وحمل الفصل الثّاني عنوان: كربلاء في الشّعر الفارسي الحديث، وذكر المؤلف في بدايته انطلاقة الشّعراء المحدثين نحو التغيير والتطوير في أساليبهم الشّعرية من حيث المبنى والمعنى، رغبةً منهم في التجديد ومواكبة الحياة في تطوّرها، وقد شاركهم في ذلك الشّعراء التقليديون أيضاً؛ إذ حاولوا بعث روح التجديد في القوالب الشّعرية القديمة، في الكتابة عن كربلاء وشهدائها. ومن الشّعراء المحدثين الشاعر صفي على شاه، الذي كان من شعراء الصوفيّة المشهورين، ومن شعره في كربلاء:

    ومن الخيمة عادت زينب         مَلِكَ الساحة كانت تطلب
    يا لعطر فاح من شعراته         مثل عيسى كان في حيواته

    من الشّعراء الآخرين يغمائي الذي يتميّز شعره بمتانة السبك، وابتكار الأغراض الجديدة، يقول في قصيدة له على لسان زينب عليها السلام:

    ظامئ الحلق أتاني أكبري         أمطري يا عين دمعاً أمطري
    ليت أُمي لم تلدْ منذ الأزل         وأراك اليوم من تحت الأسل

    ويرى حسين مجيب أنّ الشاعر لم يخرج عن التشبيهات التي درج الشّعراء الأقدمون على إيرادها في أشعارهم، على الرغم من أنّ تزاحم الصور البيانية في مخيلة الشاعر جعلت أبياته متوالية من الصور الفنيّة، حيث تُولَد في كُلّ بيت صورة من صورة سابقة، والشاعر مجدّد مبتكر في ذلك على وفق آراء النقّاد، ثم ينتقل إلى الشاعر محمود خان ملك الشّعراء، والشاعر أديب الممالك والشاعر قاآني والشاعر شهريار الذي له منظومة طويلة أفردها لذكر ما جرى في كربلاء، تألّفت من ثلاثة وخمسين بيتاً منها:

    يا لشهر إنه شهر الغموم               الهموم حلَّقت فوق الهموم
    قف تأمّل جور ذياك الفلك             زينب ستراً لها ما قد هتك
    أضرموا النيران ظلماً في الخباء      فنفرن منه هاتيك الظباء

    الباب الرابع: كربلاء في الشّعر التركي
    ويخصّص د. المصري الباب الرابع والأخير من الكتاب لـكربلاء في الشّعر التركي[8]، من خلال فصلين، يتناول في الفصل الأوّل: كربلاء في الشّعر التركي القديم، ويبدأ المؤلف فيه بمَن يراه أكثر الشّعراء الأتراك شُهرة، وأوفرهم نصيباً في نظم الرثاء الخاص بالحسين عليه السلام وأهل بيته، وهو الشاعر فضولي البغدادي، إلّا أنّه يعود من جديد إلى ذكر الجدال الدائر ما بين النقّاد حول نسبة الشّعر في كتاب روضة السعداء إلى فضولي، أو أنّه مجرد نقل وترجمة لما ورد من قصائد في كتاب حسين واعظ روضة الشهداء، وأنّ الشاعر تصرّف فيه ونقله بأُسلوبه وطريقته. ثم يُورِد أمثلة من هذا الشّعر:

    كُلّ ما في الكون ما الله خلق      ناطقاً كان كذا من ما نطق
    كُلّ عقل كُل ّنفس وفلك           من طريق أينما كان سلك
    واجب حتم عليهم في دوام        في الحسين مأتم في كُلّ عام

    وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى ذكر بعض الشّعراء الذين كتبوا في كربلاء، معتمداً في ذلك على كتاب مراثي كربلاء، معتذراً عن تقديم تعريفٍ بهؤلاء الشّعراء، لعدم وجوده في الكتاب المذكور، فمؤلف هذا الكتاب لم يذكر للشاعر منهم سوى بيتين أو أربعة أبيات من الشّعر، ومنهم الشاعر التركي صافي، وفريدون، والشاعر لامعي، وللأخير شُهرة كبيرة في الشّعر التركي، تُماثل شُهرة الشاعر جامي في الأدب الفارسي القديم، وله منظومة من النمط المعروف بالتركية بالمثنوي، أي: ما يُسمّى في العربية بالمزدوج، تحمل عنوان مقتل الحسين، ويذكر د. حسين مجيب المصري أنّ لهذه المنظومة ثلاث مخطوطات بمكتبة جامعة القاهرة، لم يتسنَّ له الاطلاع عليها، فاعتمد في ترجمة بعض أبياتها على رسالة ماجستير حول الشاعر حملت عنوان لامعي شاعراً وناثراً كتبها الباحث سمير عباس وقدمها لكلية الآداب جامعة عين شمس عام 1987، وتُعدّ منظومة لامعي وثيقة تاريخيّة؛ حيث يسرد الشاعر فيها تفصيلات ما وقع على أرض كربلاء، بشكل حرص فيه على مطابقة ما ورد من روايات تاريخية في هذا الشأن، وهو يفتتح منظومته قائلاً:

    هذه الأفلاك ناري تحرق            ولــــها لون الحداد الأزرق
    إن للإنس وللجن بكاء                مَن بدا منهم ومَن هُمْ في خفاء
    ما عسى يصنع ليث وحده           ألف خنزير أرادت صـــدّه

    وجاء الفصل الثاني من الباب الرابع بعنوان: كربلاء في الشّعر التركي الحديث، عرض المؤلف فيه نموذجين من الشّعر التركي الحديث:
    الأول: للشاعرة التركية عادلة سلطانة: وهي من أميرات القصر السلطاني، وبنت السلطان محمود الثاني، كتبت شعراً دينياً صوفياً، وكان ذلك انعكاساً لحياتها التي عاشتها بتوجه كبير نحو الله سبحانه وتعالى، ويستنتج المؤلف من ملامح حياتها، ومن خبر نظمها لمراثي في آل البيت عليهم السلام أنها قد كتبت شعراً في كربلاء، وفي رثاء الإمام الحسين عليه السلام، غير أنّه لا يوقفنا على هذا الشّعر؛ لعدم اطلاعه عليه. وهذا مما يُعدّ نقصاً كبيراً في التَّعريف بالشاعرة، ويجعل من ذكرها من دون شعرها في الكتاب أمراً غير ذي جدوى كبيرة للقارئ.
    الثاني: هو الشاعر التركي المعاصر جاهد صدقي طارانجن: الذي له منظومة بعنوان اتجاه إلى الله منها:

    كُلّ بحر ليس فيه غير ماء         في يديّ الآن مثقوب الإناء
    لا يمر اليوم مراً كالنسيم           كربلاء إن ذكرنا في القديم
    بدواء لست أشفى من جراح       إنّني والله مكسور الجناح

    المحور الثالث: وقفة مع الكتاب
    إنحاز الباحث د. حسين مجيب المصري إلى منهجه في التأليف ودراسة التراث الإسلامي، القائم على استقراء النّصوص الشّعرية، وتعريف القارئ بشعرائها، مبيناً المرجعيات التاريخية لهذه النّصوص بالتفصيل كلما اقتضت الدراسة ذلك، مؤشراً ما يعدّه كشفاً عن تيّارات روحيّة في العالم الإسلامي لم يعرفها القارئ العربي سابقاً. وهو أمر حقّقه الباحث، وكان في غاية الأهمّيّة والفائدة.
    لعلّ المسألة الأكثر بروزاً التي يُثيرها منهج الكتاب هي مسألة ترجمة الشّعر ونقله من لغته الأصليّة إلى اللغة الهدف، وما يثار عادة حول هذا الأمر لا يتجاوز ذكر إشكاليات قديمة، ناقشتْها دراسات عديدة سابقة، غير أنّ ما سعت دراسات الترجمة الحديثة إلى مناقشته بشكل علمي دقيق هو دور المترجم وحدود صلاحيته في النقل، ولا شك في أن دخول الذات المترجمة للنّص يُعين المترجم على إجادة عمله، وعلى الاقتراب بشكل كبير من تجربة النّصّ وروحه، غير أنّ هذه العملية لا تسلم من خطورة التماهي الكلي مع النّصّ بشكل تنمحي المسافة فيه بين المترجم والنّصّ.
    ومن هنا؛ كان دور الدراسة الترجمية هو قياس مدى حضور أنا المترجم في النّصّ وأشكال هذا الحضور وطبيعته[9].
    قام د. حسين المصري بترجمة النّصوص الشّعرية إلى اللغة العربيّة وبصورة شعرية، موضحاً أنّ الشّعر يفقد روعته ورواءه إن تُرجِم نثراً، ومنح نفسه مساحة للتحرُّك والتصرّف في النّصّ المنقول، إيماناً منه بأنّ المترجِم هو مَن يقتدر على مراعاة الذوق في النّصّ الذي ينقل عنه، ولا ضير في أن يغيّر الاستعارة أو الكناية أو التشبيه في الأحاسيس وهو يترجم، وأن المترجم الحاذق هو مَن يقتدر على جعل النّقل أروع من الأصل، وأنّ يتصرّف في الترجمة تصرّفاً ضروريّاً، وإلّا لم يحقق من الترجمة ما ينبغي أن يحقق.
    في ضوء ذلك قدّم د. المصري نماذج شعرية من الشّعر الأُردي والفارسي والتركي بقالب العروض العربيّة، لاجئاً إلى بحر الرَّمل حيناً وإلى المتقارب حيناً آخر.
    لقد مارس المترجمون العرب الترجمة، متوسلين بالترجمة المنظومة أو الموزونة، فسعياً إلى الاستجابة إلى قالب عروضي جامد ومحدد سلفاً، نجد الترجمة المنظومة مجبرة على محاكاة القالب والخضوع لسطوته، فتعمل على إطالة القول الشّعري أو إيجازه، على حساب بُنيته الأصلية، وبما أنّ النُّظُم العروضية لمختلف اللغات هي بالأصل متمايزة، فإنّ الانتقال من أحدها إلى الآخر لا يمكن أن يتمّ دون أن يؤثر تأثيراً مباشراً في طبيعة الانفعال الشّعري وجودة المعنى اللذين تُنتجهما الترجمة[10].
    وإذا ما أعدنا قراءة الترجمات التي قدمها د. حسين المصري هنا فإنّنا سنلاحظ بشكل جلي هذه الإعاقات التي ألحقتها الترجمة المنظومة بالشّعر المترجم.
    ولا يُقلّل ما نقوله هنا من الجهد الكبير والجديد الذي بذله د. المصري في تأليف هذا الكتاب، ويكفيه فرادة أنّه الكتاب الأوّل في مجاله، وأنّ مؤلفه رحمه الله قد أتاح لقراء العربيّة فرصة الاطّلاع على آداب أهملتْها الدراساتُ العربية، وشحّتْ مصادرُها في مكتبتها التخصصية.
    ومن جانب آخر؛ كان لهذا الكتاب رأيُه في نقل النّصوص الشّعرية من لغاتها الأصلية، وهو رأي موضع احترام وتقدير، يوافقه فيه كثير من المترجمين العرب، ولا تخلو النتيجة أيّاً كانت من جديد يجوس أرضاً جديدة.
    -----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
    [1]من أمثلة هذه الدراسات الأكاديمية، على سبيل المثال لا الحصر: الإمام الحسين في الشّعر العراقي المعاصر: حاتم عبد حبوب الساعدي، أُطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة / كلية دار العلوم، 1984.  استدعاء شخصية الحسين بن علي في الشّعر العربي الحديث: إبراهيم محمد عبد الرحمن، أُطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة/ كلية دار العلوم، 2004م. مراثي الإمام الحسين عليه السلام في العصر الأُموي، دراسة فنية: مجبل عزيز جاسم، رسالة ماجستير، كلية الآداب ـ جامعة الكوفة، 1426ﻫ 2005 م. شعر رثاء الإمام الحسين عليه السلام في العراق ابتداءً من سنة 1100 ﻫ حتى 1350 ﻫ، دراسة فنية: خالد كاظم حميدي الحميداوي، رسالة ماجستير، كلية الآداب/ جامعة الكوفة نيسان ـ 2007م.
    [2] اُنظر: المصري، د. حسين مجيب، كربلاء بين شعراء الشعوب الإسلاميّة: ص7 وما بعدها.
    [3] اُنظر: المصدر السابق: ص62 وما بعدها.
    [4] اُنظر: المصدر السابق: ص129 وما بعدها.
    [5] الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص81.
    [6] اُنظر: المصدر السابق: ص284 وما بعدها.
    [7] اُنظر: المصدر السابق: ص313 وما بعدها.
    [8] اُنظر: المصدر السابق: ص380 وما بعدها.
    [9] اُنظر: كاظم جهاد، حصة الغريب، شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب: ص100ـ 104.
    [10] المصدر السابق. واُنظر كذلك: إشكالية الترجمة في الأدب المقارن: د. ياسمين فيدوح، دار صفحات للدراسات والنشر: ص45.

    {د. علي مجيد البديري}
    المصدر : مؤسسة وارث الأنبياء

  • 1

    مولاي مولاي : أداء الطفلين مقداد الحلواجي وسلمان الحلواجي للشاعر الاستاذ مجتبى التتان من اصدار قانون،من انتاج قناة طه الفضائية

  • 1

    كشفت العتبة العباسية المقدسة عن اعداد المشاركين في زيارة اربعينية الامام الحسين (سلام الله عليه) لهذا العام.

    وذكرت العتبة في بيان تلقته وكالة الانباء العراقية (واع) اليوم الخميس، ان "أعداد الزائرين المسجّلين وفقاً لمنظومة العدّ الإلكترونيّ، للمدّة من (9) صفر الخير ولغاية منتصف نهار (20) من صفر لعام 1442هـ، بلغت (14.553.308) أربعة عشر مليوناً وخمسمائة وثلاثة وخمسين ألفاً وثلاثمائة وثمانية زائرين".
    واضاف البيان ان " الزائرين دخلوا من خمسة مداخل رئيسة هي: (بغداد - كربلاء) (نجف - كربلاء) (بابل - كربلاء) (حسينيّة - كربلاء) (الحر – كربلاء).
    وكالة الانباء العراقية (واع)

  • 1

    مدخل
    تتمحور هذه الدراسة حول ذكر بعض العنايات الإلهية بالإمام الحسين علیه السلام، والتي أضاءتها النصوص القرآنية والروائية بأروع بيان، وبروح برهانيّة وعناصر استدلالية؛ لتُبيِّن لنا أنّ الإمام الحسين علیه السلام من الذرِّية الطاهرة، ذرِّية الأنبياء والأوصياء، وإمام معصوم قد خصّه الله تعالى بالتشريف والتعظيم.
    وسيتّضح من خلال ما سنبيِّنه في هذه الدراسة حقيقة وماهية هذه العنايات الإلهية، والاستدلال عليها بما ورد في النصوص القرآنية والروائية التي تبلغ حدّ الاستفاضة أو التواتر ـ ما يغنينا عن البحث السندي ـ مع الاستئناس بأقوال علماء الفريقين، وسنحاول ذكر بعض الشبهات والإشكاليات ونجيب عنها.
    وعليه؛ ستكون منهجة البحث وتقسيمه بالنحو التالي:تقسيم البحث
    سيتم البحث في هذهِ الدراسة ـ إن شاء الله ـ عن ثلاث عنايات قد خصّ الله بها الإمام الحسين علیه السلام، سيد شباب أهل الجنة، وريحانة جدّه علیها السلام، وهي:
    الأُولى: إنّ الحسين علیه السلام امتداد لذرّية الأنبياء عليهم السلام.
    الثانية: طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته.
    الثالثة: خلق الإمام الحسين علیه السلام من طينة طاهرة.

    العناية الأُولى:الإمام الحسين علیه السلام امتداد لذرّية الأنبياء الطاهرة
    إنّ كون الشخصية ـ أياً كانت ـ من ذرِّية الأنبياء والمرسلين هو من العنايات الربّانية التي تعكس المقام الشامخ لتلك الشخصية، والتي لا تتيسر لكلّ أحد، والاستدلال على أنّ الإمام الحسين علیه السلام امتداد للذرّية الطاهرة للأنبياء، يتوقّف على بيان عدّة مقدّمات تساهم في بناء إطار واضح للموضوع، وهي:
    المقدمة الأُولى: إنّ الأنبياء من ذرّية واحدة.
    المقدمة الثانية: إنّ النبي علیها السلام من ذرّية الأنبياء عليهم السلام.
    المقدمة الثالثة: إنّ الإمام الحسين من ذرية النبي علیها السلام.
    والنتيجة: إنّ الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية الأنبياء عليهم السلام.

    المقدّمة الأولى: الأنبياء عليهم السلام من ذرّية واحدة
    من الحقائق التي أضاءها القرآن الكريم في نصوص وافرة هي كون الأنبياء من ذرّية واحدة، حيث استوفت النصوص المباركة جميع جوانب المسألة، وهي تغني عن إقامة أيّ دليل آخر، ومن هذه النصوص القرآنية:
    قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ  كُلًّا هَدَيْنَا  وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ  وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ  كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا  وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ  وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...َ﴾([1]).

    قوله تعالى: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ  قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾([2]).

    قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾([3]).

    قوله تعالى: ﴿ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا﴾([4]).
    ومن خلال هذه الآيات المباركات نفهم بوضوح أنّ الأنبياء من ذرّية واحدة، وأنّ مواريث النبوّة لا تخرج عن هذه الذرّية الطيِّبة، وأنّ هذا من الحقائق والسُّنن القرآنية التي لا غبار عليها؛ وممّا يؤيد ذلك أيضاً أقوال العلماء في هذا المجال، يقول الشيخ الطبرسي في تفسير قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: «آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما. و(آل عمران): موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر. (بعضها من بعض) يعني: أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعِّب من بعض»([5]). ويقول الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾: «الذرّية  في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا، ثمّ استُعملت في مطلق الأولاد، وهو المعنى المراد في الآية... وفي قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾ دلالة على أنّ كلّ بعض فرض منها يبتدئ وينتهي من البعض الآخر وإليه، ولازمه كون المجموع متشابه الأجزاء، لا يفترق البعض من البعض في أوصافه وحالاته، وإذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنّهم ذرّية لا يفترقون في صفات الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين»([6]). ويقول الزمخشري أيضاً في بيان قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ﴾: «يعني: أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعِّب من بعض»([7]). فتبيَّن أنّ الأنبياء من ذرّية واحدة.

    المقدّمة الثانية: النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من ذرّية الأنبياء
    من الحقائق المُسَلَّمة بين المسلمين ـ والتي تُبرَز إلى جوار ما تقدّم من كون الأنبياء من ذرّية واحدة ـ هي الحقيقة التي تشير إلى كون نبينا الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله من ذرّية الأنبياء، فلم يشكك أحد في كونه من ذرّية إبراهيم علیه السلام والذرّية الطاهرة للأنبياء عليهم السلام. ورغم أنّ هذا الأمر واضح ومتّفق عليه، إلّا أنّنا نعزّز البحث بذكر بعض الشواهد وأقوال العلماء:
    1ـ روى المحدِّث القمّي ـ في تفسير قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ  إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ـ قول رسول الله علیها السلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم»([8]).

    2ـ وفي تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «قلت له: أخبرني عن أُمّة محمد صلى الله عليه وآله مَن هم؟ قال: أمُّة محمد بنو هاشم خاصّة، قلت: فما الحجّة في أمُّة محمد أنّهم أهل بيته الذين ذُكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا  إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل، وجعل من ذريتهما أُمّةً مسلمة، وبعث فيها رسولاً منها، يعنى: من تلك الأُمّة، يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم دعوته الأُولى بدعوة أُخرى فسأل لهم تطهيراً من الشرك، ومن عبادة الأصنام؛ ليصحّ أمره فيهم، ولا يتّبعوا غيرهم، فقال: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ  فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي  وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. فهذه دلالة على أنّه لا تكون الأئمّة والأُمّة المسلمة التي بعث فيها محمد علیها السلام إلّا من ذرّية إبراهيم لقوله: واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام»([9]).

    3ـ وأخرج ابن المغازلي في المناقب، عن عبد الله بن مسعود، قال: «قال رسول الله علیها السلام: أنا دَعْوَةُ أبي إبراهيم. قلنا: يا رسول الله، وكيف صِرْتَ دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى الله} إلى إبراهيم: ﴿ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ فاستَخَفَّ إبراهيم الفَرَحُ، قال: يا رَبِّ، ومِنْ ذُرِّيَّتِي أئمّة مِثْلي، فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم إنّي لا أُعطيك عهداً لا أفي لك به. قال: يا ربّ، ما العهد الذي لا تفي لي به. قال: لا أعطيك لظالم من ذُرِّيَّتك. قال إبراهيم عندها: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ﴾، قال النبيّ صلى الله عليه وآله: فَانْتَهَتِ الدَّعوةُ إلَيَّ وإلى عَلِيّ لم يَسْجُدْ أحدٌ منّا لِصَنَم قطُّ، فاتَّخَذني الله نَبيّاً واتَّخذ عَليّاً وَصِيّاً»([10]).

    4ـ وقال الطبري في تفسيره، عن قتادة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾: «ذكر اللهُ أهلَ بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضَّلهم على العالمين، فكان محمد من آل إبراهيم»([11]).

    5ـ وقال الطباطبائي في بيان قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ ﴾: «آل إبراهيم: فظاهر لفظه أنّهم الطيِّبون من ذرّيته، كإسحاق وإسرائيل، والأنبياء من بني إسرائيل وإسماعيل والطاهرون من ذرّيته وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله»([12]).

    المقدمة الثالثة: الإمام الحسين علیه السلام من ذرية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله
    إنّ كون الإمام الحسين من ذرّية النبي صلى الله عليه وآله من الحقائق المسلَّمة بين جميع المسلمين، حيث توفَّرت نصوص قرآنية دالّة على ذلك، كآية التطهير والمباهلة والمودّة وغيرها، مضافاً إلى ما احتشدت به الكتب والمجامع الروائية من الشواهد الدالّة على ذلك، مما لا يسع المقام لاستقصائه.

    إشكال وجوابه:
    قد يُطرح إشكال مفاده: إنّ كون الشخص من أولاد البنت، لا يصيّره من أبناء آبائها، باعتبار أنّ قانون الذراري والأجداد يؤخذ من جدّ الأب لا الأُمّ، فكيف يكون الإمام الحسين من ذرّية النبي صلى الله عليه وآله مع أنّه علیه السلام من أبناء فاطمة عليها السلام بنت النبي صلى الله عليه وآله، وأبناء البنت ليسوا من الذراري والأبناء لآباء الأُم بالاصطلاح المعروف؟!

    والجواب: إنّ القرآن الكريم قد جعل ابن البنت من ذرّية آباء البنت، كما في قوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا  وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾([13]).
    قال الشيخ الطوسي: «إذا وقف على أولاده، وأولاد أولاده، دخل أولاد البنات فيه، ويشتركون فيه مع أولاد البنين، الذكر والأنثى فيه سواء كلّهم. وبه قال الشافعي، دليلنا [أي دليل الإمامية]: إجماع المسلمين على أنّ عيسى بن مريم من وُلد آدم، وهو ولد بنته؛ لأنّه ولِد من غير أب»([14]).
    وقال القرطبي: «أي: ذرّية إبراهيم... وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعاً مضافون إلى ذرّية إبراهيم وإن كان فيهم مَن لم تلحقه ولادة من جهته من جهة أب ولا أمُّ؛ لأنّ لوطاً ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أباً، كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنّهم قالوا: ﴿ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾([15]). وإسماعيل عمّ يعقوب، وعدّ عيسى من ذرّية إبراهيم وإنّما هو ابن البنت، فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرّية النبي صلى الله عليه وآله»([16]).

    الحكمة في جعل الأوصياء والأنبياء عليهم السلام من ذرّية واحدة
    بعد أن ثبت كون الإمام الحسين علیه السلام من ذرِّية الأنبياء، يأتي هذا السؤال: ما هي الحكمة في جعل الأوصياء والأنبياء من ذرية واحدة؟ وهل يُعدّ ارتباط الإمام الحسين علیه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله ـ باعتباره من ذرّيته ـ من جملة العنايات الإلهية لنفس الإمام علیه السلام، أم لا؟ ولماذا؟

    وسنجيب عن هذا التساؤل بالوجهين التاليين:
    الأول: لعل الحكمة في جعل الأنبياء من ذرّية واحدة هو: أنّ الذرّية عادة ما يكون لها من الاستعداد للإعداد الربّاني ولتحمّل مسؤولية الرسالة والولاية أكثر ممّا تكون خارج دائرة الذرّية؛ ومن هنا نجد أنّ إعداد الوصي للرسالة من ذرّية الرسول أو النبي يكون له الدور الكبير والأثر البالغ في تحقيق أهداف الرسالة؛ وذلك لأنّ القرابة تُعَدّ عادة الإطار السليم للتربية والإعداد للقيام بالدور الربّاني، فالقرابة ليس لها أيّ أثر عند الباري تعالى، إلّا إذا كانت تصبُّ في تحقيق أهداف الرسالة من خلال الإعداد السليم للتربية وتحمّل المسؤولية.
    لاسيما إذا لا حظنا أنّ الرسول الحامل للرسالة عادة ما يكون عمره أقصر من عمر الرسالة ومهمّاتها؛ وهذا ما نلمسه واضحاً في كثير من الرسالات السماوية، وبالذات الرسالة الإسلامية، حيث كان عمر النبي صلى الله عليه وآله ‌قصيراً نوعاً ما، وذلك لأنّه توفّي بعد مضي ثلاث وعشرين سنة من البعثة الشريفة، بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها، ‌والإنجازات الواسعة التي حقَّقها في غضون هذه المدّة القصيرة، لكن بقيت أعباء الرسالة قائمة في جميع المجالات، سواء في مجال فهم وتوضيح الرسالة، أو مجال تطبيقها وتثبيتها، أو غير ذلك من المجالات التي تحتاج مَن يتحمّل أعباءها.

    الثاني: إنّ القرابة والذرّية الواحدة وإن لم يكن لها أيّة مدخلية في الحساب يوم القيامة، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾([17])، ولكنّه يُعدّ من العوامل المؤثِّرة في حركة المجتمع وتكامله وبناء علاقاته الإنسانية؛ وذلك لأنّ الناس يتفاعلون ويتأثرون بهذا العامل الاجتماعي، كما نلمسه واضحاً في تاريخ الأُمم والمجتمعات الإنسانية السابقة واللاحقة، فيتفاضلون ويفتخرون ويتأثرون به؛ لذلك نجد أنّ من شرائط النبي أو الإمام هو أن لا يكون فيه جنحة مخلّة بوضعه الاجتماعي، وأن لا يكون من عائلة وضيعة وغير شريفة، وغير ذلك من الشرائط التي يتناولها علماء الكلام في بحث مواصفات الأنبياء والأئمّة.
    ومن الواضح أنّ هذه الأبعاد نجدها متوفِّرة في أهل البيت عليهم السلام، ومن العوامل التي تساهم في توفّر هذه الأبعاد في الأنبياء وأهل البيت عليهم السلام هو كونهم من ذرّية واحدة؛ إذ لو لم يكونوا من نسب واحد وبيت واحد، وكانوا متفرِّقين ومن قبائل شتّى، لم يكن للرسالة أن تحقِّق غرضها بقدر ما لو كانوا من ذرّية واحدة وبيت واحد.
    وبهذا يتّضح أنّ الحكمة من جعل الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية الأنبياء عليهم السلام هو أنّ الذرّية الواحدة المتسلسلة، تُعدّ من أهم آليات الإعداد الإلهي للأنبياء والأوصياء. وهذا الأمر نجده واضحاً في تاريخ الرسالات والأنبياء، فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ...﴾([18]). وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ  نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا  وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ  كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾([19]).

    العناية الثانية:طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته
    إنّ إثبات طهارة أصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام وأرحام أُمهاته يتطلّب منّا إثبات طهارة أصلاب آباء النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأرحام أُمهاته؛ باعتبار أنّه ثبت في العناية الأُولى أنّ الإمام الحسين علیه السلام من ذرّية النبي صلى الله عليه وآله، وحينها سيثبت كونه علیه السلام من أصلاب وأرحام طاهرة.
    نعم، يبقى إثبات طهارة أبوي الإمام الحسين علیه السلام المباشرَين، وهما: الإمام أمير المؤمنين علیه السلام وفاطمة الزهراء عليها السلام، وطهارتهما أوضح من أن تُذكَر أو يُستدَلّ عليها، كما نصّت على ذلك آية التطهير. وكذا الحال بالنسبة إلى جدّه أبي طالب فطهارته من الشرك والسفاح من ضروريات المذهب الإمامي الاثني عشري.

    ولنتكلّم حول طهارة أصلاب وأرحام آباء وأُمهات النبي محمد صلى الله عليه وآله، فنقول: من الواضح أنّ المقصود من الطهارة ما يشمل جهتين:
    1ـ الطهارة من الشرك.
    2ـ الطهارة من السفاح.

    وسنبحث في هاتين الجهتين بشيء من التفصيل:
    الجهة الأُولى: الطهارة من الشرك
    هناك مجموعة من النصوص القرآنية والروائية التي تدلّ على طهارة آباء وأُمّهات نبيّنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله من الشرك، من لدن آدم وحوّاء عليهما السلام، إلى أبيه عبد الله وأُمه آمنة عليهما السلام:

    أمّا من القرآن الكريم: فقوله تعالى: ﴿ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾([20])، وهي واضحة الدلالة على أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان يتقلّب في أصلاب الموحِّدين، وهذا هو الموافق للروايات المعتبرة وآراء العلماء في تفسير هذه الآية المبارك.
    فقد روى القمّي في تفسيره عن الباقر علیه السلام في قوله تعالى: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾، قال: «في أصلاب النبيّين»([21]). وفي نصٍّ آخر يرويه المجلسي، عن أبي الجارود، قال: سألتُ أبا جعفر علیه السلام عن قوله: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾، قال: «تقلّبه في أصلاب الموحِّدين من نبيّ إلى نبيّ، حتى أخرجه من صُلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم علیه السلام»([22]). وأخرج الطبراني بسنده عن ابن عباس، في قوله تعالى: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من صلب نبيّ إلى نبيّ حتى أُخرجتُ نبيّاً»([23]).
    وقال المفيد في ذيل هذه الآية المباركة: «يريد به: تنقّله في أصلاب الموحِّدين، وقال نبيّنا صلى الله عليه وآله: ما زلت أتنقّل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهَّرات، حتى أخرجني الله تعالى في عالمكم هذا. فدلّ على أنّ آباءه كلّهم كانوا مؤمنين؛ إذ لو كان فيهم كافرٌ لما استحقَّ الوصف بالطهارة؛ لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ...﴾ ([24])، فحكم على الكفّار بالنجاسة، فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بطهارة آبائه كلّهم ووصفهم بذلك، دلّ على أنّهم كانوا مؤمنين»([25]).
    وقال المارودي في تفسير هذه الآية: «أي: تقلّبك في أصلاب طاهرة من أبٍ بعد أبٍ إلى أن جعلتك نبيّاً، وقد كان نور النبوّة في آبائه ظاهراً»([26]).

    دفع توّهم
    هناك توهُّم مفاده: إنّه لا يلزم ممّا ذُكِر أن يكون جميع آبائه النسبيِّين موحِّدين؛ وذلك لأنّ قوله تعالى: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ يصدق حتى لو كان بعض آباء النبي صلى الله عليه وآله موحِّدين.

    الجواب: إنّ هذا الإشكال غير تامّ من جهتين:
    الأُولى: إنّ الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾ كانت في مقام الامتنان والمدح للنبي صلى الله عليه وآله، ومن الواضح أنّ مقام الامتنان والمدح له صلى الله عليه وآله يقتضي شمول جميع آبائه في العمود النّسَبي؛ وذلك لأنّ الآية لو كانت بصدد بيان أنّ بعض آبائه موحِّدون دون غيرهم، فلا يكون ذلك مدحاً وامتناناً للنبي صلى الله عليه وآله؛ لأنّه ممّا يشترك فيه جميع الناس؛ وحينئذٍ لا يكون ذلك من مزاياه.
    وعلى هذا؛ لا بدّ أن تُحمَل دلالة الآية على جميع آبائه بلا استثناء، مضافاً إلى ما ذكرنا من الروايات والنصوص التي تؤكّد على طهارة أجداد وآباء النبي صلى الله عليه وآله جميعاً.

    الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ...﴾([27])، وهي واضحة الدلالة على استمرار الذرّية المسلمة وعدم انقطاعها.
    وعلى هذا؛ فالقول بأنّ بعض آباء النبيّ غير موحِّدين؛ باطل؛ لأنّ إبراهيم علیه السلام قد طلب أن تكون من ذرّيته أُمّة مسلمة مستمرة، ومن الواضح أنّه قد استُجيبت هذه الدعوة، وكان من أبرز مصاديق ذرّية إبراهيم المسلمة المستمرّة هو النبيّ محمد صلى الله عليه وآله. وتختص هذه الجهة بالسلسلة النسبية بين إبراهيم ونبيّنا الأكرم.

    وأما النصوص الروائية: فهناك عدد وافر من الروايات التي تتحدّث عن طهارة آباء النبي من الشرك، بَيْد أنّ الشيء الذي ينبغي التذكير به هو أنّ هذه الروايات متواترة ومتضافرة عند الشيعة الإمامية، وكذلك عند غيرهم الكثير من الروايات التي تنزِّه آباء النبي صلى الله عليه وآله من الكفر والشرك.
    ورد في البحار ما نصّه: «إنّ آباء النبيّ صلى الله عليه وآله كانوا من الصدّيقين، إمّا أنبياء أو أوصياء معصومين»([28]). وقد نقل إجماعَ الإمامية على ذلك كلٌّ من الشيخ المفيد([29])، والطبرسي في مجمع البيان([30]).
    وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنّه قال: «لم يزل الله ينقلني من صُلب نبيّ إلى صُلب نبيّ حتى صرت نبيّاً»([31]). ويدلّ على ذلك أيضاً ما سيأتي من الروايات المصرِّحة بطهارة آباء النبي صلى الله عليه وآله من السفاح، وهي شاملة بإطلاقها للطهارة من دنس الشرك. وقد صرّح بذلك كلٌّ من المسعودي([32]) واليعقوبي([33]) والماوردي في أعلام النبوَّة([34])، وغيرهم.

    الجهة الثانية: طهارة آباء النبي علیها السلام من السفاح
    لا يخفى أنّ طهارة آباء النبي من السفاح يُعدّ عند الشيعة الإمامية من البدهيات التي تعلو على البرهنة والاستدلال؛ حيث دلّت على ذلك الروايات المتضافرة، من قبيل ما رواه الشيخ الصدوق، عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم علیه السلام»([35]). وما في كنز الفوائد عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنّه قال: «نُقلتُ من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهَّرة نكاحاً لا سفاحاً»([36]).

    وأمّا الروايات الواردة من طرق أهل السنّة فهي كثيرة أيضاًً، منها:
    1ـ ما رواه الطبراني عن النبي صلى الله عليه وآله، أنّه قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأُمّي»([37]).

    2ـ ما ورد في السيرة الحلبية، عن رسول الله علیها السلام، أنّه قال: «لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام المطهَّرة»([38]). وفيها أيضاً، قوله علیها السلام: «لم يزل الله ينقلني من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا، ولم يُدنِّسني بدنس الجاهلية»([39]).

    3ـ ما رواه ابن سعد في طبقاته، عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله أنّه قال: «قسَّم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرها، ثمّ قسّم النصف على ثلاثة، فكنتُ في خير ثلث منها، ثمَّ اختار العرب من الناس، ثمَّ اختار قريشاً من العرب، ثمَّ اختار بني هاشم من قريش، ثمَّ اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثمَّ اختارني من بني عبد المطلب»([40]).

    4ـ ما أخرجه أحمد والترمذي ـ واللفظ للثاني ـ عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنّه قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنّ الله خلق الخلق، فجعلني في خيرهم فرقة، ثمَّ جعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثمَّ جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثمَّ جعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نسباً. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن»([41]).

    5ـ ما أخرجه ابن عساكر، عن ابن عباس، قال: «سألت رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، قلت: فداك أبي وأُمّي! أين كنتَ وآدم في الجنّة؟ قال: فتبسّم حتى بدت ثناياه، ثمَّ قال: كنتُ في صُلبه ورُكب بي السفينة في صُلب أبي نوح، وقُذف بي في صُلب إبراهيم، لم يلتقِ أبواي قطّ على سفاح، لم يزل الله تعالى ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، صفيّ مهديّ، لا يتشعّب شعبتان إلّا كنتُ في خيرهما، قد أخذ الله تعالى بالنبوّة ميثاقي وبالإسلام عهدي، وبشّر في التوراة والإنجيل ذكري، وبيَّن كل نبيّ صفتي، تشرق الأرض بنوري والغمام لوجهي»([42]).
    وممّا بينّاه اتضح أنّ نسَب النبي صلى الله عليه وآله طاهر مطهَّر من الشرك ودنس السفاح.

    إشكالية أنّ أبا إبراهيم علیه السلام لم يكن موحِّداً
    حاصل هذه الإشكالية: أنّ بعض الوسائط في العمود النّسَبي لرسول الله صلى الله عليه وآله لم تكن وسائط مؤمنة كما ذكر ذلك القرآن الكريم في قصّة أبي النبي إبراهيم علیه السلام، الذي يظهر من بعض الآيات الشريفة كونه مشركاً، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّـهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ...﴾([43])، وهذه الآيات وما يقع في سياقها تدلّ بوضوح على أنّ أبا النبي إبراهيم علیه السلام كان مشركاً، فينتقض الاستدلال المتقدّم.

    الجواب: المراد في الآية هو عمّ إبراهيم، فإنّ إجماع الإمامية قائم على أنّ الذي استغفر له إبراهيم في الآية آنفة الذكر هو (آزر) وهو عمّ إبراهيم علیه السلام؛ وعلى هذا لا يصحّ النقض به؛ لأنّ محل الكلام في العمود النسبي لرسول الله صلى الله عليه وآله.
    فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام، أنّه قال: «كان آزر عمّ إبراهيم علیه السلام منجِّماً لنمرود، وكان لا يصدر إلّا عن رأيه...»([44]).
    وهذا النصّ يؤكّده قوله تعالى: ﴿ أمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾([45])، حيث جعلت الآية المباركة إسماعيل أباً ليعقوب، والحال أنّه عمّه، كما هو واضح. وقد كان هذا متعارفاً عند العرب، حيث يطلقون لفظ الأب على العمّ، فيسمّون العمّ أباً، وكذا ابن الأخ ابناً.
    والنتيجة المتحصِّلة في المقام: ثبوت طهارة أرحام وأصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام، لما ثبت آنفاً من أنّ الحسين ابن النبيّ صلى الله عليه وآله، وبينه وبين النبيّ واسطة واحدة وهي فاطمة الزهراء عليها السلام، وطهارتها من الواضحات كما نصَّ عليه القرآن الكريم، كما في آية التطهير، وغيرها من النصوص القرآنية والروائية، وكذلك يُثبِت طهارةَ أرحام وأصلاب آباء الإمام الحسين علیه السلام ما ورد في زيارته بشكل واسع لا يسع المقام لذكره.

    العناية الثالثة:خلق الإمام الحسين علیه السلام من طينة طاهرة
    لا يخفى أنّ بحث الطينة هو من الغيب المختصّ بالله تعالى، فلا بدّ أن يكون طريق العلم به من قبله}، أو من طريق أنبيائه وأوليائه، وقد وردت روايات متضافرة تدلّ على أنّ الله تعالى قد خلق أهل البيت عليهم السلام من طينة طاهرة، وهذه الروايات شاملة للإمام الحسين علیه السلام كما هو واضح، وسيأتي إن شاء الله.

    وهذه الروايات على وفرتها تُغنينا عن الدخول في غمرة البحث السندي لحصول الاطمئنان بصدور بعضها؛ لذا نستعرض البعض على سبيل المثال:
    1ـ روى الصدوق بسنده، عن إسحاق القمّي، قال: «دخلت على أبي جعفر الباقر علیه السلام... فقال: يا إسحاق، ليس تدرون من أين أوتيتم؟ قلت: لا والله، جعلت فداك، إلّا أن تخبرني، فقال: يا إسحاق، إنّ الله تعالى لمّا كان متفرّداً بالوحدانية ابتدأ الأشياء لا من شيء، فأجرى الماء العذب على أرض طيبة طاهرة سبعة أيام بلياليها، ثمّ نضب الماء عنها، فقبض قبضة من صفوة ذلك الطين، وهي طينة أهل البيت، ثمَّ قبض قبضة من أسفل ذلك الطين وهي طينة شيعتنا، ثمَّ اصطفانا لنفسه، فلو أنّ طينة شيعتنا تُرِكَت كما تُرِكَت طينتنا، لما زنى أحد منهم، ولا سرق، ولا لاط، ولا شرب المسكر، ولا اكتسب شيئاً ممّا ذكرت، ولكن الله تعالى أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها، ثمَّ نضب الماء عنها، ثمَّ قبض قبضة، وهي طينة ملعونة من حمأٍ مسنون، وهي طينة خبال وهي طينة أعدائنا، فلو أنّ الله} ترك طينتهم، كما أخذها لم تروهم في خلق الآدميين، ولم يقرّوا بالشهادتين، ولم يصوموا، ولم يصلّوا، ولم يزكّوا، ولم يحجّوا البيت، ولم تروا أحداً منهم بحسن خلق، ولكن الله تبارك وتعالى جمع الطينتين: طينتكم وطينتهم، فخلطها وعركها عرك الأديم ومزجها بالمائين...»([46]).

    2ـ في البحار، عن الإمام الصادق علیه السلام: «إنّ الله خلق محمداً وطينته من جوهرة تحت العرش، وأنّه كان لطينته نضح، فجبل طينة أمير المؤمنين علیه السلام من نضح طينة رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان لطينة أمير المؤمنين نضح، فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين علیه السلام»([47]).

    3ـ روى القاضي النعمان، عن عمّار بن ياسر، قوله: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: نوديت ليلة أُسري بي إلى السماء ـ إلى ربي ـ: يا محمد. قلتُ: لبيك وسعديك. قال: إنّي اصطفيتك لنفسي وانتجبتك لرسالتي، وأنت نبيي ورسولي وخير خلقي، ثمَّ الصدّيق الأكبر عليّ وصيك، خلقته من طينتك وجعلته وزيرك، وابناك الحسن والحسين. أنتم من شجرة، أنت ـ يا محمد ـ أصلها، وعليٌّ غصنها، والحسن والحسين ثمارها، خلقتكم من طينة علِّيين، وجعلتُ شيعتكم منكم، فقلوبهم تهوي إليكم. قلتُ: يا ربّ، هو الصدّيق الأكبر؟ قال: نعم، هو الصدّيق الأكبر»([48]).

    4ـ روى صاحب بصائر الدرجات، عن أبي الحجاج، قال: قال لي أبو جعفر علیه السلام: «يا أبا الحجاج، إنّ الله خلق محمداً وآل محمد من طينة علِّيين، وخلق قلوبهم من طينة فوق ذلك، وخلق شيعتنا من طينةٍ دون علِّيين، وخلق قلوبهم من طينة علِّيين، فقلوب شيعتنا من أبدان آل محمد، وإنّ الله خلق عدو آل محمد من طين سجين، وخلق قلوبهم من طين أخبث من ذلك، وخلق شيعتهم من طين دون طين سجين، وخلق قلوبهم من طين سجين، فقلوبهم من أبدان أولئك، وكلّ قلب يحنّ إلى بدنه»([49]).
    وغير ذلك من الروايات الوافرة المصرِّحة بأنّ طينة أهل البيت عليهم السلام طاهرة مطهَّرة([50]).

    إشكال الجبر وسلب الإرادة
    حاصل الإشكال: إنّ أخبار الطينة ومسألة خلق الإنسان من طينات مختلفة، وأنّ الطينة إمّا من علِّيين أو من سجِّين، وأنّ لكلّ منها أثراً خاصاً في مصير الإنسان، كلّ هذا يتنافى مع اختيارية الإنسان.
    الجواب: إنّ الطينة سواء كانت طاهرة أم لا، ليست علّة تامّة لفعل الإنسان؛ كي يقال: بأنّ الله تعالى إذا خلق عبداً من عباده من طينة طاهرة يلزم أن يكون مجبوراً على الطاعة؛ وذلك لأنّ الطينة الطاهرة جزء العلّة، وبنحو المقتضي؛ وعليه يبقى زمام الاختيار بيد الإنسان.
    وللتوضيح أكثر نقول: إنّه لما ثبت في محلّه أنّ الله تعالى عالم بالأشياء قبل خلقها، وأنّه تعالى عادل حكيم، فعلى هذا يقتضي أن يعطي كلّ مستعدٍ لما استعدّ له، فلو فرضنا أنّ الله تعالى علم من شخص أنّه لا يريد إلّا الطاعة، وأنّه مستعدّ لأن يكون في مقام القرب الإلهي، فبمقتضى حكمته تعالى وعدله أن يوفّر له العوامل التي تساعده للوصول إلى هذا المقام، من دون أن يسلبه الاختيار، ونستطيع أن نقتبس ذلك من بعض الآيات والروايات:
    منها: قوله}: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ  وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾([51])، وهي واضحة الدلالة على أنّ الله هو الذي يمنح عطاءه الجزيل على أساس الحكمة الإلهية التي تقتضي أن يكون العطاء على وفق إرادة الإنسان، وأنّ إرادته هي التي تحدِّد ماهية وكمّية العطاء الإلهي.
    ويؤكّد الطباطبائي& هذا المعنى في ذيل هذه الآية المباركة، حيث يقول: «وهذه الآية تفيد أنّ شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء، يمدُّ كلَّ مَن يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقّه، وأنَّ عطاءه غير محظور، ولا ممنوع من قبله تعالى، إلّا أن يمتنع ممتنع بسوء حظّ نفسه، من قِبَل نفسه لا من قِبَله تعالى»([52]).
    إذن؛ الناس بإرادتهم هم الذين قسّموا أنفسهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، فالذين أرادوا لأنفسهم أن يكونوا من أهل الخير والصلاح، فإنّ الله تعالى يمدّهم؛ لكي يوفَّقوا إلى الطاعة، والذين أرادوا العناد والعصيان، فالله تعالى يمدّهم على حسب ما أرادوا. وعلى هذا؛ فالإنسان هو الذي يبني آخرته بنفسه، والله تعالى يزوّده بالإمكانيات على حسب استعداد ذلك الإنسان وإرادته.
    ومنها: قوله}: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا . . .﴾([53]). ففي هذه الآية المباركة يضرب الله تعالى مثلاً، فيقول: كما أنّ الأودية الكبيرة والأنهار الصغيرة تأخذ قدرها من المياه بحسب ما استعدّت له، كذلك الأمر فيما يأخذه الإنسان من العطاء الإلهي، فيأخذ كلٌّ بحسب إرادته وعلى قدر ما استعدّ له. فالله تعالى يمدّ الإنسان بالعطاء، لمن أراد العاجلة أو الآخرة، فالإناء هو الذي يلوّن العطاء الإلهي.
    وهذا المعنى يمكن أن نلمسه بوضوح، في حديث الإمام الباقر علیه السلام في ذيل الآية المباركة، حيث يقول: «أنزل الحق من السماء، فاحتملته القلوب بأهوائها، ذو اليقين على قدر يقينه، وذو الشكّ على قدر شكّه، فاحتمل الهوى باطلاً كثيراً وجفاءً، فالماء هو الحقّ، والأودية هي القلوب، والسيل هو الهوى، والزبد هو الباطل»([54]).
    ومنها: قوله}: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّـهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ  وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾([55])، أي: إنّ الله تعالى لم يجعلهم سمّاعين للخير؛ لأنّه تعالى علم منهم الإصرار على الهروب من الحقيقة، وأنّهم لا يريدون الخير والطاعة، ولو علم منهم أنّهم يطيعون لفتح قلوبهم وأسماعهم، ولو أعطاهم البصيرة، وفتح قلوبهم، فإنّهم لا يستفيدون منها.
    ومنها: قوله}: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا﴾([56]). حيث بعث الله تعالى عبداً من عباده كي يقتل الغلام؛ لأنّه سيكون سبباً في كفر والديه؛ لطغيانه وسوء معاملته لهما والتضييق عليهما ومحاصرتهما في النشاط الروحي ﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ...﴾، أي: أشدّ وصلاً للقرابة والرحمة، فلا يرهقهما بشيء، ومحلّ الشاهد في هذه الآية المباركة هو أنّ الله تعالى هيّأ للأبوين أسباب الطاعة لما علم بأنّهما يريدان الطاعة، وأنّهما مستعدّان لها؛ ولذا يكون سبب قتل الابن كونه مانعاً في وصول الأبوين لكمالهما.
    ومنها: قوله تعالى: ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ ﴾([57])، فالظاهر من الآية أنّ الله تعالى يرسم لنا قاعدة قرآنية مهمّة مفادها: أنّ مَن علمنا أنّه يريد الطاعة، فنحن نهيِّئ له مقدماتها، ومتى علمنا أنّه يريد الشرك ويريد العصيان والعناد، فالحكمة الإلهية اقتضت ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ﴾ أي: نهيئ له تلك المقدمات التي من خلالها يستطيع أن يأتي بفعله على وفق ما أراد؛ فـ«كلٌّ ميسّر لما خلق له»([58])، أي: كلٌّ ميسّر لما أراد واستعدّ له.
    وفي الرواية عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «إنّ الله} اختار من وُلد آدم أُناساً طهَّر ميلادهم، وطيَّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم، فعل ذلك لأمر استحقوه من الله}. ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وساير الناس سواء، ألا مَن اتّقى الله أكرمه، ومَن أطاعه أحبّه، ومَن أحبّه لم يعذِّبه بالنار...»([59]).
    ويُشير إلى هذا المعنى الآلوسي في تفسيره، حيث يقول: «ما ورد في الصحيح: اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له، أمّا مَن كان ـ أي: في علم الله ـ من أهل السعادة المستعدّة لها ذاته، فسيُيسَّر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة؛ لأنّ شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأمّا مَن كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلاً، فسيُيَسّر بمقتضى القهر لعمل أهل الشقاوة... فيؤول الأمر إلى أنّ سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر، وعدم تقررها في العلم الأزلي، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم»([60]).

    النتيجة: إنّ الله تعالى إذا علم بأنّ عبداً من عباده لا يريد إلّا القرب منه تعالى والطاعة والعبادة والصلاح، فبمقتضى حكمته وعنايته بخلقه أن يوفِّر لهم أسباب الوصول إلى مقام القرب الإلهي والطاعة، ومن جملة هذه الأسباب هي أن يخلقه من طينة طاهرة طيِّبة.
    ومن ذلك يتّضح أنّ الطينة الطاهرة ليست علّة تامّة لكون الإنسان مطيعاً لله تعالى، سائراً في رضاه، كي يقال بأنّ الله تعالى إذا خلق عبداً من عباده من طينة طاهرة يلزم أن يكون ذلك العبد مجبوراً على الطاعة؛ وذلك لأنّ الطينة الطاهرة هي جزء العلّة، فالله تعالى خلق الإنسان ووهب له القوّة والقدرة على الفعل وعلى الترك، وهيَّأ له الأسباب، وجعله حرّاً مختاراً.
    ويبدو هذا الأمر واضحاً في عصمة الأنبياء والأوصياء؛ فإنّ المعصوم ـ سواء فُسِّرت العصمة بالدرجة العليا من التقوى، أو أنّها نتيجة العلم القطعي بعواقب الأعمال والمعاصي، أو أنّها نتيجة الاستشعار بعظمة الباري تعالى ـ على جميع التقادير يكون مختاراً في فعله، وغير مسلوب الإرادة.

    إشكالية صعوبة تعقّل أحاديث الطينة
    الإشكالية تقول: إنّ أحاديث الطينة من الأحاديث الغريبة التي يصعب تعقّلها وإدراكها، فلا يمكن الاستدلال بها أساساً.
    الجواب: إنّ أحاديث الطينة مستفيضة عند الفريقين؛ ولذا لا يمكن لأحد التشكيك في صدورها. وأمّا مجرّد الاستبعاد وصعوبة الفهم والتعقّل والإدراك، فإنّه ليس دليلاً على البطلان، وإلّا فإنّ أخبار الجنّة والنار بما لهما من الخصوصيات الغريبة والعجيبة أو أخبار السماء والملائكة، وكذلك أخبار نور النبي صلى الله عليه وآله الذي خُلق قبل ألفي عام كما في الروايات المتواترة من الفريقين، كلّها من الأحاديث التي يصعب إدراكها وفهمها، فهل يصحّ ردّها والحكم ببطلان مضامينها؟!
    وبهذا ننتهي إلى أنّ الله تعالى أولى الإمامَ الحسين علیه السلام عنايات متعدّدة، من قبيل: جعله من ذرّية الأنبياء، وجعله وآبائه في أرحام وأصلاب طاهرة، وخلقه من طينة طاهرة.
    -------------------------------------------------------------
    [1] الأنعام: آية 84 ـ 89.
    [2] آل عمران: آية 38 ـ 39.
    [3] العنكبوت: آية 27.
    [4] مريم: آية 58.
    [5] الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع: ج1، ص279.
    [6] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج3، ص167 ـ 169.
    [7] اُنظر: الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف: ج1، ص424.
    [8] اُنظر: القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج1، ص62.
    [9] اُنظر: العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي: ج1، ص60 ـ 61.
    [10] ابن المغازلي الشافعي، علي بن محمد، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام: ص 224.
    [11] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ج3، ص317.
    [12] اُنظر: الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج3، ص165ـ 166.
    [13] الأنعام: آية84 ـ 85.
    [14] اُنظر: الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف: ج3، ص546ـ 547.
    [15] البقرة: آية 133.
    [16] اُنظر: القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن: ج7، ص31.
    [17] المؤمنون: آية101.
    [18] الحديد: آية26.
    [19] الأنعام: آية83 ـ 87.
    [20] الشعراء: آية218ـ 219.
    [21] اُنظر: القمّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمّي: ج2، ص125.
    [22] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج15، ص3، ح2.
    [23] الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الكبير: ج11، ص287.
    [24] التوبة: آية28.
    [25] المفيد، محمد بن محمد، تصحيح اعتقادات الإمامية: ص139.
    [26] اُنظر: الماوردي، علي بن محمد، أعلام النبوة: ص233.
    [27] البقرة: آية127ـ 128.
    [28] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج15، ص117.
    [29] اُنظر: المفيد، محمد بن محمد، تصحيح اعتقادات الإمامية: ص139.
    [30] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان: ج4، ص90.
    [31] اُنظر: الهيثمي، نور الدين، مجمع الزوائد: ج7، ص86.
    [32] اُنظر: المسعودي، علي بن الحسين، مروج الذهب: ج2، ص 108.
    [33] اُنظر: اليعقوبي، حمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص14.
    [34] اُنظر: الماوردي، علي بن محمد، أعلام النبوّة: ص233.
    [35] الصدوق، محمد بن علي، الاعتقادات: ص111.
    [36] اُنظر: الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد: ص70.
    [37] الطبراني، سليمان بن أحمد، المعجم الأوسط:  ج5، ص80.
    [38] اُنظر: الحلبي، علي بن إبراهيم، السيرة الحلبية: ج1، ص49.
    [39] اُنظر: المصدر السابق.
    [40] ابن سعد، الطبقات الكبرى: ج1، ص20.
    [41] اُنظر: الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج5، ص244. أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة: ج2، ص937.
    [42] اُنظر: ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ دمشق: ج3، ص408.
    [43] التوبة: آية 114.
    [44] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج12، ص42.
    [45] البقرة: آية 133.
    [46] اُنظر: الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع: ج2، ص490.
    [47] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج15، ص22.
    [48] المغربي، النعمان بن محمد، شرح الأخبار: ج3، ص468ـ 469.
    [49] الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات: ص38.
    [50] اُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص2، باب طينة المؤمن والكافر.
    [51] الإسراء: آية20.
    [52] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان: ج2، ص130ـ 131.
    [53] الرعد: آية17.
    [54] اُنظر: القمّي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي: ج1، ص362 ـ 364.
    [55] الأنفال: آية23.
    [56] الكهف: آية80.
    [57] الأعلى: آية8.
    [58] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج4، ص282.
    [59] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص83 ـ84.
    [60] الآلوسي، أبو الفضل محمود، روح المعاني: ج1، ص139.
     
    {د. الشيخ علي حمود العبادي}
    المصدر : مؤسسة وارث الأنبياء 

  • 1

    توطئة
    أصبحت ظاهرة الإرهاب أعقد ظاهرة سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة يواجهها العالم الإسلامي، وقد ترعرعت في أحضان عملاء الاستعمار في المنطقة، وزُرِعت في البيئة العربيّة والإسلاميّة؛ فوجدت المناخ المناسب لها، وسقتها بعض الفِرَق بأفكارها التي تدَّعي انتماءها إلى الدين.
    ونتيجةً لتفاعل هذه الظاهرة ومساسها بحياة الناس، نتجت دراسات ومقالات وردود فكرية، تحدّثت عن جذورها التاريخيّة والسياسيّة والدينيّة.
    يتمحور هنا المقال حول تطرف الحركة الوهابيّة وإرهابها وأعمال العنف التي قامت بها من خلال هجومها على كربلاء. فاقتضى ذلك أن نبدأ بتعريف العنف والإرهاب لغةً واصطلاحاً، ثمّ دلالات الآيات القرآنيّة التي وردت فيها مفردة الإرهاب بمشتقاتها، والتفريق بين الجهاد والإرهاب.
     وبما أنّ البحث يرتبط بالوهابيّة تطرّقنا إلى التعريف بنشأة الوهابيّة: الاعتقاديّة والتاريخيّة، لنصل بعد ذلك إلى تفاصيل هجوم تلك الفئة على كربلاء والعنف الذي مارسوه آنذاك.تعريف الإرهاب
    أ ـ الإرهاب لغةً
    يعود المعنى اللغوي للإرهاب إلى كلمة (رَهِبَ).
    وقد قام علماء اللغة ببحث عدّة معانٍ لها، وهي كالآتي:
    1 ـ «رهب: الرَّهْبَة: الراء والهاء والباء أصلان، أحدهما يدل على خوفٍ، والآخر على دقة وخفَّة»[1].
    2 ـ «رهب: الرَّهْبَة والرُّهْبُ مخافةٌ مع تحرّز واضطراب، قال: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً)»[2].
    3 ـ «رهب: رَهِبَ، يَرهَبُ رَهْبَةً ورُهباً، بالضم، ورَهَباً، بالتحريك، أي: خاف. ورَهِبَ الشيء رَهْباً ورَهَباً ورَهْبَةً: خافه. وأرهَبَهُ ورَهَّبَهُ واسترهَبَه، أخافه وفزّعه»[3].
    4 ـ «الأرهاب(بالفتح) ما لا يصيد من الطير كالبغاث، والإرهاب (بالكسر) الإزعاج والإخافة»[4].
    ومما تقدّم يظهر المراد من الإرهاب، وهو: الإخافة، والإفزاع، والإزعاج.

    ب  ـ الإرهاب اصطلاحاً
    هناك خلاف كبير في تعريف الإرهاب وتحديد معناه، ومع ذلك فقد صاغ رجال الفكر، والسياسة، والاجتماع، والقانون، وربما الشريعة، تعاريف تُبيّن ماهية الإرهاب. نورد فيما يلي بعضاً منها:
    1ـ «الإرهاب: استخدام العنف غير القانوني أو التهديد به، بأشكاله المختلفة: كالاغتيالات، والتشويه والتعذيب، والتخريب والنسف، بُغية تحقيق هدف سياسي معين»[5].
    2ـ «الإرهاب: هو استعمال غير مشروع للقوة، في سبيل الوصول إلى غاية ما»[6].
    3ـ «الإرهاب: هو إحداث أثر سلبي يطال النفس البشرية؛ وذلك بإدخالها في حالة من الخوف والقلق، والرعب والتوتر، بما يؤدي إلى التأثير على اتجاهاتها وآرائها تجاه قضية ما»[7].
    4ـ «الإرهاب: استخدام جميع الوسائل والأساليب المشروعة، في بث الرعب في قلب العدو؛ من أجل أهداف معينة»[8].
    5 ـ «الإرهاب: هو كلّ استخدام، أو تهديد باستخدام عنف غير مشروع؛ لخلق حالة من الخوف والرعب؛ بقصد تحقيق التأثير، أو السيطرة على فرد، أو مجموعة من الأفراد، أو حتى المجتمع بأسره، وصولاً إلى هدف معيّن يسعى الفاعل إلى تحقيقه»[9].

    التعريف المختار
    إنّ التعريف الخامس من التعاريف المتقدّمة يشتمل على ما يلي:
    1ـ قيّد العنف بغير المشروع لا مطلق العنف، والذي قد يكون نتيجةً وردّ فعل لمِا يُستخدم ضدّ الضحيّة.
    2ـ استخدام العنف، أو التهديد به.
    3ـ ذكر الحالة النفسيّة التي يخلقها الإرهاب في نفس الضحيّة من الخوف والذعر.
    4ـ بيّن الجهة التي يطالها الإرهاب سواء كانت فرداً، أو مجموعة من الأفراد، أو حتى المجتمع بأسره.
    5ـ أشار التعريف إلى الجهة المنفّذة، أو الفاعل للعنف والإرهاب، بغض النظر عن هويته.
    6ـ لم يحصر التعريف هدف الإرهاب في جانب معيّن.
    7ـ هذا الحدّ وسّع من دائرة مفهوم الإرهاب، متجاوزاً التأثير على الضحيّة إلى السيطرة عليها ودخولها تحت رحمته[10].

    والتعريف الرابع كان لباحث إسلامي استنتجه من مصادره الشرعيّة التي يعتمد عليها، ويمكن أن تسجل بعض الملاحظات عليه:
    1ـ الإرهاب نتيجة وليس وسيلة في دفع العدو.
    2ـ لم يحدد العدو في ساحة القتال، أو في غيرها.
    لمِا تقدّم نرجّح التعريف الخامس.

    الاستعمال القرآني لمفردة الإرهاب
    وردت مشتقات لفظة (الإرهاب) في آيات مُتعددة من سور القرآن، حيث ذكر القرآن الكريم الفعل(رَهِبَ) في سبعة مواضع يهمّنا منها موردان:
    1ـ قوله تعالى: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّـهِ)[11]، بمعنى الخشية[12].
    2ـ قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ)[13].
     
    ولتوضيح المقصود من الآيتين الكريمتين ينبغي الالتفات إلى عدّة أُمور:
    الأوّل: إنّ الآية الثانية تأمر المؤمنين بأن يعدّوا القوة للكافرين، عند خوف خيانتهم وغدرهم، بمعنى: «وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيّها المؤمنون بالله ورسوله ما استطعتم من قوة»[14].

    الثاني: الأمر بإعداد القوة، هو نتيجة وليس سبباً، فهو ينشأ من خوف خيانة العدو.
    وبعبارة أُخرى: «إعداد القوة إنمّا هو لغرض الدفاع عن حقوق المجتمع ومنافعه الحيوية، والتظاهر بالقوة المعدّة ينتج إرهاب العدو، وهو أيضاً من شُعب الدفع ونوع منه، فقوله تعالى: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّـهِ وَعَدُوَّكُمْ)... يذكر فائدة من فوائد الإعداد الراجعة إلى إفراد المجتمع»[15].

    الثالث: تجدر الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم يأمر المسلمين بإعداد القوة:( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ). وهذا غير استخدام العنف غير المشروع، الذي يستهدف الأفراد والجماعات البشريّة، ويملأ الناس خوفاً وفزعاً، وبوسائل غير شريفة، وأهداف غير إنسانيّة، وهو ما نقصده في بحثنا هذا.

    الرابع: قوله تعالى: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّـهِ)، فإنّ الخوف الناشئ في نفوس المنافقين يرجع إلى جهلهم بحقائق الأشياء، فهم يخافون المؤمنين أشدّ من خوفهم من الله «يخافونكم ما لا يخافون الله؛ (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) الحق، ولا يعرفونه، ولا يعرفون معاني صفات الله»[16].
    فسبب هذه الرهبة التي للمؤمنين في صدور يهود بني النضير والمنافقين ليس بأعمال العنف، ولا استخدام المؤمنين للقوة والإرهاب على أرض الواقع. ومن هنا نخلص إلى أنّ الاستعمال القرآني للفظة الإرهاب الواردة في القرآن يتباين في الموضوع والوسائل والغرض مع الإرهاب الذي ذكرنا بعض تعريفاته.

    الجهاد ليس إرهاباً
    لم يكن الغرض من تشريع الجهاد الذي جُعِلَ الإرهاب مرادفاً له في المعنى عند المتطرّفين قتل النفوس، وإراقة الدماء، وتخريب البلاد، بل إنّ الغاية من تشريعه هي تحرير البلاد من الظالمين، الذين يُصادرون حريات شعوبهم، ويقفون سداً منيعاً أمام رسل الله؛ ويعارضون إخراج المجتمع من عبادة المخلوقين إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
    وقد سنّ الشارع قوانين وسنناً للمجاهدين؛ لكي يؤدوا وظيفتهم الرساليّة بشكل يصدّهم عن تجاوز منهج الحقّ والعدل، ويوقفهم على واجباتهم في هذا المضمار؛ حتى لا يختلط الجهاد بالإرهاب كما وقع فيه محمد بن عبد الوهاب وأتباعه.

    وإذا درسنا روايات الجهاد نجدها تُظهر وظائف المجاهدين في الميدان على مستويات مختلفة:
    1ـ نهيُ الإسلام عن الغدر بالعدو، فكانت من تعاليمه: «لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا»[17].
    فيجب على المجاهد أن لا يقاتل أحداً فضلاً عن غدره والفتك به غِيلةً عبر المتفجرات والسيارات الموقوتة حتى يبيّن له حقيقة الإسلام، ويدعوه إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
    قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم  لعلي عليه السلام  عندما بعثه إلى اليمن: «يا علي، لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله، لأن يهدي الله (عزّ وجلّ) علي يديك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت»[18].

    2ـ إنّ الإسلام في الوقت الذي أمر فيه بالجهاد، قرنه برعاية المثُل والأخلاق، ففي فتح مكّة، قال صلى الله عليه وآله وسلم : «مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن»[19].
    وقال أميرالمؤمنين عليه السلام  بعد ما فقأ عين الفتنة في البصرة، منادياً أصحابه بصوت عالٍ: «لا تسبوا لهم ذرية، ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبراً، ومَن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن»[20].
    ومع كلّ ما تقدّم حاول بعضٌ أن يُظهر الإسلام بهيئة الفتك، والعنف، والإرهاب، وما هو إلّا أحد اثنين: إمّا جاهل بالقيم والمثل الإسلاميّة العليا، وإمّا مغرض يُريد تشويه صورة الإسلام في أعين وأذهان الناس؛ ليصدّهم عن سبيل الله، من أجل أن يُطبّق مشروعاً استعمارياً في البلاد الإسلاميّة، الغاية منه الحدّ من الإسلام وتعاليمه بعد أن انتشر في ربوع المعمورة، وأصبح يهدد مصالح المستكبرين في العالم.
     فالأصل الأوّل في الإسلام: هو السلم ونبذ الإرهاب والعنف إلّا ما دعت إليه الضرورة، وهي تعتبر حالة استثنائية شرّع الإسلام فيها العنف إن جاز التعبير للضرورات الحتميّة التي تقتضي ذلك، مثل: الجهاد، والحدود، والتعزيرات، والقصاص، وبعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    نشأة الفرقة الوهابيّة
    تُنسب فرقة الوهابيّة إلى محمد بن عبد الوهاب بن سليمان النجدي، المولود سنة (1111هـ).
    درس مبادئ العلوم الدينيّة عند أبيه، ثمّ رحل إلى الحجاز، وبقيَ أشهراً، حضر عند بعض الشيوخ في المدينة المنورة أثناء إقامته فيها، ثمّ عاد إلى نجد، لكنّه لم يستقر فيها، فاستأنف الرحلة إلى البصرة، وحينما بدأ بنشر آرائه بين أهلها أنكروا عليه، وطردوه، فولّى هارباً، وعاد إلى نجد، وكان أبوه قد ترك العُيينة إلى بلدة (حريملة).
    وفى سنة (1143هـ) حينما أظهر محمد بن عبد الوهاب الدعوة إلى مذهبه الجديد، وقف بوجهه والده ومشايخه، فأبطلوا أقواله، فلم تَلقَ رواجاً، وقد سأم أهل (العُيينة) منه وطردوه من بلدتهم، فاتجه نحو (الدرعيّة)[21]. و«في سنة (1160هـ)وصل الشيخ إلى الدرعيّة، وكان أميرها آنذاك محمد بن سعود، جدّ السعوديين، وتمّ الاتفاق بين الشيخ والأمير، على أن يهب الشيخ نجداً وعربانها لابن سعود، ووعده أن تكثر الغنائم عليه، والأسلاب الحربية، التي تفوق ما يتقاضاه من الضرائب؛ على أن يدع الأميرُ الشيخ ما يشاء من وضع الخطط لتنفيذ دعوته، وتقول الرواة: إنّ الأمير السعودي بايع محمد عبد الوهاب على القتال في سبيل الله. وبعد أن شعر محمد بن عبد الوهاب بقوته عن طريق هذا التحالف، وأنّ الأمارة السعودية أصبحت تناصره وتؤازره، جمع الشيخ أنصاره وأتباعه، وحثّهم على الجهاد، وكتب إلى البلدان المجاورة المسلمة أن تقبل دعوته، وتدخل في طاعته»[22].

    عقيدة الوهابيّة
    «إنّ المبدأ الأوّل للوهابيّة، وشعارهم الوحيد: إمّا الوهابيّة، وإمّا السيف. فمَن اعتنقها سَلِم، ومَن أبى أُبيح دمه، وذُبحت أطفاله، ونُهبت أمواله، ومحال أن ينظر الوهابي إلى غيره إلّا بهذه العين المكفّرة المستحلّة للأرواح والأموال. قال الشيخ سليمان عبد الوهاب، أخو محمد عبد الوهاب... مخاطباً الوهابية: فأنتم تكفّرون بأقلّ القليل من الكفر، بل تكفّرون بما تظنون أنتم أنّه كفر، بل تكفرّون بصريح الإسلام، بل تكفّرون مَن توقّف عن تكفير من كفرتموه.
    و[حينما] ننظر إلى كتبهم، وما خطّوه بأيديهم، فإنّ الأمر يزداد وضوحاً... قال محمد عبد الوهاب مؤسس مذهب الوهابيّة...: ولا تنفعهم لا إله إلّا الله، ولا كثرة العبادات، ولا ادعاء الإسلام؛ لمِا ظهر منهم من مخالفة الشرع... وقال...: وإن قالوا: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنّه لا يخلق، ولا يرزق، ولا ينفع، ولا يضر إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً رسول الله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرراً، ولكن الصالحين لهم جاه عند الله، وأنا أطلب من الله بهم، فجوابه: إنّ الذين قاتلهم رسول الله مُقرّون بما ذكرت، ومُقرّون بأنّ أوثانهم لا تدبّر شيئاً، وإنّما أرادوا الجاه والشفاعة.
    وأيضاً قال...: وإذا قالوا: نحن نشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمداً رسول الله، ونصدّق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلّي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: إنّ الرجل إذا صدّق رسول الله في شيء، وكذّبه في شيء فهو كافر لم يدخل في الإسلام»[23].
    والوهابيّة في واقعها ليس هدفها الدين، والدفاع عن حريمه، وإنّما ذلك غطاء لهدف آخر هو: «تمزيق المسلمين، وإثارة الفتن والحروب فيما بينهم؛ خدمة للمستعمر الغربي. وهذا هو المحور الذى دارت حوله جهود الوهابيّة منذ نشأتها وحتى اليوم. فهو الأصل الحقيقي الذى سُخِّر له الأصل المُعلن؛ من أجل إغواء البسطاء وعوام الناس... ولقد أثبت المحققون في تاريخ الوهابيّة أنّ هذه الدعوة قد أُنشئت في الأصل بأمر مباشر من وزارة المستعمرات البريطانية»[24].

    هجوم الوهابيين على كربلاء
    «إنّ أعظم فاجعة من بعد وقعة الطفّ مرّت على كربلاء في التاريخ، هي غزو الوهابيين لها في عام (1216) من الهجرة»[25]. فقد دخلت أوباش ابن سعود بفتوى محمد بن عبد الوهاب التكفيريّة مدينة كربلاء، وعاثوا فيها الفساد، حتى دنّسوا الحرمين الطاهرين، وقتلوا مَن فيهما فسُميّت هذه الوقعة (بالطفّ الثانية)[26]. «وقد أدمت هذه الفاجعة العيون، وأوجعت قلوب المسلمين في مختلف أقطار الأرض، وهزّت العالم الإسلامي بأسره من أدناه إلى أقصاه؛ لأنّها جددت أرزاء كربلاء كما وصفها الشاعر الحاج محمد رضا الأزري (ت1240هـ):

    ونادى به نادي الصلاح مؤرِّخاً        لقد عاودتنا اليوم أرزاء كربلاء»(3).

    [27] وقد وصف الغارةَ السماوي بهذه الأبيات[28]:

    فشـدّ لا يُثنـي هـواه الثـاني         ومـزّق الكتـاب والمثـاني
    وهــدّم الشــباك والـرواقـا         واسـتلب الحـُلـيّ والأعلاقـا
    وقتــل النســاء والأطـفـال         إذ لـم يجـد في كربلاء رجالا
    لأنّهـم زاروا الغـديـر قصـداً       فأرخـــوه بغـــدير عــــدا

    مداهمة كربلاء
    قال (لونگريك) في وصف الغارة الوهابيّة المُنكرة على مدينة كربلاء: «انتشر خبر اقتراب الوهابيين من كربلاء في عشية اليوم الثاني من نيسان (1801م)، عندما كان معظم سكّان البلدة في النجف يقومون بالزيارة. فسارع مَن بقيَ في المدينة لإغلاق الأبواب، غير أنّ الوهابيين وقد قُدّروا بستمائة هجان وأربعمائة فارس نزلوا فنصبوا خيامهم وقسّموا قوتهم إلى ثلاثة أقسام. من ظل أحد الخانات هاجموا أقرب باب من أبواب البلد، فتمكّنوا من فتحه عسفاً ودخلوا، فدُهِشَ السكان، وأصبحوا يفرّون على غير هدى، بل كيفما شاء خوفهم.
    أمّا الوهابيون الخُشّن، فقد شقّوا طريقهم إلى الأضرحة المقدّسة، وأخذوا يخرّبونها، فاقتُلِعت القُضُب المعدنيّة، والسياج، ثمّ المرايا الجسيمة، ونُهبت النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشوات، والأُمراء، وملوك الفرس. وكذلك سُلِبت زخارف الجدران، وقُلِعَ ذهب السقوف، وأُخِذت الشمعدانات، والسجاد الفاخر، والمعلّقات الثمينة، والأبواب المرصّعة، وجميع ما وُجد من هذا الضرب، وقد سُحبت جميعها ونُقِلت الى الخارج»[29]. «وقُتِلَ زيادة عن هذه الأفاعيل قراب خمسين شخصاً بالقرب من الضريح، وخمسمائة أيضاً خارج الضريح في الصحن. وأمّا البلدة نفسها، فقد عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً، وقتلوا من دون رحمة جميع مَن صادفوه، كما سرقوا كلّ دار، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل، ولم يحترموا النساء ولا الرجال، فلم يَسلم الكلّ من وحشيّتهم ولا من أسرهم»[30]. «على أنّ الفاجعة الكبرى كانت على قاب قوسين أو أدنى، تلك الفاجعة التي دلّت على منتهى القسوة والهمجيّة، والطمع الأشعبي[31]، واستُعملت باسم الدين، وأنّ الجيوش الوهابيّة تحرّكت للغزو المختص بالربيع. فأرسل الكهية إلى الهنديّة إلّا أنّه ما كاد يغادر بغداد حتى وافت أخبار هجوم الوهابيين على كربلاء ونهبهم إيّاها، وهي أقدس المدن الشيعيّة وأغناها»[32].
    وجاء في كتاب تاريخ المملكة العربيّة السعوديّة ما نصّه: «في سنة (1216 هـ) سار الأمير سعود على رأس قوات كبيرة، جمعها من نجد والعشائر، والجنوب، والحجاز، وتُهامة، وغيرها، وقصد بها أهل العراق، وتمكّن جماعة من هذه القوة من الوصول إلى بلدة (كربلاء)، وحاصروها وتسوروا جدرانها، ودخلوها عنوةً، وقتلوا أكثر أهلها في الأسواق والبيوت، وخرجوا منها قرب الظهر، ومعهم أموال كثيرة، وارتحل القوم بعدها إلى الماء المعروف باسم (الأبيض)، فجمع سعود الغنائم، وعزل خُمسها، وقسّم الباقي بين جنوده، للراجل سهم، وللفارس سهمان، ثمّ عاد إلى وطنه الدرعيّة»[33].

    أسباب الهجوم الوهابي على كربلاء
    نستعرض فيما يلي الأسباب التي دعت آل سعود للهجوم على كربلاء، مستندين في ذلك إلى ما ورد من نصوص أرّخت لهذه الحادثة الأليمة، ومن خلال ذلك نستكشف الدافع الذي يقف وراء الهجوم الوهابي على كربلاء المقدّسة، ونمط الإرهاب الذي مارسته الوهابيّة في ذلك الهجوم الغاشم.

    1 ـ الميول الدنيويّة، والبيئة البدو يّة المعتمدة على الغزو في عيشها                
    يرصد القارئ ما كتبه أحد المستشرقين في هذا المجال، حينما يتكلّم عن الوهابيّة آنذاك: «لم تكن أعراب نجد تختلف في العقيدة والمذهب عن بقيّة المسلمين، إلى أواخر القرن الثاني عشر الهجري، حين نشر محمد بن عبد الوهاب تعاليمه الجديدة، التي جاءت موافقة لميول أُمّة بدويّة تعيش على الفطرة، معتمدة على الغزو في عيشها، ولاقت قبولاً حسناً من محمد بن سعود أميرهم»[34].
    يُريد أن يُرجع سبب غزو الوهابيّة لكربلاء على حدّ تعبيره إلى البيئة التي كان تعيش فيها الوهابيّة من جهة، وإلى الرغبة في التوسع، والتحكم في البلدان، والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها من قبل الأمير محمد بن سعود من جهة أُخرى، ومَن يُراجع تاريخه وتطلعاته لا يشكّ في ذلك.
    نوافق المستشرق في أنّ الميول الدنيويّة لأميرهم، كانت وراء كلّ غزوة غزاها ابن سعود في نجد وما قاربها، ويدلّ عليه ما جاء في كتاب (تاريخ العربيّة السعوديّة بين القديم والحديث): «وكان الانشغال الوهابي في بلاد ما بين النهرين يتركّز على أخذ الغنائم من هذه الأقاليم الغنيّة»[35].
    ولكن لا نوافقه على أنّ البيئة التي كان تعيش فيها الوهابيّة، هي التي ولّدت هذا النوع من القسوة، والعنف، والإرهاب، ولعلّ هذا ما ذهب إليه ابن خلدون تحت عنوان (الحتميّة الجغرافيّة)؛ حيث أرجع بعض التصرّفات إلى عامل البيئة ودورها في التأثير على تكوين شخصيّة الفرد فيها.
    وهذه النظرية يمكن دحضها بسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحابه، وهم من نفس البيئة، بل أشدّ منها، مما يدلّ على أنّ البيئة ليست علّة تامّة، على أنّ كثيراً من الإرهابيين الجدد ينحدرون من بلدان ذات طبيعة جميلة.

    2 ـ ضعف جبهة المواجهة لمدينة كربلاء
    وهذا السبب يتألف من عدّة نقاط:
    الأُولى: قلّة العدّة والعدد
    كانت الهجمة الشرسة في يوم الغدير، وهو في العادة يوم توجه الزائرين من مختلف أنحاء البلاد الإسلاميّة لزيارة أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن ضمن هؤلاء الزوّار أهالي كربلاء المقدّسة، فلم يبقَ في المدينة إلّا القليل من الرجال، والأطفال، والشيوخ، والنساء، وبعض الزوار.
    يوافينا (لونگريك) بوثيقة تُبيّن أسباب الهجوم على كربلاء المقدّسة: «انتشر خبر اقتراب الوهابيين من كربلاء في عشيّة اليوم الثاني من نيسان (1801م)، عندما كان معظم سكان البلدة من النجف يقومون بالزيارة، فيسارع مَن بقيَ في المدينة لإغلاق الأبواب، غير أنّ الوهابيين وقد قُدّروا بستمائة هجان وأربعمائة فارس نزلوا...»[36].
    ويقول (لويس دوكورانسي): «انتظر عبد العزيز حلول العيد لمحاولة الاستيلاء على البلدة، وقام بتنفيذ خطّته في (2 نسيان 1801 م)، وكان ذلك يوم الحجّ إلى مقام علي، فكانت البلدة شبه مُقفرة»[37].

    الثانية: ضعف التحصينات الدفاعية
    «وكان سور المدينة يعني كربلاء مركبّاً من أفلاك نخيل مرصوصة خلف حائط من طين»[38].

    الثالثة: خيانة الحامية العثمانيّة وتأخّر التعزيزات العسكريّة
    «ذكر السائح الهندي ميرزا أبو طالب خان وكان قد زار كربلاء بعد الواقعة أنّ الناس كانوا يتّهمون عمر آغا حاكم البلدة، بأنّه كان متواطئاً مع الوهابيين، وقام بمكاتبتهم، ولم يعمل شيئاً لحماية البلدة، والثابت أنّه هرب إلى قرية قريبة من كربلاء أوّل ما عَلِم بالخطر، فلم يدافع قطُّ، وقد قتله سليمان باشا أخيراً»[39].
    وهناك وثيقة أُخرى تدلّ على هذا الأمر «لم يكد يستقرّ به [الوالي العثماني] المقام في الخالص حتى وصله نبأ شيخ المنتفق حمود الثامر، يعلمه بأنّ جيشاً وهابياً قادماً نحو العراق؛ يريد الانتقام لحادثة النجف [وقد كان وقع قتال بين الوهابيّة وأهالي النجف، وقُتل مجموعة من الوهابيّة في النجف]. لم يكن الوالي على وضع يؤهله لمواجهة خطر، فترك الأمر للكهية [وزير الباشوات العثمانيين] علي باشا، والظاهر أنّ هذا الكهية لم يكن متحمّساً للأمر، أو راغباً فيه من أعماق قلبه، فخرج من بغداد، ولكنّه توقّف في موقع الدورة، زاعماً أنّه ينتظر التحاق العشائر به، وبينما كان على وشك مواصلة السفر من هناك، جاء الخبر بالكارثة نتيجة الهجوم الوهابي على كربلاء»[40].
    لا ينبغي الشكّ في أنّ بعض الدواعي والأسباب تحتلّ الصدارة في تحريض هجوم الوهابيّة، وبعضها الآخر يحصل على الرتبة الثانية أو الثالثة، وربما لا يرقى إلى أيّ نسبة من الاهتمام، وأعتقد أنّ هذه النقطة المتقدّمة التي عدّها بعضٌ من أسباب الهجوم الوهابي على كربلاء، لا ترقى لتحريك الوهابيّة نحو كربلاء، فضلاً عن كونها سبباً للهجوم، ولـمَن تابع أخبار الوهابيّة في الهجوم على كربلاء بعد هذه الوقعة الأليمة، أو هجومهم على النجف الأشرف، يجد خير دليل على انخفاض نسبة هذا السبب في تحريض الوهابيّة على الهجوم على كربلاء المقدّسة.
    ومما يدلّ على ذلك ما جاء في (تراث كربلاء): «وقد صارت كربلاء بعد هذه الحادثة في حال يُرثى لها... وفي أوائل القرن التاسع عشر زار المدينة أحد ملوك الهند، فأشفق على حالها... وبنى للبلدة سوراً حصيناً؛ لصدّ هجمات الأعداء، وأقام حوله الأبراج والمعاقل، ونُصبت له آلات الدفاع على الطراز القديم، وصارت على مَن يهاجمها أمنع من ذي قبل»[41].
    ومع ذلك عاودت الوهابيّة الهجوم، ولم تترك كربلاء، وقامت بحرق مزارعها، وقتل الزائرين الذين كانوا متوجّهين لزيارة الإمام الحسين عليه السلام ، إلّا أنّهم لم يتمكنوا من دخول المدينة؛ بسبب استعداد أبنائها بعد أن علموا بأنّ هؤلاء النكرة متوجّهين للهجوم على مدينتهم.
    وبعد فشل حملتهم استعدوا لحملة أُخرى للهجوم، لكنّهم فشلوا أيضاً؛ بسبب تقوية أسوار المدينة، وكانت هذه الحملة عام (1220هـ)[42].
    فلو كان ذلك هو السبب في الهجوم لمَا تجرّؤوا على الهجوم مرّات بعد وقعة الطفّ الثانية.
    وأمّا خيانة الحامية العثمانيّة على كربلاء، وهروب حاكم المدينة، وتأخر الجيش العثماني، فهو الآخر لا يملك رصيداً من القوة؛ لوضعه تحت قائمة أسباب الهجوم على كربلاء المقدّسة.
    والسبب واضح جداً كما يظهر من هذه الوثيقة التي جاءت في كتاب (لونگريك) ما نصّها: «كان ابن سعود هذا ذا قوّة عظيمة في الجزيرة، فأصبحت منذ ذلك الحين تُعرَف إمبراطورية ابن سعود النجديّة بالعقيدة الوهابيّة، وقد توسعت غزواتهم الدينيّة في جميع الجهات. وقد أصبح العراق من قبل (1205هـ) يحس بوجود جار حديث غير مستقر»[43].
    فقد تكرّرت هجماتهم على حدود الدولة العثمانيّة آنذاك، ولم يأتِ الصلح المنعقد معهم في بغداد في عام (1214هـ) بنتائج نافعة للمنطقة.
    علاوة على أنّ المدّ الخفي للاستعمار البريطاني الذي كان يُنازع الإمبراطورية العثمانيّة بشتى الوسائل، ومختلف الطرق، ومنها إيجاد مذهب جديد في المنطقة ينافس التوجه الديني للعثمانيين، وكلّ مَن اطّلع على تاريخ الحركة الوهابيّة تبيّن له علاقة محمد ابن عبد الوهاب مع أزلام الاستعمار البريطاني في البصرة وإصفهان، وحتى في نفس الجزيرة العربيّة، ومداومة ذلك فيما بعد من رجال جُدد، فنخلص إلى أنّ هذه النقطة ذات الشُعب الثلاث، لا تُعدّ سبباً من أسباب الهجوم الوهابي على كربلاء المقدّسة.
    ولا يخفى على اللبيب أنّ التوسع الوهابي لا يتمّ إلّا بإزاحة العدو القريب منه، وهم العثمانيون، فكيف يقبل مقولة أنّ حاكم كربلاء العثماني قد تواطأ معهم في الهجوم عليه؟!
    ويؤيد ذلك هذه الوثيقة: «من عبد العزيز إلى قبيلة... واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أُرسل لكم، لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله»[44].

    3 ـ قتال المشركين واستباحة أموالهم
    ليس من الغريب أن يسمع إنسان مسلم شيعي أو سني في القرن الثامن عشر، بأنّ أُناساً في بلاد المسلمين، لا يعرفون من التوحيد شيئاً، ولا يرون التوحيد الحقيقي إلّا اتّباع الحركة الوهابيّة بعد ظهورها، وعليه لا بدّ أن يُدعى المسلمون لدين جديد، هو دين محمد بن عبد الوهاب، ومناصرة دنيا ومُلك ابن سعود.
    قال ابن عبد الوهاب لابن سعود: «إنّي أرجو إن أنت قمت بنصر (لا إله إلّا الله) أن يظهرك الله، وتملك نجداً وأعرابها»[45].
    وكأنّه لا يرى من أهل القبلة أحداً يقول أو ينصر (لا إله إلّا الله).
    وبدأ المشروع التوسعي تحت غطاء ديني، ولكنّه بلباس جديد، وأحكام من متبنيّات محمد بن عبد الوهاب؛ لأنّه تنكّر لعقائد المسلمين جميعاً حتى لمذهبه الذي كان عليه، فخالف إمامه أحمد بن حنبل.
    وقد أعطى بذلك ـ لأتباعه من أجلاف وعتاة نجد ـ الحجّة لغزو كلّ مَن خالفهم باعتبارهم مشركين، تحلّ دماؤهم، وأموالهم، ونساؤهم[46].
    وإليك أيّها القارئ العزيز وثيقة أُخرى من أميرهم سعود في تكفير الشيعة بالخصوص، وكان قد بعثها إلى علي باشا يطلب بها الصلح من العثمانيين، ما نصها: «من سعود العبد العزيز إلى علي، أمّا بعدُ، ما عرفنا سبب مجيئكم إلى الحسا، وعلى أيّ منوال جئتم، أمّا أهل الحسا فهم أرفاض ملاعين، ونحن جعلناهم مسلمين بالسيف
     [ إلى أن يقول:] فالآن مأمولنا المصالحة، فهي خير لنا ولكم، والصلح سيّد الأحكام»[47].
    وهل توجد صراحة أكثر من هذه الرسالة تُبيّن دين مَن خالفهم، ولم نكن نعلم قبل الوهابيّة أنّ أهل الحسا كفار أو مشركون.
    وهذه وثيقة أُخرى من أقرب الناس إلى محمد بن عبد الوهاب، وهو أخوه سليمان، إذ كتب المؤرِّخ الحجازي زيني دحلان: «وقال له سليمان [لمحمد بن عبد الوهاب] يوماً: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ فقال: خمسة، فقال: بل أنت جعلتها ستة، السادس: مَن لم يتبعك فليس بمسلم. هذا ركن سادس عندك للإسلام»[48].
    وهذا ابن سند البصري يوافيك في وصف الحركة الوهابيّة وكان معاصراً لها تقريباً بقوله: «... ولولا ما في الوهابيّة من هذه النزعة أعنى نزعة تكفير مَن عداهم تملّكوا جميع بلاد الإسلام، وأدخلوهم تحت حكمهم بطوعهم واختيارهم، ولكن بسبب هذه النزعة أبغضتهم الأُمم، وتسلّطت عليهم الدول»[49].
    أمّا العثمانيون بنظر الحركة الوهابيّة، فهم وثنيون، كما يُعبّر عبد العزيز في رسالة له إلى قبيلة من القبائل، يدعوها إلى إسلام محمد بن عبد الوهاب: «من عبد العزيز إلى قبيلة... واجبكم يدعوكم إلى الإيمان بالكتاب الذي أُرسِل لكم، لا تكونوا وثنيين كالأتراك الذين يشركون بالله، إذا آمنتم نجوتم، وإلّا فنقاتلكم حتى الموت»[50].
    وهذا عامل آخر للهجوم على كربلاء المقدّسة التي كانت تحت النفوذ العثماني، إضافة إلى كون قاطنيها الشيعة أرفاض ملاعين كما يدّعي.
    ومن قبلُ فقد: «توافقت رغبة محمد بن عبد الوهاب، الذي ينشد الدعم العسكري، ورغبة الأمير الطموح، الذي ينشد الدعم الديني في توحيد جهودهما، وتمّ التحالف المنشود»[51].
    وكانت هذه الدعوة الجديدة تحتاج إلى فرصة مؤاتية تقتضيها التحضيرات للهجوم على كربلاء، واستغلال الوقت والحال المناسب للغزو، ومما شجع الوهابيين الأنباءُ التي وردت عن دخول جيش نابليون إلى مصر في عام (1798م).
    وعجز الباب العالي أمام الغازي الفرنسي. وبتتابع الأحداث وفي عام (1801م)حلّ الإنجليز محلّ الفرنسيين في مصر، والتي كانت تناكف الإمبراطوريّة العثمانيّة لبسط الهيمنة على أرجاء العالم. فغدت الجزيرة العربيّة طرفاً بعيداً عن مسرح العمليّات الحربيّة الرئيس، وهذا ما أطلق يد الوهابيين في مواصلة توسعهم خارج نجد، فاختمرت فكرة الهجوم على كربلاء؛ لنهبها وسلبها، والقضاء على مشركيها، وهدم صرح الشرك والضلال والكفر بزعم الوهابيّة[52].
    وطبق النظرة العسكرية للغازي، هجمت الوهابيّة على كربلاء في ربيع (1801 أو 1802م) على اختلاف التواريخ ـ  في جيـش قوامه على أقلّ التقديرات (12) ألفاً بين فارس وهجان ـ على حين غرة من أهلها وفي يوم الغدير. وقد «انتظر عبد العزيز حلول موعد العيد؛ لمحاولة الاستيلاء على البلدة، وقام بتنفيذ خطته في (2 نسيان 1801م)، وكان ذلك يوم الحج إلى مقام علي، فكانت البلدة شبة مقفرة»[53].
    وفعلوا فعلتهم التي أدانها القريب والبعيد، وسُطِّرت في كتبهم، وتداولوا الحديث عنها في أنديتهم.
    كلّ ما قدّمناه من وثائق لسبب الهجوم على كربلاء كان قبل الواقعة، أمّا وثائق ما بعد الواقعة، فتؤكد أنّ السبب في الهجوم كان سببه فكرة تكفيريّة للشيعة، وأنّ كربلاء بلاد الشرك والضلال:

    الوثيقة الأُولى:قول أمير الوهابيّة بعد أن خرج من كربلاء، وفعل فعلته النكراء متبجحاً: «لو لم نكن على الحق لمَا انتصرنا»[54]. وفيها دلالة واضحة على الرؤية الطائفية التي يتمتع بها هذا الرجل مع كل ما ارتكبه من قتل ونهب وتخريب في بلاد الإسلام والمسلمين.

    الوثيقة الثانية: جاء في تاريخ العربيّة السعوديّة: «عندما كان الوهابيون يحتلّون واحة أو مدينة، يحطّمون الشواهد والأضرحة على قبور الأولياء والصالحين، ويحرقون كتب الفقهاء الذين يختلفون معهم»[55].
    وهذا ما وقع حقيقةً بعد سيطرتهم على كربلاء؛ إذ اتجهوا نحو الضريحين المقدّسين وخرّبوهما، ونهبوا كلّ ما فيها بعد قتل كلّ أو أغلب مَن التجأ إليهما واحتمى بهما. وهل يجوز احتلال بلاد المسلمين؟! إلّا أنّ الوهابيّة يعتبرون كربلاء بلد كفر وأوثان، وهذا الأمر ليس من نسج الخيال، أو من حكايات الحكواتي، فإنّك تجد اليوم الامتداد لهذا النهج من داعش وأمثالهم.

    الوثيقة الثالثة: تقسيم الغنائم حسب الحكم الشرعي، خُمسه لأميرهم، والباقي للغزاة: للفارس سهمان، وللهجان سهم.
    جاء في كتاب تاريخ المملكة العربيّة السعوديّة تحت عنوان (مداهمة كربلاء): «في سنة (1216هـ)، سار الأمير سعود على رأس قوات كبيرة جمعها في نجد، والعشائر، والجنوب، والحجاز، وتُهامة، وغيرها، وقصد أهل العراق، وتمكّن جماعة من هذه القوة، من الوصول إلى بلدة (كربلاء)، وحاصروها وتسوّروا جدرانها، وخرجوا منها قرب الظهر... فجمع سعود الغنائم وعزل خمسها، وقسّم الباقي بين جنوده: للراجل سهم، وللفارس سهمان»[56].

    وهل يوجد أدّل من تقسيم الغنائم على هذا النحو في غير أموال المسلمين؟
    إذاً، فالإرهاب الوهابي على كربلاء كان من نتائج الفكر الوهابي التكفيري، المبتني على عقائد محمد بن عبد الوهاب في تكفير المسلمين، وإن كان الهدف الذي يصبُّ في خدمة التوسع السياسي والسلطوي لا يُغفل في الهجوم على كربلاء المقدّسة.
    إذاً، إرهاب الوهابيّة نمط من الإرهاب استغل اسم الإسلام، ولا زال العالم الإسلامي يعيش تبعاته إلى اليوم، وأخبار العراق والشام واليمن شاهد حي على الفكر التكفيري، الذي زُرِع في قلب الإسلام للنيل منه، وإظهاره بأبشع صورة يتنفّر منها الطبع الإنساني؛ بُغية خدمة الأغراض التي تصبُّ في صالح اليهود والاستعمار؛ لوقف التمدد الطبيعي للإسلام البديل الحتمي للأنظمة الأُخرى بعد أن عانت الشعوب في ربوع المعمورة من الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وفقد العدل وتحوّلت البلدان إلى غابات بصور آدميين.
    -------------------------------------------------------------------------------------
    [1] ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج2، ص447.
    [2] الراغب الإصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن: ص230.
    [3] ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب: ج5، ص337.
    [4] الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس: ج1، ص281.
    [5] الكيالي، عبد الوهاب، موسوعة السياسة: ج1، ص153.
    [6] مصباح ذباره، مصطفى، الإرهاب مفهومه وأهم جرائمه في القانون الدولي والجنائي: ص44.
    [7] الأسود، شعبان طاهر، علم الاجتماع السياسي: ص98.
    [8] عبد السلام، هيثم، مفهوم الإرهاب في الشريعة الإسلاميّة: ص42.
    [9] حريز، عبد الناصر، النظام السياسي الإرهابي الإسرائيلي: ص26.
    [10] المصدر السابق.
    [11] الحشر: آية13.
    [12] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج19، ص212.
    [13] الأنفال: آية60.
    [14] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان: ج10، ص39.
    [15] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن: ج9، ص117.
    [16] الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن: ج9، ص568.
    [17] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج15، ص69.
    [18] المصدر السابق: ص43.
    [19] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج21، ص117.
    [20] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج15، ص27.
    [21] اُنظر: مغنية، محمد جواد، هذه هي الوهابيّة: ص123.
    [22] السبحاني، جعفر، في ظل أُصول الإسلام: ص343.
    [23] مغنية، محمد جواد، هذه هي الوهابيّة: ص77 ـ  79.
    [24] لجنة التأليف في مركز الغدير، الوهابيّة في صورتها الحقيقية: ص19ـ 20.
    [25] الكليدار، عبد الجواد، تاريخ كربلاء وحائر الحسين عليه السلام : ص208.
    [26] اُنظر: زميزم، سعيد رشيد، الهجمات على كربلاء: ص56.
    [27] الكليدار، عبد الحسين، تاريخ كربلاء المعلى: ص20 22.
    [28] السماوي، محمد، مجالي اللطف بأرض الطفّ: ص309  ـ 310.
    [29] المصدر السابق: ص260ـ 261.
    [30] المصدر السابق: ص260.
    [31] وأشعب: اسم رجل كان طمّاعاً. وفي المثل: أطمع من أشعب. الجوهري، الصحاح: ج1، ص157.
    [32] ستيفن هيمسلي، لونگريك، أربعة قرون من تاريخ العراق: ص161، وص262.
    [33] زميزم، سعيد رشيد، الهجمات التي تعرضت لها كربلاء عبر التاريخ: ص56، نقلاً عن كتاب تاريخ المملكة العربيّة السعوديّة: ج1،ص73.
    [34] الكليدار، عبد الجواد، تاريخ كربلاء وحائر الحسين عليه السلام : ص208.
    [35] الرشيد، مضاوي، تاريخ العربيّة السعوديّة بين القديم والحديث: ص28.
    [36] ستيفن هيمسلي، لونگريك، أربعة قرون من تاريخ العراق: ص259.
    [37] لويس دوكورانسي، الوهابيون (تاريخ ما أهمله التاريخ): ص77.
    [38] الكليدار، عبد الحسين، تاريخ كربلاء المعلى: ص22.
    [39] خان، أبو طالب (رحلات في آسيا وأوروبا وأفريقيا)، نقلاً عن ستيفن هيمسلي، لونگريك، حاشية ص215.
    [40] الوردي، علي، لمحات اجتماعية: ص189.
    [41] آل طعمة، هادي، تراث كربلاء: ص371.
    [42] اُنظر: زميزم، سعيد رشيد، الهجمات التي تعرضت لها كربلاء عبر التاريخ: ص63.
    [43] اُنظر: ستيفن هيمسلي، لونگريك، أربعة قرون من تاريخ العراق: ص261.
    [44] لويس دوكورانسي، الوهابيون (تاريخ ما أهمله التاريخ): ص62.
    [45] الآلوسي، محمود شكري، تاريخ نجد: ص106ـ  108.
    [46] اُنظر: الوردي، علي، لمحات اجتماعية: ج1، ص180.
    [47] المصدر السابق: ص186.
    [48] اليكسي فاسيليف، تاريخ العربيّة السعوديّة: ص106. اُنظر: درويش، تاريخ السعودية: ص26 ـ27.
    [49] الوردي، علي، لمحات اجتماعية: ج1، ص81 82.
    [50] لوس دوكورانسي، الوهابيون (تاريخ ما أهمله التاريخ): ص62.
    [51] اليكسي فاسيليف، تاريخ العربيّة السعوديّة: ص131.
    [52] اُنظر: المصدر السابق: ص132.
    [53] لويس دوكورانسي، الوهابيون (تاريخ ما أهمله التاريخ): ص77.
    [54] البصري، عثمان، مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داوُد: ص74. واُنظر: محب الدين الخطيب، أمين ابن حسن، خمسة وخمسون عاماً في تاريخ العراق: ص74.
    [55] اليكسي فاسيليف، تاريخ العربيّة السعوديّة: ص113.
    [56] زميزم، سعيد رشيد، الهجمات التي تعرضت لها كربلاء عبر التاريخ: ص56، نقلاً عن كتاب تاريخ المملكة العربيّة السعوديّة: ج1، ص73.

    {الشيخ ماهر الحكاك}
    المصدر : مؤسسة وارث الأنبياء

  • 1

    (تبكيك عيني لا لأجل مثوبة ٍ)
    هذه القصيدة العصماء من نظم. العالم الكامل المرحوم الشيخ محمد علي الأعسم (ره) مواليد النجف 1154 توفي في النجف الأشرف سنة 1233 ودفن في المقبرة التي هي لآل الأعسم في الصحن الشريف.
    بسم الله الرحمن الرحيم
    اللهم صلّ على محمد وآل محمد
    لهذه القصيدة قصة نسمعها عن لسان آلشاعر :
    كنت شابا آنذاك معروف بخلق الحسن وملتزماً في ديني قد كتبت قصيدة رثاء بحق الامام الحسين (ع)
    والتي مطلعها :

    قد أوهنت جلدي الديارُ الخالية  ***  من أهلها ما للديارِ وماليه

    وعند انتهائي منها أريتها لوالدي العلامة الشيخ ابراهيم علي الاعسم قبل ان أسلمها للخطباء والراثين حيث انه كان لا أعطي نظمِ في رثاء اهل البيت للخطباء قبل ان أعرضها على والدي فكان راي الوالد وهو رجل يملك من الثقافة الدينية والوعي الفكري فكان رده لي ان لايعرضها للخطباء لانها فيها وزنا كا البحر صعب الخوض فيه وادراكه فتألمت من رد الوالد واخذ على عاتقه التزام الهدوء فأخذها مني ثمّ صعد فصلى ووضعها تحت مصلاه فما كان إلاّ أن طُرق الباب سحراً وإذا بالخطيب الشيخ محمد علي القارئ وهو صديق لـوالدي وافضل الخطباء في عصره وكان ممتازا بانشاد الشعر الحسيني في محافل الحسين (ع) قال : إني رأيت البارحة كأني دخلت الرّوضة الحيدرية فرأيت أمير المؤمنين (ع) جالساً فسلمتُ عليه فخاطبني وأعطاني ورقة فيها قصيدة وقال : اقرأ لي هذه القصيدة في رثاء ولدي الحسين فقرأتها وهو يبكي فانتبهت وأنا أحفظ منها هذا البيت :

    قست القلوب فلم تمِلْ لهداية ٍ  ***  تبّاً لهاتيكَ القلوبِ القاسية

    فتعجّب والدي وأخرج له الورقة التي تحت مصلّاه فدهش الشيخ محمد علي القارئ وقال : واللَّه إنها نفس الورقة بل هي التي أعطانيها أمير المؤمنين (ع).

    عند ذالك ادرك والدي رحمه الله بأن قصيدة ولده مقبولة عند الامام (ع) ولذالك عرفت هذه القصيدة بالقصيدة المقبولة فاخبرني بكل ما حدث وطلب منه ان تقرأ في مصاب الحسين وقد اشتهرت منذ ذالك الحين وهذه... هي آلقصيده :

    قـد أوهنت جَلَدي الدّيارُ الخالية  ***  مـن أهـلـهـا ما للدّيارِ وماليهْ
    ومـتى سألتُ الدّارَ عن أربابها  ***  يُـعِـدُ الصّدى منها سؤالي ثانيه
    كـانت غياثاً للمنوب فأصبحت  ***  لـجـميعِ أنواعِ النّوائبِ حاويه
    ومـعـالمٌ أضحت مآتمَ لا تَرى  ***  فـيها سوى ناعٍ يجاوِبُ ناعيه
    وردَ الحسينُ إلى العراقِ وظنّهم  ***  تـركوا النِّفاقَ إذا العراق كماهيه
    ولـقـد دعَـوهُ لـلعَنا فأجابهم  ***  ودعـاهُـمُ لـهدى ً فردُّوا داعيه
    قـسَـتِ القلوبُ فلم تَمِلْ لهداية ٍ  ***  تـبّـاً لـهـاتيكَ القلوب القاسيه
    مـا ذاقَ طعمَ فراتِهِمْ حَتّى قضى  ***  عـطـشـاً فغُسِّلَ بالدّماء ِ القانيه
    يـابنَ النبيّ المصطفى ووصيِّهِ  ***  وأخا الزكيِّ ابنَ البتولِ الزاكيه
    تـبـكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبة ٍ  ***  لـكـنّـمـا عيني لأجلِكَ باكيه
    تـبـتـلُّ مـنكم كربلا بدمٍ ولا  ***  تـبـتـلُّ منِّي بالدّموعِ الجاريه
    أَنْـسَـتْ رزيـتُكُم رزايانا التي  ***  سـلـفت وهوّنت الرزايا الآتيه
    وفـجـائـعُ الأيـامِ تـبقى مدّة ً  ***  وتزولُ وهي إلى القيامة ِ باقيه
    لـهـفـي لِـرَكـبٍ صُـرعُـوا في كربلا  ***  كـانـت بِـهـا آجـالُـهُـم مُـتـدانِـيَه
    نَـصـروا ابـنَ بـنـت نـبيَّهُم طُوبى لَهُم  ***  نـالُـوا بـنـصـرتِـهِ مَـراتِـبَ ساميه
    قَـدْ جـاوروه هـاهُـنـا بـقـبـورِهـم  ***  وَقُـصُـورُهُـم يـومَ الـجَـزا مُـتَـحاذِيَه
    وَلقدْ يَعِزُّ عِلى رَسولِ اللهِ أن  ***  ْتُسبَى نِساهُ إلى يَزيدَ الطاغِيَه
    وَيَرَى حُسيناً وَهوَ قُرَّة ُ عَينِه  ***  ِوَرِجَالَهُ لم تَبْقَ مِنهُم بَاقِيَه
    وَجُسومُهُم تَحتَ السَنابِكِ بِالعَرَى  ***  وَرُوؤسُهُم فَوقَ الرِمَاحِ العَالِيَه
    وإذْ أَتَتْ بِنتُ النَبِيِّ لِرَبِّهَا  ***  تَشكُو وَلا تَخفَى عَليهِ خَافِيَه
    رَبِّ انتَقِم مِمَّنْ أَبَادُوا عِترَتِي  ***  وَسَبَوا عَلى عُجُفِ النِياقِ بَنَاتِيَه
    وَاللهُ يَغضَبُ لِلبَتولِ بِدونِ أنْ  ***  تَشكُو فَكيفَ إذَا أَتَتهُ شَاكِيَه

    ***************************
    من اجلك يامولاى ياأبا عبدالله نشرتها فاذكرني يوم آخرتي فداك روحي.

  • 1

    ﴿... وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ (1) .
    يحرص القرآن الكريم في إيراده لقصص الأقوام على التركيز على عواقب الأمور ، فيؤكد دائما أن ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (2) ، ولكي لا يعمي الواقع الراهن أبصار الناس بزخارف أصحاب المال ومظاهر قوة ذوي السلطان ، فإنه يأمر الناس بأن يسيروا في الأرض فينظروا لا إلى الآثار وإنما إلى العاقبة والنهايات ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ (3) .
    ذلك أن المشكلة التي تعترض الكثير من الناس هو أنهم يريدون أن يروا النتائج عاجلة ، فييأسوا مع تأخرها من نصر الله ، بينما ينصحهم القرآن بأن ينظروا إلى سنن الله في الذين خلوا من قبل ، وهذه السنة لن تخطئ من يعاصرونهم من الظالمين والمجرمين .
    وفي قضية كربلاء شاهد صدق على سنة الله في الظالمين , وبرهان حق على أن ﴿... وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ (4) . انظر إلى تأريخ القتلة والمشاركين في الظلم ، لم يمر عقد من الزمان إلا وقد تنشبت بهم أنياب أعمالهم فأصبحوا في وهق خطاياهم السابقة . وهلكوا غير مأسوف عليهم من أحد .
    وهذه النتائج لأولئك الأشخاص الذين قاموا بالجرائم حرصا على دنياهم ورغبة في بقائهم ، فلا متع الدنيا حصلوا عليها ولا البقاء أتيح لهم ، فكما قلنا ما مر عقد من الزمان إلا وقد ابتلعت الأرض أجسادهم ، وفرقت عن الأجسام رؤسهم . بل ربما لو لم يرتكبوا تلك الجرائم لحصلوا على متع من الدنيا كثيرة ، ولعمروا أكثر مما صاروا إليه .
    يزيد بن معاوية بن أبي سفيان : المسؤول الأول عن قتل الإمام الحسين عليه السلام...عجيب أن كتب التأريخ قد أغفلت كيفية هلاكه ، وكأن ذلك كان عقاب التأريخ لمن قام بما قام به من أجل أن يبقى فإذا به في بدايات عمره من حيث السن (38 سنة) يهلك بنحو يختلف فيه حتى عاد أمر هلاكه مجهولا . فقد نقل في ترجمة اللهوف (إلى اللغة الفارسية) ما حاصله : أنه قد خرج للصيد فاعترضه غزال وظل يطارده إلى أن انفرد عن عسكره وحرسه ، ووصل إلى خباء واستسقى صاحبه ماء فسقاه وعرفه على اسمه ، فلما عرفه قام إليه الأعرابي ليقتله انتقاما للحسين عليه السلام ، فهرب يزيد وتعلق في هذه الأثناء بالركاب ولم يستطع الاستواء على فرسه فظل هذا الفرس وهو مسرع يضرب به كل حجر ومدر حتى هلك إلى لعنة الله (5) . ومر غيره على مصرعه لاعنا إياه ، فأكثر من تعرض لحديث رسول الله القائل بأن من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله (البعض قال : إنه في الدنيا ، وقال آخرون إنه إذابته في النار ، وجمع قسم ثالث بين الأمرين) ذكره في هذا الموضع مع مسلم بن عقبة المري .. هل مجهولية مصرعه جزء من الإذابة ؟ فقد ذكر في فيض القدير بعد أن تعرض لشرح الحديث قال : قال القاضي عياض : وهذا حكمه في الآخرة بدليل رواية مسلم أذابه الله في النار أو يكون ذلك لمن أرادهم بسوء في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانا بل يذهبه عن قرب كما انقضى شأن من حاربهم أيام بني أمية كعقبة بن مسلم فإنه هلك في منصرفه عنها ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك (6) .
    وقال الطبري : هلك يزيد بن معاوية وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين من أرض الشام لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 64 وهو ابن ثمان وثلاثين سنة في قول بعضهم (7) . وبهلاكه انتهى الحكم من الفرع الأموي السفياني ، حيث لم يبق ابنه معاوية في الحكم غير شهرين !!
    عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالاشدق : والي المدينة ـ الذي عينه يزيد بعد الوليد بن عتبة ـ والذي مال شدقه لكثرة سبه أمير المؤمنين عليه السلام ، حتى إذا جاءه خبر قتل الحسين عليه السلام ونودي بقتله ، لم يُسمع بواعية كواعية بني هاشم ، هنا استخفه الطرب ، وأمالته الشماتة.. وتمثل بقول القائل :

    عجت نساء بني زياد عجة                كعجيج نسوتنا غداة الارنب ..

    لم يمر عليه إلا تسع سنوات حتى كان رأسه معزولا عن بدنه . وعاقبته هي ما يذكرها المؤرخون ، فإن عبد الملك لما أحكم أمر الشام ، ووجه روح بن زنباع الجذامي فلسطين شخص عن دمشق ، حتى صار إلى بطنان يريد قرقيسيا لمحاربة زفر بن الحارث ، وأمر ابن الزبير على حاله ، فلما صار إلى بطنان من أرض قنسرين أتاه الخبر بأن عمرو بن سعيد بن العاص قد وثب بدمشق ، ودعا إلى نفسه ، وتسمى بالخلافة ، وأخرج عبد الرحمن بن عثمان الثقفي خليفة عبد الملك بدمشق وحوى الخزائن وبيوت الأموال ، فعلم عبد الملك أنه قد أخطأ في خروجه عن دمشق ، فانكفأ راجعا إلى دمشق ، فتحصن عمرو بن سعيد ، ونصب له الحرب ، وجرت بينهم السفراء ، حتى اصطلحا وتعاقدا ، وكتبا بينهما كتابا بالعهود والمواثيق والإيمان على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك ، ودخل عبد الملك دمشق وانحاز مع عمرو بن سعيد أصحابه ، فكانوا يركبون معه إذا ركب إلى عبد الملك .
    ثم دبر عبد الملك على قتل عمرو ، ورأى ان الملك لا يصلح له إلا بذلك ، فدخل إليه عمرو عشية ، وقد أعد له جماعة من أهله ومواليه ومن كان عنده ممن سواهم ، فلما استوى لعمرو مجلسه قال له : يا أبا أمية ! إني كنت حلفت في الوقت الذي كان فيه من أمرك ما كان ، أني متى ظفرت بك وضعت في عنقك جامعة ، وجمعت يديك إليها . فقال : يا أمير المؤمنين ! نشدتك بالله أن تذكر شيئا قد مضى . فتكلم من بحضرته ، فقالوا : وما عليك أن تبر قسم أمير المؤمنين ؟
    فأخرج عبد الملك جامعة من فضة ، فوضعها في عنقه ، وجعل يقول :

    أدنيته مني ليسكن روعه                   فأصول صولة حازم مستمكن

    وجمع يديه إلى عنقه ، فلما شد المسار جذبه إليه ، فسقط لوجهه ، فانكسرت ثنيتاه ، فقال : نشدتك الله ، يا أميرالمؤمنين ، أن يدعوك عظم مني كسرته إلى أن تركب مني أكثر من ذلك ، أو تخرجني إلى الناس فيروني على هذه الصورة ! وإنما أراد أن يستفزه فيخرجه ، وكان على الباب من شيعة عمرو بن سعيد نيف وثلاثون ألفا منهم عنبسة بن سعيد ، فقال له : أمكرا أبا أمية ، وأنت في الانشوطة ؟ وليس بأول مكر ، إني والله لو علمت أن الامر يستقيم ، ونحن جميعا باقيان ، لافتديتك بدم النواظر ، ولكني أعلم أنه ما اجتمع فحلان في إبل إلا غلب أحدهما . وقتله وفرق جمعه ، وطرح رأسه إلى أصحابه ، ونفى أخاه عنبسة إلى العراق ، وكان ذلك سنة 70 ه ـ ..
    عبيد الله بن زياد : قال ابراهيم الاشتر القائد العسكري لجيش المختار الثقفي بعد انتهاء المعركة بينهم وبين جيش ابن زياد في سنة 67 ه ـ : قتلت رجلا شرقت يداه وغربت رجلاه تحت راية منفردة على شاطئ نهر خازر فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا ، ضربه فقده نصفين .
    قتلة الحسين عليه السلام وأصحابه وهم ممن شارك في المعركة مباشرة (8) :
    1 ـ عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي (9) : وقد قتل القاسم بن الحسن عليهما السلام فلم يبرح الموقعة ، إذ أن الحسين جلى كالصقر لاستنقاذ القاسم ابن أخيه ، بينما راحت خيل بني أمية لاستنقاذ عمرو هذا ، فاستقبلته بصدورها ووقع تحت حوافرها وهلك في مكانه .
    2 ـ عمرو بن الحجاج الزبيدي : وهو الذي كان على شريعة الفرات في أربعة آلاف فارس لمنع أصحاب الحسين من الوصول إليها والشرب منها . هرب في أثناء القتال من جيش المختار الثقفي فركب راحلته ثم ذهب عليها فأخذ في طريق شراف وواقصة فلم ير حتى الساعة كما يقول الطبري في حوادث سنة 66 ، فلا يدرى أرض بخسته أم سماء حصبته !!
    3 ـ شمر بن ذي الجوشن : هرب من الكوفة حتى إذا وصل قرية تسمى الكلتانية فوجد علجا هناك فضربه وقال : النجاء بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير فمضى العلج حتى دخل قرية فيها أبو عمرة ، ورأى علجا آخر فأخذ يشكو إليه ما لقي من شمر وسمعه رجل من أصحاب أبي عمرة ورأى كتابه فسأل عن مكانه فدل عليه وذهبوا إليه فقتلوه .
    4 ـ عبد الله بن أسيد بن النزال الجهني
    5 ـ مالك بن النسير البدي
    6 ـحمل بن مالك المحاربي : هربوا إلى القادسية فأرسل المختار خلفه ، وجيء بهم إليه فقال : يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله أين الحسين بن علي ؟ أدوا إلي الحسين قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة ، قالوا : بعثنا ونحن كارهون فامنن علينا واستبقنا ، فقال : فهلا مننتم على الحسين واستبقيتموه وسقيتموه .. فسأل البدي : انت صاحب برنسه ؟ قيل له نعم : فقال : اقطعوا يدي هذا ورجليه ودعوه فليضطرب حتى يموت ففعل به ذلك وترك .وقدم الآخران فقتلا .
    7 ـ زياد بن مالك
    8 ـ عمران بن خالد
    9 ـ عبد الله بن قيس الخولاني
    10 ـ عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي
    أدخلوا على المختار فقال يا قتلة الصالحين لقد أقاد الله منكم ! لقد جاءكم الورس (10) بيوم نحس . وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين فقدموا في السوق فضربت أعناقهم .
    11 ـ عثمان بن خالد الدهماني
    12 ـبشر بن سوط القابضي وكانا قد اشتركا في دم عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه ، فقدما في موضع بئر الجعد فقتلا وأحرقا .
    13 ـخولى بن يزيد الأصبحي بعث خلفه معاذ بن هانئ بن عدي ( ابن أخي حجر ) فجاؤوا بيته ، وسألوا امرأته فقالت لا أدري ـ وأشارت بيدها إلى موضعه ـ فوجدوه قد وضع قوصرة على رأسه .. فجاؤوا به إلى المختار وأحرق بالنار .
    14 ـ عمر بن سعد : وكان قد أخذ الأمان من المختار وأعطاه ذلك (...إلا أن يحدث حدثا) فكان أبو جعفر يقول : أما أمان المختار لعمر بن سعد ألا يحدث حدثا فإنه كان يريد به إذا دخل بيت الخلاء فأحدث . فأمر أبا عمرة فقتله ثم قتل أبنه حفص .
    15 ـ حكيم بن الطفيل السنبسي وهو من قطع يد ابي الفضل العباس وقيل إنه ضربه بعمود من حديد ، ورمى الإمام الحسين عليه السلام وكان يقول تعلق سهمي بسرباله وما ضره شيء فقبض عليه وأراد أهله أن يوسطوا أحدا عند المختار ، فقال من قبض عليه لعبد الله بن كامل نخشى أن يشفع الأميرُ عدي بن حاتم في هذا الخبيث ، فدعنا نقتله فقال شأنكم به ، فنصبوه غرضا ورموه بالسهام إلى أن هلك .
    16 ـ مرة بن منقذ العبدي : أحاطوا بداره ، فضربه ابن كامل بالسيف ولكن استطاع الهرب ولحق بمصعب ثم شلت يمينه فيما بعد .
    17 ـ زيد بن الرقاد (الجنبي) وكان قال رميت منهم فتى بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقي النبل فاثبت كفه فيها وهو عبد الله بن مسلم بن عقيل ، فأحاطوا بداره وخرج عليهم مصلتا بسيفه فقال بن كامل لا تضربوه بسيف ولا تطعنوه برمح ولكن ارموه بالنبل ، وارجموه بالحجارة ففعلوا به ذلك ، وسقط على الأرض وبه رمق فأحرقوه بالنار .
    18 ـ عمرو بن صبيح الصدائي : وكان يقول لقد جرحت فيهم وطعنت بعضهم وما قتلت منهم أحدا فجيء ليلا وهو على سطح داره فأخذ أخذا .. وسجن إلى الصباح ثم قال ابن كامل للمختار : ‘إنه يقول أنه قد جرح في آل محمد وطعن فمرنا بأمرك فقال " علي بالرماح فأمر أن يطعن بها حتي يموت .
    19 ـ الحصين بن نمير التميمي الذي كان من طلائع القادة الذين قاتلوا مسلم بن عقيل في الكوفة وقد اسر جنوده عبد الله بن يقطر وسلموه لابن زياد حتى قتل ، وكان له دور سيء في كربلاء وقد هلك في المعركة التي دارت بين جنود المختار وبين جيش بني أمية فقد حمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير فقتله .
    20 ـ محمد بن الأشعث قتل في حملة مصعب بن الزبير على جنود المختار في الكوفة .
    21 ـحرملة بن كاهل الأسدي : صاحب السهم المثلث والذي رمى به كبد الحسين عليه السلام ، والسهم الآخر الذي رمى به عنق طفله الرضيع ، تقول الرواية أنه قد أخذه المختار فقطع يديه ورجليه ، وأحرقه بالنار .
    22 ـ سنان بن أنس النخعي : الذي احتز رأس الحسين عليه السلام على بعض الروايات ، أو حمله إلى ابن زياد ، تقول بعض الروايات التاريخية أنه كان من جملة من قبض عليهم أيام انتصار المختار وقد قطع جنود المختار أنامله ، ثم قطع يديه ورجليه وأحرق بالنار كما ذكر ذلك السيد بن طاووس في اللهوف . غير أن الطبري ذكر أنه كان قد طلب في الكوفة فهرب إلى البصرة ، فهدم المختار داره . ويظهر من المنتخب من ذيل المذيل للطبري وكذا من ترجمة الامام الحسين لابن عساكر : أنه كان موجودا إلى أيام الحجاج الثقفي ، فقد قال الحجاج : من كان له بلاء فليقم !! فقام قوم فذكروا وقام سنان بن أنس فقال : أنا قاتل الحسين !! فقال بلاء حسن . ورجع إلى منزله فاعتقل لسانه وذهب عقله فكان يأكل ويحدث مكانه !! (11) .
    -------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
    1. القران الكريم : سورة الطلاق (65) ، الآية : 9 ، الصفحة : 559 .
    2. القران الكريم : سورة القصص (28) ، الآية : 83 ، الصفحة : 395 .
    3. القران الكريم : سورة النمل (27) ، الآية : 69 ، الصفحة : 383 .
    4. القران الكريم : سورة طه (20) ، الآية : 132 ، الصفحة : 321 .
    5. اللهوف في قتلى الطفوف (فارسي) ـ 263 مع أن الكاتب قد نقل الرواية عن أبي مخنف إلا أننا لم نجد في الطبري الذي ينقل عن ابي مخنف أكثر روايات المقتل ما هو مذكور أعلاه .
    6. فيض القدير بشرح الجامع الصغير ج 6 .
    7. تاريخ الطبري ج 4 .
    8. تم الاعتماد بشكل أساسي على تاريخ الطبري ج 3 .ولسنا في صدد مناقشة كيفية الجزاءات التي تعرض لها أولئك القتلة وإنما في صدد بيان أنه ( بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين ) وأن لا يتصور المجرم بأنه يستطيع أن يفلت من آثار عمله .
    9.الغريب أن أخاه عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي كان ممن خرج مع التوابين بل هو من رؤسائهم ,واستشهد بعد سليمان والمسيب ، كما استشهد معه أخوه الآخر خالد بن سعد بن نفيل . راجع الطبري
    10. الورس : نبت أصفر يكون باليمن يتخذ منه الغمرة للوحه ، تقول أورس المكان ـ عن الصحاح للجوهري.
    ويظهر أنه من بقايا ما أخذه الإمام عليه السلام ـ وهو حقه حيث هو الولي الشرعي دون يزيد ـ من القافلة التي أرسل بها بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية ، وكان عامله على اليمن ، وكانت محملة بالورس والحلل ، فلقيها الحسين عليه السلام في منطقة التنعيم أول خروجه من مكة متجها إلى العراق . وخيّر أصحاب الابل قائلا : لا أُكرهكم ، من أحب أن يمضي معنا إلى العراق أو فينا كراءه وأحسنا صحبته ، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض . فمن فارقه منهم حوسب فأوفى حقه ، ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه .
    11. من قضايا الحسينية ، الجزء الأول ، الملحق الثاني .

    المصدر : مركز الإشعاع الإسلامي

  • 1

    أبدى الإمام السجاد (عليه السلام) حزنه عند تذكّر مصرع الحسين (عليه السلام) كما تشير إلى ذلك الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).وقد روي في ذلك عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال:انّ زين العابدين (عليه السلام) بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره وقائماً ليله، فإذا حضر الإفطار وجاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي! فيقول (لعيه السلام): قُتِلَ ابنُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جائعاً، قُتِلَ ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عطشاناً، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتى يبتلّ طعامه من دموعه، ثم يمزج شرابه بدموعه، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ [1].
    كما حدّث مولى للإمام السجاد (عليه السلام) أنّه (عليه السلام) برز يوماً إلى الصحراء، قال [المولى]: فتبعته، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه .. ثم رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينيه، فقلت: يا سيدي! أما آنَ لحُزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل؟
    فقال لي: ويحك إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبياً ابن نبي، له اثني عشر ابنا، فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء وابنه حيٌ في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي [2] ؟!
    وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: البكاءون خمسة:آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي بن الحسين (عليهما السلام)... وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليهما السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وُضِع بين يديه طعامٌ إلا بكى، حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا بن رسول الله! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين.
    فقال (عليه السلام): إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرعَ بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة [3].
    ------------------------------------------------------------------------------
    [1] اللهوف في قتلى الطفوف : 121 ، الناشر: أنوار الهدى.
    [2] اللهوف في قتلى الطفوف : 121 - 122 .
    [3] الأمالي للشيخ الصدوق : 204 ، تحقيق: مؤسسة البعثة.

    المصدر : وكالة أنباء الحوزة

  • 1

    هناك كرامات أو معاجز صادرة من الإمام الحسين عليه السلام قد روى المؤرّخون والمحدِّثون من الفريقين الكثير منها، وذكروا أنَّ بعضها حدث أثناء نهضته المباركة، والبعض الآخر بعد استشهاده  عليه السلام، وبمجرَّد أن يُطالع المتتبّع ما ذُكر منها يحصل له القطع بحدوث بعضها، فمنها:
    1ـ الاستجابة الفورية لدعائه  عليه السلام على ابن حوزة.
    2ـ إنّه رمى الإمام  عليه السلام بشيء من دمه ودم ولده الرضيع إلى السماء، فلم تسقط منه قطرة.
    3ـ إنّه تحوَّل التراب الذي دفعه النبي عليها السلام لأُمّ سلمة دماً علامةً على قتله  عليه السلام.
    4ـ انكساف الشمس حتى بدت الكواكب منتصف النهار.
    5ـ اظلمّت الدنيا ثلاثة أيام، واسودّت، حتى ظنّوا أنّها القيامة.
    6ـ أُمطرت السماء دماً.
    7ـ إنّه لم يُرفع حجر في بيت المقدس وغيره إلّا وُجِد تحته دم عبيط.
    8ـ إنّه لمّا وُضِع الرأس المقدَّس أمام عبيد الله بن زياد في قصر الإمارة سالت حيطان القصر دماً[1].

    إلى غيرها من الكرامات التي حدثت أثناء وبعد واقعة الطفّ؛ ممّا تكشف عن مدى علاقة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته المباركة بالله سبحانه وتعالى، ومدى عظم الجريمة وفداحتها.
    ومن تلك الكرامات الخارقة للعادة تكلُّم الرأس الشريف بعد مقتل الإمام الحسين  عليه السلام في عدّة مواضع، وقد روى هذه الكرامة عدد من مؤرِّخي ومحدِّثي المسلمين من كلا الفريقين، واخترنا هذا الجانب من نهضة الإمام الحسين عليه السلام، وهو جانب تكلُّم الرأس الشريف في عدّة مواضع؛ لبيان حقانية أهل البيت عليهم السلام وارتباطهم بالله جلّ وعلا، وفضاعة ما ارتُكب بحقهم من قِبل الأعداء.
    وفيما يأتي نحاول استقصاء الروايات والمصادر التي روت هذه الكرامة، وسنستعرضها بمصادرها في كتب السنّة والشيعة، ثمَّ نتحدَّث عن مضمونها، وبعض الجوانب المرتبطة بها، من قبيل حكمة هذه الكرامة وغيرها.

    وسنحاول في هذا البحث استعراض وبيان الروايات التي تحدَّثت حول تكلُّم الرأس الشريف، وكذلك معرفة الأماكن التي تكلَّم بها، ويقع الكلام في محورين رئيسين:
    المحور الأول: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر أهل السنّة.
    المحور الثاني: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر الشيعة.
    المحور الأول: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر أهل السنّة

    إنّ روايات تكلُّم الرأس الشريف في كتب العامّة ثلاث ـ على ما عثرنا عليه في كتبهم ـ وإليك تفصيلها:
    الرواية الأُولى: رواية منهال بن عمرو
    وهي ما رواه ابن عساكر ت571 بسند متّصل، عن الأعمش، عن منهال بن عمرو الأسدي، قال: «...والله، أنا رأيت رأس الحسين حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ سورة الكهف حتى إذا بلغ قوله سبحانه وتعالى ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾[2] فأنطق الله سبحانه وتعالى الرأس بلسان ذرب[3] فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلى وحملي»[4].
    والمنهال بن عمرو هو الأسدي الكوفي، روى عنه البخاري، ونقل ابن حجر توثيقه عن ابن معين والنسائي والعجلي وغيرهم[5].
    وقد نقل هذه الرواية عن ابن عساكر كلّ من:
    السيوطي ت911ﻫ في الخصائص الكبرى[6]، والعلّامة المناوي في الكواكب الدرّية، ولكن مع اختلاف طفيف، حيث قال: «فنطق الرأس بلسان عربي فصيح، وقال جهاراً...»[7]، والصبّان في إسعاف الراغبين[8]، وابن منظور ت711ﻫ في مختصر تاريخ دمشق[9]، والصالحي الشامي ت942ﻫ في سُبل الهدى والرشاد[10]، والعلّامة الشبلنجي في نور الأبصار[11]، والمناوي في فيض القدير[12].

    وقفة
    بعد أن روى المناوي في فيض القدير هذه الرواية عن ابن عساكر، قال ما نصه: «قال ابن عساكر: إسناده مجهول»[13].
    وهذه الجملة إسناده مجهول التي نسبها المناوي إلى ابن عساكر لم نجدها في كتاب ابن عساكر في الموضع الذي روى فيها هذه الرواية، ولا ندري من أين أتى بها؟ اللهم إلّا أن تكون هناك نسخة ثانية لتاريخ ابن عساكر قد ذُكرت فيها هذه الجملة لم نطّلع عليها، وعلى فرض وجود نسخة ثانية قد ذُكرت فيها هذه الجملة، يمكن استبعادها من خلال قرينتين:
    1ـ إنّ جميع المصادر ـ فيما نعلم ـ التي نقلت هذه الرواية عن ابن عساكر لم تذكر هذه الجملة، وقد ذكرناها فيما تقدَّم، فمَن شاء فليراجعها.
    2ـ إنّ المتتبّع لتاريخ ابن عساكر يلاحظ أنّه ليس بصدد توثيق السند أو تضعيفه، وإنّما بصدد نقل الروايات وذكر إسناده إليها فقط.
    وكيف كان، سواء كان ابن عساكر ذكر ذلك أو لم يذكره فإنّه لا يؤثر على النتيجة التي نحاول الوصول إليها من خلال هذا الاستعراض، كما سيتّضح ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

    الرواية الثانية:رواية زيد بن أرقم
    روى العلّامة المحدِّث الحافظ الميرزا محمد خان رستم خان المعتمد البدخشي، المتوفّى في أوائل القرن الثاني عشر في مفتاح النجا في مناقب آل العبا ص145 مخطوط، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنّه قال: «... مُرَّ به [أي: رأس الحسين  عليه السلام] عليّ وهو على رمح، وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ فقفَّ[14] ـ والله ـ شعري، وناديت: رأسك ـ والله ـ يا بن رسول الله وأمرك أعجب وأعجب»[15].
    وزيد بن أرقم من مشاهير الصحابة، شهد غزوة مؤتة، توفّى في الكوفة سنة 66 أو 68[16]، ويُعدّ من أصحاب الرسول عليها السلام والإمام أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام، وقد روى الكشي، عن الفضل بن شاذان: «أنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام»[17].
    ويظهر من ترجمته أنّه كان من سكنة الكوفة وقد مات فيها، ويبدو أنّ حادثة تكلُّم الرأس هذه حدثت معه في الكوفة.

    الرواية الثالثة:رواية سلمة بن كهيل
    وهي ما رواه ابن عساكر بسند متّصل عن الأعمش عن سلمة بن كهيل قال: «...رأيت رأس الحسين على القنا وهو يقول: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّـهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[18]»[19].
    ورواها أيضاً الصفدي ت764ﻫ في الوافي بالوفيات في ترجمة سلمة بن كهيل[20].
    ملحوظة: إنّ الصفدي رواها بلسان قال، حيث ذكر بعد أنّ نقل كلمات الأعلام في توثيق سلمة بن كهيل هكذا: «قال: رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما على القنا...». وهذا التعبير يوحي بصحّة النسبة واعتبار الرواية؛ إذ التعبير المذكور يدلّ ـ عرفاً ـ على ثبوت النسبة وصحّتها.

    خلاصة واستنتاج
    هذه الروايات الثلاث هي كلّ ما عثرنا عليه في مصادر أهل السنّة، ومن خلال عرضها اتّضح ما يلي:
    1ـ إنّ كرامة تكلُّم الرأس الشريف قد رواها ثلاثة من الرواة هم: المنهال بن عمرو، زيد بن أرقم، سلمة بن كهيل. والرواية الأُولى والثالثة سندها متّصل، بينما الثانية قد ذُكرت مرسلة.
    2ـ لا يحتمل اتّحاد الحادثة؛ وذلك لأنّ رواتها مختلفون، كما أنّها مختلفة من حيث المضمون؛ إذ الأُولى في دمشق، بينما الثانية في الكوفة، والثالثة وإن لم يُذكر فيها المكان ولو بالقرينة، إلّا أنّ مضمونها يغاير ما في الروايتين السابقتين؛ فإنّ الآية التي تلاها الرأس الشريف تختلف عن الآية فيهما، كما أنّ الآية في الرواية الأُولى كان يتلوها رجل، ولكن الرأس نطق بعدها، بينما في الثانية كان الرأس هو الذي يتلوها.
    3ـ عند ملاحظة الرواية الأُولى مع كثرة المصادر التي نقلتها عن ابن عساكر يتّضح أنّ هذه الحادثة من الحوادث المشهورة، ولو بتبع شهرة الرواية التي نقلتها، وإذا ضممنا إليها الروايتين الأخيرتين تزداد الحادثة شهرة.
    وبهذا يتّضح عدم الحاجة إلى التتبّع السندي فيما روي؛ لأنّ شهرتها بين الرواة وتناقلهم لها ـ دون ملاحظة سندها ـ يغني عن ذلك، ويعطي اطمئناناً للمتتبّع بصدورها.
    هذا كلّه مع قطع النظر عن مرويات الشيعة لهذه الحادثة، وإلّا فمع ملاحظتها، وملاحظة المصادر التي ذكرتها يحصل بمجموعها للمتتبّع الاطمئنان ـ بلا شكّ ـ في وقوع هذه الحادثة.

    المحور الثاني: روايات تكلُّم الرأس الشريف في مصادر الشيعة
    إنّ الروايات التي ذكرت أنّ رأس الإمام الحسين  عليه السلام قد تكلَّم في عدّة مواضع من مصادر الشيعة كثيرةٌ، وقد أحصينا اثنتي عشرة رواية نذكرها تباعاً:

    الرواية الأُولى: رواية المنهال بن عمرو
    وهي ما رواه محمد بن سليمان الكوفي بسندٍ متّصل عن الأعمش عن المنهال بن عمرو قال: «... رأيت رأس الحسين بن عليّ على الرمح وهو يتلو هذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾. فقال رجل من عرض الناس: رأسك ـ يا بن رسول الله ـ أعجب»[21].
    ورواها أيضاً الراوندي ت573ﻫ في الخرائج، عن المنهال بن عمرو، ولكن مع اختلاف طفيف، ونصّها: «...عن المنهال بن عمرو، قال: أنا ـ والله ـ رأيت رأس الحسين عليه السلام حين حُمل وأنا بدمشق، وبين يديه رجل يقرأ الكهف حتى بلغ قوله: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ فأنطق الله الرأسَ بلسانٍ ذرب ذلق، فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»[22].
    وهي برواية الراوندي مطابقة لما في كتب أهل السنّة، كما في تاريخ ابن عساكر، بينما على رواية محمد بن سليمان الكوفي تغايرها من جهة أنّ الذي يقرأ آية الكهف هو الرأس الشريف، وليس رجلاً من الناس كما في رواية الراوندي والجمهور.
    وسيتّضح فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ من البعيد أن يكون محمد بن سليمان والراوندي قد أخذا أو أحدهما هذه الرواية من تاريخ ابن عساكر، أو العكس، بل يمكننا الجزم بعدم ذلك.
    والذي نريد قوله معجّلاً: إنّ هذه الرواية قد رويت في مصادر السنّة ومصادر الشيعة، ولكن لكلِّ فريق منهما طرقه إليها، وهذا ممّا يعزز شهرتها، ويؤكِّد حصول مضمونها.

    الرواية الثانية: رواية زيد بن أرقم
    وهي ما رواه الشيخ المفيد قدس سره مرسلاً عن زيد بن أرقم قال: «...مُرّ به عليّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ﴾ فقفَّ ـ والله ـ شعري وناديت: رأسك ـ والله ـ يا بن رسول الله أعجب وأعجب»[23].
    ورواها عن الشيخ المفيد قدس سره كلّ من العلّامة المجلسي في البحار[24]، والبحراني في العوالم[25]، والشاهرودي في مستدرك سفينة البحار[26].
    وهذه الرواية مطابقة لما ورد في مصادر السنّة ولا فرق بينهما إلّا في كلمة واحدة، فقد وردت كلمة وأمرك في مصادر السنّة ولم ترد في مصادر الشيعة.

    الرواية الثالثة:رواية الحارث بن وكيدة
    وهي ما رواه أبو جعفر الطبري في دلائل الإمامة بسند متّصل، عن الحارث ببن وكيدة، قال: «...كنت فيمَن حمل رأس الحسين عليه السلام فسمعته يقرأ سورة الكهف، فجعلت أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله  عليه السلام، فقال لي: يا بن وكيدة، أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّنا نُرزق؟! فقلت في نفسي: أسترق رأسه. فنادى: يا بن وكيدة، ليس لك إلى ذلك سبيل! سفكهم دمي أعظم عند الله تعالى من تسييرهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾[27]»[28].
    والحارث بن وكيدة لم يُذكر في تراجم الرجال ـ حسب تتبّعنا ـ ولكن يظهر من هذه الرواية أنّه كان من أعوان الظلمة ومن المغرَّر بهم، ولكنّه انتبه من ضلاله عندما سمع تكلُّم الرأس الشريف، فحاول استنقاذه منهم لمّا شعر بتلك القداسة.
    ولا يتّضح من هذه الرواية مكان حدوثها في الكوفة أو في الشام أو في الطريق، والظاهر أنّها لم تحدث في مكان عام بحيث يتسنّى لكلِّ حاضر أن يسمعها، فهي أشبه بحوار خاصّ دار بين الرأس وحامله.

    الرواية الرابعة: رواية الشعبي
    وهي ما رواه ابن شهر آشوب، عن أبي مخنف، عن الشعبي: أنّه صُلب رأس الحسين عليه السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالاً[29].
    ورواها أيضاً عن أبي مخنف، عن الشعبي الشاهرودي في سفينة البحار[30].
    والشعبي ـ بفتح الشين وسكون العين ـ أبو عمرو عامر بن شراحيل الكوفي، يُعدّ من كبار التابعين، وكان فقيهاً شاعراً، روى عن خمسين ومائة من أصحاب رسول الله عليها السلام كذا عن السمعاني، وحُكي عنه أنّه قال: أدركت خمسمائة من الصحابة.
    وثَّقه ابن حجر، ولكن لا يخفى حاله عند الشيعة، فإنّه مذموم مطعون[31].
    وكون الراوي مذموماً عند الشيعة، لانحرافه عن أهل البيت عليهم السلام ممّا يقوِّي هذه الحادثة ويؤكّدها؛ لأنّ المنحرف عادة لا يروي فضائل مَن لا يحب ولا يهوى، وهذا يُعطي مؤشراً مهمّاً وهو أنّ هذه الحادثة بلغت حدّاً لا يمكن معه إخفاؤها حتى من المناوئين لخطّ أهل البيت عليهم السلام.
    والشيء الملفت في هذه الرواية: أنّ الرأس الشريف قد تكلَّم في مكان عام مزدحم يسمعه كلّ مَن حضر من الناس، بعد إن لفت انتباه الحاضرين إليه من خلال التنحنح، ولكن ذلك لم يؤثر فيهم شيئاً، وهذا يفيد أنّ أغلب الحاضرين كانوا من الظالمين، لقوله: «فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالاً».
     ولا عجب إذا لم يهتدوا ولم يؤمنوا، فهذا هو حال الظالمين إذا ما سمعوا المواعظ وشاهدوا الآيات، فإنّها لا تزيدهم إلّا بُعداً وتكذيباً.

    الرواية الخامسة:رواية سهل بن سعيد الشهرزوري
    وهي ما رواه الطريحي في المنتخب، قال: «...خرجت من شهرزور أُريد بيت المقدس، فصار خروجي أيام قتل الحسين عليه السلام، فدخلت الشام فرأيت الأبواب مفتّحة، والدكاكين مغلقة، والخيل مسرجة، والأعلام منشورة، والرايات مشهورة، والناس أفواجاً امتلأت منهم السكك والأسواق، وهم في أحسن زينة يفرحون ويضحكون، فقلت لبعضهم: أظنّ حدث لكم عيد لا نعرفه؟ قالوا: لا. قلت: فما بال الناس كافّة فرحين مسرورين؟ فقالوا: أغريب أنت، أم لا عهد لك بالبلد؟ قلت: نعم، فماذا؟ قالوا: فُتح لأمير [المفسدين] فتح عظيم. قلت: وما هذا الفتح؟ قالوا: خرج عليه في أرض العراق خارجي فقتله، والمنّة لله وله الحمد! قلت: ومَن هذا الخارجي؟ قالوا: الحسين بن علي بن أبي طالب. قلت: الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟! قالوا: نعم! قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وإنّ هذا الفرح والزينة لقتل ابن بنت نبيكم؟! وما كفاكم قتله حتى سميتموه خارجياً؟!
    فقالوا: يا هذا! أمسك عن هذا الكلام واحفظ نفسك؛ فإنّه ما من أحد يذكر الحسين بخير إلّا ضُربت عنقه. فسكت عنهم باكياً حزيناً، فرأيت باباً عظيماً قد دخلت فيه الأعلام والطبول.
    فقالوا: الرأس يدخل من هذا الباب. فوقفت هناك، وكلّما تقدَّموا بالرأس كان أشدّ لفرحهم وارتفعت أصواتهم، وإذا برأس الحسين والنور يسطع من فيه كنور رسول الله عليها السلام، فلطمت على وجهي، وقطعت أطماري، وعلا بكائي ونحيبي، وقلت: واحزناه! للأبدان السليبة النازحة عن الأوطان، المدفونة بلا أكفان، واحزناه! على الخدّ التريب والشيب الخضيب، يا رسول الله! ليت عينيك ترى رأس الحسين في دمشق يُطاف به في الأسواق، وبناتك مشهورات على النياق مشققات الذيول والأزياق، ينظر إليهم شرار الفسَّاق، أين علي بن أبي طالب يراكم على هذا الحال؟! إلى أن قال: وكان معي رفيق نصراني يريد بيت المقدس وهو متقلَّد سيفاً تحت ثيابه، فكشف الله عن بصره فسمع رأس الحسين، وهو يقرأ القرآن ويقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾[32]، فقد أدركته السعادة، فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، ثمّ انتضى سيفه وشدَّ به على القوم، وهو يبكي وجعل يضرب فيهم، فقتل منهم جماعة كثيرة، ثمَّ تكاثروا عليه فقتلوه...»[33].
    وسهل هذا يبدو أنّه الصحابي المعروف، سهل بن سعد الساعدي.

    الرواية السادسة: رواية النطنزي في الخصائص
    وهي ما رواه ابن شهر آشوب عن النطنزي في الخصائص قال: «...لمّا جاؤوا برأس الحسين ونزلوا منزلاً يُقال له: قنسرين، اطّلع راهب من صومعته إلى الرأس فرأى نوراً ساطعاً يخرج من فيه ويصعد إلى السماء، فأتاهم بعشرة آلاف درهم وأخذ الرأس، وأدخله صومعته فسمع صوتاً ولم يرَ شخصاً، قال: طوبى لك، وطوبى لمَن عرف حرمته. فرفع الراهب رأسه قال: يا ربّ، بحقِّ عيسى تأمر هذا الرأس بالتكلُّم معي، فتكلَّم الرأس وقال: يا راهب، أي شيءٍ تريد! قال مَن أنت؟ قال: أنا ابن محمد المصطفى، وأنا ابن علي المرتضى وأنا ابن فاطمة الزهراء، وأنا المقتول بكربلاء، أنا المظلوم أنا العطشان. فسكت، فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتى تقول: أنا شفيعك يوم القيامة. فتكلَّم الرأس، فقال: ارجع إلى دين جدّي محمد. فقال الراهب: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله. فقبل له الشفاعة، فلما أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلمّا بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة»[34]. ونقلها ـ أيضاً عن النطنزي في الخصائص ـ العلّامة المجلسي في البحار[35].
    والنطنزي هو محمد بن أحمد النطنزي الكاشاني 480 ـ 550ﻫ يروي عنه السيد الراوندي[36].
    ويبدو أنّ حادثة إسلام الراهب على يد الرأس الشريف من الحوادث المشهورة المعروفة، والدليل على ذلك أنّ الجوهري الجرجاني قد نظم فيها شعراً حيث قال:
    حتى يصيح بقنسرين صاحبها
    يا فرقة الغي يا حزب الشياطين

    أتهزؤون برأس بات منتصباً
    على القناة بدين الله يؤميني

    آمنت ويحكم بالله مهتدياً
    وبالنبي وحبّ المرتضى ديني

    فـجدلوه صريعاً فـوق وجـنته                     
    وقسموه بأطراف السكاكين[37]
    والجوهري الجرجاني من شعراء القرن الرابع الهجري[38]، وهذا يدلّ على اشتهار الحادثة قبل زمان ابن شهر آشوب ـ الناقل لها ـ بقرنين من الزمن.

    الرواية السابعة: رواية اليهودي الذي أسلم بسبب الرأس الشريف
    وهي ما رواه العلّامة المجلسي في البحار عن كتاب المناقب القديم، حيث قال: «...روي أنّه لما حُمل رأسه إلى الشام جنَّ عليهم الليلُ فنزلوا عند رجل من اليهود، فلمّا شربوا وسكروا، قالوا: عندنا رأس الحسين  عليه السلام. فقال: أروه لي. فأروه وهو في الصندوق يسطع منه النور نحو السماء؛ فتعجّب منه اليهودي، فاستودعه منهم وقال للرأس: اشفع ليّ عند جدّك فأنطق الله الرأس، فقال: إنّما شفاعتي للمحمديين، ولست بمحمدي. فجمع اليهودي أقرباءه، ثمَّ أخذ الرأس ووضعه في طست وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثمَّ قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمد  عليه السلام، ثمَّ قال: يا لهفاه، حيث لم أجد جدّك محمداً عليها السلام فأُسلم على يديه! يا لهفاه حيث لم أجدك حياً فأُسلم على يديك وأُقاتل بين يديك! فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟ فانطق الله الرأس، فقال بلسان فصيح: إن أسلمت فأنا لك شفيع، قاله ثلاث مرات وسكت فأسلم الرجل وأقرباؤه»[39].
    وقد احتمل العلاّمة المجلسي قدس سره أن يكون هذا اليهودي هو نفسه راهب قنسرين، حيث قال ما نصّه: «ولعل هذا اليهودي كان راهب قنسرين؛ لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين  عليه السلام وجاء ذكره في الأشعار وأورده الجوهري الجرجاني في مرثية الحسين  عليه السلام»[40]، ولكنّه احتمال ضعيف؛ وذلك لأنّ اليهودي لا يُسمى راهباً، وإنّما يُسمى حبراً، هذا أولاً، وثانياً للاختلاف الواضح بين القصّتين ـ من حيث التفاصيل ـ المانع من اتّحادهما.

    الرواية الثامنة: مرسلة ابن شهر آشوب
    وهي ما رواه في المناقب مرسلاً، حيث قال: «... وفي أثر أنّهم لمّا صلبوا رأسه على الشجرة سُمع منه: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾[41]»[42]. ورواها مرسلةً أيضاً العلّامة المجلسي في البحار[43].

    الرواية التاسعة: مرسلة أُخرى لابن شهر آشوب
    وهي ما رواه في المناقب أيضاً، فقال: «... وسُمع صوته  عليه السلام بدمشق يقول: لا قوّة إلّا بالله»[44]، وكذلك رواها المجلسي في البحار[45].

    الرواية العاشرة: مرسلة البحراني في مدينة المعاجز
    ما رواه البحراني مرسلاً: «... إنّ عبيد الله بن زياد بعد ما عُرِض عليه رأس الحسين  عليه السلام دعا بخولي بن يزيد الأصبحي، وقال له: خذ هذا الرأس حتى أسألك عنه. فقال: سمعاً وطاعة. فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، إلى أن قال: فخرجت امرأته في الليل، فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء، فجاءت إلى الإجانة فسمعت أنيناً، وهو يقرأ إلى طلوع الفجر، وكان آخر ما قرأ: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾»[46].

    الرواية الحادية عشرة: ما نقل عن البهبهاني في شرح الشافية
    فقد نُقل عنه أنّه روى عن أبي مخنف أنه قال: «... حدّثني مَن حضر اليوم الذي ورد فيه رأس الحسين  عليه السلام على ابن زياد لعن قال: رأيت قد خرجت من القصر نارٌ، فقام عبيد الله بن زياد هارباً من سريره إلى أن دخل بعض البيوت، وتكلّم الرأس الشريف بصوت فصيح جهوري، يسمعه ابن زياد ومَن كان معه، إلى أين تهرب من النار؟! يا ملعون! لئن عَجَزت عَنك في الدنيا فإنّها في الآخرة مَثْواك ومصيرك. قال: فوقع أهل القصر سجّداً لما رأوا من رأس الحسين  عليه السلام، فلّما ارتفعت النار سكت رأس الحسين عليه السلام»[47].

    الرواية الثانية عشرة: رواية هلال بن معاوية
    ذكر السيد المقرّم قدس سره ـ نقلاً عن بعض المصادر ـ هذه الرواية، فقال: «... قال هلال ابن معاوية: رأيت رجلاً يحمل رأس الحسين عليه السلام والرأس يخاطبه: فرَّقتَ بين رأسي وبدني؟! فرّق الله بين لحمك وعظمك وجعلك آية ونكالاً للعالمين. فرفع السوط وأخذ يضرب الرأس حتى سكت»[48].
    هذه مجموعة من الروايات التي عثرنا عليها في كتب الخاصّة، ولعل هناك غيرها ولكننا لم نظفر بها.

    الخلاصة
    إنّ حادثة تكلّم الرأس الشريف من الحوادث المشهورة والمعروفة في كتب الفريقين، فقد رويت في كتب العامّة بثلاث روايات مختلفة لا يحتمل اتّحادها، كما رويت في كتب الخاصّة باثنتي عشرة رواية مختلفة، لا يحتمل اتّحادها جميعاً أو بعضها، فكلّ رواية تتحدَّث عن حادثة مغايرة للحادثة الأُخرى التي تتحدّث عنها باقي الروايات ولا بدّ من الالتفات إلى هذه القضية، وهي: أنّ كتب الفريقين تشترك في نقل اثنين من الروايات، وهما: رواية المنهال بن عمر، ورواية زيد بن أرقم، وتختلف في نقل بقية الروايات، فتختصّ العامّة بنقل رواية سلمة بن كهيل، بينما تختصّ الخاصّة بنقل عشرة روايات على ما تقدّم بيانها.
    والملفت أنّ رواية المنهال التي رواها ابن عساكر من العامة، ورواها محمد بن سليمان الكوفي، وقطب الدين الرواندي من الخاصّة، لا يحتمل أنّ ابن عساكر قد أخذها من الكوفي أو الرواندي، وكذلك لا يحتمل العكس، ومعه يكون لكلٍّ من ابن عساكر والكوفي والرواندي طريق لهذه الرواية، وإن كان الجميع يتّفق على نقلها عن الأعمش عن المنهال، ولكن طريق كلٍّ من ابن عساكر، والكوفي والراوندي إلى الأعمش مختلف.
    أمّا أنّ ابن عساكر لا يُحتمل أخذه للرواية من محمد بن سليمان الكوفي على الرغم من تقدِّمه عليه زماناً؛ فذلك لأنّه قد ذكر طريقه إلى الرواية ولم يكن فيه محمد بن سليمان، وأمّا أنّه لم يأخذها من الراوندي، فهو بالإضافة إلى كونه معاصراً له وأنّ وفاته كانت سنة 571ﻫ، بينما الراوندي كانت 577ﻫ، إلّا أنّه لم يُذكر الرواندي في طريق ابن عساكر إلى الرواية.
    لنسبة إلى العكس فلا يحتمل رواية محمد بن سليمان عنه لتقدِّمه عليه زماناً، فإنه قد ذكر أنّه قد فرغ من تأليف كتابه المناقب سنة 300ﻫ، فهو متقدِّم على ابن عساكر بثلاثة قرون، وأمّا الرواندي فإنّه وإن أمكن أن يرويها عن ابن عساكر، ولكنه لم يذكر ذلك في كتابه.
    وبهذا يتّضح أنّ هذه الرواية بالإضافة إلى شهرتها عند الفريقين ـ لها أكثر من طريق إذ إن لابن عساكر طريقاً إليها، كما أن لمحمد بن سليمان طريقاً أيضاً، وهذا ممّا يؤكِّد صدورها ووقوع المحادثة التي تضمنتها.
    تلخيص النتائج من خلال ما استعرضناه من الروايات المتقدّمة
    توفّرت لدينا مجموعة من النتائج، يمكن أن نلخصها ضمن عدّة نقاط:
    إنّ حادثة تكلّم الرأس الشريف إنْ لم تبلغ رواياتها حدَّ الاستفاضة فلا أقل من شهرتها إلى حدٍّ توجب الاطمئنان بصدورها.
    إنَّ عدد الروايات التي نقلت الحادثة ثلاث في كتب العامّة واثنا عشرة في كتب الخاصّة، فيكون مجموع روايات الفريقين خمسة عشر رواية.
    إنّ عدد المرّات التي تكلّم فيها الرأس الشريف ثلاثة عشر مرّة.
    إنّ الآيات التي تكلّم بها الرأسُ الشريف هي:
    ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾[49].
    ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّـهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[50].
    ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾[51].
    ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[52].
    ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾[53].
    ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾[54].
    إنّ الرأس الشريف تكلَّم أربعَ مرّات في الكوفة، وثلاث مرّات في الشام، وثلاث مرّات في الطريق، وتبقى ثلاث مرّات لا يُعلم مكان حدوثها بالضبط.

    مضمون الكرامة وحكمتها
    اتّضح من خلال عرض الروايات مضمون هذه الكرامة، وهو تكلّم الرأس الشريف ببعض الآيات الكريمة، وببعض الجمل والعبارات، في عدّة مناسبات، وهذا شيء واضح، ولكن يبقى أن نبحث عن حكمة هذه الكرامة، وهل يمكن استشراف بعض الأهداف والغايات المتوخّاة منها؟

    يمكن أن نذكر في هذا المجال ما يلي:
    أولاً:إنّ هذه الحادثة تكشف عن عظمة الإمام الحسين  عليه السلام ومكانته السامية عند الله سبحانه وتعالى، وتكشف عن عظم الجريمة التي ارتكبتها الدولة الأُموية في حقّه  عليه السلام، وهذه الحقيقة ـ عظمة الإمام الحسين  عليه السلام وعظم الجريمة وفداحتها في الإسلام ـ من الأهداف المهمّة التي أراد الله سبحانه وتعالى تثبيتها في قلوب المسلمين، لتحقيق الوعي الكامل، والفهم الصحيح، لأهداف الإسلام وحقيقته.
    إذ إن الأُمّة الإسلامية أيّام نهضة الإمام الحسين  عليه السلام أُمّة مشلولة عاجزة لا تستطيع الحركة، وتعيش روح الهزيمة والاستسلام، فكانت ـ لكي تنهض وتعي ـ بحاجة إلى صدمة عظيمة، ومنبّه صارخ ينتشلها من هذا الواقع المرير، فجاءت نهضة الإمام الحسين  عليه السلام بكلّ تفاصيلها المؤلمة ومشاهدها المروعة لتقوّي هذه الصدمة في النفوس المريضة، ولتبقى تعيش في الأذهان مدى العصور.
    ثانياً:إنّ هذه الحادثة تقع في إطار خطّ أهل البيت عليهم السلام الساعي ـ دائماً ـ لهداية الأُمّة نحو الإسلام الحقيقي، ولتؤكِّد هذه الحادثة على أحقّية أهل البيت عليهم السلام في ميراث الرسول عليها السلام الديني، وخلافته في قيادة الأُمّة الإسلامية ورعايتها. فهذه الكرامة التي ظهرت من الرأس الشريف تدعو إلى الهداية والإيمان، وقد تحقق ذلك حيث أسلم واهتدى عددٌ ممّن شاهد هذه الكرامة، كما تقدّم في قصّة النصراني، واليهودي، وابن وكيدة، وغيرهم.
    ثالثاً: لو رجعنا إلى الآيات الكريمة التي نطق بها الرأس الشريف لوجدناها تتحدَّث عن الظالمين والطغاة، والوعد الإلهي الذي ينتظرهم، وأنّهم مهما اجتهدوا في ظلم الناس وأوغلوا في دماء الصلحاء لا بدّ أن يدفعوا ثمن ذلك باهضاً، وأنّهم مع ذلك لا يستطيعون أن يوقفوا المسيرة الإسلامية نحو تحقيق غايتها وأهدافها.
    رابعاً: أكثر الآيات التي نطق بها الرأس الشريف هي آية: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾، وآية: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾، وهذا ممّا يوحي بشدّة الشبه بين الحادثتين، ويمكن أن نذكر في هذا المجال ستّة أوجه:
    الوجه الأول: التشابه بين الزمانين، فإنّ كلا الزمانين كانت تسوده مظاهر الجهل والابتعاد عن الله سبحانه، مع حالة الخضوع والاستسلام التي كانت تعيشها الأُمّة.
    الوجه الثاني: التشابه بين الدعوة المسيحية الأصيلة التي كان يحملها أصحاب الكهف، والدعوة الحسينيّة التي كان يحمل لواءها الإمام الحسين  عليه السلام وأصحابه، فكلا الدعوتين تحملان الأهداف نفسها، ويصارعان الأشكال نفسها؛ فإنّ هدف أصحاب الكهف إرجاع الأُمّة إلى الدين المسيحي الصحيح الخالي من التحريف والبدع، وإنقاذ الناس من عبودية الحاكم الجائر، كذلك الأمر بالنسبة لأهداف الإمام الحسين  عليه السلام؛ حيث كان يهدف إلى إرجاع الأُمّة للدعوة الإسلامية الصحيحة الخالية من التحريف والبدع التي أحدثها بنو أُمية في جسد الأُمّة الإسلامية.
    الوجه الثالث: إنّ أصحاب الكهف وقفوا بوجه الجهاز الحاكم وهم قلّة قليلة في الوقت الذي لم يكن أحد يجرؤ على التكلّم ببنت شفة ولو كان يملك العدّة والعدد، كذلك الإمام الحسين  عليه السلام وأصحابه فقد وقفوا بوجه الجهاز الحاكم وهم قلّة قليلة، في زمان تسوده روح الاستسلام والخنوع.
    الوجه الرابع: كلا الدعوتين كانتا سلميّتين، تدعوان إلى قضيتهما بعيداً عن القتال والعنف.
    الوجه الخامس: إنّ حادثة أصحاب الكهف حادثة عجيبة بقيت تعيش في أذهان الناس ردحاً من الزمن، بل وإلى الآن ما زالت جوانبها خافية علينا؛ إذ كيف يمكن لإنسان أن ينام أكثر من ثلاثمائة سنة، ثم يستيقظ حياً، دون أن يأكل أو يشرب، إنّ ذلك بحسب قوانين الطبيعة يعدّ أمراً خارقاً للعادة، مثيراً للتعجب والاستغراب، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام الحسين  عليه السلام فكيف لرأس مقطوع أن يتكلّم، إنّ ذلك شيء عجيب حقّاً! ويمكن أن يكون التعجّب في حادثة الإمام الحسين  عليه السلام راجعاً إلى نفس الإقدام على قتله بتلك الصورة البشعة، وما أعقبه من التمثيل بالجثّة الطاهرة والرأس الشريف، مع ما يتمتع به من مكانة مرموقة لا يشاركه فيها أحد في عصره.
    الوجه السادس: من أوجه الشبه بين الحادثتين أنّ كليهما كان مضمون النتائج ولو بعد حين؛ فإن أصحاب الكهف لمّا أيقضهم الله سبحانه وتعالى بعد أكثر من ثلاثمائة سنة على نومهم وجدوا أنّ جهودهم قد أثمرت وأينعت، حيث الناس على دين المسيحية الصحيحة وحكّامهم كذلك، وأنّ عبادة الوثنية قد ولّت وأدبرت، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإمام الحسين  عليه السلام؛ فإنّه لو عاد إلى الحياة اليوم لرأى ملايين المسلمين يطوفون بقبره المقدّس وهم يحيون المبادئ والقيم التي قُتل لأجلها، ويقدّسون الأهداف التي سعى لتحقيقها بدمه الطاهر، رحم الله السيد جعفر الحلي حيث قال:

    قد أصبح الدين منه يشتكي سقماً
    وما إلى أحدٍ غير الحسين شكى
     
    فما  رأى السبط للدين الحنيف شفاً    
    إلّا إذا دمه في كربلا سُفكا
     
    وما سمعنا عليلاً لا علاج له
    إلّا بنفس مداويه إذا هلكا

    بقتـله فـاح للإسلام نشر هدىً         
    فكـلّما ذكــرته المسلمون ذكا[55]
    ------------------------------------------------------------------------------
    [1] راجع هذه الأحداث وغيرها  في المصادر التالية: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4 أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة. ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج14، ترجمة الحسين ابن علي. وغيرها من المصادر الأُخرى.
    [2] الكهف: آية9.
    [3] ذرب: فصيح. ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: مادة ذرب.
    [4] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج60، ص370.
    [5] ابن حجر، أحمد بن علي، مقدمة فتح الباري: ص446.
    [6] اُنظر: السيوطي، جلال الدين، الخصائص الكُبرى: ج2، ص127.
    [7] المناوي، محمد عبد الرؤوف، الكواكب الدرّية: ج1، ص57.
    [8] اُنظر: الصبان، محمد بن علي، إسعاف الراغبين: ص218.
    [9] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، مختصر تاريخ دمشق: ج25، ص374.
    [10] اُنظر: الصالحي، محمد بن يوسف، سُبل الهدى والرشاد: ج11، ص76.
    [11] اُنظر: الشبلنجي، مؤمن بن حسن، نور الأبصار: ص125.
    [12] المناوي، محمد عبد الرؤوف، فيض القدير: ج1، ص265.
    [13] المصدر السابق.
    [14] قف شعري، أي: قام من الفزع. الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح: ج 4، ص1418، قفف.
    [15] نقل هذه الرواية عن المصدر المذكور السيد المرعشي في شرح إحقاق الحقّ: ج11، ص452.
    [16] الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص165.
    [17] التفرشي، مصطفى بن الحسين، نقد الرجال: ج2، ص281.
    [18] البقرة: آية 137.
    [19] ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج22، ص117.
    [20] اُنظر: الصفدي، صلاح الدين خليل، الوافي بالوفيات: ج15، ص200.
    [21] الكوفي، محمد بن سليمان، مناقب الإمام أمير المؤمنين  عليه السلام: ج2، ص267.
    [22] الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح: ج2، ص577.
    [23] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص117.
    [24] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص121.
    [25] البحراني، عبد الله، العوالم: ص389.
    [26] الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار: ج4، ص6.
    [27] غافر: آية 71.
    [28] الطبري، محمد بن جرير، دلائل الإمامة: ص78.
    [29] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص218.
    [30] اُنظر: الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار: ج4، ص6.
    [31] اُنظر: القمي، عباس، الكنى والألقاب: ج2، ص261.
    [32] إبراهيم: آية 42.
    [33] الطريحي، المنتخب: ص282.
    [34] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص217.
    [35] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص303.
    [36] اُنظر: الراوندي، فضل الله، النوادر:ص20.
    [37] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص216.
    [38] اُنظر: الأميني، عبد الحسين بن أحمد، الغدير: ج4، ص82.
    [39] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص172.
    [40] المصدر السابق.
    [41] الشعراء: آية 227.
    [42] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص218.
    [43] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص304.
    [44] ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل ابي طالب: ج3، ص218.
    [45] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص304.
    [46] البحراني، هاشم، مدينة المعاجز: ج4، ص 124.
    [47] لجنة الحديث في معهد باقر العلوم عليه السلام، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: ص625.
    [48] المقرّم، عبد الرزّاق، مقتل الحسين عليه السلام: ص415.
    [49] الكهف: آية 9.
    [50] البقرة: آية 137.
    [51] غافر: آية71.
    [52] الكهف: آية 13.
    [53] إبراهيم: آية 42.
    [54] الشعراء: آية 227.
    [55] البحراني، حسين بن علي، رياض المدح والرثاء: ص230.

    {الشيخ إسكندر الجعفري}
    المصدر : مؤسسة وارث الأنبياء

  • 1

    السيد منير الخباز
    بسم الله الرحمن الرحيم
    ورد عن الرسول محمدٍ أنّه قال: ”حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسينًا وأبغض الله مَنْ أبغض حسينًا“
    صدق الرسول الكريم

    الحديث الشريف له خمسة معانٍ نتعرض إليها على نحو الاختصار:

    المعنى الأول: العلاقة النورية.
    كثرت النصوص الدالة على وجود عالمٍ يسمّى بعالم الأنوار، الفلاسفة يقسّمون العوالم إلى عوالم متعدّدة: عالم اللاهوت وهو عالم الأسماء الصفات، وعالم الناسوت وهو عالم المادة، وعالم الجبروت وهو عالم العقول الكلية، وعالم الملكوت وهو عالم الأرواح، هناك عالمٌ سبق هذا العالم المادي وهو عالم الأرواح المسمى عندهم بعالم الملكوت، أي أنّ الله خلق الأرواح جميعًا في عالم قبل خلق المادة وهذا ما عبّر عنه الرسول محمدٌ في بعض أحاديثه: ”الأرواح جنودٌ مجنّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف“، عالم الأرواح المسمّى بعالم الملكوت كان جزءٌ منه خُلِقَ للأرواح النورية، يعني جزء من عالم الملكوت كان يضم الأرواح النورية وهي الأرواح التي تفيض نورًا وطهرًا وقدسًا، كان تسبيحًا وتهليلاً وتكبيرًا لله تبارك وتعالى، هناك مجموعة من الأرواح كانت أرواح نورية لا تعرف إلا التسبيح والتهليل وهي أرواح محمدٍ وآلِ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    وهذا ما أشارت إليه بعض النصوص كما في زيارة الجامعة الكبيرة: ”خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين حتى منّ علينا بكم فجعلكم في بيوت - يعني صار لقاء في عالم المادة - فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه“ وفي زيارة الحسين : ”أشهد أنك كنت نورًا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها“ وفي الحديث عن النبي المصطفى : ”إنّ الله خلق نوري ونور علي بن أبي طالب قبل أن يخلق الكون“ المقصود بالكون عالم المادة.

    إذن عالم الأرواح النورية كان هناك نورٌ واحدٌ يسبّح الله ويهلّله وهذا النور الواحد يتصل بعضه بالبعض الآخر، أوله بآخره وآخره بأوله، إذن ”حسينٌ مني“ إشارة إلى ذلك العالم، إشارة إلى العلاقة النورية، ”حسينٌ مني وأنا منه“ يعني أنّ نورنا نور واحد، بيننا علاقة نورية منذ أن خلق الله وبرأ الله عالم الملكوت فبيننا علاقة نورية منذ ذلك العالم، وهذا طبعًا يشترك فيه الحسين وغير الحسين ولذلك في بعض الأحاديث الشريفة: ”إنّ عليًا مني وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي“.

    المعنى الثاني: العلاقة النفسية.
    الإنسان عندما يريد أن يعبّر عن حبّه لشخص من الأشخاص، عندما يقول أن أحب فلان وفلان يحبّني، من أجل أن يعبّر عن عمق المحبة وعن عمق المودّة وعن وثاقة العلاقة القلبية والودية بني الروحين، روح فلان تعشقني وروحي تعشق روح فلان، لكي أعبّر عن حالة العشق والمحبة والمودة بيننا أقول: «فلان مني وأنا منه» أي أنني أشعر أنّ نفسه هي نفسي التي بين جنبيه وهو يشعر أنّ نفسه هو نفسي التي بين جنبيّ، إذن العلاقة النفسية بيننا علاقة وثيقة وعميقة إلى حدّ كلٌّ منّا يعتبر نفسه نفس الآخر وأنّ الآخر منه وهو من الآخر، ”حسينٌ مني وأنا من حسين“ إشارة إلى عمق العلاقة النفسية بينهما، ولذلك كان الرسول محمدٌ يظهر حبه ويظهر علاقته القلبية بولده الحسين، يلثمه ويقبله ويقعد الحسين على ظهر جدّه رسول الله وهو ساجد فيبطئ في السجود رفقًا بالحسين ، وإذا رآه دخل المسجد ترجّل من المنبر واحتضنه إلى صدره وقال: ”حسينٌ مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينًا وأبغض الله من أبغض حسينًا حسينٌ سبط من الأسباط“.

    المعنى الثالث: العلاقة الاعتبارية.
    الوجود كما يقسّمه العلماء ينقسم إلى وجود حقيقي ووجود اعتباري، ما هو الفرق بين الوجود الحقيقي والوجود الاعتباري؟ مثلاً: الإنسان وجوده الحقيقي انحدر من أبيه وأمه، وجود الحقيقي تحقّق وانحدر من قبل أبويه أبيه وأمه، هذا وجوده الحقيقي، ولكن ربّما يحصل الإنسان على وجود اعتباري غير وجوده الحقيقي، ربّما يصبح هذا الإنسان إنسانًا عالمًا، فكونه إنسانًا عالمًا يعطيه نوعًا من الوجود يسمى بالوجود الاعتباري غبر وجوده الحقيقي، ربّما هذا الإنسان يصبح صاحب ثروة هائلة ومن خلال ثروته أو منصبه الاجتماعي يكتسب نوعًا آخر من الوجود يسمى بالوجود الاعتباري فالوجود الحقيقي هو الوجود المنحدر من الأبوين، الوجود الاعتباري هو الوجود الذي يكتسبه الإنسان من خلال عنوان من العناوين الاجتماعية، ككونه إنسانًا عالمًا أو كونه إنسانًا ثريًا أو كونه إنسانًا مصلحًا أو أي شيء آخر، هذا يسمى بالوجود الاعتباري.

    أحيانًا الإنسان ينتسب إلى وجوده الاعتبار ولا ينتسب إلى وجوده الحقيقي، لأن وجوده الاعتباري أكبر وأقوى من وجوده الحقيقي، مثلاً: لو كانت أمه من عائلة معروفة بالعلم أو معروفة بالثروة وأبوه من عائلة مغمورة غير معروفة فإنّه ينتسب إلى عائلة أمّه، لماذا؟ لأن الوجود الاعتبار وليس في عائلة أبيه، فيظهر أنّه منتسب لهذه العائلة وأنّه منحدر من هذه العائلة لأن وجودها الاعتبار أقوى من الوجود الحقيقي الذي لديه.

    الحديث الشريف عن النبي عندما يقول: ”حسينٌ مني وأنا من الحسين“ يشير إلى الوجود الاعتباري، الحسين له وجود حقيقي من علي وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهما، هذا الوجود الحقيقي، لكن للحسين وجود اعتباري وهو كونه ابن محمدٍ المصطفى ، النبي لم يخلّف أولاد، لم يخلّف إلا فاطمة صلوات الله عليها، بما أنّه لم يخلّف أولاد من بعده نُسِبَ الحسنان إليه فقيل عنهما: ولدا رسول الله، وقال عنهما المصطفى: ”ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا“ إذن الحسين كان له وجود اعتباري يتشرّف به ويظهر به ويتشبّث به ألا وهو أنّه يعدذ بين أبناء المجتمع الإسلامي ولد النبي المصطفى .

    وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين يوم صفين، الإمام علي يوم صفين أعطى الراية راية القتال لولده محمد بن الحنفية وتقدّم محمد بن الحنفية يقود الجيوش المقاتلة، اعترض بعض الأصحاب، قالوا: يا أبا الحسن! كيف قدّمتَ محمد وعندك الحسن والحسين والحسنان أفضل من محمد؟ قال: ”أما تدرون؟ محمد ولدي أزجّ به في المهالك والحسن والحسين ولدا رسول الله أحافظ على حياتهم وأقيهما وأفديهما“ إذن الانطباع العام عن الحسن والحسين أنّهما ولدا رسول الله ، وكان هذا الانطباع يحافظ عليه الإمام أمير المؤمنين ، هذا نسميه بالوجود الاعتباري. إذن ”حسينٌ مني“ يعني حسينٌ يستمدّ وجوده الاعتباري منّي أنا، يستمدّ حيثيته ووجوده الاعتباري منّي أنا لأنه يُنْسَبُ إليّ بحسب العرف الإسلامي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي آنذاك.

    ”وأنا من حسين“ أيضًا إشارة إلى الوجود الاعتباري، النبي له وجود حقيقي ووجوده حقيقي امتدّ في أولاد الحسين وفي أولاد الحسن، لم يختص بأولاد الحسين، الوجود الحقيقي للنبي امتدّ في ذرية أولاد الحسين وأولاد الحسن، ولكنّ الوجود الاعتباري للنبي اختصّ بالحسين ، صحيحٌ أنّ أولاد الحسين وأولاد الحسن كلاهما، كلا الطرفين ذريته، كلا الطرفين امتداده، ولكنّ الوجود الاعتباري للنبي المصطفى وهو وجود العلم، وجود العصمة، وجود التقوى، وجود المعرفة، الوجود الاعتباري للنبي اختصّ بالحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه، فلولا الأئمة من ذرية الحسين لما تحقّق للنبي وجود اعتباري، فالوجود الاعتباري للنبي اكتسبه من الحسين، إذن الحسين اكتسب وجود الاعتباري من النبي، والنبي اكتسب وجوده الاعتباري من الحسين لأنه امتدّ في الأئمة الهداة من ذرية الحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    إمامُ الهدى ثقلُ النبوةِ والدُ الأئمةِ
    وفيهِ   رسولُ   اللهِ  قالَ  وقولُهُ
    حبي   بثلاثٍ   ما  أحاطَ  بمثلها
    له   تربةٌ   فيها   الشفاءُ  وقبةٌ
    وذريةٌ     ذريةٌ    منه    تسعةٌ     

    ربُّ   النهي   مولىً   له  الأمرُ
    صحيحٌ صريحٌ ليسَ في ذلكم نكرُ
    نبيٌ  فمن زيدٌ هناك ومَنْ عمرو
    يجابُ بها الداعي إذا مسّهُ الضرُّ
    أئمةُ  حقٍ  لا  ثمانٍ  ولا  عشرُ

    المعنى الرابع: العلاقة العرفانية.
    الحديث عن النبي المصطفى محمدٍ : ”الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق“ الإنسان يسير نحو الله، حتى الإنسان الكافر، حتى الإنسان العاصي، كلّ إنسان يسير نحو الله من حيث يشعر أو لا يشعر، ﴿أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ «1»، كلّ إنسان يسير إلى الله تبارك وتعالى، غاية ما في الأمر الإنسان المؤمن يلتقي مع الله من خلال صفة، والإنسان الكافر يلتقي مع الله من خلال صفة أخرى، الإنسان المؤمن يلتقي مع الله من خلال صفة الرحمة، فيجد رحمةً ورضوانًا، والإنسان الكافر يلتقي مع الله من خلال صفة «شديد العقاب»، كلّ إنسان يسير نحو الله ويلتقي مع الله يومًا من الأيام من خلال صفة من صفاته ووجهًا من وجوهه تبارك وتعالى.

    ”الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق“، كلّ إنسان لو فتّش في قلبه لرأى طريقًا يوصله إلى الله ليس عند الطرف الآخر، هناك إنسان يصل إلى الله عبر العلم، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾«2» هناك إنسان يصل إلى الله عبر الأخلاق العالية، الأخلاق أحيانًا توصلك إلى الله وإن لم تكن إنسانًا عابدًا ولا عالمًا، وهناك إنسان ذلك يصل إلى الله عبر العبادة، ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ «3»، إذن الطرق إلى الله تختلف باختلاف طاقات البشر وواهب البشر وملكات البشر، ”الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق“، وهناك أناسٌ يصلون إلى الله تبارك وتعالى عبر الوسيلة، ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ «4» وسيلتي إلى الله، أنا أصل إلى الله عبر فاطمة الزهراء سلام الله عليها، فاطمة الزهراء مظهر من مظاهر الله، فاطمة الزهراء تجلٍ من تجليات الله، ”فاطمةٌ بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها“ فاطمة صورة، مظهر، تجلٍ من تجليات الله تبارك وتعالى، أنا أصل إلى الله من خلال فاطمة، من خلال التأمّل في سيرة فاطمة، من خلال الارتباط بخطّ فاطمة أصل إلى الله تبارك وتعالى، هذا طريق إلى الله.

    الحسين بن علي كان طريقه إلى الله النبي محمد ، كان الحسين بن علي يتخذ رمزًا بنيه وبين الله، يتخذ شعارًا بنيه وبين الله يجعله طريقًا إلى الله، ذلك الرمز وذلك الشعار وتلك الوسيلة التي اتخذها الحسين في وصوله إلى ربّه هي جدّه النبي المصطفى .

    وكان النبي المصطفى مع أنّه أشرف الخلق، مع أنّه أفضل الخلق، مع أنّه أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، كان النبي المصطفى كما في بعض الروايات يتوسّل بالحسين بن علي إلى الله تبارك وتعالى، الحسين بن علي بلغ بشهادته وصبره وتحمّله وما لقي في سبيل فدائه للإسلام والمبادئ والقيم حصل على شأن عظيم وحصل على عظمة كبيرة إلى حدّ كان النبي يرى الحسينَ وجهًا من وجوه الله ويرى الحسينَ مظهرًا من مظاهر الله في صبره وجلده وقوة إرادته وقوة تحمّله وعرفانه وارتباطه بالله تبارك وتعالى.

    وليس هذا غريبًا فالنبي يوم المباهلة توسّل بالأطهار صلوات الله عليهم أجمعين لما نزل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ «5»، يذكر الزمخشري في كشّافه والرزاي في تفسيره: خرج النبي وبيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وخلفه فاطمة وخلف فاطمة علي، وهو يقول: ”إذا دعوت فأمّنوا“، فلمّا رآهم أسقف نصارى نجران قال: إنّي أرى وجوهًا لو أقسمت على الله أن يزيل جبلاً لأزاله بها فلا تباهلوهم فتهلكوا.

    إذن النبي عندما أخذ الأربعة معه كان يتوسّل بهم إلى الله، كان يريد أن يقول للأمّة: إذا أردتم وسيلة إلى الله فالوسيلة الأسمى والوسيلة الأجلّى هم هؤلءا الصفوة المطهّرة الطاهرة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ «6». ”حسينٌ مني“ حسينٌ يستمدّ طريقه إلى الله مني، ”وأنا من حسين“ وأنا أتخذ من الحسين رمزًا ووسيلة وشعارًا إلى الله تبارك وتعالى.

    المعنى الخامس: العلاقة الخطية والمنهجية.
    لولا النبي لما ثار الحسين، ولولا الحسين لما بقي دين النبي ولما بقي ذكر النبي، ”حسينٌ مني“ يعني الحسين استقى ثورته مني، استقى حرارته ولهيبه مني، استقى صرخته وصموده مني، الحسين ماذا قال؟
    إن كان دين محمدٍ لم يستقم           إلا  بقتلي  يا سيوف خذيني

    والنبي ماذا كان يقول؟ كان يتقدّم المقاتلين وهو يقول: ”أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب“، الحسين ماذا كان يقول؟ كان يقول: ”ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة وهيهات منّا الذلة“ والرسول ماذا كان يقول؟ كان يقول: ”واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“.

    إذن الحسين استقى خطّه واستقى طريقه من النبي المصطفى، استقى الصمود وقوة الإرادة وقوة التحدي وأصبح إعصارًا لا يلين ولا يتنازل ولا يتردّد ولا يتراجع، ”لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا افر فرار العبيد“، أصبح صمودًا وعنفوانًا أمام أعاصير الأعداء وأراجيفهم استقاءً واستمدادًا من خطّ النبي المصطفى محمدٍ . فحسينٌ مني وأنا أيضًا من حسين، لولا دم الحسين لما بقيت، لولا دم الحسين لخمد ذكري، لولا دم الحسين لانقرض وجودي، لولا دم الحسين لتبخّرت جميع طاقتي وجميع مشاريعي وجميع أتعابي، إذن جهود النبي، طاقات النبي، مشاريع النبي، جراح النبي، كلّها لولا دم الحسين لتبخّرت وانقرضت.

    جاء رجلٌ للإمام زيد العابدين ، قال له: أيهما انتصر: أبوك أم يزيد بن معاوية؟ وكان يظن هذا المسكين أنّ النصر هو النصر العسكري ولم يدرِ أنّ النصر هو النصر المعنوي التاريخي السماوي، قال له علي بن الحسين: ”إذا دخل وقت الصلاة وسمعت المؤذن ينادي:“ أشهد ألا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله ”ستعرف من انتصر أبي أم يزيد بن معاوية“.

    إذن علي بن الحسين يريد أن يقول: إنّ أبي ما ثار إلا لأجل إبقاء ذكر النبي، لأجل إبقاء مشاريع النبي، لأجل إعلاء راية النبي، فإذا بقي ذكر النبي ورايته عالية مرفرفة إذن فالمنتصر هو الحسين، فولا الحسين لما بقي النبي، ”حسينٌ مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا وأبغض الله من أبغض حسينًا، حسينٌ سبط من الأسباط“.

    وبقي الحسين وبقيت كربلاء رمزًا لا للحسين بل رمزًا للنبي المصطفى، رمزًا لجهاد النبي، لبطولة النبي، لأخلاق النبي، لقيم النبي، لمبادئ النبي المصطفى ، بقيت كربلاءُ هذه البقة المباركة بقعة أخرى كالمدينة المنورة ومكة المكرّمة، بقيت كربلاءُ منارًا آخر يضمّ إلى المنارين السابقين، فالنبي له منارات متعددّة، ومن مناراته أرض كربلاء، هذه البقعة الطاهرة، هذه البقعة التي هي بقعة من الجنة، بقعة ضمت الأجساد الطاهرة والأضرحة والقبور المشرقة المضيئة.
    ---------------------------------------------------------------------------
    [1]  سورة الانشقاق، الآية 6.
    [2]  سورة فاطر، الآية 28.
    [3]  سورة الحجر، الآية 99.
    [4]  سورة المائدة، الآية 35.
    [5]  سورة آل عمران، الآية 61.
    [6]  سورة الأحزاب، الآية 33.

  • 1

    قرأت أخيراً كتاباً لبعض الأعلام المحققين حفظه الله يُشكك فيه بسند زيارة عاشوراء المعروفة، ويجزم بأنّ الفقرة الواردة في نهاية الزيارة والخاصة بلعن خمسة أشخاص ـ أربعة منهم غير مذكورين في متن الزيارة، والخامس مصرح به وهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان لعنه الله ـ  قد أُضيفت إلى النص الذي يرويه الشيخ الطوسي في المصباح، ولم تكن في نسخة الأصل.
    علماً بأن هذه الفقرة لم ترد في النص الذي يرويه ابن قولويه رحمه الله  في كامل الزيارات، وإنما وردت في النسخ المطبوعة من مصباح المتهجد فقط.
    وقد حقَّق المؤلف حفظه الله في هذا المطلب تحقيقاً واسعاً، من خلال تتبع النسخ المخطوطة للمصباحين ـ المصباح الكبير والمصباح الصغير الذي اختصره الشيخ أبو جعفر رحمه الله  من المصباح ـ فانتهى إلى أنها من الإضافات التي أُدخلت على المصباح، ولم يذكرها الشيخ الطوسي في نسخة الأصل.
    وعندما قرأت شطراً من الكتاب المذكور تساءلت: لماذا يسعى المؤلف المحقق حفظه الله إلى التشكيك في سند هذه الزيارة؟
    وليس في هذه الزيارة شيء من الفقه؛ لنبحث عن الحجة في المسألة الفقهية.
    وليس في هذه الزيارة شيء يخالف الثابت من عقائدنا، أو يخالف الكتاب وما ثبت من السنة؛ لنتحرَّ عن وجه الدليل والحجة.
    وأما مسألة تخصيص الخمسة باللعن، وما يؤدي إليه من إثارة الفتنة بين المسلمين، فقد نفاه المؤلف من خلال تتبع نسخ المصباح المخطوطة عبر القرون، وهذه المسألة التي نفاها المؤلف لا تتطلب نفي الزيارة رأساً.
    وقد ألِف الناس هذه الزيارة الشريفة، وتوارثوها جيلاً بعد جيل. والمؤلف لم ينفِ الزيارة ولم يَدَّعِ أنها موضوعة مجعولة، وإنما شكك في السند فقط، ولكن عامة الناس من غير أصحاب الاختصاص يفهمون من هذا التحقيق أن الزيارة موضوعة، وهو ما لا يريده المؤلف قطعاً؛ إذ فرق بين ضعف السند وعدم وصول الرواية بطريق معتبر، وبين دسّ الرواية ووضعها، كما لا يخفى على أهل الاختصاص.
    فلماذا يسعى المؤلف إلى إثارة هذا التشويش على نص شريف مبارك معروف، يتوارثه المؤمنون جيلاً بعد جيل؟! وقد وجدوا أن كبار العلماء كانوا يحرصون على قراءته والتوصية به وإعظامه. وهو ـ في إجماله وتفصيله ـ متطابق مع عقائدنا التي ورثناها عن أهل البيت عليهم السلام ، بما في ذلك البراءة من أعداء آل محمد عليهم السلام  ولعن قتلة الحسين عليه السلام ، وقد أعلنهما رسول الله صلى الله عليه وآله  إعلاناً في أكثر من موضع، ولا سبيل لأحد للمناقشة في صحة هذا اللعن وهذه البراءة بالتأكيد، ومعظم المسلمين يشاركونا فيهما معاً.

    مناهج البحث في زيارة عاشوراء
    فيما يأتي من هذا المقال، نحاول أولاًـ إن شاء الله ـ أن نُلقي نظرة إلى سند هذه الزيارة لإثبات اعتبار هذه الزيارة من ناحية السند. ونحاول ثانياً أن نثبت صحة هذه الزيارة بالقرائن الموجودة في أسانيدها الخمسة عند الشيخين ابن قولويه وأبي جعفر الطوسي، حتى مع افتراض عدم اعتبار سند هذه الزيارة.

    إذن؛ نتناول دراسة هذه الزيارة إن شاء الله في هذه المقالة ضمن منهجين:
    المنهج الأول: إثبات اعتبار رواة الزيارة، وهو ما يُسمى بـمبنى الوثاقة.
    المنهج الثاني: إثبات اعتبار الزيارة نفسها، عن طريق القرائن الموجودة في أسنادها، بغض النظر عن اعتبار الرواة وعدم اعتبارهم، وهو ما يسمّى بـمبنى الوثوق بالصدور.

    المنهج الأول: تصحيح أسناد زيارة عاشوراء
    رويت زيارة عاشوراء بعدة روايات وأسانيد وطرق مختلفة، تصل إلى خمسة طرق عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق علهيما السلام ، منها:

    الرواية الأُولى: رواية الشيخ عن محمد بن خالد الطيالسي
    روى الشيخ في المصباح، عن محمّد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة، قال: «خرجت مع صفوان بن مهران الجمّال ـ وعندنا جماعة من أصحابنا ـ إلى الغري بعدما خرج أبو عبد الله عليه السلام ، فسرنا من الحيرة إلى المدينة، فلمّا فرغنا من الزيارة صرف صفوان وجهه إلى ناحية أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، فقال لنا: تزورون الحسين عليه السلام  من هذا المكان من عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام . من ها هنا أومأ إليه أبو عبد الله الصادق عليه السلام  وأنا معه، قال: فدعا[1] صفوان بالزيارة التي رواها علقمة بن محمّد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام  في يوم عاشوراء، ثم صلّى ركعتين عند رأس أمير المؤمنين عليه السلام ، وودّع في دبرها أمير المؤمنين، وأومأ إلى الحسين بالسلام منصرفاً وجهه نحوه وودّع. وكان فيما دعا في دبرها: يا الله يا الله يا الله، يا مجيب دعوة المضطرين...»[2].

    سند الرواية:
    الكلام في سند هذه الرواية يقع أولاً في طريق الشيخ إلى محمد بن خالد الطيالسي، ومن ثمّ في الطيالسي ومَن روى عنهم.

    طريق الشيخ إلى محمد بن خالد الطيالسي
    في طريق الشيخ أبي جعفر الطوسي إلى محمّد بن خالد الطيالسي يقع أحمد بن محمد بن يحيى.

    توثيق أحمد بن محمد بن يحيى
    يقول الشيخ في الفهرست في ترجمة محمّد بن خالد الطيالسي: «له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه عن محمّد بن عليّ بن محبوب عنه»[3].
    وقد انتهى الأُستاذ السيّد الخوئي قدس سره  في كتابه الكبير المعجم إلى جهالة الرجل؛ لعدم ورود توثيق فيه[4].
    ولكن المشهور كما يصرح به الأُستاذ رحمه الله  هو الاعتماد عليه[5].
    وقد وثّقه العلامة رحمه الله  في الفائدة الثامنة من خاتمة الخلاصة، ووثّقه الشهيد الثاني في الدراية، وكذلك السماهيجي، والشيخ البهائي[6].
    وكتب أبو العبّاس السيرافي إلى النجاشي في تعريف طرقه إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي، فقال: فأمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما: الحسين والحسن ابنا سعيد الأهوازيان[7]، فذكر طريقين، وفي الطريق الثاني يقع أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار...
    وهذا كلام ظاهر في توثيق الرجل، وإن شكّك سيّدنا الأُستاذ رحمه الله  في دلالته على التوثيق بـ «أن ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن يحيى، لكنه ليس كذلك، بل إن الكتب المعول عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح... ولعلّ ذكر الطريق الآخر إنّما هو لأجل التأييد»[8].
    ولكنه خلاف الظاهر من كلام السيرافي؛ فإن­ّ ظاهر كلامه: أن­ المعول عليه من كتب الحسين والحسن ابني سعيد الأهوازيين هو ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى الطريق الأوّل، وأحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي الطريق الثاني...

    وإليك نص كلام النجاشي والسيرافي:
    يقول النجاشي رحمه الله  ـ في ترجمة الحسين بن سعيد بن حماد بن مهران وفي تسمية كتب الحسين وأخيه الحسن بن سعيد ـ: «أخبرنا بهذه الكتب غير واحد من أصحابنا... منها ما كتب إليَّ به أبو العبّاس أحمد بن عليّ بن نوح السيرافي رحمه الله  في جواب كتابي إليه، يقول: والذي سألت تعريفه من الطرق إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي  رضي الله عنه . فقد روى أبو جعفر أحمد بن خالد البرقي، والحسين بن الحسن بن أبان، وأحمد بن محمد... فأمّا ما عليه أصحابنا، والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمّد بن عيسى، أخبرنا الشيخ الفاضل أبو عبد الله الحسين بن عليّ بن سفين سفيان البزوفري فيما كتب إليَّ في شعبان سنة 352 هـ قال: حدّثنا أبو عليّ الأشعري، أحمد بن إدريس بن أحمد القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد بكتبه الثلاثين كتاباً...
    وأخبرنا أبو علي أحمد بن يحيى العطّار القمّي، قال: حدّثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري وسعد بن عبد الله جميعاً، عن أحمد بن عيسى» [9].
    وهو كلام ظاهر في توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي.
    فإنّ السيرافي يقول: إن­ّ تعويلهم ـ أي أصحابنا ـ وتعويله هو في تسمية هذه الكتب بهاتين الروايتين، وفي إحداهما يقع أحمد بن محمد بن يحيى العطّار... وهو كما ذكرنا كلام ظاهر في المطلوب.
    ولكن سيّدنا الأُستاذ رحمه الله  يناقش مع ذلك في دلالة هذه الرسالة على توثيق الرجل، فيقول: «ويردّه:

    أوّلاً: ما عرفت من أن اعتماد القدماء على رواية شخص لا يدلّ على توثيقهم إيّاه؛ وذلك لما عرفت من بناء ذلك على أصالة العدالة التي لا نبني عليها.
    وثانياً: إن­ّّ ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنه ليس كذلك. بل إن تلك الكتب المعوّل عليها قد ثبتت بطريق آخر صحيح، وهو الطريق الأوّل الذي ينتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى. ولعلّ ذكر طريق آخر إنّما هو لأجل التأييد»[10].
    والإيرادان الواردان في كلام سيّدنا الأُستاذ رحمه الله  موضع تأمّل وتوقف.
    أما الإيراد الأوّل: فإنّ التعويل على رواية، إخبار عن توثيق الرواة بالملازمة، فلا يصح التعويل من غير الوثوق إلّا أن يثبت خلافه بالاعتماد في التعويل على أصالة العدالة، وهذا إخبار من قبل أصحابنا ومن ناحية ابن نوح بتوثيق الرواة الذين ورد ذكرهم في هذين الطريقين.
    فإن­ّ الظاهر من التعويل هو التوثيق، واحتمال أن يكون التعويل والاعتماد قائماً على أصالة العدالة لا التوثيق لا يعتنى به ما لم يعلم بذلك، ولا شكّ في أن مثل هذا العلم منتفٍ في المورد.
    كما أن الظاهر من التوثيق هو الاعتماد على الحس أو الحدس القريب من الحس، وليس على الحدس والاجتهاد البحت، كما يقول سيّدنا الأُستاذ نفسه رحمه الله  في مقدمة كتابه: «قلنا: إنّ هذا الاحتمال لا يُعتنى به بعد قيام السيرة على حجّية خبر الثقة فيما لم يُعلم أنّه نشأ من الحدس، ولا ريب في أنّ احتمال الحس في إخبارهم، ولو من جهة نقل كابر عن كابر وثقة عن ثقة موجود وجداناً»[11].
    نعم، إذا عرفنا من شخص أن اعتماده على راوٍ، يبتنى على أصالة العدالة عندئذٍ لا نأخذ باعتماده وتعويله. وأنّى لنا مثل هذا العلم؟!
    كيف؟! ومعظم ما لدينا من التوثيقات من القدماء , في الفهارس والرجال والتراجم، وقد بلغت كتب القدماء في التوثيق والتجريح إلى عهد الشيخ رحمه الله  نيفاً ومائة كتاب، كما يظهر من الشيخ والنجاشي..
    ولو كان دأْب القدماء ـ أو غالبهم ـ اعتماد أصالة العدالة في التعويل والاعتماد على الرواة لم يكتب القدماء هذا العدد الكبير من كتب التوثيق والتجريح، وما الحاجة إلى مثل هذا الجهد الكبير في التوثيق؟!
    يقول الشيخ رحمه الله  ـ في العدّة في آخر فصل في ذكر خبر الواحدـ: «وممّا يدل أيضاً على صحة ما ذهبنا إليه: إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الأخبار، فوثّقت الثقات منهم، وضعّفت الضعفاء، وفرّقت بين مَن يُعتمد على حديثه وروايته وبين مَن لا يُعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذمّوا المذموم. وقالوا: فلان متهم في حديثه، وفلان كذاب، وفلان مختلط في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فطحي. وغير ذلك من الطعون التي ذكروها.
    وصنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال[12] من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى أن واحداً منهم إذا أنكر حديثاً نظر في إسناده وضعف بروايته، هذه عادتهم على قديم الوقت وحديثه لا تنخرم»[13].
    هذه كلمات الشيخ رحمه الله عن دأب الطائفة في التعامل مع الرواة على أساس التوثيق، ورغم أن كلامه رحمه الله  ليس في هذا السياق، إلّا أنه واضح وصريح في أن منهج القدماء هو التحرّي والتوثيق، وليس البناء على أصالة العدالة، كما يقول سيّدنا الأُستاذ قدّس الله نفسه.
     ويقول الشيخ رحمه الله  أيضاً في العدّة: «فأمّا ما اخترته من المذهب، فهو أن­ّ خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا.. وكان ممّن لا يُطعن في روايته ويكون سديداً في نقله جاز العمل به... حتى أن واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه: من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور، وكان راويه ثقة لا يُنكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله. وهذا عادتهم وسجيتهم من عهد النبي صلى الله عليه وآله  ومن بعده من الأئمة عليهم السلام ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام  الذي انتشر العلم عنه، وكثرت الرواية من جهته»[14].
    هذا صريح كلام الشيخ رحمه الله ، وهو شيخ القدماء وخبير علم الرجال، وهو صريح في أن التعويل والاعتماد في الفتاوى والروايات على الموثوق من الروايات والرواة، وبغير ذلك لا تصح الفتاوى، ولا يسكتون عنها، ثم يصرّح بأن هذا ديدنهم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله  ومن بعده من الأئمة عليهم السلام ، وأحاديث الصادق جعفر بن محمد عليه السلام  إلى عهد الشيخ. ولو كان المتقدّمون , يعوّلون على الراوي بناءً على أصالة العدالة ـ إذا ثبت إيمانه ـ ولم يثبت عليه طعن لما صحّ هذا الكلام كلّه.
    ويقول الحر العاملي رحمه الله  ـ في خاتمة الوسائل في الفائدة التاسعة في الوجه الرابع عشر ـ: «فإن أجابوا بأصالة العدالة، أجبنا بأنه خلاف مذهبهم، ولم يذهب إليه منهم إلّا القليل. ومع ذلك يلزمهم الحكم بعدالة المجهولين والمهملين، وهم لا يقولون به، ويبقى اشتراط العدالة بغير فائدة»[15].
    وبناءً على ذلك؛ فإنّنا نعتمد تعويل القدماء واعتمادهم على الرواة، ونعتقد أن الظاهر من الاعتماد والتعويل هو التوثيق.
    ولا شكّ في أنّنا نعمل بتوثيق القدماء ممّن كان في عصر السيرافي ابن نوح، كما نعمل بتوثيقات الشيخ والنجاشي.. وقد كان ابن نوح في عصر النجاشي، وموضع ثقة النجاشي، يعتمده ويراسله ويطلب منه التعريف بالرجال والكتب[16].

    وأما الإيراد الثاني الذي أورده الأُستاذ رحمه الله  على دلالة كلام ابن نوح على توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى: «أن ذلك إنّما يتم لو كان الطريق منحصراً برواية أحمد بن محمّد بن يحيى، لكنه ليس كذلك... ».

    أقول: هذا هو الظاهر من كلام ابن نوح، وغيره خلاف الظاهر.. فلو قال أحد: إنّه يعوّل على خبر ما برواية فلان وفلان، فإن­ّ الظاهر من الكلام هو أن كلاً من الروايتين، والراويين موثوقان عنده... وأنّه يعوّل فيه على كلّ واحد منهما بانفراد واستقلال.
    والمرجع في هذا الظهور هو العرف العام للناس في التحاور، وهذا العُرف ببابك.
    ومع قيام هذا الظاهر؛ فلا شكّ في أنّ الناس لا يعبأون بالاحتمالات المخالفة للظاهر، ويردونها بالظاهر، ولو كنّا نأخذ بالاحتمالات المخالفة للظاهر، لم يسلم لنا ظاهر في التحاور بين الناس. وقد أمضى الشارع هذا الأُسلوب الذي يجري عليه الناس في محاوراتهم اليومية.
    بناءً عليه؛ فإنّ كتاب ابن نوح السيرافي إلى الشيخ النجاشي ظاهر في توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، وهذا هو الذي اختاره المحقّق الشيخ عبد الله المامقاني رحمه الله ، قال في ترجمة أحمد بن يحيى العطّار القمّي: «وممّا يشير إلى جلالة الرجل ما كتبه ابن نوح إلى النجاشي في جواب كتابه الذي سأله فيه تعريف الطرق إلى ابني سعيد الأهوازي الحسن والحسين: أمّا ما عليه أصحابنا والمعوّل عليه ما رواه عنهما أحمد بن محمّد بن عيسى... وحدّثنا أبو علي أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي، قال: حدّثنا...»[17].

    وبذلك يسلم لنا طريق الشيخ رحمه الله  إلى محمّد بن خالد الطيالسي، والذي وقع في سلسلة سند زيارة عاشوراء.
    محمّد بن خالد الطيالسي
    لم يرد فيه ذم وجرح من أحد من القدماء والمتأخرين، على الإطلاق.
    وقد روى عنه جملة من أجلاّء أصحابنا، مثل محمّد بن علي بن محبوب، وعلي بن الحسن بن فضال، وسعد بن عبد الله، وحميد بن زياد، وهم جميعاً من ثقات الأصحاب.
    قال الشيخ في الفهرست: «محمّد بن خالد الطيالسي، له كتاب رويناه عن الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن محمّد بن علي بن محبوب عنه»[18].
    وقال عنه الشيخ في الرجال ـ فيمن لم يرو عنهم عليهم السلام  ـ: «محمّد بن خالد الطيالسي، روى عنه حميد أُصولاً كثيرة»[19].
    وحميد هذا هو حميد بن زياد، وثّقه الشيخ في الفهرست[20]، والنجاشي[21]، والعلامة[22]، وابن شهرآشوب[23]. وقد عرفت اهتمام حميد به وروايته عنه أُصولاً كثيرة.
    وهذا يحقّق ـ من دون ريب ـ مرتبةً من مراتب الحُسْن الذي يبعث في النفس الاطمئنان إلى رواياته.
    يقول المحقّق المامقاني في ترجمته: «وظاهرها كونه إمامياً، ويمكن اتصافه بأدنى درجات الحُسن باعتبار رواية الأجلّة عنه»[24].

    وبالنظر إلى النقطتين الآتيتين نستريح إلى الأخذ برواياته:
    النقطة الأُولى: عدم ورود أي تجريح ـ أو طعن فيه ـ في الفهارس وكتب الرجال.
    النقطة الثانية: رواية الأجلّاء عنه من الذين عُرفوا بالوثاقة، وشهدت بوثاقتهم المدوّنات الرجالية. ومنهم مَن عُرف عنه أنّه قلّ ما يروي عن الضعفاء مثل: علي بن حسن الفضال، فقد قالوا: إنّه لم يرو عن أبيه[25]، ومثل محمّد بن علي بن محبوب الذي يقول عنه النجاشي: «ثقة، عين، فقيه»[26]. وسعد بن عبد الله الذي صرّح الشيخ بوثاقته[27].
    وأمّا حميد بن زياد، فقد روى عنه ـ  كما يقول الشيخ ـ أ­ُصولاً كثيرة. وقد وثّقه ـ كما قلنا ـ الشيخ والنجاشي والعلامة وابن شهرآشوب.
    وهذه النقطة وتلك تجعل الإنسان يستريح إلى رواياته، ويطمئن إلى أن الرجل لم يكن وضّاعاً أو مخلّطاً، وإلّا لم يكن يأخذ برواياته الأجلّاء الموثقون من الرواة المتقدّمين.
    وقد قال المحقّق المامقاني  رحمه الله  في ترجمة السكوني: «إن كثرة الرواية عنه من قبَل الأصحاب أمارة على وثاقته»[28]. وإذا توقفنا في دلالتها على الوثاقة، فلا أقلّ من الدلالة على حسنه وقوّته.
    وقد كان القدماء من أصحابنا الأجلّاء يحترزون عن الرواية عن الضعفاء والمخلطين مباشرةً ومن غير واسطة. نعم، كانوا يتسامحون في الرواية عنهم بالواسطة، وكانوا يرون في الرواية عن الضعفاء مثلبةً[29].
    ومهما يكن من أمر؛ فإنّا نستريح إلى روايات محمّد بن خالد الطيالسي في زيارة عاشوراء وغيرها؛ بناءً على هاتين النقطتين، ونرى أنّهما يكفيان في التحسين، إن لم يكفيا في التصحيح، والعمل بالروايات الحسان أمر شائع معروف مقبول عند علمائنا كالصحاح؛ بناءً على تقسيم العلامة وشيخه أحمد بن طاووس ..

    سيف بن عميرة النخعي
    وهو ثقة، قاله النجاشي[30]، والشيخ في الفهرست[31]، وابن شهرآشوب[32]، والعلامة في الخلاصة[33].

    صفوان الجمال
    وهو صفوان بن مهران بن المغيرة الأسدي الجمال كوفي ثقة، كما يقول النجاشي: «روى عن أبي عبد الله عليه السلام  كان جمّالاً. له كتاب يرويه جماعة...» [34].
     وفي الفهرست روى كتابه بطريق إليه عن السندي بن محمد عنه[35].
    فرواية الشيخ الطوسي عن محمد بن خالد الطيالسي رواية معتبرة.

    الرواية الثانية: رواية الشيخ عن ابن بزيع
    روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في المصباح بسنده، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة، عن علقمة بن محمد الحضرمي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام [36].

    طريق الشيخ إلى ابن بزيع
    يقول أُستاذنا السيد الخوئي عن طريق الصدوق إليه: «والطريق صحيح كطريق الشيخ، وإن كان في بعضها ابن أبي جيد»[37].

    محمد بن إسماعيل بن بزيع
    أمّا محمد بن إسماعيل بن بزيع، فقد قال عنه النجاشي: «من صالحي هذه الطائفة وثقاتهم»[38]. وقال عنه الشيخ: «ثقة، صحيح» [39].

    صالح بن عقبة
    وهو مجهول لم يرد فيه توثيق

    سيف بن عميرة النخعي
    تقدم الكلام فيه.

    علقمة بن محمد الحضرمي
    وهو من أصحاب الإمام الباقر والصادق علهيما السلام . له موقف مع زيد بن علي رضي الله عنه يرويه الكشّي، يدل على حُسن حاله[40]. لم يرد في توثيقه شيء.
    فالسند تام ـ إذن ـ إلّا من ناحية علقمة بن محمد، ولا يضر وجود صالح بن عقبة في السند؛ لوجود سيف بن عميرة معه.
    ولكن الرواية الأُولى المتقدمة عن الشيخ لزيارة عاشوراء ـ وهي رواية صفوان بن مهران الجمال ـ تشهد بصحة رواية علقمة.
    فإن سيف بن عميرة يقول: «إنّ صفوان دعا بالزيارة التي رواها علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام  في يوم عاشوراء» كما تقدّم.
    وهي تدل على صحة رواية علقمة في هذا السند. ولا إشكال في بقية رجال السند، ولا في طريق الشيخ إلى محمد بن إسماعيل بن بزيع.
    بل في هذه الرواية ـ التي يرويها الشيخ في المصباح، عن محمد بن خالد الطيالسي، عن سيف بن عميرة، عن صفوان ـ ما يدل على جلالة شأن علقمة بن محمد؛ فقد ورد في آخر الرواية: أنّ صفوان لما قرأ عليهم دعاء الزيارة، قال له سيف بن عميرة: إنّ علقمة بن محمد الحضرمي لم يأتنا بهذا عن أبي جعفر عليه السلام ، إنّما أتانا بدعاء الزيارة. فقال صفوان: وردت مع سيدي أبي عبد الله عليه السلام... إلخ. وكأنّ سيف بن عميرة يقول لصفوان: إن كان هذا الدعاء وارداً بعد الزيارة لرواه لنا علقمة بن محمد، وهو يدل على درجة عالية من وثوق سيف بن عميرة برواية علقمة بن محمد الحضرمي، فيشرح له صفوان أنه سمع هذا الدعاء من أبي عبد الله الصادق عليه السلام  مباشرة.
    وكيفما كان، فإنّ اعتبار رواية الطيالسي يؤدي إلى اعتبار السند الثاني الذي يذكره الشيخ في المصباح لزيارة عاشوراء ودعائها.

    المنهج الثاني:منهج الوثوق بالصدور بتجميع القرائن
    يمكن إثبات صدق الرواية بالقرائن الموجودة في إسنادها، حتى على افتراض عدم ثبوت اعتبار الرواة، ولا منافاة بين نفي الاعتبار عن الرواة وصدق الرواية.
    إذن؛ الفرق بين المنهجين أننا نتحدث عن وثاقة واعتبار الرواة في المنهج الأول، وعن صدق الرواية وصدورها في المنهج الثاني.
    وقبل أن ندخل المنهج الثاني؛ ولأننا نستعمل كلمة الاستبعاد في هذا المنهج بصورة متكررة لا بد من توضيح لهذه الكلمة والعلاقة بينها وبين الاطمئنان.

    معنى الاطمئنان والاستبعاد
    الاطمئنان حالة نفسية متاخمة للعلم يتعامل معها العقلاء معاملة العلم؛ ولأن الشارع لم يُلغ هذا الاعتبار العقلائي يكون الاطمئنان حجةً كالعلم، ويترتب عليه ما يترتب على العلم من الحجية.

    ومعنى الاطمئنان هو ركون النفس إلى ثبوت شيء.
    وبخلافه الاستبعاد، فهو بمعنى ركون النفس إلى انتفاء احتمال الخلاف إلى حدود متاخمة للصفر؛ بحيث لا يعبأ به العقلاء ويلغونه من الحساب في مقام العمل، فهما متلازمان ووجهان لقضية واحدة.
    فإذا دخلنا إلى بناية مشيّدة قوية البنيان نطمئن إلى حالة الأمن والسلامة في البناء إلى حدود متاخمة للعلم، ونستبعد حدوث الخطر إلى حدود متاخمة للصفر؛ بناءً على حساب الاحتمالات، وهو حساب علمي عقلائي يبني عليه العقلاء ويرتبون عليه الأثر إيجاباً أو سلباً.
    ولا إشكال في أنّ الركون إلى انتفاء احتمال الخلاف يختلف عن حالة العلم بالانتفاء، ولكن العقلاء يتعاملون معه معاملة العلم بانتفاء احتمال الخلاف، وهو بمعنى إلغاء احتمال الخلاف في مقام العمل.

    وكل منهما حجة عند العقلاء وعند الشارع.
    أما الحجية العقلائية؛ فلأن العقلاء يتعاملون معهما معاملة العلم بالثبوت والعلم بانتفاء احتمال الخلاف.
    وأمّا الحجية عند الشارع؛ فلأن الشارع لم يُلغ هذا الاعتبار العقلائي فيهما معاً، وعدم الإلغاء في أمثال هذه الموارد بمعنى الإمضاء، فهو بمثابة العلم عند الشارع ويترتب عليه ما يترتب على العلم من الحجية.

    تحديد موضوع البحث
    لسنا أمام مسألة فقهية؛ فليس في زيارة عاشوراء حكم فقهي. ولا مسألة عقائدية، ولو كانت مسألة عقائدية لم ينفعنا خبر الواحد، إلّا إذا كان محفوفاً بقرائن توجب القطع أو الاطمئنان.
    ولسنا بصدد أن نعرف النص الكامل الصحيح الصادر عن الإمام أبي جعفر عليه السلام ؛ فإن إضافة كلمة أو نقصانها أو جملة لا تخلّ بالزيارة، وتحصل بها الزيارة، كما هو الشأن في اختلاف النسخ في سائر الزيارات والأدعية، وليس ذلك بمانع لنا من أن ندعوا الله تعالى بها أو نزور بها المعصومين عليهم السلام ، ما لم تُدخلنا الزيادة في بدعة أو مخالفة للكتاب والسنة، وما لم تكن النقيصة مخلّة بالغاية من الزيارة. وليس في زيارة عاشوراء شيء من ذلك.
    وأما مسألة اللعن، فلا يوجد في النص الذي يرويه ابن قولويه رحمه الله ،  والذي ورد من ذلك في المصباح، فقد تتبع المؤلف حفظه الله النسخ الخطية له، فلم يجد فيها هذه الجملة.
    وعليه؛ فإن المسألة المهمة عندنا في هذا البحث أن نعرف هل أنّ نص الزيارة الواردة في كامل الزيارات ومصباح المتهجّد مجعول أم لا؟
    ولمعرفة هذه المسألة لا بد أن نحصر الأشخاص الذين يمكن أن نتّهمهم بالوضع والجعل ممّن ورد ذكرهم في إسناد هذه الرواية لدى الشيخين ابن قولويه وأبي جعفر الطوسي ..
    فنقول: أمامنا طرق خمسة إلى هذه الزيارة من خلال استعراض أسناد هذه الزيارة في كامل الزيارات والمصباح، وإليك هذه الأسانيد:

    أسانيد الزيارة عند الشيخ الطوسي رحمه الله
    1ـ محمد بن إسماعيل بن بزيع ← عن صالح بن عقبة ← عن أبيه ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
    2ـ محمد بن إسماعيل بن بزيع ←  عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة  ← عن علقمة بن محمد الحضرمي ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
    3ـ محمد بن خالد الطيالسي   ← عن سيف بن عميرة   ← عن صفوان الجمال   ← عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام .

    أسانيد الزيارة عند ابن قولويه رحمه الله
    1ـ حكيم بن داود وغيره  ← عن محمد بن موسى الهمداني  ← عن محمد بن خالد الطيالسي ← عن سيف بن عميرة وصالح بن عقبة ← عن علقمة بن محمد الحضرمي   ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
    2ـ حكيم بن داود  ← عن محمد بن موسى الهمداني  ← عن محمد بن خالد الطيالسي ومحمد بن إسماعيل ← عن صالح بن عقبة ← عن مالك الجهني ← عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .

    الرواة الذين لم يرد توثيقهم في هذه الأسانيد
    1ـ صالح بن عقبة.
    2ـ عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة والد صالح.
    3ـ علقمة بن محمد الحضرمي.
    4ـ محمد بن خالد الطيالسي.
    5ـ محمد بن موسى الهمداني.
    6ـ مالك الجهني.

    وهؤلاء لم توجه إلى أي منهم تهمة الجعل والوضع والكذب عدا محمد بن موسى الهمداني.
    ومع ذلك، نحن ننطلق في هذه المطالعة الجديدة لأسانيد زيارة عاشوراء من منطلق افتراض أنّ كل واحد من هؤلاء الستة يمكن أن يكون عاملاً في انتحال هذه الزيارة؛ لنرى هل يصح هذا الافتراض أم لا؟
    وإذا ثبت امتناع هذا الافتراض ـ أو استبعاده إلى حدود الامتناع العادي ـ في جميعهم أو جملة منهم تثبت بذلك صحة الزيارة.
    وإذا انتهينا إلى إمكان هذا الافتراض توقفنا عن تصحيح الزيارة بهذا المنهج واكتفينا بالمنهج الرجالي المتقدم في إثبات صحة زيارة عاشوراء.

    السند الأول والثاني عند الشيخ الطوسي
    أقول: في السند الأول من الأسناد الثلاثة التي يذكرها الشيخ أبو جعفر رحمه الله  لزيارة عاشوراء لا يمكن أن نتهم صالح بن عقبة بالوضع؛ لأن صالحاً يروي الزيارة بالاشتراك مع سيف عن علقمة في السند الثاني؛ فإنّ محمد بن إسماعيل يروي الزيارة في السند الثاني عن صالح وسيف معاً عن علقمة، ولا إشكال في وثاقة الراوي والمروي عنه وهما: محمد بن إسماعيل وسيف، وصالح شريك سيف في الرواية عن علقمة والتحديث بها لمحمد بن إسماعيل.
    فلماذا ينتحل هذه الرواية، وقد سمعها حقاً عن علقمة.
    ولا ريب في أن صالحاً قد سمع الرواية التي يرويها علقمة عن الإمام الباقر عليه السلام ، حتى لو اتهمناه بالوضع، إذ من الممتنع أن ينتحل هذه الزيارة، وهو لم يسمعها من علقمة مباشرة أو بواسطة، ثم يتطابق النص الذي انتحله، بعد فترة مع النص الذي يرويه علقمة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام .
    وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن انتحال هذا النص عمل عبثي، لا داعي إليه، ولماذا يكذب صالح وينتحل وله طريق حقيقي إلى رواية الزيارة عن علقمة بلا واسطة أو بواسطة؟!
    فلا بد أن نصحح هنا رواية صالح، ونصدّقه في روايته، سواء وثّقناه أم لم نوثقه.
    وأما أبوه، وهو عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، فمن المستبعد جداً تواطؤه مع سائر الرواة ـ الذين رووا هذه الرواية عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق علهيما السلام  ـ على انتحال هذه الزيارة بصيغة واحدة، وهم أربعة على الأقل، وهم والد صالح، وعلقمة بن محمد الحضرمي، ومالك الجهني، عن أبي جعفر عليه السلام ، وصفوان عن الإمام الصادق عليه السلام .
    ومن المستبعد جداً أن يتفقوا على انتحال نص بالكامل، ثم ينسبونه إلى أبي جعفر وأبي عبد الله علهيما السلام .
    نعم، قضايا الانتحال كثيرة، ولكننا لا نعرف جماعة يتواطؤون على انتحال نص ونسبته إلى مصدر معين.
    ولو صح ذلك لكان أمراً خطيراً للغاية، ويعني وجود عصابات في سلاسل الرواة يتفقون على انتحال النصوص وينسبونها إلى المعصومين عليهم السلام ، ويتواطؤون على روايتها عنهم.
    ولو كان كذلك لافتضح أمرهم، وشهّروا بهم وأسقطوهم، ومن غير الممكن اختفاء أمرهم على حفاظ الحديث وشيوخ الرواية وأصحاب الجرح والتعديل الحريصين على ودائع النبوة والإمامة، ومن غير الممكن السكوت عنهم وعدم التحذير من رواياتهم..
    إنّ احتمال حصول تواطؤ بين عدد من المحدثين على صياغة نصوص موحّدة في الأدعية والزيارات وغيرهما مثلاً، ونسبتها إلى المعصومين والتحديث بها أمر في غاية الاستبعاد.
    وعليه؛ فإننا إذا وجدنا أنّ علقمة بن محمد الحضرمي، وعقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، ومالك الجهني، وصفوان بن مهران يروون نصاً واحداً، باختلافات يسيرة عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله علهيما السلام ، لا نحتمل أنّهم قد تواطؤوا على ذلك.
    ولو كان يحصل شيء من هذا القبيل في زيارة عاشوراء من خلال شبكة منظّمة متواطئة على الوضع والجعل والانتحال بصورة جماعية، لم يقتصر أمرهم على زيارة عاشوراء، ولتوسّعوا في الجعل والوضع في الفقه والتفسير والعقائد والأدعية والزيارات، ولو وقع شيء من هذا القبيل من خلال مجموعة متواطئة من الرجال في أسانيد الأحاديث؛ لافتضح أمرهم بالضرورة، ولكثر التحذير منهم، والتشهير بهم، من خلال علماء الجرح والتعديل الحريصين على ودائع الوحي والنبوّة.

    السند الثالث عند الشيخ الطوسي
    وأما السند الثالث في المصباح ـ الذي يتصدره محمد بن خالد الطيالسي، برواية الشيخ عنه ـ فقد تبين رأينا في اعتبار رواياته. ومن غير الممكن التشكيك في روايته هذه؛ حتى بناءً على الرأي الآخر، وهو سلب الاعتبار عن رواياته؛ إذ لا يمكن اتهامه بوضع هذه الرواية على لسان سيف بن عميرة؛ فإن سيف بن عميرة يروي هذه الرواية حقاً عن علقمة بن محمد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام ، كما في السند الثاني، وهو ثقة في روايته..
    فإن كان محمد بن خالد الطيالسي لا يعلم برواية سيف بن عميرة للزيارة عن علقمة، عن الإمام أبي جعفر عليه السلام ، فوضع هذه الزيارة فتطابقت تماماً مع النص الذي يرويه سيف بن عميرة ـ من باب الصدفة ـ فهو يكاد يكون مستحيلاً ممتنعاً؛ لاستحالة أن يضع محمد بن خالد الطيالسي نصاً ينسبه إلى سيف بن عميرة، ويصادف أنّ سيف بن عميرة يروي النص نفسه بالتمام عن علقمة عن أبي جعفر عليه السلام ، ومحمد بن خالد لا يعرف بذلك، وإن كان يعلم برواية سيف للزيارة عن علقمة، ثم يبادر إلى وضعها على لسان سيف ـ بالألفاظ نفسها في سند آخر ـ  فهو أمر غير عقلائي جداً. ولا داعي إلى ذلك غير تكثير طرق الزيارة وهو سبب ضعيف جداً، لا يعبأ به العقلاء في محاوراتهم وإخباراتهم اليومية.
    ولو كان محمد بن خالد الطيالسي بهذه المثابة من الاستهانة بأمر الوضع والجعل، والإقدام على الوضع بأدنى سبب لاشتهر أمره بين أرباب الجرح والتعديل.
    وقد عرفنا أنّ الرجل لم يرد فيه أي جرح في المصادر الرجالية.
    وعليه؛ فلا سبب يدعو إلى التوقف في قبول رواية محمد بن خالد الطيالسي في السند الثالث الذي يذكره الشيخ أبو جعفر. وسائر رجال السند موثوقون، وقد نصّ الأصحاب على وثاقتهم.

    سندا كامل الزيارات
    وفي السند الأول والثاني في كامل الزيارات يُتَّهمُ محمد بن موسى الهمداني بالوضع، ولكننا نستبعد ـ حسب المنهجية السابقة ـ أن يكون قد عمد إلى انتحال نص هذه الزيارة على لسان محمد بن خالد الطيالسي ومحمد بن إسماعيل بن بزيع[41]؛ فإن محمد بن إسماعيل بن بزيع يروي هذا النص عن صالح بن عقبة وسيف بن عميرة جميعاً عن علقمة، والسند فيما عدا علقمة تام.
    ومحمد بن موسى الهمداني مطلع بالتأكيد على النص الذي يرويه محمد بن إسماعيل عن صالح وسيف جميعاً عن علقمة لتطابق النصين في كثير من فقراتهما، وإن اختلفا في بعض الفقرات.
    ومن الممتنع عادة ألاّ يكون محمد بن موسى مطلعاً على هذا النص، فيضع نصاً على لسان محمد بن خالد ومحمد بن إسماعيل، متطابقاً مع النص الذي يرويه محمد بن إسماعيل، صدفة.
    وهذا أمر مستبعد جداً إلى حدود الامتناع العادي.
    واذا قبلنا أن محمد بن موسى الهمداني كان مطلعاً على رواية محمد بن إسماعيل بواسطة أو من غير واسطة، فليس هناك من داع إلى انتحال الرواية؛ فمن الممكن أن يرويها عنه بواسطة أو من غير واسطة. إلّا أن تكون غايته تكثير طرق النص، وهو أمر بعيد جداً، إلّا أن استبعادنا هنا أخفّ من استبعادنا ذلك في رواية محمد بن خالد الطيالسي.
    وأما الكلام عن مالك الجهني الذي يروي نص الزيارة عن الإمام الباقر عليه السلام ، فنقول ـ وفق المنهجية التي تحدثنا عنها من قبل في تصديق رواية علقمة ـ: إننا نستبعد جداً تواطؤ هؤلاء الثلاثة عقبة بن قيس بن سمعان بن أبي ذبيحة، وعلقمة بن محمد، ومالك الجهني على انتحال رواية عن الإمام الباقر عليه السلام . وقد عرفنا أنّ في رواية سيف بن عميرة عن صفوان تصحيحاً وتأكيداً لرواية علقمة عن الإمام الباقر عليه السلام .

    وبعبارة أُخرى نقول: ليس بين أيدينا أكثر من حالتين ممكنتين ثبوتاً، وسائر الحالات افتراضات ضعيفة جداً:
    الحالة الأُولى: أن يتواطأ الراويان ـ أو يتواطأ الرواة ـ على انتحال نص في الدعاء، أو الزيارة، أو حكم شرعي، أو حدث تاريخي وغير ذلك، وهذا المعنى وإن كان ممكناً ثبوتاً، ولكنه مستبعد جداً من الجهة الإثباتية، فلو كان شيء من هذا القبيل يحصل في طرقنا ورواياتنا لما أمكن التكتُّم عليه؛ ولاشتهر أمره في كتب الجرح والتعديل؛ ولبادر علماء الرجال والجرح والتعديل إلى نَبْذه والتشهير بمَن يقوم به، ولا يمكن السكوت عنه.
    وعليه؛ فإن عدم تصريح علماء الرجال من المتقدمين والمتأخرين بحالات من أمثال ذلك يساوق عدم وجوده؛ أي عدم الثبوت يساوي ثبوت العدم.

    الحالة الثانية: أن ينفرد كل واحد منهم بوضع النص، فيتطابق النصّان أو النصوص صدفة.. وهذا الاحتمال بموجب حساب الاحتمالات، أبعد من الاحتمال الأول، حتى مع وجود اختلاف يسير بين النصوص، كما في زيارة عاشوراء، فهناك اختلاف بين النص الذي يرويه ابن قولويه في الكامل والنص الذي يرويه الشيخ في المصباح.
    أما سائر الحالات، فهي ضعيفة جداً أو يؤول أمرها أخيراً إلى واحدة من الحالتين اللتين حكمنا عليهما بالاستبعاد بمعنى إلغاء احتمال الخلاف رأساً عند العقلاء وفي الشرع.
    أقول: وعليه؛ فإنَّ الغاية في الدراسات السندية لأمثال هذه النصوص إثبات أنّ النص ليس منتحلاً بالكامل، كالزيارة المفجعة، ودعاء حُبّي، ودعاء كنز العرش من الأدعية المجعولة على ما يذكره المحدث الشيخ عباس القمي رحمه الله  في مفاتيح الجنان؛ حيث يشكو بمرارة من انتحال الأدعية والزيارات.
    وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنّ بعض ما ذكرنا هنا يكفي للاطمئنان إلى أنّ النص الذي يرويه علقمة وغيره من الأصحاب في زيارة الحسين عليه السلام  يوم عاشوراء قد ألقاه وأملاه الإمام الباقر عليه السلام ، بل والصادق عليه السلام  أيضاً على أصحابهم وشيعتهم في زيارة الحسين عليه السلام  يوم عاشوراء، وليس بمزوَّر ولا مُنتَحل ولا موضوع.
    ثمَّ من المؤكَّد أن هذه الزيارة قد شاعت شياعاً واسعاً في أجواء المؤمنين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويواظب عليها علماء الطائفة، ولم تكن تخفى عليهم الملاحظات التي تُذكر، ولن يهابوا الناس في نفيها، إلّا أنهم كانوا لا يعبأون بهذه الملاحظات لسببين:

    السبب الأول: النقاط التي أوردناها في هذه المقالة على تلك الملاحظات.
    والسبب الآخر:عدم جدوى إثارة التشويش حول هذه المسائل، ما لم تتضمن بدعة في الدين، أو مخالفة للكتاب والسنة. وقد علمنا أن هذه الزيارة لا تتضمن شيئاً من ذلك..
    وأما مسألة اللعن، فقد ناقشها المؤلف بتفصيل، بل خصص لها أغلب صفحات كتابه.
    على إننا إذا تجاوزنا ذلك كله، فقد وردت روايات صحيحة، من دون شك في استحباب زيارة الحسين عليه السلام  مطلقاً، في يوم عاشوراء بصورة خاصّة، من دون التقييد بنصّ خاص، ومن ذلك:
     ما يرويه الصدوق في عيون أخبار الرضا والأمالي، بسنده عن الريان بن شبيب ـ خال المعتصم ـ قال: «دخلت في أول يوم من المحرم على الرضا عليه السلام ، فقال لي:...يا بن شبيب، إن سَرّك أن تلقى الله } ولا ذنب لك فزر الحسين»[42]. والرواية صحيحة.
    وما يرويه الشيخ في التهذيب، بسنده عن زيد الشحام، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: «مَن زار قبر أبي عبد الله عليه السلام  يوم عاشوراء عارفاً بحقه كان كمَن زار الله تعالى في عرشه»[43].
    وزيارة عاشوراء المعروفة واحدة من مصاديق زيارة الحسين عليه السلام ، فهي مشمولة بما ورد في الروايات المطلقة من الأجر والثواب، ومستحبّة، ويصح التعبد بها، كأي نصّ آخر، إلّا أن يكون في النص ما يخالف الكتاب وما صحّ من السنّة الشريفة، وليس في زيارة عاشوراء شيء من ذلك.
    والتحقيق الواسع الذي أجراه المؤلف في النصّ الذي يرويه الشيخ في المصباح يرفع الشبهة التي يتوقف عندها المؤلف.
    فليس من سبب للتوقف في استحباب هذا النصّ وإيجابه للأجر والثواب الذي يبتغيه المؤمنون منه.
    ------------------------------------------------------------------------------------------------------------
    [1] يعني طلب صفوان الزيارة التي رواها علقمة. ويمكن أن تكون (دعا) بمعنى زار تجوزاً، أو لما في زيارة عاشوراء من الدعاء، ولكن المعنى الأوّل أظهر. أو يكون المعنى: فطلب صفوان متن الزيارة، وهو احتمال ضعيف.
    [2] الطوسي، مصباح المتهجد: ص777. المجلسي، بحار الأنوار: ج101، ص296 ـ300.
    [3] الطوسي، الفهرست: ص634.
    [4] الخوئي، معجم رجال الحديث: ج3، ص122.
    [5] المصدر السابق: ج3، ص121.
    [6] المصدر السابق: ج3، ص121.
    [7] اُنظر: المصدر السابق: ج3، ص122.
    [8] المصدر السابق: ج3، ص122.
    [9] رجال النجاشي: ص44.
    [10] الخوئي، معجم رجال الحديث: ج3، ص122.
    [11] المصدر السابق: ج1، ص41.
    [12] قال العالم المحقق خليل بن الغازي القزويني في شرح (واستثنوا الرجال): «أي التصانيف التي رواها الرجال مثل ما روي عن ابن الوليد أنه قال: ما تفرد به محمّد من كتب يونس لا يُعتمد عليه».
    [13] الطوسي، العدة: ج1، 366. بشرح القزويني وتحقيق الشيخ محمد مهدي نجف.
    [14] المصدر السابق: ص337 ـ 338.
    [15] الحر العاملي، وسائل الشيعة: ج20، ص102.
    [16] ومن ذلك ما ذكره الشيخ النجاشي رحمه الله  في ترجمة أحمد بن عيسى؛ حيث ينقل عن ابن نوح كتبه، فيروي له ابن نوح كتبه، وفي سند ابن نوح أحمد بن محمّد بن يحيى أيضاً. اُنظر: رجال النجاشي: ص60.
    [17] الماماقاني، تنقيح المقال: ج2، ص95، الطبعة الحجرية.
    [18] الطوسي، الفهرست: ص228.
    [19] الطوسي، رجال الشيخ: ص499، في مَن لم يرو عن الأئمة عليهم السلام  رقم 54.
    [20] الطوسي، الفهرست: ص114.
    [21] النجاشي، رجال النجاشي: ص132.
    [22] خلاصة الأقوال، العلامة الحلي: ص 436.
    [23] معالم العلماء، ابن شهرآشوب: ص 79.
    [24] تنقيح المقال ج3، ص114،  الطبعة الحجرية.
    [25] معجم رجال الحديث، السيد الخوئي: ج 12، ص 362.
    [26] رجال النجاشي، النجاشي: ص 349.
    [27] الفهرست، الشيخ الطوسي: ص 135.
    [28] مقباس الهداية للمحقق المامقاني (ملحق بكتاب الرجال:ص 78،  الطبعة الحجرية).
    [29] لقد نصّ النجاشي بأنّه يتجنّب الرواية عن الضعفاء في مواضع من كتابه. منها قوله في ترجمة أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن عياش: «رأيت هذا الشيخ وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو عنه شيئاً وتجنبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي...» رجال النجاشي:ص 63.
    وقال في ترجمة محمّد بن عبد الله بن عبيد الله بن البهلول: «وكان في أوّل الأمر ثبتاً ثمّ خلط ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه... إلى أن يقول: رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً، ثم توقفت عن الرواية عنه إلّا بواسطة بيني وبينه». رجال النجاشي: ص282.
    وهذه النقطة وإن كانت من خصائص الشيخ النجاشي رحمه الله  وبعض أصحابنا، إلّا  أنّها تعكس لنا عن منهجيّة الثقات والرواة الأجلّاء من القدماء في التحرز عن الروايات عن الوضّاعين والضعفاء والمخلطين، وقد يذهب بعض إلى وثاقة مشايخ الثقات مطلقاً، إلّا من يثبت له خلافه.
    وهذا مبنى ضعيف، بلا شك، ولكن عدم توقف ثقات الرواة عن الرواية عن شخص، وإكثار الرواية عنه يكشف عن حُسن حال الراوي، وهذا المقدار يكفي في الرواية عنه، إلّا أن يثبت خلافه بدليل، والشواهد على ذلك عديدة في الرواة.
    يقول السيد محسن الأعرجي الكاظمي ـ في كتابه (عدة الرجال) في الأمارات على الوثاقة ـ: «ومنها كثرة تناول الأجلاّء منه وروايتهم عنه، بل إكثار الجليل المستخرج فی روايته عنه». عدة الرجال: ص134.
    [30] النجاشي، رجال النجاشي: ص189.
    [31] الطوسي، الفهرست: ص140.
    [32] ابن شهرآشوب، معالم العلماء: ص91.
    [33] العلامة الحلي، خلاصة الأقوال: ص160.
    [34] اُنظر: النجاشي، رجال النجاشي: ص198.
    [35] الطوسي، الفهرست: ص147.
    [36] الطوسي، مصباح المتهجد: ص772ـ773.
    [37] الخوئي، معجم الرجال: ج15، ص100.
    [38] النجاشي، رجال النجاشي: ص330.
    [39] الطوسي، رجال الطوسي: ص364.
    [40] الطوسي، اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي): ج2، ص714.
    [41] نحن نحتمل ما يرجّحه المؤلف (حفظه الله) من أن مقصود الشيخ ابن قولويه من قوله: وكذلك محمد بن إسماعيل، عطف محمد بن إسماعيل على محمد بن خالد الطيالسي؛ نظراً لتناسب الطبقة بينه وبين محمد بن خالد الطيالسي وعدم تناسب الطبقة بينه وبين الشيخ ابن قولويه.
    [42] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج1، ص268ـ269. الشيخ الصدوق، الأمالي: ص192ـ193.
    [43] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: ج6، ص51.

    {آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي}

  • 1


     
    يأتي بها محرّمٌ كلَّ عام
    بندبةٍ يبكي لها كلُّ شيء
     
    يا ربِّ أوزعني على الصبر فيه
    برحمةٍ قد وسعت كلَّ شيء
     
    سفينة النجاة تلقى الفخار
    بقوّةٍ قد قهرت كلَّ شيء
     
    وإن مصباح الهدى لا يضيء
    إلا بمَن ذلّ له كلُّ شيء
     
    لما هوى الحسين فوق التراب
    أضاء نور وجهه كلَّ شيء
     
    فما رمى الحسين سهماَ رماه
    إذ أخضعت رميته كلَّ شيء
     
    بل ربّه الرامي بعزٍّ مقيم
    في جبروتٍ غلبت كلَّ شيء
     
    وما رأت زينبُ إلا الجميل
    منه بسلطانٍ علا كلَّ شيء

    محمدرضا المهري

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page