• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عبيدُ اللّه بن عبّاس (2)

 

عبيدُ اللّه بن عبّاس (2)

واذ قد انتهينا الآن عامدين، الى مواجهة المشكلة في صميمها، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها، باستحضار حقائق ثلاث، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد، وعذر بعد نقمة، وتعديل بعد تجريح.
الاولى في بيان معنى الشهادة.
والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الاخيرة في «المدائن».
والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن عليه السلام.
وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً.
1 - الشهادة في اللّه:
وهي بمعناها الذي يصنع الحياة، تضحية النفس لاحياء معروف او اماتة منكر.
وليس منها التضحية لغاية ليست من سبل اللّه، ولا التضحية في ميدان ليس من ميادين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلو قتل كافر مسلماً في ساحة جهاد، كان المسلم شهيداً.
ولو قتل باغ مسلماً في ميدان دفاع كان المسلم شهيداً.
اما لو قتل مسلم مسلماً في نزاع شخصي، أو قتله انتصاراً لمبدأ ديني صحيح، فلا شهادة ولا مجادة، ذلك لان الكرامة التي تواضع عليها تاريخ الانسانية للشهيد، هي أجرة تضحيته بروحه في سبيل المصلحة العامة فلا الحوادث الشخصية، ولا التضحيات التي تناقض المصلحة في خط مستقيم، مما يدخل في معنى الشهادة.
وقتلة اخرى، أضيع دماً، وأبعد عن «الشهادة» معنى واسماً، هي ميتة رئيس يثور به أتباعه وذوو الحق في أمره، فيلقونه ارضاً. والمجموع في كل مجتمع هو مصدر السلطات لكل من يتولى شيئاً من أموره باسمه، وكانت هذه هي القاعدة التي بنيت عليها السلطات الجماعية في الاسلام، وعلى هذه القاعدة قال المسلم الاول لعمر بن الخطاب: «لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقوّمناه بسيوفنا».
وانما كانت هذه القتلة أضيع دماً، وأبعد عن الشهادة اسماً، لان الايدي الصديقة التي اجتمعت على اراقة هذا الدم، كانت في ثورتها لحقها، وتضافرها الناطق ببلاغة حجتها، أولى عند الناس بالعذر.. «ولان الامة التي ولّته هي التي تقيم عليه الحدود» - على حد تعبير القفال الشافعي -.
فعثمان - مثلاً - الذي كان ثالث ثلاثة من أكبر الشخصيات التاريخية، التي هزّت الارض بسلطانها المرهوب، مات مقتولاً بسلاح الثائرين من ذوي الحق في أمره. فلم يستطع التاريخ، ولم يوفق اصدقاؤه في التاريخ،
أن يسجلوا له «الشهادة» كما تقتضيها كلمة «شهيد».
أما ذلك العبد الاسود الفقير، الذي لم يكن له من الاثر في الحياة، ما يملأ الشعور أو يشغل الذاكرة [جون مولى أبي ذر الغفاري]، فقد أرغم التاريخ على تقديسه، لانه قتل في سبيل اللّه فكان «الشهيد» بكل ما في الكلمة من معنى.
اذاً، فليس من شروط الشهادة ولا من لوازم كرامتها، أن لا تكون الا في العظيم، وليس من شروط العظيم اذا قتل أيّ قتلة كانت، ان يكون شهيداً على كل حال.
ولندع الآن هذا التمهيد لنخطو عنه الى الموضوع الثاني، ثم لنأخذ منه حاجتنا عند اقتضاء البحث.
2 - صورة مصغرة عن الوضع الشاذ في المدائن:
علمنا مما سبق - وبعض الاعادة ضرورة للبحث - أن خيرة أجناد الحسن كان في الركب الذي سبقه في مقدمته الى «مسكن»، وأن الفصائل التي عسكر بها الحسن في «المدائن» كانت من أضعف الجيوش معنوية، ومن أقربها نزعة الى النفور والقلق والانقسام.
وعلمنا أنه فوجئ في أيامه الاول من المدائن - ولما يتلقَّ نجداته من معسكراته الاخرى - ببوادر ثلاث، كانت نذر الكارثة على الموقف.
1 - أنباء الخيانة الواسعة النطاق في «مسكن».
2 - الشائعة الاستفزازية التي ناشدت الناس بأن ينفروا، لان قيس بن سعد - وهو القائد الثاني على جيش مسكن - قد قتل !.
3 - فتنة الوفد الشامي الذي جاء ليعرض كتب الخونة الكوفيين على الامام، ثم خرج وهو يعلن في المعسكر أن الحسن اجاب الى الصلح!.
وفي هذا الجيش - كما قدمنا في الفصل (8) -، أصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، والخوارج، وغيرهم، ولم يكن لهؤلاء مرتع أخصب من هذه الفتن التي زرعتها هذه البوادر المؤسفة الثلاث.
وجمع الحسن الناس فخطبهم وناشدهم سلامة النية وحسن الصبر، وذكرهم بالمحمود من أيامهم في صفين، ثم نعى عليهم اختلافهم في يومه منهم. وكان أروع ما أفاده الحسن من خطابه هذا، أنه انتزع من الناس اعترافهم على انفسهم بالنكول عن الحرب صريحاً، واستدرجهم الى هذا الاعتراف بما تظاهر به من استشارتهم فيما عرضه عليه معاوية، فقال في آخر خطابه: «الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نَصفة، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى اللّه عزّ وجل بظبا السيوف، وان أردتم الحياة قبلناه منه وأخذنا لكم الرضا ؟». فناداه الناس من كل جانب: «البقية البقية وأمض الصلح(4)».
أقول: وليس في تاريخ قضية الحسن عليه السلام روايتان كثر رواتهما حتى لقد أصبحت من مسلمات هذا التاريخ، كرواية جواب الناس على هذه الخطبة بطلب البقية وامضاء الصلح، ورواية ثورة الناس في المدائن انكاراً للصلح والحاحاً على الحرب!!. وليت شعري. فأيّ الرأيين كان هدف هؤلاء الناس ؟.
وهل هذه الا بوادر الانقسام الذي أشرنا اليه آنفاً، بل «الفوضى» التي لن يستقيم معها ميدان حرب، والتي لا تمنع ان يكون المنادون بالصلح من كل جانب هم المنادين بالحرب انفسهم.
وما للفوضى ودعوة جهاد وصحبة امام ؟!
وعلى أيٍّ، فقد كان هذا أحد الوان معسكر المدائن وأحد ظواهر التلوّن في عساكره وتحكّم العناصر المختلفة في مقدراته.
ولقد تدل ملامح النداء بالتكفير للحسن عليه السلام من قبل الثائرين عليه من جنوده هناك، أنه كان لسان حال «الخوارج»، وكانت هذه هي لغتهم النابية اذا استشرى غضبهم على أحد من المسلمين أو أئمة المسلمين. وانهم اذ يستغلون هذه اللحظة، أو يبعثونها من مرقدها، فانما كانوا يقصدون التذرّع الى أعظم جريمة في الدم الحرام، وفق مبادئهم الجهنمية التي طعن بها أحدهم الامام الحسن في فخذه فشقه حتى بلغ العظم!.
وتدل ملامح النهب والسلب الذي مزّق الستار وتناول حتى رداء الحسن ومصلاه، على أنه كان عمل الفريق الآخر الذي سمته المصادر «أصحاب الطمع بالغنائم».
ويدل طغيان الفتنة وسرعة انتشار الاضطرابات في المعسكر على أنه صنيعة «أصحاب الفتن» الذين كان يعج بهم هذا الجيش منذ كان في الكوفة ومنذ انتقل الى المعسكرين تحت لواء الجهاد المقدس !.
وهكذا جمحت الفتنة في المدائن جماحها الذي خرجت به من أعنّة المخلصين والمنظمين، وحال الاكثرون بأحداثهم دون قيام الاقلين بواجبهم، ولم يعد لهذا الجيش من الاستقرار ما يستطيع به الثبات، ولا من الاهداف الا الاهداف الطائشة. فان لم يتسنَّ لهم قتال معاوية فليقتلوا الحسن امامهم، وان لم يبلغوا غنائم الحرب من أعدائهم فليتبلغوا بالغنائم من نهب أصدقائهم، وان لم يمكنهم الفرار الى معاوية - كما فعل أمثالهم في المعسكر الثاني - فليكتبوا الى معاوية ليجيء هو اليهم !!!
وكان هذا هو ما حفظه التاريخ على هذه المجموعة من الناس، أمّا ما نسيه التاريخ أو تناساه أو حيل بينه وبين ذكره، فذلك ما لا يعلمه الا اللّه عزّ وجل.
تُرى، فهل لو وضعنا معاوية مكان الحسن من هذه اللحظة أو من هذا الجيش بما لمعاوية من دهاء وسخاء، أكان يستطيع أن يخرج من مأزقه بأحسن مما خرج به الحسن مضمون السلامة على مبادئه وخططه ومستقبله؟.
ولكي نزداد تحريّاً للاسباب التي أغلقت في وجه الحسن طريق الشهادة الكريمة، ننتقل بالقارئ الى الموضوع الثالث من مراحل هذه الجولة الكئيبة الخطوات.
3 - خطة معاوية من أهداف الحسن (ع)
ومات بموت عثمان لقب «الوالي» عن معاوية، ولا نعرف ما كان يجب أن يلقب به بعد ذلك، ولا نوع مسؤوليته في العرف الاسلامي. وقد علمنا أن الخليفتين الشرعيين علياً وابنه الحسن (عليهما السلام) لم يوّلياه، فليس هو بالوالي، وعلمنا أن الاسلام لا يتسع في تشريعه لخليفتين في عصر واحد، فليس هو بالخليفة.
اذاً، فما معاوية بعد عثمان ؟.
لا ندري.
نعم، انه شهر السلاح في وجه هذين الخليفتين منذ عزل عن ولاية الشام، ورأينا أن التشريع الاسلامي يثبت للقائم بمثل عمله هذا، لقباً نشك أن يكون معاوية رضي به لنفسه، وهذا اللقب هو «الباغي».
تُرى، فهل كان هو يعرف لنفسه لقباً آخر غير زعامة البغاة ؟.
والمظنون أن معاوية في طموحه العتيد، لم يكن بالذي يزعجه أن يظل مجهول اللقب، أو محكوماً في «الشرع» بلقب الباغي، مادام هو في طريقة الى غزو أكبر الالقاب بالقوة، رضي الشرع أو أبى. فهو الملك - بعد ذلك - على لسان سعد بن أبي وقاص، وهو «الخليفة» و «أمير المؤمنين» على لسان مسلم(5) بن عقبة والمغيرة(6) بن شعبة وعمرو(7) بن العاص، وهو المتنعم الدنيوي الذي «لم يبق شيء يصيبه الناس من الدنيا الا وقد أصابه» - على حد تعبيره عن نفسه -. ولن يضيره بعد اعتراف ابن العاص وابن عقبة وابن شعبة له بالخلافة وامارة المؤمنين، أن يكون التشريع الاسلامي ينكر عليه هذا اللقب، لانه لا يسيغ غزو الالقاب الدينية بالقوة، ولا يسبغ لقب «الخليفة» على أحد، الا عند قرب الشبه بين صاحبه وبين النبي (ص)، ويصرفه دائماً عن الرجل الذي يكون بينه وبين النبي كما بين دينين.
ولا ندري على التحقيق مبلغ ما كلفت معاوية هذه الالقاب في دينه، يوم غزاها لنفسه، أو يوم غزاها لابنه يزيد، وانه لاعرف الناس بابنه ؟!.
ولا ندري مبلغ اهتمام الرجل، بمحاسبة نفسه تجاه اللّه، فيما كان يجب أن يحاسبها عليه ؟.
ولكننا علمنا - على ضوء محاولاته الكثيرة في الاخذ والرد -، أنه لم يعن بمحاسبة نفسه قطّ، وعلمنا أن الانانية الطموح كانت تملأ مجاهل نفسه، فتنسيه موقفه الواهن - المفضوح الوهن - الواقف في مهاب الرياح، والمتركز في حقيقته على خيوط العنكبوت، يوم طارت من حواليه الالقاب كلها.
وعلمنا أن قبليته الطاغية الجامحة، كانت تأخذ عليه منافذ تفكيره، فتريه من شهادة ابن العاص له بالخلافة، ومن ترشيح المغيرة بن شعبة ابنه يزيد لامارة المؤمنين، مبرراً يردّ به الصريح من شرائط الاسلام. وهل كانت هذه الشهادة أو ذاك الترشيح، الا نبت المساومات الرخيصة على ولاية مصر وولاية الكوفة، كما هو الثابت تاريخياً؟.
ولا عجب من «ابن أبي سفيان» ان يكون كما كان، وهو الاموي الصريح، أو الاموي اللصيق الذي يعمل جاهداً ليكون أموياً صريحاً(8).
وللأموية والهاشمية تاريخهما الذي يصعد بهما حتى يلتقيا وينزل معهما كلما نزل الزمان.
وكان من طبيعة «ردّ الفعل» في النفوس التي شبت مع العنعنات القبلية جاهليةً واسلاماً، والتي قبلت الاسلام مرغمة يوم الفتح، ثم لم تهضم الاسلام - كما يريده الاسلام - أن تكون دائماً عند ذحولها من الضغائن الموروثة، والترات القديمة العميقة الجروح.
وكان معاوية - بعد الفتح - وعلى عهد النبوة الطالعة بالنور، الطليق «الحافي القدمين» كما يحدثنا هو عن نفسه. امّا في الدور الذي تململ معه النفوذ الاموي ليسترجع مكانته في المجتمع، وعلى عهد السياسة الجديدة التي رشحت للشورى عضواً أموياً عتيداً، فلِمَ لا يكون ابن عم عثمان والي الشام القوي المرهوب، الذي يصطنع الاعوان والمؤيدين، ويسترضي الاتباع والاجناد والمشاورين، ويتخذ القصور والستور والبوابين، وفي ثروة ولايته ما يسع كل صاحب طمع أو بائع ضمير أو لاحسن قصعة !!.
ولئن كان معاوية في دور النبوة الرعية المخذول العاجز عن الانتصاف لنفسه ولقبيله من القوة التي غلبت على أمره وأمر قبيله، فَلِمَ لا يحاسب تلك القوة حسابها العسير في الدور الذي ملك فيه مقاليد القوة بنفسه أو بقبيله، ولِمَ لا يعود الى طبيعته فيتحسس بذحوله القديمة من الابناء والاخوة والاصحاب، ويأخذ بثاره من المبادئ والاهداف ؟. ولذلك فقد كان من المنتظر المرقوب لمعاوية، أن يشنّ غاراته المسلحة على عليّ والحسن (عليهما السلام) في أول فرصة تمكنه من ذلك، وأن يشن معهما حروبه (الباردة) الاخرى، التي كانت أطول الحربين أمداً، وأبعدهما حراً، وأفظعهما نكالاً في الاسلام.
ويستدل من كثير كثير من الاعمال الدبلوماسية التي قام بها معاوية في عهده الطويل الامد، أنه كان قد قرر التوفر على حملة واسعة النطاق لتحطيم المبادئ العلوية، أو قل لتحطيم جوهرية الاسلام متمثلة في دعوة
علي وأولاده المطهّرين عليهم السلام.
___________________________________
(4) ابن خلدون وابن الاثير والبحار وغيرهم - وكنا عرضنا القسم الاول من هذه الخطبة فيما رويناه في تصريحات المؤرخين من هذا الفصل.
(5) هو صاحب واقعة الحرة في مدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله يوم أباحها ثلاثاً شر اباحة. وهو هادم الكعبة (زادها اللّه شرفاً) يوم رماها بالمنجنيق. وكان معاوية هو الذي نصح لابنه يزيد، فيما مهد له من الأمور. بأن يولي «مسلماً» هذا. قال له: «ان لك من أهل المدينة ليوماً، فان فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فانه رجل قد عرفت نصيحته !!.»
«يراجع الطبري والبيهقي وابن الاثير».
(6) كان المغيرة [فيما يحدثنا عنه البيهقي في المحاسن والمساوئ] اول من رشي في الاسلام. وكان [فيما يحدثنا به سائر مؤرخته] الوسيط في قضية استلحاق زياد - رغم النواميس الاسلامية -. وكان السابق الى ترشيح يزيد بن معاوية للخلافة، وهو الذي يقول في ذلك: «لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً !!..» -. وكان هو الذي عناه حسان بن ثابت بقوله:
لو ان اللؤم ينســــب كان عبداً***قبيح الوجـــه أعـور من ثقيف
تركـــــت الـدين والايمان جهلاً***غـــــداة لقيت صاحبة النصيف
وراجعـــت الصبا وذكرت لهواً***من الاحشاء والخصر اللطيف
(7) نار على علم. اعتركت الدنيا والآخرة على قلبه - على حد تعبير غلامه «وردان» - فقدم الدنيا على الآخرة، وشايع معاوية على أن تكون له مصر طعمة، فلا ظفرت يد البائع وخزيت أمانة المبتاع.
روى ابن عبد ربه بسنده الى الحسن البصري قال: «علم معاوية واللّه ان لم يبايعه عمرو لم يتم له أمر، فقال له: يا عمرو اتبعني. قال: لماذا ؟ اللآخرة فواللّه ما معك آخرة، أم للدنيا فواللّه لا كان حتى أكون شريكك فيها. قال: فانت شريكي فيها. قال: فاكتب لي مصر وكورها. فكتب له مصر وكورها. وكتب في آخر الكتاب: وعلى عمرو السمع والطاعة. قال عمرو: واكتب ان السمع والطاعة لا يغيران من شرطه شيئاً. قال معاوية: لا ينظر الى هذا. قال عمرو: حتى تكتب...!!».
ورضي الصحابي المسن الذي مات في الثامنة والتسعين أن يختم هذا العمر المديد على مثل هذه المداورة الخبيثة في الدين، وراح يقول غير مبال: «لولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها فاني أعلم ان علي بن أبي طالب على الحق، وأنا على ضده!».
اما بواكير حياته فكانت أبعد اثراً في النكاية بالاسلام ونبي الاسلام (ص). وهو اذ ذاك أحد السهميين الذين ساهموا في فكرة قتل النبي (ص) ليلة الفراش في مكة. وهو «الابتر» المقصود بقوله تعالى «ان شانئك هو الابتر». ثم كان بعد ذلك من المساهمين في التأليب على عثمان، ولم يخرج الى فلسطين حتى نكأ القرحة كما قال هو عن نفسه يوم بلغه مقتل عثمان. والتحق اخيراً بمعاوية على هذه المساومة المفضوحة. ونجا من القتل المحقق في صفين بأشنع وسيلة عرفها التاريخ. ثم كان صاحب الفكرة في رفع المصاحف التي فتن بها المسلمين ونقض بها فتل الاسلام. وحضرته الوفاة فقال لابنه: «اني قد دخلت في أمور لا أدري ما حجتي عند اللّه فيها». ثم نظر الى ماله فرأى كثرته فقال: «ياليته كان بعراً، ياليتني مت قبل هذا بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمي على رشدي حتى حضرني أجلي». وخلف من المال ثلاثمائة الف دينار ذهباً ومليوني درهم فضة عدا الضياع. وكان رسول اللّه (ص) يقول فيه وفي معاوية: «انهما ما اجتمعا الا على غدر». أخرج هذا الحديث كل من الطبراني وابن عساكر، وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنديهما عن أبي برزة قال: «كنا مع النبي (ص) فسمع صوت غناء فقال: انظروا ما هذا. فصعدت فاذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان فجئت فأخبرت النبي (ص) فقال: اللهم أركسهما في الفتنة ركساً. اللهم دعهما في النار دعاً». وعن تطهير الجنان لابن حجر: «أن عمراً صعد المنبر فوقع في علي ثم فعل مثله المغيرة بن شعبة، فقيل للحسن: اصعد المنبر لترد عليهما، فامتنع الا أن يعطوه عهداً انهم يصدقونه ان قال حقاً ويكذبونه ان قال باطلاً فأعطوه ذلك، فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: انشدك اللّه يا عمرو ويا مغيرة، أتعلمان ان رسول اللّه لعن السائق والقائد أحدهما فلان - يعني معاوية -، قالا: بلى، ثم قال: أنشدك اللّه يا معاوية ويا مغيرة ألم تعلما ان النبي لعن عمراً بكل قافية قالها لعنة، فقالا: اللهم بلى، ثم قال: أنشدك اللّه يا عمرو ويا معاوية الم تعلما ان النبي لعن قوم هذا - يعني المغيرة - قال الحسن فاني احمد اللّه الذي جعلكم فيمن تبرأ من هذا - يعني علياً -». وكان ابن العاص هذا، هو الذي عناه الصحابي الكريم عمار بن ياسر (رض) بقوله للمجاهدين في صفين: «أتريدون ان تنظروا الى من عادى اللّه ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين وظاهر المشركين، فلما رأى اللّه عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله صلى اللّه عليه وسلم، أسلم وهو فيما نرى راهب غير راغب. ثم قبض اللّه رسوله (ص) فواللّه أن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم وهوادة المجرم. فاثبتوا له وقاتلوه، فانه يطفئ نور اللّه ويظاهر أعداء اللّه عز وجل!!» (الطبري، ابن أبي الحديد، المسعودي، وغيرهم).
(8) يراجع الزمخشري في «ربيع الابرار» وابن السائب في «المثالب» وابو الفرج في «الاغاني» وابن السمان في «مثالب بني امية» وجعفر بن محمد الهمداني في «بهجة المستفيد». ثم ليكن القارئ بعد ذلك عند اختياره في نسبة معاوية الى أي آبائه الاربعة المذكورين هناك باسمائهم.
اقول: والى ذلك يشير سيد العرب في نهجه بقوله: «وليس الصريح كاللصيق».
 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page