• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الثاني : ميلاده وعصره (ع)

الفصل الثاني : ميـــلاده وعصــره (ع)

كان الإمام زين العابدين (ع) في قلب الأحداث السياسية التي ساهمت في تكوين الأمة الإسلامية ، ورَسْمِ ملامحها التاريخية ..
لقد ولد ( سلام اللـه عليه ) في بيت جدِّه علي أمير المؤمنين (ع) ، من نجله الكريم الإمام الحسين (ع) ، عندما كان الإمام يخوض صراعاً مريراً مع أعداء الإسلام المتستِّرين في الجمل وصِفين والنهروان ، وكان والده الحسين (ع) قائداً في جيش الإسلام - يومئذ - كما كان مضطلعاً مع والده بإدارة أمور المسلمين ..
ولا ريب أن تلك الأحداث الرهيبة التي لازالت أصداؤها تدوي في واقعنا حتى اليوم ، ساهمت في صنع شخصيـة الوليد الكريم الذي استقبله بيت الإمامة في عام ( 35 ) للهجرة الكريمة ، عندما كانت الأمة الإسلامية تعيش غلياناً انتهى بمقتل الخليفة الثالث ، وما أعبقه من فتنة بني أمية في المطالبة بدمه .

أُم السجاد (ع) :

جاء في كتب التاريخ أن والدة الإمام السجاد (ع) هي ( شهر بانو ) بنت آخر ملوك الفرس ، من سلسلة الساسانية ( يزدجرد ) .
وكانت الأمبراطورية الفارسية كأي نظام جاهلي آخر قائمٍ على الطبقية والظلم والعدوان ، فلما أشرق نور الإسلام تهاوت كما تتهاوى شجرة منخورة أمام إعصارٍ عنيف ، وانهزم الأمبراطور من بلد إلى آخر حتى قُتل غيلةً في خراسان ، وبقيت عائلته في تلك البلاد حتى فتحت على عهد عثمان في عام ( 32 ) وجيء بهم إلى المدينة المنورة ، فلما مثلوا أمام الخليفة الثالث وحضر كبار الأصحاب ، أشار الإمام أمير المؤمنيـن (ع) إلى الخليفة بإكرامهم ورغّبه في ذلك بذكر حديث الرسول (ص) : أكرموا عزيزَ قومٍ ذَل .
ولعل الحكمة في ذلك كانت استمالة الشعوب التي لم تزل تحترم قيادتها وكرماءها ، لكي لاتبقى بينهم وبين قبول الإسلام حواجز الحقد والضغينة .
فلما تريث الخليفة في ذلك قال الإمام أمير المؤمنين (ع) : اعتقتُ منهم لوجه اللـه حقي وحق بني هاشم .
وتبعــــه في ذلك الأنصار والمهاجرون ، فلم ير الخليفة بـدّاً من قبول الأمــــر ، فأشــــار الإمام أمير المؤمنيــــن (ع) بأن تُترك كلُّ واحدةٍ لاختيار الزوج المناسب ، فاختارت إحدى بنات يزدجرد الحسين (ع) ، بينما اختارت الثانية الحسن ، وقيل محمد بن أبي بكر . فحملت شهر بانو في تلك السنة . وفي منتصف شهر جمادي الأولى لعام ثلاث وثلاثين من الهجرة ولدت ابنها البكر ، وماتت وهي في نفاسها ، فتكفلته واحدة من أمهات الأولاد عند الإمام الحسين (ع) ، فنشأ زين العابدين في كنفها ، وكان يزعم الناس أنها أُمه بينما كانت مولاته [25] .
وفي السابعة من عمره استُشهد جدُّه الإمام أمير المؤمنين (ع) في محراب مسجد الكوفة . وبعد أشهر عاد أهل البيت إلى المدينة حيث ترعرع علي بن الحسين (ع) في ربوعها المضوَّعة بعطر الرسول (ص)، فلما بلغ السابعة عشر اغتيل بالسم عمَّه الإمام الحسن المجتبى (ع) .
وعاش الإمام السجاد (ع) يمارس في ظلال والده الإمام الحسين (ع) دور الريادة في مواجهة الردة الجاهلية الأموية .
وبالرغم من قلة المعلومات التي تفصّل طبيعة هذه المواجهة المتسمة بالهدوء وربما السرّية ، فإن ما بقي لنا من خُطب الإمام الحسين (ع) ضد معاوية ، وكتبه النارية الموجهة إليه ، وما رافق عهد معاوية من انتفاضات بقيادة أصحاب الرسول الموالين لأهل بيته عليه وعليهم صلوات اللـه ، أقول : إن ما بقي لنا من ذلك يُعطينا صورة كافية للحالة السياسية التي عاشها الإمام السجاد أيام والده (ع) ، حينما كان في مقتبل العمر .

بعد عاشوراء

ومهما كانت قوة الحركة السياسية في عهد معاوية ، فإنها كانت ناراً تحت رماد الهدوء السياسي الذي فرضه معاوية على الساحة بدهائه المعروف وبوسائله المختلفة من توزيع الأموال والمناصب ثمناً لسكوت الطامعين ، وتوزيع العسل المسموم على الأحرار . وقد اشتهر عنه القول : إن لله جنوداً من عسل ..
وهكذا كانت التيارات السياسية تنتظر بفارغ الصبر هلاك معاوية . ومن هنا أصبحت واقعة كربلاء صاعقاً فجَّر الثورات في آفاق العالم الإسلامي ، لأنها جاءت في الوقت المناسب بعد هلاك وريث أبي سفيان ، داهية العرب ، فافتتحت عصر الثورات المناهضة للجاهلية المقنَّعة .
فبعد شهادة السبط الشهيد (ع) انتفضت مدينة الرسول ، وخلعت يزيد بن معاوية ، وقام عبد اللـه بــن
الزبير بمكة يطالب بالخلافة ، وثارت الكوفة بقيادة سليمان بن صرد ، ثم بقيادة المختار . وهكذا أصبحت الثورات والإنتفاضات صبغة الحياة السياسية في البلاد الإسلامية ، واسلوباً شاخصاً لمواجهة الطغيان والفساد . ولذلك فإننا نستطيع أن نسمي عهد الإمام السجاد (ع) ، خصوصاً في بداياته - منذ واقعة عاشوراء - عهد الثورات والإنتفاضات .
بيد أن الثورة بذاتها ليست هدفاً مقدساً ، وإنما الهدف المقدس هو تلك القيم المتسامية التي تحركها ، وإلاّ فان ضررها يكون أكبر من نفعها . أوليست الثورة بذاتها حالة تمرد على النظام وتعكِّر جو الأمن ، وتُثير الإضطراب ، وتُريق الدماء ؟ وبلى ، فهي - إذاً - حالة استثنائية لا يحمدها العقلاء ، ولكنها إنما تكتسب شرعيتها وقدسيتها من الغايات النبيلة التي تهدف إليها .
فلأنها تخرج الناس من ظلمات الركود والجهل والظلم إلى نور النشاط والعقل والعدالة ، أصبحت الثورة - بمعناها الشامل - صبغة حياة الأنبياء والأوصياء وعباد اللـه الابرار .
ولأنها تزيل عن قلوب الناس رين الغفلة واللامبالاة ، وعن تجمعاتهم سحابة الظلم والإعتداء ، وعن مجتمعهم كابوس الطغيان والفساد ، فقد أصبحت مسؤولية كلِّ حرٍّ أبيٍّ ، ووسامَ حقٍّ لكلِّ ذي كرامة وشرف ..
ومن هنا ركزت نصوص الوحي على هدف الثورات ضمن تعبير القيام لله وحيث قال ربُّنا سبحانه : « قُلْ اِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ » ( سبأ/46) .
وقال عزَّ وجلَّ : « قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ » (النساء/135) .
وهكذا كانت الحالة الثورية التي عمّت آفاق البلاد الإسلامية ببركة استشهاد الإمام الحسين (ع) ، بحاجة إلى هوية وصبغة ، وروح ، وقيم ، لكي تتكرس في ضمير الأمة ، ولا تصبح كشعلة السعف أو زوبعة الفنجان لا تلبث أن تتلاشى .. ولكي تتخذ مساراً رساليّاً مستقيماً ، ولا تصبح أداةً بيد كلِّ طامع أو متهوِّر كأمثال عبد اللـه بن الزبير وكغيره من الذين طفقوا يستفيدون منها بابشع صورة .
فهذا ابن الزبير يصعد المنبر بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيثني عليه ويلعن قاتله ويخلع يزيد . ولكن عندما أحس باستتباب الأمر له أظهر عداءً شديداً لآل البيت (ع) ، حتى أنه ترك الصلاة على جدهم النبي (ص) ، لكي لا يشمخوا بأنوفهم عند ذكره حسب قوله !
فمن أجل ألا تصبح الحالة الثورية مطية لكل من يهوى السلطة أو يبحث عن مجد مثل ابن الزبير ، جاء الإمام السجاد (ع) يعطي لتلك الحالة هويَّتها الرسالية ، وصبغتها الإلهية ، وروعتها التي تمثلت في قيم الوحي ، وسبيلها القويم الذي رسمته شريعة اللـه تعالى .
ولعل هذا أعظم دور قيادي قام به الإمام السجاد (ع) . ولم يكن هذا الدور نابعاً من حالة مزاجية عند الإمام (ع) أو لأنه شاهدَ مثلاً وقائع الطف الفظيعة ، فاصطبغت شخصيته بها . ولم يملك إلاّ البكاء والتفجّع والتبتّل والضراعة .
أجل ، إن تلك الحادثة كان لها أثرها البالغ في شخصيته الكريمة ، ولكن الإمام المعصوم (ع) يقوم بواجبه الإلهي ، وليس بما تمليه حالته النفسية . والشاهد على ذلك أن الإمام زين العابدين (ع) ، الذي اصطبغت شخصيته الكريمة بالتهجد والبكاء ، حمل رسالة عاشوراء بعد شهادة والده ، هو وعمّته عقيلة الهاشميين زينب (ع) . وما أدراك ما رسالة عاشوراء !. إنها رسالة الجرح الثائر ، والدم المنتصر ، والألم المتمرد ، والإنتفاضة التي لا تهدأ . أَوَما سمعت خطبته اللاهبة في أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من فاجعة الطف كيف أثارت فيهم دفائن العطف ، ونفضت عن أفئدتهم غبار الرهبة والتردد ، فقالوا له : مرنا بأمرك فإنّا مطيعون لأمرك ، لنأخذن يزيد ونتبرأ ممن ظلمك وظلمنا .
ولكنه قال لهم : مسألتي ألا تكونوا لنا ولا علينا .
وها نحن نستمع معاً إلى فقرات من تلك الخطبة الثائرة :
أومأ إلى الناس فسكتوا ، فحمد اللـه وصلَّى على النبيِّ ، ثم قال :
أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أُعرِّفه بنفسي . أنا عليُّ بن الحسين بن علي ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من هُتك حريمه ، وانتُهب ماله ، وسُلب نعيمه . فبأية عين تنظرون بها رسول اللـه (ص) إذا قال لكم : قتلتم عترتي ، وهتكتم حرمي ، فلستم من أمتي ثم بكى (ع) [26] .
وعندما أُدخل أسيراً على ابن زياد الطاغية الذي زعم أنه انتصر على الخط الرسالي وإلى الأبد ، تحدَّاه الإمام (ع) وقال له :
سوف نَقف وتَقفون ، ونُسأل وتُسألون ، فأيّ جواب تردُّون ، وبخصام جدِّنا إلى النار تُقادون [27] .
فلما همّ ابن زياد بقتله قال له الإمام (ع) :
أأنت تهددني بالقتل ؟. أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة ، وكرامتُنا من اللـه الشهادة ؟.
وكان موقفه من الطاغية يزيد ، ذلك المجرم الذي لم يدع جريمة شنيعة إلاّ وارتكبها في سني حكمه القصيرة ، كان موقفه قمة في التحدِّي ومثلاً أعلى في الجهاد بالكلمة الرافضة .
ومرة أخرى حينما نال خطيب يزيد في الجامع الأموي من آل بيت الرسول تصدَّى له الإمام السجاد (ع) قائلاً : ويلك يا هذ الخاطب ، اشتريت مَرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوَّأ مقعدك من النار .
ثم التفت إلى يزيد واستأذنه بصعود المنبر ، فلم يجد يزيد بدّاً من ذلك فلما تشرف به المنبر ألقى تلك الخطبة البليغة التي لايزال صداها يدوّي في الآفاق إلى اليوم .. وإلى أبد الآبدين .
وحينما هدم طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الكعبة تصدَّى له الإمام (ع) وقال :
يـا حجـــاج ، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته ، كأنك ترى أنّه تـــراث لك . إصعد المنبر وانشد الناسَ أن لايبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلاّ ردَّه [28] .
وهكذا كانت سجية الإمام الشجاعة ، ولكن الظروف التي عاشها لم تكن تنقصها الثورة والشجاعة ، لأن واقعة الطف قد شحنت ضمير الأمة بالشجاعة بِما يكفيها لقرون متمادية ، وربما إلى الأبد . إنما كانت بحاجة إلى صبغة إيمانية تسمو بالثورة إلى أهدافها القيّمة ، وهكذا اتَّجه الإمام (ع) إليها .
فزعم السذج من الناس أن ذلك كان مزاجاً شخصيّاً . كما زعموا في مثل ذلك في الأنبياء . فمنهم من قال : إن تضحية إبراهيــــم وصبر نوح ، ووحدة موسى وزهد عيسى وخُلق محمد عليهم جميعاً صلوات اللــــه ، وسائر الصفات المتميزة لكل نبيٍّ من رُسل اللـه (ع) إنما كانت سمات شخصياتهم ، وحالاتهم المزاجية ، ناسيــــن أن اللـه تعالى أعلم حيث يجعل رسالته ، وأنه لا يجعل رسالته إلاّ حيث تقتضي حكمتـــه . وأن تلك الصفات التي تجلَّت بهم كانت ضرورية للظروف التي عاشوها والبشر الذين تعاملوا معهم . حتى ولو افترضنا جدلاً أن نبيّاً وُضِعَ في مقام نبيٍّ آخر لتبنّى سلوكه وعمل بمنهاجه ، بلا اختلاف قليل أو كثير .
وكالأنبياء يكون الأئمة ، فلكل واحد منهم صحيفة يعمل بها ، وقد كانت مرسومة ضمن السياق التاريخي الذي عاشه . وحسب تلك الصحيفة الإلهية عمل الإمام السجاد (ع) . الذي كانت حياته قمة في العبــــادة والضراعة ، وبثَّ روح الإيمان في المجتمع ، وتربية رجال متميزين في الزهد والتهجد ، من أمثـــال : الزهري ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد اللـه السبيعي ، وآخرين ..
وهكذا رسمت صحيفة السجاد (ع) منهاج إمامته فيما يبدو في التركيز على الجانب الروحي ، على أنه كان في طليعة مهامِّ سائر الأئمة (ع) ، إلاّ أن الحاجة إليه كان في عهد الإمام زين العابدين (ع) أشد ، ولذلك كان التركيز عليه أعظم . ولكن السؤال : كيف اضطلع الإمام بهذه المهمة ؟. وأي منهاج اتَّبعه لبلوغ هذا الهدف العظيم ؟

منهاج الإمام (ع) في التربية الروحية

ممَّا لاشك فيه أن أئمة الهدى هم مشاعل الحق للأجيال في كل عصر ومصر ، ولكن لأن الظروف مختلفة من جيل لآخر ، ومن مصر لمصر ثان ، ولأن اللـه قد ختم بالمصطفى رسالاته ، وبأوصيائه خلفاءه المعصومين ، فإن حكمته اقتضت أن تكون سيرة كل واحد منهم متميزة بهدى ومنهاج ، ليكون مجمل سيرهم المتنوعة ذخيرة غنية يرجع الناس إليها ليأخذوا منها ما يتناسب وظروفهم الخاصة ..
وكانت سيرة الإمام علي بن الحسين (ع) الإيمانية هي المنهاج المتناسب كليّاً وظروف مشابهة لظروفنا في بعض البلاد حيث حبانا اللـه سبحانه بحالة ثورية تحتاج إلى المزيد من الروح الإيمانية حتى لاتخرج الحركة عن مسارها الديني ، ولا تفسد السياسة ومصالحها وحتمياتها النقاء الإيماني الذي يحتاجه العاملون في سبيل اللـه .
فماذا كانت سيرته ، وماهو برنامجه ؟
أولاً : كان عباد اللـه المخلصون دعاة إلى اللـه بسلوكهم قبل أن يكونوا دعاة بألسنتهم ، فما أمروا الناس بشيء إلاّ وسبقوهم إليه .
وكانت حياة الإمام السجاد (ع) لوحة إيمانية نقية ، وقد تحدثنا عنها في فصل آخر . وقال عنه جابر بن عبد اللـه الأنصاري الصحابي الشهير : ما رأيت في أولاد الأنبياء شخصاً كعلي بن الحسين (ع) .
ثانياً : تربية جيل من العلماء الربانيين الذين ربوا بدورهم علماء وثائرين وعبّاداً صالحين . وهكذا تماوجت تعاليم الإمام عبر النفوس الزكية في حلقات مترامية كالصخرة العظيمة تُلقى في بحر واسع ..
وكان في هؤلاء الرجال العرب والموالي ،ولكلٍّ قصة وتاريخ . فَدَعْنا نتزود من عبق سيرة حواري الإمام (ع) الذين كان أكثرهم من التابعين :
ألف : كـــان سعيد بن جبير من أولئك التابعين الذين اقتبس من الإمـام زين العابديــــن (ع) روح الإيمـــان .. كان مثلاً في العبادة والإجتهاد كان يسمى بـ ( بصير العلماء ) ويقرأ القرآن في ركعتين ، وبلغ من علمه أنه اشتهر بين العلماء أنه ما على الأرض أحد إلاّ وهو محتاج إلى علمه [29] .
واستشهد سعيد على يد طاغية العراق الحجاج . ويقول الإمام الصادق (ع) :
إن سعيد بن جبير كان يأتم بعلي بن الحسين ، فكان علي يثني عليه . وما كان سبب قتل الحجاج له إلاّ على هذا الأمر ، وكان مستقيماً [30] .
ومن خلال حوار ساخن جرى بينه وبين جزار بني أمية الزنيم نعرف مدى استقامة هذا العالم الرباني .
ذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال له : أنت شقي بن كسير .
قال : أُمي كانت أعرف بي ، سمتني سعيد بن جبير .
وقيل إنه سأله كيف يفضل أن يقتله ؟ قال : اختر لنفسك ، قال وكيف ذلك ؟. قال : لأنه لاتقتلني بقتلة إلاّ وأقتلك بها يوم القيامة .
باء : وكان عمرو بن عبد اللـه السبيعي الهمداني الذي يكنى بـ ( أبي إسحاق ) من ثقاة الإمام السجاد (ع) وبلغ من عبادته أن قيل عنه لم يكن في زمانه أعبد منه ، حيث كان يختم القرآن في كل ليلة . وقد صلى اربعين سنة صلاة الفجر بوضوء صلاة العتمة ، وكان محدثاً لا أوثق منه في الرواية عند الخاص والعام [31] .
جيم : وكان الزهري عاملاً في بلاط الأمويين ، فعاقب رجلاً فمات في العقوبة ، فارتاع لذلك فخرج على وجهه هائماً ، واعتكف في غار تسع سنين ، فرآه الإمام السجاد (ع) وهو في طريقه إلى الحج ، فقال له :
إني أخاف عليك من قنوطك مالا أخاف عليك من ذنبك . فابعث بِدِيَةٍ مسلّمة إلى أهله ، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك .
فقال له : فرّجتَ عني يا سيدي ، اللـه أعلم حيث يجعل رسالته . ورجع إلى بيته ، ولزم علي بن الحسين (ع) . وكان يعد من أصحابه . ولذلك قال له بعض بني مروان : يا زهري . ما فعل نبيك ، يعني علي بن الحسين [32] .
ومن هذه الرواية نعرف كيف كان اللـه يهدي الناس بالإمام حتى يصبح عامل بني أمية من كبار العلماء المعروفين عند كل الفرق الإسلامية كالزهري .
دال : وكان سعيد بن المسيب بن حزن من كبار التابعين الذين ربَّاهم أمير المؤمنين (ع) ، والتزم خط آل البيت (ع) حتى كان من صفوة أصحاب الإمام السجّاد (ع) . وعنه قال : سعيد بن المسيّب أعلم الناس بما تقدم من الآثار [33] .
وقـــد قال رجل لسعيد يوماً : ما رأيت رجلاً أورع من فلان ( وذكر اسم رجل من الناس ) فقال له سعيد : فهل رأيت علي بن الحسين ؟. قال : لا ، قال سعيد : ما رأيتُ رجلاً أورع منه [34] .
ومثل هؤلاء طائفة كبيرة من كبار علماء الإسلام الذين أخذوا عن الإمام الزهد والتقوى ، والتفسير والحكمة والفقه ، حتى قال الشيخ المفيد : إنه روى عنه الفقهاء من العلوم مالا يحصى كثرة ، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ماهو مشهور بين العلماء .. وقال ابن شهر اشوب : قلَّما يوجد كتاب زهد وموعظة لم يذكر فيه : قال علي بن الحسين ، أو قال زين العابدين (ع) [35] .
وكان شديد الإحترام لطلبة العلوم الذين كانوا يتوافدون عليه في المدينة من أقطار العالم الإسلامي ، ويرى أنهم وصية رسول اللـه (ص) .. وكان العلماء يستلهمون من سلوكه الهدى والورع قبل أن يتلقوا من منطقه العلم والمعرفة ، ومن لايستلهم نور اللـه من تلك الطلعة الربانية ، من العين التي تفيض من خشيــــة اللـه ، والجبهة التي عليها ثفنات من أثر السجود ، من ذلك اللسان الذي لايني يذكر اللـه عزَّ وجــلَّ .. وبالتالي من تلك السيرة التي يشع منها نور اللـه تبارك وتعالى .
يذكر عبد اللـه بن الحسن فيقول : كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسيـن (ع) . فما جلست إليه قط إلاّ قمت بخير قد أفدته ، إما خشية لله تَحدث في قلبـــــي لما أرى مـــــن
خشيته لله ، أو علم قد استفدته منه [36] .
وكانت الفتوحات الإسلامية تطوي كل يوم بلداً جديداً ، وتضم إلى الجسد الإسلامي عضواً جدياً ، ولكنها كانت بحاجة إلى زخم إيماني يصهر مختلف الثقافات والتقاليد والمصالح في بوتقة الأُمة الواحدة .
وقد تصدى الإمام زين العابدين (ع) وأصحابه وأنصاره لهذه المسؤولية وبسبل شتى . فقد كان شديد الإحترام للموالي ، وهم المنتمون إلى سائر الشعوب التي دخلت في الإسلام ، بعد فتح البلاد لها ، ولمّا تبلغ من المعارف الإلهية نصيباً كافياً .
وكان كثير من الموالي من خيرة أصحاب الإمام (ع) . كما كان الإمام يتبع منهجاً فريداً في زرع القيم الإلهية في أفئدة ثلة مختارة منهم .. حيث كان يشتري العبيد ويتعامل معهم بأفضل طريقة ثم يُعتقهم ويزوِّدهم بما يوفر لهم الحياة الكريمة ، فيكون كل واحد منهم ركيزة إعلامية بين بني قومه .. ولنقرأ معاً أخلاق الإمام في تعامله مع مواليه قبل أن نعرف كيف كان يعتقهم ، فإن تلك الأخلاق الحسنة كانت مدرسة عملية لهم إلى جانب التوجيه المباشر .
روي عن عبد الرزاق ( أحد الرواة ) أنه قال : جعَلت جارية لعلي بن الحسين (ع) تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه . فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية : إنّ اللـه يقول : « وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ » (آل عمران/134) قال : كظمت غيظي ، قالت : « وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ » (آل عمران/134) قال لها : عفا اللـه عنك ، قالت : « وَاللـه يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ » ، (آل عمران/134) قال : اذهبي فأنت حرّة لوجه اللـه عزَّ وجلَّ [37] .
هكــــذا كان يتعامـل مع الرقيق الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم ان لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان ، فكيف لا يؤثر فيهم ذلك الخلق الرفيع ؟.
ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستوىً رفيعاً من الصفح والسماحة والإيثار ، تقول الرواية :
كان عنده (ع) قوم أضياف ، فاستعجل خادماً له بشواءٍ كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس بُنَيٍّ لعلي بن الحسين تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله ، فقال عليٌّ للغلام وقد تحير الغلام واضطرب : أنتَ حرٌّ ، فإنك لم تعتمده ، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه [38] .
وكـان له مولى يتولّى عمارة ضيعة له، فجاء فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيـــراً. فغاظه ما رأى من ذلك وغمّه ، فقرع المولى بسوطٍ كان في يده وندمَ على ذلك ، فلما انصرف إلى منزله أرسل في طلب المولى فجاء فوجده عارياً والسوط بين يديه ، فظنّ أنّه يريد عقوبته ، فاشتد خوفه ، فقال له علي بن الحسين :
قد كان مني إليك مالم يتقدَّم مني مثلُه ، وكانت هفوة وزلَّة ، خذ ذلك السوط واقتصَّ مني .
فقال : يا مولاي واللـه إن ظننت إلاّ أنّك تريد عقوبتي ، وأنا مستحق للعقوبة . فكيف اقتصُّ منك ؟! قــال : ويحك اقتصّ ؟ قال : معاذ اللـه أنتَ في حلٍّ وسعة ، فكرَّر عليه ذلك مراراً والمولى يتعاظم قوله ويجلله ، فلما لم يره يقتص قال له : أمّا إذا أبيتَ فالضيعة صدقة عليك [39] .
هذه نماذج من الخلق الكريم الذي اتّسَم به سلوك الإمام (ع) مع الموالي . وقد كان أسلوب عتق الإمام لهـــم متميزاً يرويه التاريخ بجلال وإعجاب . فقد روى ابن طاووس في كتاب شهر رمضان المعروف بالإقبال ، بسنده عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : كان علي بن الحسين (ع) إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ، ولا أَمَة . وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه . فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ، ثم أظهر الكتاب ثم قال : يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤذك أتذكر ذلك ؟ فيقول بلى يابن رسول اللـه . حتى يأتي على أخرهم ويقررهم جميعاً ثم يقوم وسطهم ويقول : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وتجد كلَّ ما عملت لديه حاضراً ، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح ، فإنه يقول : وليعفوا وليصفحوا ، ألا تحبون أن يغفر اللـه لكم ، وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول :
ربَّنا إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا ، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت ، فاعف عنَّا فإنك أولى بذلك منَّا ومن المأمورين . إلهي كرمت فأكرمني إذ كنت من سؤالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم .
ثم يقبل عليهم فيقول قد عفوت عنكم ، فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم من سوء ملكة فإني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضل ؟. فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا ، وما أسأت . فيقول لهم قولوا : اللـهم اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنَّا وأعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق . فيقولون ذلك ، فيقول : اللـهم آمين ربَّ العالمين ، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي . فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس . وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً إلى أقل أو أكثر . وكان يقول : إن لله تعالى في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف عتيق من النار ، كُلاًّ قد استوجب النار . فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثلما أعتق في جميعه . وإني لأحب أن يراني اللـه وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا ، رجاء أن يعتق رقبتي من النار . وما استخدم خادماً فوق حول . وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة ، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني ثم أعتقوا كذلك . ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم من حاجة ، يأتي بهم عرفات فيسد بهم تلك الْفُرج فإذا أفاض أمر بعتق رقابهم وجوائز لهم من المال .
__________________________________

([25]) اعتمدنا في بعض ما ذكرنا على رواية مأثورة عن الإمام الرضا (ع) في بحار الأنوار ( ج 46 ، ص 8) حيث ذكر ان حادثة أسر بنات يزدجرد كانت في عهد عثمان خلافاً لبعض الروايات التي ترى أنها وقعت في عهد عمر ، وهي بعيدة عن السياق التاريخي لمجمل الأحداث كفتح خراسان وتاريخ ولادة الإمام زين العابدين وما أشبه ..
([26]) ناسخ التواريخ : ( ج 2 ، ص 140 ) .
([27]) المصدر : ( ص 141 ) .
([28]) عوالم العلوم : ( ج 18 ، ص 179 ) .
([29]) المصدر : ( ص 280 ) .
([30]) المصدر : ( ص 182 ) .
([31]) عوالم العلوم : ( ج 18 ، ص 281 ) .
([32]) المصدر : ( ص 282 ) .
([33]) بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 133 ) .
([34]) عوالم العلوم ( ج 18 ، ص 283 ) .
([35]) في رحاب أئمة أهل البيت : ( ج 3 ، ص 196 ) .
([36]) المصدر : ( ص 196 ) .
([37]) المصدر : ( ص 198 ) .
([38]) المصدر : ( ص 199 ) .
([39]) المصدر


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page