• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الأول

الفصل الأول

تتملَّكنا الدهشة عندما نستمع إلى الوحي يأمرنا بالولاية ، ونتساءل : ما هذا التأكيد المتواصل ، وما هذه التعابير البالغة أمراً وتحريضاً وترغيباً ؟.
يقول اللـه سبحانه : « أَطِيعُوا اللـه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ » (النساء/59) .
وتتكرر أوامر القرآن بالطاعة لأولي الأمر الشرعيين والتسليم لأمرهم ، والنهي عن طاعة الطغاة والجبابرة وضرورة الكفر بهم أكثر من مئة مرة ، بصيغ مختلفة ، وضمن سياقات شتى ، كلها تهدف إلى ترويض النفس البشرية على الطاعة والانضباط ...ويقول سبحانه وتعالى : « فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً » (النساء/65) وتتواصل آيات الذكر لتؤكد على الرجوع إلى اللـه ورسوله عشرات المرات وبتعابير شتى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ اُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً » (النساء/60) . وهكذا العديد من الآيات تنهى وبشدة بالغة من التحاكم إلى الطاغوت وتأمر باجتنابه . ويقول ربُّنا سبحانه وهو ينهي مئات المرات عن الشرك ويعتبره ظلماً عظيماً لايغفره اللـه تعالى أبداً ، يقول : « وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ » (الزمر/65) .
فما هو الشرك ؟ أليس هو عبادة الأصنام ؟ أليس أتخاذ الأرباب من دون اللـه شركاً ، كما اتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أرباباً ؟..
وهكذا نجد أن الولاية الإلهية محور آيات الذكر وروح توحيد اللـه تعالى ، والسبيل إلى رضوانه ، والطريق إلى جنَّاته .
فلماذا كل ذلك ؟. إن شرح حكمة ذلك يقتضي كتباً مفصلة . ولكننا نختصرها في كلمات نرجو أن يسعفنا فيها تدبُّر القارئ الكريم ، وآفاق ثقافته الإسلامية .
أولاً : أمام الإنسان سبيلان : سبيل اللـه الذي يهديه إلى الجنة والرضوان ، وسبيل الشيطان الذي يحمله إلى سواء الجحيم . ويتَّجه كل سبيل إلى جهة ، ولكل جهة إمام ، ولكل إمام صفات وأسماء ، ولكل أمة تابعة صبغةٌ وشرعةٌ ومنهاجٌ !
والصراع الأبدي الذي لا هدنة فيه ولا مداهنة ولا حلول وسط ، أنه الصراع بين سبيل اللـه وسُبُل الشيطان .
وقد قال سبحانه : « يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُم مِنَ اللـه نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللـه مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » (المائدة/15-16) .
وولاية اللـه سبحانه ، وتولي أوليائه ، واتِّباع الإمام المختار من عنده ، والإنخراط في حزب الصالحين ، كلُّها بلا ريب الولاية الإلهية . فكيف لا تتواصى بها رسالات اللـه ورُسله وأوصياؤهم .
ثانياً : حكمة وجود الإنسان فوق هذا الكوكب ابتلاؤه ليَعلم هل يَصدق أم هو من الكاذبين ؟. هل يُخلص أم يكون من المنافقين ؟. ولا يُبتلى البشر بشيء كما يبتلى باتِّباع القيادة الإلهية ورفض جبابرة المال وطغاة السلطة ، أو تدري لماذا ؟
إن في ضمير الإنسان كبراً لابد أن يتغلب عليه حتى يصبح من أهل الجنة . وإن لم يتخلص منه باجتهاده وجهاده في الدنيا ، فإنه سوف يخلص منه بنار الجحيم في الآخرة ، لأنه لايدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر . ومحتوى الكبر النزعة السخيفة نحو ادِّعاء الربوبية . ولو تسنى لأي إنسان ما تسنى لفرعون لما امتنع عما قاله : « أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى » (النازعات/24) .
وإنما يتطهر القلب عن الكبر إذا أُمر بطاعة مَن ليس بأكثر منه مالاً وولداً . إطاعته بسبب أمر اللـه . وهكذا كانت الفتنة الكبرى للناس عند ابتعاث الرسل ، إذ كيف يطيعون بشراً من أمثالهم ؟. وقد حكى اللـه تعالى عنهم بقوله : « أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ » (القمر/24) .
ويتساءل البسطاء : لماذا امتحن اللـه تعالى خلقه بطاعة الأنبياء وطاعة أوصيائهم ، وقد اختارهم من أوساط الناس ؟. ويمضي المتسائل قائلاً : أولم يكن من الأفضل أن يزوِّدهم اللـه سبحانه بقوى خارقة وبأموال وبنين حتى تسهل طاعة الناس لهم ؟
كلا .. لأنه عندئذ كانت تبطل حكمة الإبتلاء ، ولم تكن تصبح طاعتهم تطهيراً للنفوس من الكبر ، وبالتالي لم يكن المطيعون لهم يزكَّون بذلك إعداداً لدخول الجنة التي هي مأوى عباد اللـه الخالصين من دنس الشِّرك والكبر .
وهكذا يبين هذه الحكمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إذ يقول : ولو أراد اللـه أنْ يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه ، ويبهر العقول رداؤه ، وطيبٍ يأخذ الأنفاس عَرفُه لَفعل . ولو فعل لَظلت له الأعناق خاضعة ، ولخفَّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن اللـه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله ، تمييزاً بالاختبار لهم ، ونفياً للإستكبار عنهم ، وإبعاداً للخيلاء منهم [1] .
ويضيف الإمام (ع) في ذات السياق قائلاً :
ولو أراد اللـه سبحانه لأنبيائه - حيث بعثهم - أن يفتح لهم كنوز الذُّهبان ومعادن الْعُقيان ، ومغارس الجنان ، وأنْ يحشر معهم طيور السماء ، ووحوش الارض لَفعل . ولو فعل لَسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلت الأنباء ، ولَما وجب للقابلين أجور المبتلين ، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء معانيها . ولكن اللـه سبحانه جعل رُسله أولي قوة في عزائمهم ، وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنىً ، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذىً [2] .
وبعد بيان مفصل حول حكمة الاختبار في فصل زخارف الدنيا عن أولياء اللـه يقول سلام اللـه عليه :
ولكن اللـه يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبَّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجاً للتكبر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم .
فاللـه اللـه في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكبر ، فإنها مصيبة إبليس العظمى ، ومكيدته الكبرى ، التي شاور وقلوب الرجال مشاورة السموم القاتلة [3] .
وهكذا حرَّض الوحي على التسليم للأنبياء وأولي الأمر من خاصتهم ، وجعل فيه ثواباً عظيماً . وجاء في حديث مأثور عن النبيِّ (ص) ، أنه قال :
إنّ أوثق عُرى الإيمان : الحب في اللـه ، والبغض في اللـه ، وتولّي أولياء اللـه ، وتعادي عدوَّ اللـه [4].
وروي عن الإمام زين العابدين (ع) قوله :
مَن أَحبنا لا لِدُنيا يصيبها منّا ، وعادى عدوَّنا لا لشحناء كانت بينه وبينه ، أتى اللـه يوم القيامة مع محمد وإبراهيم وعليّ [5] .
وكما يتحدى الإنسان بالولاية نزعة الكبر وادِّعاء الربوبية في ذاته ، يتحدى بها نزعة الطمع وشهوات الدنيا ، لأن من يطيع أولياء اللـه يحاربه طغاة الأرض والمترفون في الدنيا بشتى وسائل الحرب ، بالدعاية المضادة وبالتضييق الإقتصادي ، وبالأذى الجسدي ، وحتى بالتشريد والقتل .
ولأن الولاية كانت امتحاناً عظيماً للإنسان ، جُعلت شرطاً بقبول الأعمال ، حيث إن هدف سائر الطاعات تذليل النفس البشرية المتفرعنة والمتجبرة . وتذليلها لطاعة ربها ، وتطهيرها من عبودية اللـه عن دنس الكبر والشرك والشك . وهذا الهدف يبلغ قمته بالولاية ، حيث يخضع البشر لبشر مثله لا يتميز عنه بجـــــاهٍ عريض ، ولا بثروة واسعة وإنما يأمره اللـه تعالى بذلك ، وهـذا ما تأباه النفس أشد الإبـــــاء . وقــــد
سأل بعضُهم أن يَنزل عذابُ اللـه الواقع لكي لا يؤمن بالولاية .
وها نحن نقرأ معاً أحاديث في فضل الولاية ، لنعرف مدى فضلها وكيف أنها قطب الرحى في تعاليم الوحي .
جاء في حديثٍ مفصلٍ عن أمير المؤمنين (ع) في إجابته لأسئلة زنديق :
إن الإيمان قد يكون على وجهين : إيمان بالقلب ، وإيمان باللسان كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول اللـه (ص) لمَّا قهرهم السيف وشملهم الخوف ، فإنهم آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم ، فالايمان بالقلب هو التسليم للرب ، ومن سلَّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره - كما استكبر إبليس عن السجود لآدم ، واستكبر أكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم ، فلم ينفعهم التوحيد ، كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل ، فإنه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، لم يرد بها غير زخرف الدنيا ، والتمكين من النظرة ، فلذلك لا تنفع الصلاة والصدقة إلاّ مع الاهتداء إلى سبيل النجاة وطريق الحق [6] .
ولذلك لم يقبل اللـه سبحانه طاعة عبد لم يقبل الولاية مهما اجتهد في العبادة والطاعة . هكذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع) ، إذ قال :
مرّ موسى بن عمران برجل رافع يده إلى السماء يدعو فانطلق موســـى في حاجته فغاب عنه سبعة أيام ، ثم رجع إليه وهو رافع يَديه يدعو ويتضرع ويسأل حاجته ، فأوحى اللـه عزَّ وجلَّ إليه : يا موسى لَو دعاني حتى يسقط لسانه ما استجبتُ له حتى يأتيني من الباب الذي أمرته به [7] .
فولاية الإنسان صبغة أعماله ، إنْ خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرّ . لذلك جاء في الحديث المأثور عن رسول اللـه (ص) ، فيما رواه أبو سعيد الخدري :
لو أنّ عبداً عبد اللـه ألف عام ما بين الركن والمقام ، ثم ذُبح كما يذبح الكبش مظلوماً ، لَبعثه اللـه مع النفر الذين يقتدي بهم ، ويهتدي بهداهم ، ويسير بسيرتهم إن جنة فجنة ، وإن ناراً فنار [8] .
وهكذا الولاية تكون وجهة المجتمع ، وعليها يكون الحساب والجزاء . فقد روي عن الإمام علي (ع) عن النبي (ص) عن جبرئيل (ع) عن اللـه عزّ وجلّ ، قال :
وعزتي وجلالي لأُعذبنَّ كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ليس من اللـه عزَّ وجلَّ ، وإن كانت الرعية في أعمالها برَّة تقية ، وَلأَعفونَّ عن كل رعية دانت بولاية إمام عادل من اللـه تعالى وإن كانت الرعية في أعمالها طالحة مسيئة [9] .
فَضمنَ إطار الولاية الإلهية لابد أن نعرف شخصية الإمام السجاد (ع) وأبعاد حياته . إنه لم يكن كسائر الأنبياء والأئمة . ولا يكون خلفاؤهم من الصدِّيقيين والعلماء الربانيين طُلاب حكم وسيطرة ، أو قادة حركات سياسية كالتي نفهمها . لا ، ولكنهم سعوا جاهدين من أجل تطهير قلوب الناس من الجبت ، ومجتمعاتهم من الطاغوت . ولكن ذلك لم يكن حكمة حياتهم الأولى حتى نقول : إنهم قد فشلوا في تحقيق ذلك ، وإنما كانت الحكمة الأولى ابتلاء الناس ، حيث قاموا بتلاوة وحي اللـه وبتعليم الناس وتزكيتهم . وقد قال ربُّنا سبحانه :
« هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ » (الجمعة/2) .
بلى ، كان من الأهداف السامية لبعثة الرسل ، ونهضة اوصيائهم ، وقيام أوليائهم ، إعداد الناس للقيام بالقسط . ولا أقول قيامهم بالقسط بين الناس ، لأن ذلك يوحي بالوكالة في ذلك ، وهذا ما ينفيه الوحي ببلاغة نافذة . فاستمع إلى قول ربِّك العزيز :
« لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللـه مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللـه قَوِيٌّ عَزِيزٌ » (الحديد/25) .

الإمام السجاد وريث الأنبياء

ولأن الإمام زيــن العابدين (ع) ورث عن جده النبي المصطفى ( عليه وآله الصلاة والسلام ) دور الأنبياء ، فإن الحكمة الأولى لإمامته هي ذات الحكمة الأولى في رسالة الأنبياء ، ابتلاء الناس بعد دعوتهم إلى اللـه ، وكانت سائر الأهداف السامية - كإقامة القسط ونصرة المظلومين - في امتداد تلك الحكمة ، أي أنها تتفرع منها وتأتي بعدها .
ولقد تسنَّت لسائـر أئمة الهدى (ع) الظروف للقيام بتلك الأهداف المتدرجة ، وبالذات الهدف السياسي ، كما فعل الإمام علي (ع) عندما نهض بأعباء الحرب ضد قريش مرتين ، مرة في عهد النبي وتحت لوائه ، ومرة بعد النبي وتحت لواء الرسالة الحنفية وبرفقة أصحاب النبي (ص) . وهكذا نجله الإمام الحسن (ع) . حيث نهض هو الآخر بأعباء الحرب ضد معاوية ، ثم أوقف الحرب لمصلحة المسلمين . وكذلك الإمام الحسين (ع) حيث قاوم معاوية بالسبل السلمية ، وقام ضد ابنه يزيد بالسيف حتى استُشهد مظلوماً .
وهكذا قام سائر الأئمة بأدوار سياسية ، وبوسائل غير مباشرة ، وبدرجات مختلفة .
بينما الظروف العامة كانت تناسب تمخض الإمام السجاد (ع) تقريباً في الدعوة الربانية ، حسبما نبين ذلك في مناسبة أخرى إن شاء اللـه تعالى .
وبذلك كانت حياة الإمام السجاد قطعة مشرقة بنور ربِّه .. وكانت تجلياً باهراً للإيمان الخالص باللـه ، وللهيام الشديد باللـه ، وللعبادة والتبتل .
وحينما نقرأ معاً صفات الإمام على لسان نجله الإمام الباقر (ع) ، نعرف ماذا تعني ولاية اللـه ، وولاية أوليائه ، ولماذا التأكيد عليها ، وكيف كانت حياة السجاد شلال نور إلهي . يقول نجله الإمام الباقر (ع) : كان علي بن الحسين (ع) يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ، كما كان يفعل أمير المؤمنين (ع) . كانت له خمسمائة نخلة . فكان يصلي عند كل نخلة ركعتين ، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر ، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية اللـه عزَّ وجلَّ ، وكان يصلي صلاة مودِّع يرى أنه لا يصلي بعدها أبداً ، ولقد صلَّى ذات يوم فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوِّه حتى فرغ من صلاته ، فسأله بعض أصحابه عن ذلك ، فقال : ويحك أتدري بين يدي مَن كنت ؟. إنَّ العبد لا يُقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه . فقال الرجل : هلكنا ، فقال : كلاَّ .. إن اللـه عزَّ وجلَّ متمم ذلك بالنوافل وكان (ع) لَيخرج في الليلة الظلماء فيحمل الجراب على ظهره ، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب ، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه ، ثم يناول مَن يخرج إليـه . وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه . فلما توفي (ع) فقدوا ذلك ، فعلموا أنه كان علي بن الحسين (ع) . ولما وُضع (ع) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل رُكَبِ الإبل . مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين . ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خز فتعرض له سائل فتعلّق بالمطرف فمضى وتركه ، وكان يشتري الخزَّ في الشتاء ، إذا جاء الصيف باعه فتصدق بثمنه ، ولقد نظر (ع) يوم عرفة إلى قوم يسألون الناس ، فقال : ويحكم أغير اللـه تسألون في مثل هذا اليوم ، إنّه ليُرجى في هذا اليوم لِمَا في بطون الحبالى أنْ يكون سعيداً ؟. ولقد كان (ع) يأبى أن يؤاكل أُمَّه ، فقيل له : يابن رسول اللـه أنت أبرُّ الناس وأوصلَهم للرحم ، فكيف لا تؤاكل أمَّك ؟ فقال : إني أكره أنْ تسبق يدي إلى ما سبقت عينها إليه . ولقد قال له رجل : يابن رسول اللـه إني لأحبُّك في اللـه حبّاً شديداً ، فقال : اللـهم إني أعوذ بك أن أُحبَّ فيك وأنت لي مبغض . ولقد حج على ناقة له عشرين حجة فما قرعها بسوط ، فلما نفقت [10] أمر بدفنها لئلا يأكلها السباع . ولقد سئلت عنه مولاة له فقالت : أُطنب أو اختصر ؟ فقيل لها : بل اختصري ، فقالت : ما أتيته بطعام نهاراً قط ، وما فرشت له فراشاً بليلٍ قط . ولقد انتهى ذات يوم إلى قوم يغتابونه فوقف عليهم ، فقال لهم : إن كنتم صادقين فغفر اللـه لي ، وإن كنتم كاذبين فغفر اللـه لكم . وكان (ع) إذا جاءه طالب علم فقال : مرحباً بوصيِّ رسول اللـه (ص) . ثم يقول : إن طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجلَيه على رَطب ولا يابس من الأرض ، إلاّ سبَّحت له إلى الأرضين السابعة ، ولقد كان يعول مئة أهل بيت من فقراء المدينة . وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرار والزّمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم . وكان يناولهم بيده ، ومن كان له منهم عيال حمل له إلى عياله من طعامه ، وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله . ولقد كان تسقــــط منه كل سنة سبع ثفنات من مواضع سجوده لكثرة صلاته ، وكان يجمعها ، فلما مات دُفنت معـــه . ولقد بكى على أبيه الحسين (ع) عشرين سنة ، وما وضُع بين يَديه طعام إلاّ بكى ، حتى قال له مولى له : يابن رسول اللـه أَمَا آن لِحُزنك أن ينقضي ؟. فقال له : ويحك ، إن يعقوب النبيَّ (ع) كان له اثني عشر ابناً فغيَّب اللـه عنه واحداً منهم ، فابيضَّت عيناه من كثرة بكائه عليه ، وشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغم ، وكان ابنه حيّاً في الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني ؟. [11]
وقد زخرت كتب التاريخ بكرامات الإمام [12] ولا عجب فإن إماماً هذه صفاته ، يكرمه اللـه بفضله ، أولم يكرم اللـه عباده الصالحين باستجابة دعواتهم ؟
وقد قال سبحانه : « وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » (غافر/60) .
فكيف لا يستجيب لمن ذاب في حب ربه حتى خشي عليه الهلاك من شدة العبادة . ولننظر معاً في الرواية التالية ثم نقيسها بما نعرفه من قصص القرآن حول الصالحين من عباد اللـه ، نرى أنهما نبعان من عين واحدة .
عن إبراهيم بن أدهم وفتح الموصلي ، قال كل واحد منهما : كنت أسيح في البادية مع القافلة ، فعرضت لي حاجة فتنحيت عن القافلة ، فإذا أنا بصبي يمشي ، فقلت : سبحان اللـه بادية بيداء وصبي يمشي ؟. فدنوت منه وسلَّمت عليه ، فردّ عليَّ السلام . فقلت له : إلى أين ؟. قال : أريد بيت ربِّي . فقلت : حبيبي ، إنك صغير ليس عليك فرض ولا سنَّة . فقال : يا شيخ ما رأيت من هو أصغر سنّاً مني مـــات ؟ فقلت : أين الزاد والراحلة ؟ فقال : زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي . فقلتُ : ما أرى شيئاً من الطعام معك ؟ فقال : يا شيخ هل يستحسن أن يدعوك إنساناً إلى دعوة فتحمل من بيتك الطعام ؟. قلت : لا ، قال : الذي دعاني إلى بيته هو يطعمني ويسقيني . فقلت : ارفع رجلك حتى تدرك [13] فقال : عليَّ الجهاد ، وعليه الإبلاغ . أما سمعت قوله تعالى :
« وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ اللـه لَمَعَ الْمُـحْسِنِينَ » (العنكبوت/69) .
قــــال : فبينما نحن كذلك إذ أقبل شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض حسنة ، فعانق الصبي وسلَّم عليه . فأقبلتُ على الشاب وقلت له : أسألك بالذي حَسَّن خلقك مَن هذا الصبي ؟ فقال : أما تعرفه ؟ هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فتركت الشاب وأقبلت على الصبي ، وقلت : أسألك بآبائك مَن هذا الشاب ؟ فقال : أما تعرفه ؟ هذا أخي الخضر ، ، يأتينا كلَّ يوم فيسلِّم علينا . فقلت : أسألك بحق آبائك لما أخبرتني بما تجوز المفاوز بلا زاد ؟ قال : بل أجوز بزاد ، وزادي فيها أربعة أشياء . قلت : وماهي ؟ قال : أرى الدنيا كلها بحذافيرها مملكة اللـه ، وأرى الخلق كلهم عبيد اللـه وإماؤه وعياله ، وأرى الاسباب والأرزاق بيد اللـه ، وأرى قضاء اللـه نافذاً في كل أرض اللـه . فقلت : نعم الزاد زادك يا زين العابدين ، وأنت تجوز بها مفاوز الآخرة ، فكيف مفاوز الدنيا ؟ [14]
وقصة مشابهة يرويها حماد بن حبيب الكوفي القطان فيقول :
انقطعت عن القافلة عند زبالة [15] فلما أجنَّني الليل أويت إلى شجرة عالية . فلما اختلط الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل عليه أطمار بيض تفوح منه رائحة المسك . فأخفيت نفسي ما استطعت . فتهيأ للصلاة ، ثم وثب قائماً وهو يقول : يا من حاز كل شيء ملكوتاً ، وقهر كل شيء جبروتاً ، أولج قلبي فرح الإقبال عليك ، وألحقني بميدان المطيعين لك ، ثم دخل في الصلاة . فلما رأيته وقد هدأت أعضاؤه ، وسكنت حركاته ، قمت إلى الموضع الذي تهيأ فيه إلى الصلاة ، فإذا أنا بعين تنبع . فتهيأت للصلاة ، ثم قمت خلفه ، فإذا بمحراب كأنه مثل في ذلك الوقت فرأيته كلما مر بالآية التي فيها الوعد والوعيد يرددها بانتحاب وحنين . فلما أن تقشع الظلام وثب قائماً وهو يقول : يا من قصده الضالون فأصابوه مرشداً ، وأَمَّه الخائفون فوجدوه معقلاً ، ولجأ إليه العابدون فوجدوه موئلاً . متى راحة مَن نصب لغيرك بدنه ، ومتى فرح من قصد سواك بِنيِته ؟ إلهي قد تقشّع الظلام ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حياض مناجاتك صدراً ، صلِّ على محمد وآله وافعل بي أولى الأمرين بك يا أرحم الراحمين . فخفت أن يفوتني شخصه وأن يخفي علي أمره ، فتعلقت به فقلت : بالذي أسقط عنك هلاك التعب ، ومنحك شدة لذيذ الرهب ، إلاّ ما لحقتني منك جناح رحمة وكنف رقة ، فإني ضال . فقال : لو صدق توكلك ما كنت ضالاً ، ولكن اتبعني واقفُ أثري . فلما ان صار تحت الشجرة أخذ بيدي وتخيل لي أن الأرض تمتد من تحت قدمي ، فلما انفجر عمود الصبح قال لي : أبشر فهذه مكة ، فسمعت الضجة ورأيت الحجة ، فقلت له : بالذي ترجوه يوم الآزفة يوم الفاقة ، مَن أنت ؟ فقال : إذا أقسمت فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب [16] .
ألم أقل لك إنه كان ومضة نور وشلاَّل إيمان ، وقبساً من وهج الرسالة ؟..
كان الظلام يخيم على طرقات المدينة وقد أوى الناس إلى بيوتهم ، والسماء تمطر ورياح الشتاء الباردة تعصف .. فيقول : الزهري : رأيته (ع) يمشي وعلى ظهره دقيق . فقلت يابن رسول اللـه ، ما هذا ؟.
قال (ع) : أريد سفراً أعد له زاداً أحمله إلى موضع حريز .
فقال الزهري : فهذا غلامي يحمله عنك ، فأبى (ع) .
فقال الزهري : أنا أحمله عنك فأني ارفعك ( وأجلُّك ) عن حمله .
فقال علي بن الحسين (ع) : لكني لا أرفع نفسي ( ولا أجل نفسي ) عما ينجيني في سفري ، ويحسن ورودي على ما أرد عليه . وأضاف الإمام قائلا : أسألك بحق اللـه لما مضيت لحاجتك وتركتني . فانصرف عنه . فلما كان بعد أيام قال له يابن رسول اللـه لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً .
قــــال : بلى يا زهري !. ليس ما ظننت ، ولكنه الموت ، وله استعدّ ، وأضاف الإمام لبيان هدف حملـــه تلك البضاعة في الليل إلى بيوت الفقراء : إنما الاستعداد للموت تجنب الحرام ، وبذل النفوس في الخيـــر [17] .
إن جذور شخصية الإمام زين العابدين تمتد في أفق معرفته باللـه تعالى ، ويقينه باليوم الآخر ، ووعيه للسرعة الخاطفة التي تبتلع ساعات الليل والنهار من عمر البشر ، وتزاحم الواجبات عليه !.
حينما يسأله رجل كيف أصبحت يابن رسول اللـه ؟ يقول : أصبحت مطلوباً بثمان : اللـه يطلبني بالفرائض ، والنبي (ص) بالسنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتِّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد . فأنا بين هذه الخصال مطلوب [18] .
إنه كان مثلاً رائعاً للآية الكريمة : « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللـه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ » (آل عمران/191) .
لقد أحبَّ اللـه حتى فاضت على شفاهه روافد الحب في صورة ابتهالات ومناجاة سجَّل التاريخ جزءاً بسيطاً جدّاً منها في صحيفته المعروفة بـ ( السجادية ) .. فلنستمع معاً إلى هذه الرائعة التي تبهر الأبصار :
فقد انقطعتْ إليك هِمَّتي ، وانصرفتْ نحوك رغبتي . فأنتَ لا غيرك مرادي ، ولك لا لسواك سهري وسُهادي ، ولقاؤك قرة عيني ، ووصلك مُنَى نفسي ، وإليك شوقي ، وفي محبتك وَلَهي ، وإلى هواك صبابتي ، ورضاك بُغيتي ، ورؤيتك حاجتي ، وجوارك طلبي ، وقربك غاية سؤلي ، وفي مناجاتك رَوحي وراحتي ، وعندك دواء علتي ، وشفاء غُلتي ، وبردُ لوعتي ، وكشفُ كربتي ، فكن أنيسي في وحشتي ، ومُقيل عثرتي ، وغافر زلتي ، وقابل توبتي ، ومجيب دعوتي ، ووليّ عصمتي ، ومغني فاقتي ، ولا تقطعني عنك ، ولا تبعدني منك ، يا نعيمي وجنتي ، ويا دنياي وآخرتي ، يا أرحم الراحمين [19] .
فـــأيُّ قـــلبٍ مفعم بالإيمان هـــذا الذي يفيض بهذه الكلمات المضيئـــة ؟!.. وأي فؤاد ملتهب بالشوق إلــى
اللـه ، متيم بحب اللـه ، يشع بهذه المناجاة ؟. إنّه قلب ذلك الإمام الذي كانت الصلاة أحب الأمور إليه . وكان الذكر شغله الشاغل والعبادة صبغة حياته !
فقد دخل على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عينَي علي بن الحسين (ع) ، فقال : يا أبا محمد لقد بيَّن عليك الإجتهاد ، ولقد سبق لك من اللـه الحسنى ، وأنت بضعة من رسول اللـه (ص) قريب النسب وكيد السبب . وإنك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك ، ولقد أُوتيتَ من الفضل والعلم والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك ولا قبلك ، إلاّ مَن مضى من سلفك .. وأقبل يُثني عليه ويطريه .. قال : فقال علي بن الحسين (ع) :
كلّما ذكرته ووصفته من فضل اللـه سبحانه وتأييده وتوفيقه . فأين شكرُه على ما أنعم يا أمير المؤمنين ؟. كان رسول اللـه (ص) يقف في الصلاة حتى تورّمت قدماه ، ويظمأ في الصيام حتى يُعصب فوه ، فقيل له : يا رسول اللـه ألم يغفر لك اللـه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول (ص) أفلا أكون عبداً شكوراً ؟. الحمد لله على ما أولى وأبلى ، وله الحمد في الآخرة والأولى . واللـه لو تقطعت أعضائي ، وسالت مقلتاي على صدري ، لن أقوم لله جل جلاله بشكر عَشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه الَّتي لا يحصيها العادُّون ، ولا يبلغ حدّ نعمة منها على جميع حمد الحامدين ، لا واللـه أو يراني اللـه لا يشغلني شيء عن شكره وذكره ، في ليل ولا نهار ، ولا سر ولا علانية . ولولا أن لأهلي عَلَيَّ حقاً ، ولسائر الناس من خاصهم وعامهم عَلَيَّ حقوقاً لا يسعني إلاّ القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أؤديها إليهم ، لَرميتُ بطرفي إلى السماء ، وبقلبي إلى اللـه ، ثم لم أرددهما حتى يقضي اللـه على نفسي وهو خير الحاكمين .
وبكى (ع) وبكى عبد الملك وقال : شتان بين عبد طلب الآخرة وسعى لها سعيها ، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته ، ماله في الآخرة من خلاق . ثم أقبل يسأله عن حاجاته وعما قصد له فشفّعه فيمن شفَّع ، ووصله بمال [20] .
وعندما يراه طاوس في أخريات الليل يطوف بالبيت الحرام يرى منه عجباً حتى يشفق عليه فلنستمع إليه ، يروي قصته :
رأيته يطوف من العشاء إلى السَّحر ويتعبد ، فلمّا لم يَرَ أحداً رمق السماء بطرفه ، وقال :
إلهي غارت نجوم سماواتك ، وهجعت عيون أنامك ، وأبوابُك مفتّحات للسائلين ، جئتك لتغفر لي وترحمني ، وتريني وجه جَدِّي محمد (ص) في عرصات القيامة . ثم بكى وقال : وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ ، ولا بنكالك جاهلٌ ، ولا لعقوبتك متعرضٌ ، ولكن سوَّلت لي نفسي ، وأعانني على ذلك سترُك المرخَى به عَلَيَّ . فالآن من عذابك من يستنقذني ؟. وبحبل مَن أعتصم إنْ قطعتَ حبلك عني ؟. فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يَديك ، إذا قيل للمخفِّين جوزوا ، وللمثقَلين حُطُّوا . أمع المخفّين أجوز ؟ أم مع المثقلين أَحط ؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطايايَ ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربِّي ؟! .
ثم بكى وأنشأ يقول :

أتحرقني بالنار يـاغاية المنى فأين رجائي ثم اين محبّتي ***أتيتُ بأعمالٍ قبـاحٍ زَرِيّةٍ وما في الورى خلق جنى كجنايتي

ثم بكى وقال : سبحانك تُعصَى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تُعص تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم .
ثم خر إلى الارض ساجداً . قال : فدنوتُ منه وشلتُ برأسه ووضعتُه على ركبتي وبكيتُ حتى جرت دموعي على خده ، فاستوى جالساً وقال : مَن الذي أشغلني عن ذكر ربِّي ؟
فقلتُ : أنا طاووس يابن رسول اللـه ، ما هذا الجزع والفزع ؟
ونحن يلزمنا أن نفعل هذا ونحن عاصون جانون ، أبوك الحسين بن علي وأُمك فاطمة الزهراء ،و جدك رسول اللـه (ص) ؟! قال : فالتفت إليّ وقال :
هيهات هيهات يا طاووس ، دع عني حديث أبي وأمي وجدي ، خلق اللـه الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً ، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً . أما سمعتَ قوله تعالى : « فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسآءَلُونَ » ( المؤمنون/101) ؟. واللـه لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدمها من عملٍ صالح [21] .
ولأنه أحب اللـه فوّض إليه أمره وسلّم له أشد التسليم ، وهو (ع) يروي عن نفسه القصة التالية فيقول :
مرضتُ مرضاً شديداً ، فقال لي أبي : ما تشتهي ؟ فقلتُ : أشتهي أنْ أكون ممَّن لا أقترح على اللـه ربِّي ما يدبِّره لي . فقال لي : أحسنتَ ، ضاهيتَ إبراهيم الخليل صلوات اللـه عليه حيث قال جبرئيل [22] : هل من حاجة ؟. فقال : لا أقترح علي ربِّي ، بل حسبي اللـه ونعم الوكيل [23] .
وهكذا أحبه اللـه تعالى وأكرمه ورفع شأنه ، وأجرى علي يديه تقديره ، وألزم الناس ولايته .
والقصة التالية تعكس مدى حب اللـه سبحانه للإمام زين العابدين (ع) :
والقصة يرويها طائفة من عُبَّاد البصرة وفقهاءها وهم ثابت البناني ، وأيوب السجستاني ، وصالح المري ، وعتبة الغلام ، وحبيب الفارسي ، ومالك بن دينار .
وننقـــل فيما يلي نص ما جاء في هامش كتاب بحار الأنوار ( ج 46 ، ص 50 ) عن هؤلاء الْعُبَّاد بالترتيـب :
أولاً : ثابت البناني : من التابعين وقد ترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء ( ج 2 ، ص 318 إلى ص 333) فقال : ومنهم المتعبد الناحل ، المتهجد الذابل ، أبو محمد ثابت بن مسلم البناني ، وذكر أنه أسند عن غير واحد من الصحابة منهم : ابن عمر ، وابن الزبير ، وشداد وأنس وأكثر الرواية عنه . وروى عنه جماعة من التابعين منهم : عطاء بن أبي رياح ، وداود بن أبي هند ، وعلي بن زيد بن جدعان ، والأعمش ، وغيرهم .
ثانياً : أيوب السجستاني : من التابعين . قال أبو نعيم في حلية الأولياء ، وقد ترجمه في ( ج 3 من ص 3 إلى ص 13 ) : ومنهم فتى الفتيان ، سيد العبّاد والرهبان ، المنوَّر باليقين والإيمان . السجستاني أيوب بن كيسان . كان فقيهاً محجاجاً ، وناسكاً حجاجاً ، عن الخلق آيساً ، وبالحق آنساً .
أسند أيوب عن أنس بن مالك ، وعمرو بن سلمة الجرمي . ومن قدماء التابعين ، عن أبي عثمان الهندي ، وأبي رجاء العطاردي ، وأبي العالية ، والحسن ، وابن سيرين وأبي قلابة .
وذكره الأردبيلي في جامع الرواة ( ج 1 ، ص 111 ) فقال : أيوب بن أبي تميمة ، كيسان السجستاني العنزي البصري ، كنيته أبو بكر مولى عمار بن ياسر ، وكان عمار مولى ، فهو مولى مولى . وكان يحلق شعره في كل سنة مرة ، فإذا طال فَرَق . مات بالطاعون بالبصرة سنة 131 .
ثالثاً : صالح المري : هو ابن بشير ، وصفه أبو نعيم في الحلية ( ج 6 ، ص 165 ) بقوله : القارئ الدرِي ، والواعظ التقي ، أبو بشير صالح بن بشير المري ، صاحب قراءة وشجن ومخافة وحزن . يحرك الأخيار ، ويفرك الأشرار .
اسند عن الحسن ، وثابت ، وقتادة ، وبكر بن عبد اللـه المزني ، ومنصور بن زاذان وجعفر بن زيد ، ويزيد الرقاشي ، وميمون بن سياه ، وأبان بن أبي عياش ، ومحمد بن زياد ، وهشام بن حسان ، والجريري ، وقيس بن سعد ، وخليد بن حسان في آخَرِين .
رابعاً : عتبة الغلام : هو الحر الهمام ، المجلو من الظلام ، المكلوء بالشهادة والكلام ، قال عبيد اللـه بن محمد : عتبة الغلام هو عتبة بن أبان بن صمعة ، مات قبل أبيه . وسئل رباح القيسي عن سبب تسمية عتبة بالغلام فقال : كان نصفاً من الرجال ، ولكنّا كنّا نسميه الغلام لأنه كان في العبادة غلامَ رهِان ، استشهد وقتل في قرية الحباب في غزو الروم ، ترجمه مفصلاً أبو نعيم في الحلية ( ج 6 ، ص 226 إلى 238 ) .
خامساً : حبيب الفارسي : قال أبو نعيم في الحلية ( ج 6 ، ص 149 ) : أبو محمد الفارسي من ساكني البصرة ، كان صاحب المكرمات ، مُجاب الدعوات ، وكان سبب إقباله على الآجلة وانتقاله عن العاجلة ، حضوره مجلس الحسن بن أبي الحسن ، فوقعت موعظته من قلبه .. وتصدق بأربعين ألفــــاً في
أربع دفعات .
سادساً : مالك بن دينار أبو يحيـــى ، وصفه أبو نعيم في الحلية بقوله : العارف النظَّار ، الخائف الجبَّار .. كان لشهوات الدنيا تاركاً ، وللنفس عند غلبتها مالكاً ، وقد أطال في ذكره ( ج 2 ، من ص 357 إلى ص 389 ) .

استجابة دعائه (ع)

عن ثابت البناني قال : كنت حاجّاً وجماعةَ عٌبَّاد البصرة مثل أيوب السجستاني وصالح المري وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ومالك بن دينار . فلما ان دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث . ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألونا أن نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا اللـه خاضعين متضرعين بها ، فَمُنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتىً قد أقبل ، قد أكربته أحزانُه ، وأقلقته أشجانُه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ، ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ، ويا ثابت البناني ، ويا أيوب السجستاني ، ويا صالح المري ، ويا عتبة الغلام ، ويا حبيب الفارسي ، ويا سعد ، ويا عمر ، ويا صالح الأعمى ، ويا رابعة ، ويا سعدانة ، ويا جعفر بن سليمان ، فقلنا : لَبَّيك وسعدَيك يا فتى . فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمان ؟. فقلنــــا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة . فقــــال : ابعدوا من الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمان لأجابه . ثم أتى الكعبة فخر ساجداً فسمعته يقول في سجوده : سيدي ، بحبك لي إلاّ سقيتهم الغيث ، قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه الْقُرَب ، فقلت يا فتى : من اين علمت أنه يحبك ؟ قال : لو لم يحبني لم يستزرني ، فلما استزارني علمتُ أنّه يحبني ، فسألتُه بحبه لي فأجابني ، ثم ولى عنّا وأنشأ يقول :

من عرف الرب فلـم يُغنـه معرفةُ الرب فذاك الشقي ***ما ضرَّ في الطاعة ما نالـه في طـاعة الله وماذا لقي
ما صنع العبد بـغيـر الـتـقى والعزُّ كلُّ العزِّ للمتَّقي 

فقلت : يا أهل مكة من هذا الفتى ؟. قالوا : علي بن الحسين (ع) بن علي بن أبي طالب .
وعن المنهال بن عمرو في خبر قال : حججت فلقيت عليَّ بن الحسين (ع) ، فقال : ما فعل حرملة بن كاهــل ؟. قلت : تركته حيّاً بالكوفة ؛ فرفع يديه ثمَّ قال (ع) : اللـهمَّ أذِقْهُ حَرَّ الحديد ، اللـهمَّ أذِقْهُ حَرَّ النـــــار . فتوجّهت نحو المختار ، فإذا بقوم يركضون ويقولون البشارة أيّها الأمير ، قد أُخِذَ حرملةُ ، وقد كان توارى عنه ، فأمر بقطع يديه ورجليه وَحرْقه بالنار .
وكان زين العابدين (ع) يدعو في كلِّ يوم أن يريه اللـه قاتل أبيه مقتولاً ، فلمّا قتل المختارُ قَتَلَة الحسين صلوات اللـه وسلامه عليه بعث برأس عبيد اللـه بن زياد ورأس عمر بن سعد مع رسول من قِبَلِه إلى زين العابدين ، وقال لرسوله : إنّه يصلّي من اللّيل ، وإذا أصبح وصلّى صلاة الغداة هجع ، ثمَّ يقوم فيستاك ويؤتى بغدائه ، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه ، فإذا قيل لك : إنَّ المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته ، وقل له : المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك : يابن رسول اللـه ، قد بلّغك اللـه ثارك . ففعل الرَّسول ذلك : فلمّا رأى زين العابدين (ع) الرأسين على مائدته خرَّ ساجداً وقال :
الحمد لله الّذي أجاب دعوتي ، وبلّغني ثاري من قتلة أبي ، ودعا للمختار وجزّاه خيراً [24] .
وحينما نعرف جانباً من شخصية الإمام زين العابدين (ع) ومدى تفانيه في ذات اللـه عزَّ وجلَّ وذوبانه في تيار حبِّه سبحانه ، وخلوصه من شوائب المصلحة المادية ، نعرف - حينئذ - جانباً من حكمة الولاية ، وذلك التأكيد الشديد عليها في نصوص الإسلام . فمثل ولاية الإمام السجاد تصلح نفس الإنسان وتتسامــــى في معارج الكمال ، وإن ولاية الأنبياء والأوصياء تصبغ شخصية المجتمع المؤمن بصبغة الإيمــان ، وتيسر له العمل بتعاليم أولياء اللـه تعالى ، والسعي وراء تمثيل شخصياتهم الإلهية ، كما أن تلك الولاية تسقي روضة حب اللـه في أفئدتهم ، وتصونها من الذبول ، لأن حب أولياء اللـه يفيض من حب اللـه كما تفيض الروافد من نبعٍ زخَّار ، بل إن حب أولياء اللـه هو انبساط لحب اللـه ، وأمثلة له وشواهد عليه !. وكيف يمكن أن يدَّعي أحد أنه يحب اللـه ثم لا يحب من هام في حب اللـه حتى بلغ ما بلغه الإمام زين العابدين (ع) من العبادة والتهجد ؟!
أولم يقل ربُّنا العزيز : « قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللـه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللـه » (آل عمران/31) .
فلنغترف من نبع حب اللـه فيضاً ، وذلك بِحُبِّ أوليائه أكثر مما مضى ، حتى نطهِّر أفئدتنا من أهواء الدنيا ومن أدران حب أهلها اللئام .
__________________________________

([1]) نهج البلاغة ( المعجم المفهرس ص 68 ) .
([2]) المصدر : ( ص 70 ) .
([3]) المصدر : ( ص 70 ) .
([4]) بحار الأنوار : ( ج 27 ، ص 57 ) .
([5]) المصدر : ( ص 56 ) .
([6]) المصدر : ( ص 57 ) .
([7]) أي باب الطاعة للنبي وأوصيائه المصدر : ( ص 180 )
([8]) المصدر : ( ص 180 ) .
([9]) المصدر : ( ص 201 ) .
([10]) نفقت الدابة ماتت ( القاموس ) .
([11]) بحار الأنوار : ( ص 61 - 63 ) .
([12]) سوف نذكر بعضاً منها في خاتمة الكتاب ..
([13]) يعني ارفع رجلك - أو رحلك - عن المركوب ، واركب مطيتي حتى تدرك الحج ..
([14]) قصة إبراهيم - بحار الأنوار : ( 3 / ج 36 ) .
([15]) زبالة : اسم موضع بطريق مكة .
([16]) المصدر : ( ص 40 - 41 ) .
([17]) المصدر : ( ص 49 ) .
([18]) في رحاب أئمة أهل البيت : ( ج 3 ، ص 234 ) .
([19]) مفاتيح الجنان : ( ص 124 ) .
([20]) بح : ( ص 57 ) .
([21]) قصته في المسجد الحرام مع طاووس .
([22]) قال له ذلك عندما همّ الطغاة رميه في النار عبر المنجنيق .
([23]) المصدر : ( ص 67 ) .
([24]) بحار الأنوار : ( ج 46 ، ص 51 - 53 ) .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page