أولاده
علي
بلغ علي بن جعفر من الجلالة شأواً لا يلحق، ومن الفضل محلاً لا يسبق، وأمّا حديثه وثقته فيه، فهو ممّا لا يختلف فيه اثنان، ومن سبَر كتب الحديث عرف ما له من أخبار جمّة يرويها عن أخيه الكاظم عليه السلام تكشف عن علم ومعرفة.
وقال فيه الشيخ المفيد طاب ثراه في إِرشاده : وكان علي بن جعفر راوية للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، ولزم أخاه موسى عليه السلام، وروى عنه شيئاً كثيراً من الأخبار، وقال في النصّ عليه، وكان شديد التمسّك به، والانقطاع اليه، والتوفّر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات سماعاً عنه، والنصّ على أخيه الكاظم عليه السلام روى من أخويه إِسحاق وعلي ابني جعفر، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه إِثنان.
ومن شدّة ورعه اعترافه بالأئمة بعد أخيه الكاظم عليه السلام مع كبر سنّه وجلالة قدره، وكبير فضله، ولم تثنه هذه الشؤون عن الاعتراف بالحقّ والعمل به، بل زادته بصيرة وهدى.
كان رجل يظنّ فيه علي بن جعفر أنه من الواقفة سأله عن أخيه الكاظم فقال له علي : إِنه قد مات، فقال له السائل : وما يدريك بذلك ؟ قال له : اقتسمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق بعده، قال : ومن الناطق بعده ؟ قال علي : ابنه، قال : فما فعل ؟ قال له : مات، قال : وما يدريك أنه مات ؟ قال علي : قسّمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده، قال : ومن الناطق من بعده ؟ قال علي : ابنه أبو جعفر، فقال له الرجل : أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّد عليهما السلام، تقول هذا القول في هذا الغلام، فقال له علي : ما أراك إِلا شيطاناً، ثمّ أخذ علي بلحيته فرفعها الى السماء ثمّ قال : فما حيلتي إِن كان اللّه رآه أهلاً لهذا ولم يرَ هذه الشيبة لهذا أهلاً(1).
هذا لعمر الحقّ هو الورع، ورضوخ النفس للحق، وعدم الاغترار بشؤون التقدم من الفضل والسنّ والجلالة، التي قد تغترّ النفس الأمّارة بما دونها من الخصال العالية.
وكان يعمل أبداً مع أبي جعفر عمل المأموم العارف بمنزلة الإمام، دون أن يحجزه عن هذا أنه عمّ أبيه، بل ربّما تمنّى أن يفديه بنفسه، أراد أبو جعفر عليه السلام ليفتصد ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال : يا سيّدي يبدأني لتكون حدَّة الحديد فيَّ قبلك، ثمّ أراد أبو جعفر عليه السلام النهوض فقام علي بن جعفر فسوّى له نعليه حتّى يلبسهما(2).
ودخل أبو جعفر عليه السلام يوماً مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وآله فلمّا بصر به علي بن جعفر وثب بلا حذاء ولا رداء فقبَّل يده وعظَّمه فقال له أبو جعفر : يا عمّ اجلس رحمك اللّه، فقال : يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم، فلمّا رجع أبو جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل، فقال : اسكتوا اذا كان اللّه عزّ وجل - وقبض على لحيته - لم يؤهّل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله، نعوذ باللّه ممّا تقولون، بل أنا له عبد(3).
هذه هي النفس القدسيّة التي عرفت الحقّ فاتّبعته، وما اقتفت أثر الحميّة والعصبيّة، واغترّت بالنفس، بل كان من حُبّ النفس أن يطيع المرء خالقه جلّ شأنه في أوليائه واُولي الأمر من عباده.
هذه بعض حال علي بن جعفر التي تكشف عمّا انطوى عليه ضميره من القدس والنسك والطاعة والعلم باللّه وبالحجج من خلقه.
وكان رضوان اللّه عليه يسمّى بالعريضي، نسبة الى العريض - بضم وفتح - محلّ قرب المدينة كان يسكنه، وبه مات إِسماعيل، ولعلي أولاد ينسبون اليه بعنوان العريضي.
______________________________
(1) الكشي : ص 429/803.
(2) الكشي : 429/804.
(3) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على أبي جعفر الثاني عليه السلام، ولا يراد من العبوديّة في مثل المقام الرقية والملكيّة، بل الطاعة والإمتثال : 1/322/12.