عِظاته
المؤمن
الإيمان بكلّ شيء هو تمكّن العقيدة من النفس، فيخلص لها ويتفانى في سبيلها، لأن العقيدة اذا تمكّنت من الانسان تكون جزءاً لا يتجزأ من نفسه لا ينفكّ عنها، بل هي نفسه حقيقة، فاذا جاز أن يتخلّى الانسان عن نفسه ولا يخلص لها، جاز أن يتخلّى عن عقيدته ولا يخلص لها.
والعقيدة الدينيّة خاصّة - بالاستقراء - ولا سيّما الإيمان باللّه أقوى من كلّ عقيدة تمكّناً من النفس، فاذا عرف الانسان ربّه مؤمناً بقدرته وتدبيره وعدله لا بدّ أن يكون مستهيناً بجميع شهوات الدنيا غير حافل بحوادثها، ولا بدّ أن يتّصف بالخصال التي سنقرؤها عن الصادق عليه السلام التي ينبغي أن يتّصف بها المؤمن.
ومَن رأيته لا يتحلّى بها فاعلم أنه ليس بمؤمن حقاً، أو أنه ضعيف الإيمان لم تتمكّن العقيدة من نفسه.
قال أبو عبد اللّه عليه السلام في صفة المؤمن : ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال : وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه اللّه، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب، والناس منه في راحة.
ثمّ قال : إِن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده(1).
أقول : إِن الانسان إِلا ما ندر يجد نفسه على جانب كبير من فاضل الصفات من أجل حبّه لذاته ورضاه عن نفسه فيتعامى عن عيوبها.
وفي الحقيقة إِنَّ هذا أوّل الرذائل، بل مبدأ كلّ رذيلة، ولكنه اذا قرأ أمثال هذه الكلمات عن صادق أهل البيت في صفة المؤمن متدبّراً فيها وفاحصاً بحّريّة وإِخلاص عمّا عليه ذاته من الأخلاق والصفات لا بدَّ أن يتطامن ويسخط على نفسه بعد عرفانها، ثمّ لا بدَّ أن يعرف لماذا قال اللّه تعالى : «وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»(2).
وقال عليه السلام أيضاً : المؤمن له قوّة في دين، وحزم في لين، وإِيمان في يقين، وحرص في فِقه، ونشاط في هُدى، وبرّ في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتجمُّل في فاقة، وعفو في مقدرة، وطاعة للّه في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورع في رغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبر في شدَّة، في الهزاهز وقور، وفي الرخاء شكور، لا يغتاب، ولا يتكبّر، ولا يقطع الرحم، وليس بواهن، ولا فظ، ولا غليظ، ولا يسبقه بصره، ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه، ولا يحسد الناس، ولا يُعيِّر(3) ولا يُعيِّر(4)، ولا يسرق، ينصر المظلومِ، ويرحم المسكين، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، لا يرغب في عزّ الدنيا، ولا يجزع من ذلّها، للناس همّ قد أقبلوا عليه، وله همّ قد شغله، لا يُرى(5) في حكمه نقص، ولا في رأيه وهن، ولا في دينه ضياع، يرشد من استشاره، ويساعد من ساعده، ويكيع(6) عن الخناء والجهل(7).
أقول : أترى أن إِمام المؤمنين الصادق عليه السلام يعني بهذا الوصف الأئمة من أهل البيت، وإِلا فأين يوجد مثل هذا المؤمن الكامل ؟ وهل عُرف مؤمن من المسلمين على مثل هذه الصفة وإِن كان الأحرى بكلّ من يدَّعي الايمان باللّه ورسوله حقّاً أن يكون متحلّياً بهذه الخصال الحميدة، ولكن «وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»(8).
وقال عليه السلام أيضاً : لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون كامل العقل، ولا يكون كامل العقل حتّى تكون فيه عشر خصال : الخير منه مأمول، والشرّ منه مأمون، يستقلّ كثير الخير من نفسه، ويستكثر قليل الخير من غيره، ويستكثر قليل الشرّ من نفسه، ويستقلّ كثير الشرّ من غيره، ولا يتبرّم(9) بطلب الحوائج قِبَله(10)، ولا يسأم من طلب العلم عمره، الذلّ أحبّ اليه من العز(11)، والفقر أحبّ اليه من الغنى، حسبه من الدنيا القوت، والعاشرة وما العاشرة لا يلقى أحداً إِلا قال هو خير مني وأتقى، إِنما الناس رجلان، رجل خير منه وأتقى، ورجل شرّ منه وأدنى، فإذا لقي الذي هو خير منه تواضع له ليلحق به، وإِذا لقي الذي هو شرّ منه وأدنى قال لعلّ شرّ هذا ظاهر وخيره باطن فاذا فعل ذلك علا وساد أهل زمانه(12).
______________________________
(1) الكافي، باب المؤمن وصفاته، وباب نسبة الاسلام : 2/230/2.
(2) يوسف : 103.
(3) بتضعيف الياء وكسرها.
(4) بتضعيف الياء وفتحها.
(5) بالبناء للمفعول.
(6) يجبن.
(7) الكافي، باب المؤمن وصفاته : 2/231/4.
(8) يوسف : 103.
(9) يتضجّر.
(10) بكسر القاف وفتح الباء واللام أي اليه.
(11) لعلّه يريد أن الذلّ في الطاعة أحبّ اليه من العزّ في المعصية، لأن الكتاب صريح بقوله «العزّة للّه ولرسوله وللمؤمنين» أو يريد من الذلّ عدم نباهة الذكر ومن العزّ الظهور ونباهة الشخصيّة تجوّزاً فيهما.
(12) مجالس الشيخ الطوسي، المجلس /5.