ما الآية؟
جدير بهذا السؤال العناية والنظر، لأن تصديق النبوّة متوقّف على صحّة الآية.
وإِخال أن الجواب عنه سهل جدّاً، نظراً الى ما جاء في الكتاب المنير من استطراد آيات الأنبياء والرسل، فإنك اذا نظرت الى آية موسى وهي اليد البيضاء والعصا، وآية عيسى وهي إِبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الموتى وخلق الطير، وآية محمّد صلّى اللّه عليه وآله وهي القرآن نفسه، لعرفت أن آيات الأنبياء ما يعجز البشر بما هو بشر وبما له من علم وقوّة عن الإتيان بمثلها، ومَن الذي يقدر بعلمه وقوّته وقدرته أن يجعل النار برداً وسلاماً، ويقطّع الطير أجزاء ويفرّقها على الجبال فيدعوها فتأتي اليه فتأتلف بيده بعد ما كانت أجزاء متفرّقة ويجعل يده بيضاء من غير سوء متى أراد، وعصاه حيّة تسعى تلقف ما يأفك الساحرون، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويجعل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، ويجاري القرآن في خصوصيّاته أجمع، الى غير ذلك من آيات الأنبياء التي نطق بها القرآن الحكيم.
وبذلك تعرف الفارق بين المعجزة والسحر، وبينها وبين هذه الصناعة في هذا العصر، لأن المعجزة ما جرت على غير النواميس الطبيعيّة، غير أن الشيء المعجز لا بدّ أن يكون في نفسه ممكناً ذاتيّاً لأن المحال لا يقع، ولا تجري المعجزة إِلا على أيدي أفذاذ من البشر عند الدعوة اليه تعالى، والدلالة عليه سبحانه، لأن المفروض أنها فوق مستوى قدرة البشر فلا تكون إِلا من موهبة من اللّه تعالى يمنحها من يشاء من عباده المقرَّبين.
وأمّا السحر فإنما هو فنّ يقوى عليه كلّ أحد اذا تعلّمه إِذ هو تخييل وتضليل، وليس له واقع وحقيقة.
وأمّا الصناعة فإنما هي أيضاً علم تجري على النواميس الطبيعيّة، يقوى عليها مَن تعلّمها، ويعرف طبائع الأشياء وتركيبها.
ولربّما يقال: إِن العلم يرفض المعجز اذا كان جارياً على غير النواميس الطبيعيّة، لأن به جرياً على غير الأسباب العاديّة، وكيف يمكن أن تجري الاُمور على غير أسباب اعتياديّة، والجواب عنه من وجوه:
1 - إِن القرآن صريح بإتيان الأنبياء بتلك الآيات الخارقة للعادة الجارية على غير النواميس الطبيعيّة، مثل سلامة إِبراهيم من النار، وإِتيان الطيور له بعد تقطيعها، وجعل موسى يده بيضاء من غير سوء وعصاه حيَّة تسعى، وإِبراء عيسى الأمراض التي عجز الطبّ عن إِبرائها كالأكمه والأبرص وأعظم منه إِحياؤه الموتى، وخلقه الطير، الى ما سوى هذه الآيات، وما قيمة العلم اذا خالف صريح القرآن، بل لا يكون هذا علماً صحيحاً لوجود الخطأ في بعض مقدّماته.
2 - إِن هذه الآيات إِن كانت ممكنة في حدّ ذاتها فلأيّ شيء نجحدها وهي غير مستحيلة، مع أن الحاجة ماسّة اليها، وقدرة اللّه تعالى شاملة لا يشوبها نقص ولا عجز، إِنه على كلّ شيء قدير.
نعم إِنما نمنع الأشياء المستحيلة بالذات والعرض كإيجاده لشريك له، وجمعه بين النقيضين والضدّين، وجعله الدنيا على كبرها في البيضة على صغرها، لأن المحلّ غير صالح، فالنقص من جهة المقدور لا من جهة القدرة، وأمّا مثل تكلّم الحصا وانشقاق القمر ومشي الشجر، وما ضارع هذا، فلا مانع فيه من جهة المحلّ وقابليّته، ولا من جهة القدرة منه تعالى عليه.
3 - اذا أحلنا هذه الآيات عليه تعالى، فأيّ شيء يكون المصدق لدعوى الأنبياء النبوّة، واذا جازت النبوّة بلا دليل فكلّ أحد يمكن أن يدّعيها، فأيّ فرق إِذن بين النبيّ الصادق وبين النبيّ الكاذب.
واذا قيل: إِن النبوغ والذكاء والفصاحة والعلم والأمانة والصدق اذا كانت متوفّرة في مُدَّعي النبوَّة على الوجه الأكمل الذي يمتاز به عن سائر البشر كافية في تصديق دعوى النبوَّة منه.
فإنّا نقول: إِن اكثر الناس لا يقيم وزناً لهذه الاُمور، بل لا يستطيع تمييزها فيمن هي فيه حقّ التمييز، فضلاً أن يعرف أنها موجودة في النبي على الوجه الأكمل فلا بدّ من ظهور شيء محسوس على يده يعجز عنه البشر يكون قاطعاً لعذرهم وبرهاناً نيّراً يستوي في الخضوع له وإِدراكه العالم والجاهل والنبيه والعاقل.
4 - لماذا يمنع العلم عن الاُمور الجارية على غير النواميس الطبيعيّة ؟ أليس خالق النواميس العاديّة وغير العاديّة واحداً ؟ ومن اقتدر على إجراء الاُمور بأسبابها العاديّة يقتدر على إِجرائها بأسباب فوق مستوى قدرتنا وعلمنا.
واذا نظرنا بعض مصنوعاته تعالى وجدناها جارية على غير نواميس العادة وذلك في بدء الخلقة فإنه ما النواميس الطبيعيّة في صنعة آدم وحواء وابتداء خلق السّموات والأرضين والأشجار والأنهار والمعادن والفلزّات وما سواها فإنه خلقها لا من شيء سبق، ولا على مثال احتذاه، واذا كان ناموسها الطبيعي هو تلك العناصر التي كان منها تركيبها، فما كان الناموس الطبيعي لخلق تلك العناصر أنفسها.
نعم إِنما صرنا نتطلّب النواميس الطبيعيّة في المصنوعات لما اعتدناه في الخليقة من جريانها مستمرّة على تلك النواميس، ولكن ذلك لا يجب في كلّ شيء ما دام خالق النواميس على غير النواميس موجوداً، وكانت له في خلقها على غير النواميس الحجّة على عباده والإرشاد على اُلوهيّته وقدرته ونبوَّة رُسُله.
بيَد أننا نحتاج الى تصديق تلك الآيات التي جرت على غير العادة في الأسباب مع إِمكانها الى المشاهدة مع الحضور، والى صحّة النقل مع الغيبة.
وهذه الآيات والكرامات كما تكون للأنبياء تكون لأوصيائهم بذلك الغرض الذي دعا الأنبياء الى الإتيان بها، فإن إِرسال الأنبياء ما كان إِلا لإرشاد الناس الى معرفة الخالق جلّ شأنه والى عبادته، وإِن نصب الأوصياء ما كان إِلا لدلالة على تلك المعرفة، والإشارة الى الصحيح من تلك العبادة، فالحجّة إِذن كما تدعو الى المعجزة في النبي تدعو اليه في الامام الوصي.
ولا فرق في المعجز عند الحاجة اليه في الإمكان عليه بين إحياء الموتى وخلق الطير وبين إِنطاق الحجر والشجر، ولا بين غيرهما ممّا هو أقلّ شأناً لأن القدرة منه تعالى على الجميع واحدة، ولا فرق لديه سبحانه في الخلق بين الذرَّة والطود ولا بين السّموات والحشرات، فلا ينبغي لذي بصر أو بصيرة أن يستنكر أمثال إِحياء الأموات وجعل التراب ذهباً والإخبار عن الغيب من الأنبياء والأوصياء بعد ثبوت النبوّة والإمامة الإلهيّتين، في حين أنه لا يستنكر منهم إِنباط الماء وإِنزال الغيث وإِطعام الناس العنب لغير أوانه وأشباه ذلك، وما هما إِلا واحد في القدرة، وسواء في الإمكان وسيّان عند الحاجة.
فالصادق عليه السلام اذا كان إِماماً معصوماً منصوباً منه تعالى لتنفيذ شريعة الرسول صلّى اللّه عليه وآله وجب عليه الدلالة علي إِمامته بالمعجز عند الحاجة اليه، وعند الأمن من الخطر، كما وجب على النبي عند الدعوة، هذا عند الإماميّة، وأمّا أهل السنّة فالصادق لديهم من العترة الطاهرة الذي جمع الفضائل كلّها، كما أفصحت به كلماتهم، ورويناه عنهم في عنوان - من هو الصادق - ص 71، فلا غرابة لديهم لو ظهرت له الآيات والكرامات بل لقد رووها عنه وآثروا نقلها، فلا بدع إِذن لو استطردنا من كراماته ومناقبه ما ينبيك عن علوّ مقامه وسموّ منزلته لديه جلّ شأنه.
ولقد ذكر له صاحب مدينة المعاجز ما ينوف على ثلاثمائة كرامة ومنقبة وها نحن اُولاء نذكر شيئاً ممّا روته الكتب الجليلة والمؤلّفات القيّمة، وما اتفق على الكثير منها الفريقان، وتسالمت عليه الفِرقتان.