جَلده
إِن من يلمس في أبي عبد اللّه عليه السلام تلك العاطفة الرقيقة التي تدر دمعته وتذكي النار في قلبه رحمة، وتختطف الدم من وجهه، يستغرب كيف يكون له الجَلد الذي لا توازنه الجبال الشمّ في احتماله.
كان ابنه إسماعيل اكبر أولاده، وهو ممّن جمع الفضيلة والعقل والعبادة فكان الصادق عليه السلام يحبّه حبّاً شديداً، حتّى حسب بعض الناس أن الامامة فيه بعد أبيه، فلمّا مات وكان الصادق عند مرضه حزيناً عليه جمع أصحابه وقدَّم لهم المائدة وجعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان، ودعاهم الى الأكل وحثَّهم عليه لا يرون للحزن أثراً عليه، وكانوا يحسبون أنه سيجزع ويبكي ويتأثّر ويتألّم، فسألوه عن ذلك فقال لهم: وما لي لا اكون كما ترون وقد جاء في خبر أصدق الصادقين: إِني ميّت وإِيّاكم.
ومات ابن له من غُصَّة اعترته وهو يمشي بين يديه فبكى وقال: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت، ثمّ حمله الى النساء فصرخن حين رأينه، فأقسم عليهنّ ألا يصرخن، ثمّ أخرجه الى الدفن وهو يقول: سبحان من يقتل أولادنا ولا نزداد له إِلا حبّاً، ويقول بعد الدفن: إِنّا قوم نسأل اللّه ما نحبّ فيمن نحبّ فيعطينا، فاذا أحبّ ما نكره فيمن نحبّ رضينا(1).
لا أدري من أيّها يعجب المرء أمِن جَلد أبي عبد اللّه عليه السلام على هذه المفاجأة المشجية، أم من هذا الشكر المتوالي على مثل هذه النوائب المؤلمة، أم من ذلك الحبّ للخالق على كلّ حال، والرضى بما يصنع في كلّ أمر، أم من تلك البلاغة والفصاحة وتدافع الحِكم البليغة ومطاوعتها له ساعة الدهشة والذهول ؟ أجل لولا هذه الملكات القدسيّة، والأحوال المتضادّة في شخصيّة أبي عبد اللّه عليه السلام لم تكن الشخصية الوحيدة في خصالها وصفاتها.
وكفى إِكباراً لجَلده سقوط الولد من يد الجارية وموته، وتغيّر لونه لفزع الجارية وارتهابها، ولم يظهر عليه الحزن والجزع لهذه المفاجأة بموت الصبي على هذه الصور المشجية.
وما زال يشاهد الآلام والنوائب والمكاره طيلة أيامه من الدولتين ولم يعرف التاريخ عنه تطامناً وخضوعاً وجزعاً وذهولاً بل ما زال يظهر عليه الصبر والجَلد وتوطين النفس.
______________________________
(1) بحار الأنوار: 47/18/8.