عطفه
إِن الإمام لا يعرف فرقاً في البِرّ والعطف بين الناس، فالناس قريبهم وبعيدهم لديه شرع سواء، وما كلّ من ينيلهم بذلك البِرّ والصِلة في جوف الليل، ويسعفهم من التمر من عين زياد، ممّن يرى إِمامته وولاءه، فالمسلمون كلّهم - لو استطاع - مغرس برّه، ومنال عطفه.
فمن بوادر عطفه ما كان منه مع مصادف مولاه، فإِنه دعاه فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتّى تخرج الى مصر فإن عيالي قد كثروا فتجهَّز بمتاع وخرج مع التجّار الى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة، فأخبروهم أن ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على ألا ينقصوا من ربح دينار ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا الى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد اللّه عليه السّلام ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال عليه السّلام: إِن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع، فحدَّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا، فقال: سبحان اللّه تحلفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إِلا بربح الدينار ديناراً، ثمّ أخذ أحد الكيسين، فقال: هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في الربح، ثمّ قال: يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال(1).
أقول: إِن هذا الربح الذي أخذه مصادف ما كان حراماً حسب القواعد الشرعيّة، ولكن الصادق عليه السلام لا يريد من الناس إِلا الإرفاق من بعضهم ببعض، شأن الاخوة المتحابّين لا سيّما ساعة العسرة، وكان ذلك التحالف والتعاقد على خلاف ما تدعو اليه المروّة، وذلك الربح على غير ما يتطلّبه الإرفاق، ومن ثمّ استنكر الصادق هذا العمل حتّى عدَّ الربح بهذا الوجه غير حلال فسمّاه حراماً على نحو المجاز، وكان ذلك تعليماً منه لمصادف ومن سمع منه من أوليائه.
وتشاجر أبو حنيفة سائق الحاجّ(2) مع ختنه(3) فيه ميراث فمرّ عليهما المفضّل بن عمر، وكان وكيلاً للصادق عليه السلام في الكوفة، وبعد ساعة من وقوفه عليهما أمرهما بالمجيء معه الى الدار وأصلح أمرهما بأربعمائة درهم ودفعها من عنده، وبعد استيثاق كلّ واحد من صاحبه قال لهما: أما أنها ليست من مالي، ولكن أبو عبد اللّه عليه السلام أمرني اذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهم من ماله، فهذا مال أبي عبد اللّه عليه السلام(4).
أجل ما أفضل إِصلاح ذات البيت، ولكن الأفضل فيه أن يفتدي المصلح من ماله، وهذه هي العاطفة حقاً التي تريك الرأفة والرحمة ملموستين.
وما كان حاله مع الغلامين والجارية فيما سبق في الحلم حلماً فحسب، بل حلم وعطف، فإنه لم يقنع بأن يصفح عمّا كان منهم دون أن يعطف على الأول فيروّح له، وهو إِمام الاُمّة، ويمدح الثاني بأنه غير عيي القلب، ويهب للجارية جرمها، وما اكبره، بل يزيد في الإحسان لها أن يحرّرها من رقّ العبوديّة.
وما أوفر عطفه فكم دعا لسجين بإطلاق سراحه كما في دعائه لسدير وعبد الرحمن وهما من أصحابه وكانا في السجن، وعلّم اُمّ داود الحسني، وكان في سجن المنصور مع بني الحسن، دعاءً وعملاً وصوماً في الأيام البيض من رجب، فعملت ما قال فاطلق سراحه وما زال العمل يُعرف الى اليوم بعمل اُمّ داود، الى كثير سواهم.
وكم دعا لمريض بالعافية فعوفي، كما في دعائه لحبابة الوالبيّة وكانت من النساء الفاضلات، وليونس بن عمّار الصيرفي وهو من رجال الصادق الثقات، ولرجل عرض له وقد سُئل له الدعاء، ولامرأة بها وضح في عضدها، ولرجل جاءه في البيت متعوّذاً وبه بلاء شديد، الى غير هؤلاء.
وكم دعا لناس بسعة الحال فأصابوا الدعوة، كما في طرخان النخاس وحمّاد بن عيسى وغيرهما، وسنذكر ذلك في استجابة دعائه.
ولا غرابة أن يكون أبو عبد اللّه عليه السلام على تلك العاطفة النبيلة، وما هي إِلا بعض ما يجب أن يستشعره.
______________________________
(1) بحار الأنوار: 47/59/111.
(2) واسمه سعيد بن بيان وكان من أصحاب الصادق وثقات رواته.
(3) الختن - بالتحريك - الصهر.
(4) الكافي: 2/209/4.