حلمُه
وكان التجاوز عليه يأتيه من القريب والبعيد، فلا يقابله إِلا بالصفح بل ربما قابله بالبّر والإحسان.
وقد مرَّ عليك شطر منه في العنوان الماضي وكثير في حياته السياسيّة في محنه وسيأتي في أبواب كثيرة، ونحن نورد لك الآن بعض ما ينبيك عن هذا الخلق الكريم.
فكان اذا بلغه نيل منه ووقيعة وشتم يقوم فيتهيّأ للصلاة فيصلّي ثمّ يدعو طويلاً ملحّاً في الدعاء سائلاً ربّه ألا يؤاخذ ذلك الجاني بظلمه ولا يقايسه على ما جنى، لأن الحقّ حقّه، وقد وهبه للجاني غافراً له ظلمه(1).
بل يزيد على ذلك في ذوي رحمه فيقول: إِني لا حبّ أن يعلم اللّه أني أذللت رقبتي في رحمي، وأني لاُبادر أهل بيتي أصلهم قبل أن يستغنوا عني(2).
إِن الحوادث محكّ، وبها تعرف مقادير الرجال، وبها تبلى السرائر ومن ثمّ تعرف الفرق بين أبي عبد اللّه وبين ذوي قرابته، فكان يجفوه أحدهم، بل ينال منه الآخر شتماً ونبزاً، بل يحمل عليه الثالث بالشفرة عامداً على قتله، وليس هناك ما يدعوهم الى تلك الجفوة والقسوة والقطيعة فيعاملهم على عكس ما فعلوه معه، فتراه واصلاً بدل القطيعة، وبارّاً عوض الجفاء، وعاطفاً بدل القسوة.
لقد أحزنته تلك النكبات التي أوقعها المنصور ببني الحسن حتّى لقد بكى وظهر عليه الجزع والاستياء بل حُمَّ أياماً حين حمل المنصور شيوخ بني الحسن ورجالهم من المدينة الى الكوفة، وهم قد لاقوه بسيئ القول بالابواء يوم أرادوا البيعة لمحمّد، وما زال محمّد وأبوه عبد اللّه يلاقيانه بالقول السيئ زعماً منهما أنه كان حجر عثرة في سبيل البيعة لمحمّد، ولمّا أن ظهر محمّد بالمدينة أرسل على الصادق يريد منه البيعة، وحين امتنع عليه قابله بسوء القول والفعل، وكم تجرّع غصصاً من بني العبّاس ورجالهم، ولو لم يكن قادراً على شيء ينتقم به منهم إِلا الدعاء لكفى به سلاحاً ماضياً.
وما كان الحلم شعاره مع الأقربين من أهله فحسب، بل كان مع مواليه وسائر الناس، فقد بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ فخرج على أثره فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروّح له حتّى انتبه، فلمّا انتبه لم يكن منه معه إِلا أن قال: يا فلان ما ذلك لك تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار(3).
وبعث مرّة غلاماً له أعجميّاً في حاجة ثمّ جاء الغلام فاستفهم الصادق عليه السلام الجواب والغلام يعني عن إفهامه، حتّى تردّد ذلك منه مراراً والغلام لا ينطق لسانه ولا يستطيع إفهامه، فبدلاً من أن يغضب عليه أحدَّ النظر اليه وقال: لئن كنت عيّ اللسان فما أنت بعيي القلب، ثمّ قال عليه السلام: إِن الحياء والعفاف والعي - عيّ اللسان لا عيّ القلب - من الإيمان، والفحش والبذاءة والسلاطة(4) من النفاق(5).
ونهى أهل بيته عن الصعود فوق البيت فدخل يوماً فإذا جارية من جواريه ممّن تربّي بعض وُلدِه قد صعدت في سلّم والصبيّ معها، فلما بصرت به ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبيّ الى الأرض فمات، فخرج الصادق وهو متغيّر اللون فسئل عن ذلك فقال: ما تغيّر لوني لموت الصبي وإِنما تغيّر لوني لِما أدخلتُ على الجارية من الرعب، وكان قد قال لها: أنتِ حُرَّة لوجه اللّه لا بأس عليك، مرّتين(6).
وما كان هذا رأيه مع أهله وغلمانه فحسب بل كان ذلك شأنه مع الناس كافّة، فإنَّه نام رجل من الحاجّ في المدينة فتوهّم أن هميانه سُرِق فخرج فرأى الصادق مُصلّياً ولم يعرفه فتعلّق به وقال: أنت أخذت همياني، قال: ما كان فيه ؟ قال: ألف دينار، فحمله الى داره ووزن له ألف دينار، وعادَ الرجل الى منزله ووجد هميانه، فعادَ الى الصادق معتذراً بالمال، فأبى قبوله، وقال: شيء خرج من يدي لا يعود إِليّ، فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق، قال: لاجرم هذا فعال مثله(7).
بل دأب على هذه الخِلّة حتى مع ألدّ أعدائه، فإنّه لمّا سرّحه المنصور من الحيرة خرج ساعة أذِن له وانتهى الى موضع السالحين في أوَّل الليل فقال له: لا أدعك أن تجوز فألّح عليه وطلب اليه فأبى إِباءً شديداً وكان معه من أصحابه مرازم(8) ومن مواليه مصادف(9) فقال له مصادف: جُعلت فداك إِنما هذا كلب قد آذاك، وأخاف أن يردك، وما أدري ما يكون من أمر أبي جعفر، وأنا ومرازم أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثمّ نطرحه في النهر، فقال: كيف يا مصادف، فلم يزل يطلب اليه حتّى ذهب من الليل اكثره، فأذن له فمضى، فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتما ؟ قلت: هذا جعلت فداك، فقال: يا مرازم إِن الرجل يخرج من الذلّ الصغير ذلك في الذلّ الكبير(10).
أقول: لعلّه عَنى من الذلّ الكبير القتل، والذلّ الصغير الطلب، والخطاب خطاب إِنكار.
هذا بعض ما كان منه ممّا دلّك على ذلك الحلم العظيم، الذي كان يلاقي به تلك الاعتداءات والمخالفات لقوله ولأمره.
______________________________
(1) مشكاة الأنوار: 217.
(2) الكافي: 2/156/25.
(3) الكافي: 8/87.
(4) طول اللسان.
(5) بحار الأنوار: 47/61.
(6) المناقب: 4/275.
(7) المناقب: 4/274.
(8) سيأتي في المشاهير من ثقات رواته.
(9) سيأتي في مواليه.
(10) روضة الكافي: 8/87/49.