توحيد المفضّل(4)
- 4 -
ثمّ أن المفضّل بكّر اليه في اليوم الرابع، فقال له الصادق عليه السّلام:
يا مفضّل قد شرحت لك من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد في الانسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها اُناس من الجهّال ذريعة الى جحود الخالق والخلق والعمد والتدبير، وما انكرت المعطّلة والمانويّة من المكاره والمصائب، وما أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون.
إِتخذ اُناس من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء واليرقان والبرد والجراد ذريعة الى جحود الخلق والتدبير والخالق، فيقال في جواب ذلك: إِنه إِن لم يكن خالق ومدبّر فلِم لا يكون ما هو اكثر من هذا وأفظع ؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض وتهوي الأرض فتذهب سفلاً، وتتخلّف الشمس عن الطلوع أصلاً، وتجفّ الأنهار والعيون حتّى لا يوجد ماء للشفة، وتركد الريح حتّى تحمّ الأشياء وتفسد، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها.
ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتدّ حتّى تجتاج كلّ ما في العالم بل تحدث في الأحايين ثمّ لا تلبث أن ترفع ؟ أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة، التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره، ويلدغ أحياناً بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم، ثمّ لا تدوم هذه الآفات بل تكشف عنهم عند القنوط منهم، فيكون وقوعها بهم موعظة، وكشفها عنهم رحمة ؟ وقد أنكرت المعطّلة ما انكرت المانويّة من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول إِن كان للعالم خالق رؤوف رحيم فلِم يُحدث فيه هذه الاُمور المكروهة ؟ والقائل بهذا القول يذهب به الى أنه ينبغي أن يكون عيش الانسان في هذه الدنيا صافياً من كلّ كدر، ولو كان هكذا كان الانسان يخرج من الأشرّ والعتوّ الى ما لا يصلح في دين ودنيا، كالذي ترى كثيراً من المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن يخرجون اليه، حتّى أن أحدهم ينسى أنه بشر أو أنه مربوب أو أن ضرراً يمسّه أو أن مكروهاً ينزل به أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفاً أو يواسي فقيراً أو يرثي لمبتلى أو يتحنّن على ضعيف أو يتعطّف على مكروب، فاذا عضّته المكاره ووجد مضضها اتّعظ وأبصر كثيراً ممّا كان جهله وغفل عنه، ورجع الى كثير ممّا كان يجب عليه، والمنكرون لهذه الأدوية المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة، ويتسخّطون من المنع من الأطعمة الضارّة ويتكرّهون الأدب والعمل، ويحبّون أن يتفرغوا للّهو والبطالة وينالوا كلّ مطعم ومشرب، ولا يعرفون ما تؤدّيهم اليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارّة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح، وفي الأدوية من المنفعة، وإِن شاب ذلك بعض المكاره.
أقول: وعلى هذا ومثله مثّل الصادق عليه السّلام أقوال اولئك الملحدين في شأن الآفات وأجاب عنها بنير البرهان، الى أن انتهى في البيان إِلى ذات الخالق تعالى في شبه الملحدين، فقال: وأنه كيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به.
فيقول في الجواب: إنما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته، كما أن الملِك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير، أَبيض هو أم أسمر وإِنما يكلّفهم الإذغان بسلطانه والانتهاء الى أمره، ألا ترى أن رجلاً لو أتى الى باب الملك فقال: اعرض عليّ نفسك حتّى أتقصّى معرفتك وإِلا لم أسمع لك، كان قد أحلّ نفسه العقوبة، فكذا القائل أنه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتّى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه.
أقول: وعلى مثل هذا البديع من البيان، والساطع من البرهان، أتمَّ الصادق عليه السّلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر، فقال في آخر كلامه: يا مفضّل خذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، ولآلائه من الحامدين، ولأوليائه من المطيعين، فقد شرحت من الأدلّة على الخلق والشواهد على صواب التدبير والعمد قليلاً من كثير وجزءاً من كلّ، فتدبّره وفكّر فيه واعتبر به.
يقول المفضّل: فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله(16).
أقول: حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحِكم كما اغتنمها المفضّل، فقد أوضح فيها أبو عبد اللّه من حِكم الأسرار وأسرار الحِكم ما خفي على الكثير علمه وصعب على الناس فهمه.
وهذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا الى إِحاطته عليه السّلام بفلسفة الخلقة، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفاً إِلهيّاً، وعالماً كلامياً، وطبيباً نطاسيّاً، ومحلّلاً كيمياويّاً، ومشرّحاً فنّيّاً، وفنّاناً في الزراعة والغرس، وعالماً بما بين السماء والأرض من مخلوقاته، وقادراً على التعبير عن أسرار الحِكم في ذلك الخلق.
______________________________
(16) طبع هذا التوحيد المعروف بتوحيد المفضّل عدّة مرّات ورواه في بحار الأنوار 20/ 17 - 47 وكانت الطبعات كلّها غير خالية من الغلط المطبعي، فكان النقل عنه بعد التدبّر والتطبيق، وأصحّها طبعاً ما طبع في المطبعة الحيدريّة في عام 1369 هجري. والشواهد على نسبة هذا التوحيد الى الصادق عليه السّلام كثيرة ليس هذا محلّ ذكرها.