• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصادق والمحن(2)

الصادق والمحن(2)

ثمّ قال: يا أبا عبد اللّه حدّثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام قال: نعم سمعت أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: البرّ وصلة الأرحام عمارة الديار وزيادة الأعمار، قال: ليس هذا هو، قال: حدّثني أبي عن جدّي، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: من أحبّ أن ينسأ(20) في أجله، ويعافى في بدنه، فليصل رحمه، قال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: رأيت رحماً متعلّقة بالعرش تشكو الى اللّه عزّ وجل قاطعها فقلت: يا جبرئيل وكم بينهم ؟ قال: سبعة آباء، فقال: ليس هذا هو، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق، فقال اللّه عزّ وجل لمَلك الموت: يا مَلك الموت كم بقي من أجل العاق ؟ قال: ثلاثون سنة قال: حوّلها الى هذا البار(21) فقال المنصور: يا غلام ائتني بالغالية، فأتاه بها فجعل يغلفه بيده، ثمّ دفع اليه أربعة آلاف دينار، ودعا بدابته فأتى بها فجعل يقول: قدّم قدّم، الى أن اُتي بها عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليهما السّلام وغذوت بين يديه، فسمعته يقول: الحمد للّه الذي أدعوه فيجيبني. الدعاء، فقلت: يا ابن رسول اللّه إِن هذا الجبّار يعرضني على السيف كلّ قليل، ولقد دعا المسيّب بن زهير فدفع اليه سيفاً وأمره أن يضرب عنقك وأني رأيتك تحرّك شفتيك حين دخلت بشيء لم أفهمه عنك، فقال: ليس هذا موضعه فرحت اليه عشيّاً، قال: نعم حدّثني أبي عن جدّي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لمّا الّبت عليه اليهود وفزارة وغطفان وهو قوله تبارك وتعالى «إِذ جاؤوكم من فوكم ومن أسفل منكم وإِذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون باللّه الظنونا»(22) وكان ذلك اليوم أغلظ يوم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فجعل يدخل ويخرج وينظر إِلى السماء فيقول: ضيقي تتّسعي، ثمّ خرج في بعض الليل فرأى شخصاً فقال لحذيفة: انظر من هذا، فقال: يا رسول اللّه هذا عليّ بن أبي طالب، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يا أبا الحسن أما خشيت أن تقع عليك عين، قال: وهبت نفسي للّه ولرسوله وخرجت حارساً للمسلمين في هذه الليلة، فما انقضى كلامهما حتّى نزل جبرئيل، قال: يا محمّد إِن اللّه يقرأ عليك السّلام ويقول لك: قد رأيت موقف علي منذ الليلة وأهديت اليه من مكنون علمي كلمات لا يتعوّذ بها عند شيطان مارد، ولا سلطان جائر، ولا حرق ولا غرق، ولا هدم ولا ردم، ولا سبع ضار، ولا لصّ، إِلا آمنه اللّه من ذلك، وهو أن يقول: اللّهمّ احرسنا بعينك التي لا تنام... الدعاء.
الخامسة: وقد استدعاه بها المنصور الى بغداد قبل قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(23) روى ذلك الشريف رضيّ الدين بسنده عن محمّد بن الربيع الحاجب، قال: قعد المنصور يوماً في قصره بالقبّة الخضراء، وكانت قبل قتل محمّد وإبراهيم تدعى الحمراء، وكان له يوم يقعد فيه ويسمّى ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمّد من المدينة، فلم يزل في الحمراء نهاره كلّه حتى جاءالليل ومضى اكثره قال: ثمّ دعا الربيع فقال له: يا ربيع إِنك تعرف موضعك مني وأنه يكون بي الخير ولا تظهر عليه اُمّهات الأولاد وتكون أنت المعالج له، قال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك فضل اللّه عليّ وفضل أمير المؤمنين وما فوقي في النصح غاية، قال: كذلك أنت صر الساعة الى جعفر بن محمّد بن فاطمة فأتني به على الحال التي تجده فيها لا تغيّر شيئاً ممّا عليه، فقلت: إِنا للّه وإِنا اليه راجعون، هذا واللّه هو العطب، إِن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله وذهبت الآخرة، وإِن لم أذهب في أمره قتلني وقتل نسلي وأخذ أموالي، فميّزت بين الدنيا والآخرة فمالت نفسي الى الدنيا، قال محمّد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظّ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: إمض الى جعفر بن محمّد فتسلّق عليه حائطه ولا تستفتح عليه بابه فيغيّر بعض ما هو عليه ولكن انزل عليه نزلاً، فأتِ به على الحال التي هو فيها، قال: فأتيته وقد ذهب الليل إِلا أقلّه، فأمرت بنصب السلاليم وتسلّقت عليه الحائط ونزلت داره فوجدته قائماً يصلّي وعليه قميص ومنديل وقد ائترز به، فلما سلّم من صلاته قلت: أجب أمير المؤمنين فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت: ليس الى ذلك من سبيل، قال لي: فأدخل المغتسل فأتطهّر، قال: قلت: وليس الى ذلك أيضاً سبيل، فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً، قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان قد جاوز السبعين(24) فلمّا مضى بعض الطريق ضعف الشيخ فرحمته فقلت له: اركب، فركب بغلَ شاكري(25) كان معنا، ثمّ صرنا الى الربيع فسمعته وهو يقول: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل ويستحثّه استحثاثاً شديداً، فلمّا أن وقعت عين الربيع على جعفر وهو بتلك الحال بكى، وكان الربيع يتشيّع، فقال له جعفر عليه السّلام: يا ربيع أنا أعلم ميلك الينا فدعني اُصلّي ركعتين وأدعو، قال: شأنك وما تشاء، فصلّى ركعتين خفّفهما ثمّ دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إِلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كلّه يستحثّ الربيع، فلمّا فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعه فأدخله على المنصور فلمّا صار في صحن الايوان وقف ثمّ حرّك شفتيه بشيء ما أدري ما هو، ثمّ أدخلته فوقف بين يديه، فلمّا نظر اليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل هذا البيت من بني العبّاس وما يزيدك اللّه بذلك إِلا شدّة حسد ونكد، ما تبلغ به ما تقدره، فقال له: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئاً من ذلك، هذا ولقد كنت في ولاية بني اُميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حقّ لهم في هذا الأمر فواللّه ما بغيت عليهم، ولا بلغهم عنّي مع جفائهم الذي كان لي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحماً، واكثرهم عطاءً وبرَّاً، فكيف أفعل هذا، فأطرق المنصور ساعة، وكان على لبد(26) وعن يساره مرفقة خز معانيّة(27) وتحت لبده سيف ذو فقار(28) كان لا يفارقه إِذا قعد في القبّة، فقال: أبطلت وأثمت، ثمّ رفع ثنّي الوسادة فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها اليه، وقال: هذه كتبك الى أهل خراسان تدعوهم الى نقض بيعتي وأن يبايعوك دوني، فقال: واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحلّ ذلك ولا هو من مذهبي، واني ممّن يعتقد طاعتك في كلّ حال، وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت فهو منّي قريب، فقال: لا ولا كرامة، ثمّ أطرق وضرب يده على السيف فسلَّ منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه، فقلت: انّا للّه ذهب واللّه الرجل، ثمّ ردَّ السّيف وقال: يا جعفر أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشقّ عصا المسلمين، تريد أن تريق الدماء وتطرح الفتنة بين الرعيّة والأولياء، فقال: لا واللّه يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي، فانتضى من السيف ذراعاً، فقلت: إِنا للّه مضى الرجل وجعلت في نفسي إِن أمرني فيه بأمر أن أعصيه، لأني ظننت أنه يأمرني أن آخذ السيف فأضرب به جعفراً، فقلت إِن أمرني ضربت المنصور وإِن أتى ذلك عليّ وعلى ولدي وتبت إلى اللّه عزّ وجل ممّا كنت نويت فيه أولاً، فما زال يعاتبه وجعفر يعتذر اليه، ثمّ انتضى السيف كلّه إِلا شيئاً يسيراً منه، فقلت: إِنا للّه مضى واللّه الرجل، ثمّ أغمد السيف وأطرق ساعة، ثمّ رفع رأسه وقال له: اظنّك صادقاً، يا ربيع هات العيبة من موضع فيه في القبّة، فأتيت بها، فقال: ادخل يدك فيها وكانت مملوءة غالية وضعها في لحيته، وكانت بيضاء فاسودَّت، وقال لي: احمله على فاره من دوابي التي أركبها واعطه عشرة آلاف درهم وشيّعه الى منزله مكرّماً وخيّره إِذا أتيت به المنزل بين المقام عندنا فنكرمه، أو الانصراف إِلى مدينة جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح لسلامة جعفر عليه السّلام ومتعجّب ممّا أراده المنصور وما صار اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل فلمّا صرنا في الصحن قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا عجب ممّا عمل عليه هذا في بابك، وما أصارك اللّه اليه من كفايته ودفاعه، ولا عجب من أمر اللّه عزّ وجل، وقد سمعتك تدعو عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إِلا أنه طويل، ورأيتك حرّكت شفتيك ههنا اعني الصحن بشيء لم أدر ما هو، فقال لي: أمّا الأوّل فدعاء الكرب والشدائد، لم أدعُ به على أحد قبل يومئذٍ، جعلته عوضاً، من دعاء كثير أدعو به إِذا قضيت صلاتي، لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأمّا الذي حرّكت به شفتي فهو دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يوم الأحزاب، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: لمّا كان يوم الأحزاب كانت المدينة كالاكليل من جنود المشركين وكانوا كما قال اللّه عزّ وجل: «إِذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم»(29) ثمّ ذكر الدعاء، ثمّ قال: لولا الخوف من أمير المؤمنين لرفعت اليك هذا المال، ولكن قد كنت طلبت منّي أرضي بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار فلم أبعك وقد وهبتها لك، قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنما رغبتي في الدعاء الأوّل والثاني، فاذا فعلت هذا فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض، فقال لي: إِنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا، نحن ننسخك الدعاء ونسلم اليك الأرض صر معي إِلى المنزل فصرت معه كما تقدّم المنصور به، وكتب لي بعهد الأرض وأملى عليّ دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأملى عليّ الذي دعاه بعد الركعتين ثمّ قال: فقلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد كثر استحثاث المنصور واستعجاله إِيّاي وأنت تدعو بهذا الدعاء الطويل متمهّلاً كأنّك لم تخفه، قال: فقال لي: نعم قد كنت أدعو بعد صلاة الفجر بدعاء لا بدّ منه، فأمّا الركعتان فهما صلاة الغداة خفّفتهما ودعوت بذلك الدعاء بعدهما، فقلت له: ما خفت أبا جعفر وقد أعدَّ لك ما أعدّ، قال: ما أعدّ! خيفة اللّه دون خيفته، وكان اللّه عزّ وجل في صدري أعظم منه، قال الربيع: كان في قلبي ما رأيت من المنصور ومن غضبه وحنقه على جعفر ومن الجلالة في اتساعه ما لم أظنّه يكون في بشر، فلمّا وجدت منه خلوة وطيب نفس قلت: يا أمير المؤمنين رأيت منك عجباً، قال: ما هو ؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت غضبك على جعفر غضباً لم أرك غضبته على أحد قط، ولا على عبد اللّه بن الحسن ولا على غيره من كلّ الناس حتّى بلغ بك الأمر أن تقتله بالسيف وحتّى أنك أخرجت من سيفك شبراً ثمّ أغمدته، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجت منه ذراعاً، ثمّ عاتبته ثمّ أخرجته كلّه إِلا شيئاً يسيراً، فلم أشكّ في قتلك له، ثمّ انحلّ ذلك كلّه، فعاد رضى حتّى أمرتني فسّودت لحيته بالغالية التي لا يتغلّف منها إِلا أنت ولا تغلّف منها ولدك المهدي ولا مَن ولّيته عهدك، ولا عمومتك، وأجزته وحملته وأمرتني بتشييعه مكرماً، فقال: ويحَك يا ربيع، ليس هو ممّا ينبغي أن تحدّث به وستره أولى، ولا أحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفخرون ويتيهون بذلك علينا، حسبنا ما نحن فيه ولكن لا اكتمك شيئاً، انظر الى من في الدار فنحّهم، قال: فنحّيت كلّ مَن في الدار، ثمّ قال لي: ارجع ولا تبق أحداً، ففعلت، ثمّ قال: ليس إِلا أنا وأنت، واللّه لئن سمعت ما ألقيه عليك من أحد لأقتلنّك وولدك وأهلك أجمعين، ولآخذنّ مالك، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أعيذك باللّه، قال: يا ربيع كنت مصرّاً على قتل جعفر، ولا أسمع له قولاً، ولا أقبل له عذراً، فلمّا هممت به في المرّة الاُولى تمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطب في وجهي، فصرفت وجهي عنه، ثمّ هممت به في المرّة الثانية وانتضيت من السيف اكثر ممّا انتضيت منه في المرّة الاُولى فإذا أنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد قرب منّي ودنا شديداً وهمّ بي لو فعلت لفعل فأمسكت، ثمّ تجاسرت وقلت: هذا من فعل الربيء(30) ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله باسطاً ذراعيه قد تشمّر واحمّر وعبس وقطب، حتّى كاد أن يضع يده عليّ فخفت واللّه لو فعلت لفعل، وكان منّي ما رأيت، هؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إِلا جاهل لا حظّ له في الشريعة، فإيّاك أن يسمع هذا منك أحد، قال محمّد بن الربيع: فما حدّثني به حتّى مات المنصور، وما حدّثت به حتّى مات المهدي، وموسى(31) وهارون(32) وقتل محمّد.
السادسة: يقول الشريف رضيّ الدين بن طاووس: وقد استدعاه بها المنصور إِلى بغداد مرّة ثانية بعد قتل محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن(33) وقد روى ذلك عن صفوان من مهران الجمّال(34) قال: رفع رجل من قريش المدينة من بني مخزوم إِلى أبي جعفر المنصور، وذلك بعد قتله لمحمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن، إن جعفر بن محمّد بعث مولاه المعلّى بن خنيس(35) لجباية الأموال من شيعته، وأنه كان يمدّ بها محمّد بن عبد اللّه، فكاد المنصور أن يأكل كفّه على جعفر بن محمّد غيظاً، وكتب إِلى عمّه داود بن علي، وداود أمير المدينة(36) أن يسيّر اليه جعفر بن محمّد لا يرخص له في التلوم(37) والبقاء فبعث اليه داود بكتاب المنصور، وقال له: اعمل في المسير إِلى أمير المؤمنين في غد ولا تتأخّر، قال صفوان: وكنت بالمدينة يومئذٍ فأنفذ اليّ جعفر عليه السّلام فصرت اليه فقال لي: تعهّد راحلتنا فإنا غادون في غد إِن شاء اللّه إِن العراق، ونهض من وقته وأنا معه إِلى مسجد النبي صلّى اللّه عليه وآله وكان ذلك بين الاُولى والعصر فركع فيه ركعات، ثمّ رفع يديه فحفظت يومئذٍ من دعائه: «يا من ليس له ابتداء ولا انتهاء(38) يا من ليس له أمد ولا نهاية» الدعاء.
قال صفوان: فلمّا أصبح أبو عبد اللّه عليه السّلام رحلت له الناقة وسار متوجّهاً إِلى العراق حتّى قدم مدينة أبي جعفر(39) وأقبل حتّى استأذن فأذن له، قال صفوان: فأخبرني بعض من شهده عند أبي جعفر، قال: فلما رآه قرَّبه وأدناه، ثمّ استدعى قصّة الرافع على أبي عبد اللّه عليه السّلام، يقول في قصّته: إِن المعلّى بن خنيس مولى جعفر بن محمّد يجبي له الأموال من جميع الآفاق، وإِنه مدَّ بها محمّد بن عبد اللّه، فدفع اليه القصّة فقرأها أبو عبد اللّه فأقبل عليه المنصور فقال: يا جعفر بن محمّد ما هذه الأموال التي يجبيها لك المعلّى بن خنيس ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معاذ اللّه من ذلك يا أمير المؤمنين، قال له: ألا تحلف على براءتك من ذلك بالطلاق والعتاق، قال: نعم أحلف باللّه إنه ما كان من ذلك شيء، قال أبو جعفر: لا بل تحلف بالطلاق والعتاق فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما ترضى بيميني باللّه الذي لا إِله إِلا هو، قال له أبو جعفر: لا تتفقّه عليّ، فقال أبو عبد اللّه: وأين يذهب بالفقه مني يا أمير المؤمنين(40) قال له: دع عنك هذا فإنني أجمع الساعة بينك وبين الرجل الذي رفع عليك حتى يواجهك، فأتوا بالرجل وسألوه بحضرة جعفر عليه السّلام فقال: نعم هذا صحيح، وهذا جعفر بن محمّد، والذي قلت فيه كما قلت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: تحلف أيها الرجل إِن هذا الذي رفعته صحيح، قال: نعم، ثمّ ابتدأ الرجل باليمين فقال: واللّه الذي لا إِله إِلا هو الطالب الغالب الحيّ القيوم، فقال له جعفر عليه السّلام: لا تعجل في يمينك، فإنني أستحلفك، قال المنصور: ما أنكرت من هذه اليمين ؟ قال: إن اللّه تعالى حيّ كريم يستحي من عبده إِذا أثنى عليه أن يعاجله بالعقوبة لمدحه له، ولكن قل أيها الرجل: أبرأ الى اللّه من حوله وقوّته وألجأ الى حولي وقوّتي إِني لصادق برّ فيما أقول، فقال المنصور للقرشي: إحلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه فحلف الرجل بهذه اليمين فلم يستتمّ الكلام حتّى أجذم وخرّ ميّتاً، فراع أبا جعفر ذلك وارتعدت فرائصه، فقال: يا أبا عبد اللّه: سر من غد الى حرم جدّك إِن اخترت ذلك، وإِن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك وبرّك، فو اللّه لا قبلت قول أحد بعدها أبداً»(41).
السابعة: ذكر الشريف أبو القاسم في المرّة السابعة رواية عن محمّد بن عبد اللّه الاسكندري(42) وأنه كان من ندماء المنصور وخواصّه، يقول محمّد، دخلت عليه يوماً فرأيته مغتمّاً وهو يتنفّس نفساً بارداً، فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين، فقال لي: يا محمّد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون(43) وقد بقي سيّدهم وإِمامهم، فقلت له: من ذلك ؟ قال: جعفر بن محمّد الصادق، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل باللّه عن طلب المُلك والخلافة، فقال: يا محمّد لقد علمت أنك تقول به وبإمامته ولكن المُلك عقيم، وقد آليت على نفسي ألا امسي عشيّتي هذه أو أفرغ منه، قال محمّد: فواللّه لقد ضاقت عليّ الأرض برحبها، ثمّ دعا سيّافاً وقال له: اذا انا أحضرت أبا عبد اللّه الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه، ثمّ أحضر أبا عبد اللّه عليه السّلام في تلك الساعة ولحقته في الدار وهو يحرّك شفتيه فلم أدرِ ما الذي قرأ، فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار، ورأيت أبا جعفر المنصور وهو يمشي بين يديه حافي القدمين مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه، يحمرّ ساعة ويصفرّ اُخرى، وأخذ بعضد أبي عبد اللّه وأجلسه على سرير ملكه وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه، ثمّ قال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ قال: جئتك يا أمير المؤمنين طاعة للّه ولرسوله صلّى اللّه عليه وآله ولأمير المؤمنين أدام اللّه عزّه(44).
قال: ما دعوتك، والغلط من الرسول، ثمّ قال: سل حاجتك، فقال: أسألك ألا تدعوني لغير شغل، قال: لك ذلك وغير ذلك، ثمّ انصرف أبو عبد اللّه عليه السّلام سريعاً، وحمدت اللّه عزّ وجل كثيراً، ودعا أبو جعفر المنصور بالدواويج(45) ونام ولم ينتبه إِلا في نصف الليل، فلمّا انتبه كنت عند رأسه جالساً فسرَّه ذلك، وقال: لا تخرج حتّى أقضي ما فاتني من صلاتي فاُحدّثك بحديث، فلمّا قضى صلاته أقبل على محمّد وحدّثه بما شاهده من الأهوال التي افزعته عند مجيء الصادق، وكان ذلك سبباً لانصرافه عن قتله وداعياً لاحترامه والاحسان اليه.
يقول محمّد: قلت له: ليس هذا بعجيب يا أمير المؤمنين، فإن أبا عبد اللّه وارث علم النبي صلّى اللّه عليه وآله وجدّه أمير المؤمنين عليه السّلام وعنده من الأسماء وسائر الدعوات التي لو قرأها على الليل لأنار، ولو قرأها على النهار لأظلم، ولو قرأها على الأمواج في البحور لسكنت(46).
قال محمّد: فقلت له بعد أيام: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أخرج الى زيارة أبي عبد اللّه الصادق ؟ فأجاب ولم يأب، فدخلت عليه وسلّمت وقلت له: أسألك يا مولاي بحقّ جدّك محمّد رسول ربّ العزّة صلّى اللّه عليه وآله أن تعلّمني الدعاء الذي كنت تقرأه عند دخولك على أبي جعفر المنصور، قال: لك ذلك، ثمّ أخذ الصادق يصف لمحمّد شأن الدعاء قبل أن يورده له، ثم ذكر الدعاء وهو طويل(47).
هذه بعض المحن التي شاهدها الصادق عليه السّلام من المنصور وتخلّص فيها ممّا أراده فيه بدعائه، وقد ذكر ابن طاووس طاب ثراه دفعتين اُخريين يهمّ بهما المنصور في قتل الصادق فيدفع اللّه عنه فيهما سوءه.
وذكر بعض هذه المحن وسلامة الصادق من القتل فيها بدعائه جملة من أرباب التأليف عند استطرادهم لأحوال الصادق عليه السّلام، أمثال الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول المهمّة، وابن حجر في الصواعق، والشيخ سليمان في الينابيع، والكليني في الكافي في كتاب الدعاء، والمجلسي في البحار ج 11، وابن شهراشوب في المناقب، والشيخ المفيد في الإرشاد، وغيرهم.
______________________________
(21) لا يخفى على الصادق عليه السلام الحديث الذي أراده المنصور، وإنما كثر عليه أحاديث الرحم، ليعرّفه موقفه من ذوي رحمه.
(22) الأحزاب: 10.
(23) كان قتلهما عام 145، وانتقال المنصور الى بغداد عام 146، فلا وجه لأن يكون استدعاؤه الى بغداد قبل قتلهما، فإما أن يكون الى الكوفة والغلط من النسّاخ أو الراوي، أو الاستدعاء بعد قتلهما.
(24) لم يتجاوز الصادق السبعين عاماً وإِنما كان حدساً من محمّد، وأحسبه لما كان يشاهده من ضعفه.
(25) أجير ومستخدم.
(26) لعلّه بساط من صوف.
(27) ظاهر في النسبة الى معان.
(28) الفقار خرزات الظهر، ويسمّى السيف بذي الفقار اذا كان في متنه حزوز تشبه فقار الظهر.
(29) الأحزاب: 10.
(30) كفعيل التابع للجن.
(31) الهادي.
(32) الرشيد.
(33) وكان قتلهما عام 145، وقد عرفت من تعليقتنا على المرّة الخامسة أن تلك الدفعة لا تصحّ أن تكون إِلى بغداد إِلا أن تكون بعد قتلهما، وأن بين انتقال المنصور إِلى بغداد وبين وفاة الصادق سنتين وبعيد أن يرسل اليه في هاتين السنتين مرّات عديدة.
(34) سيأتي في المشاهير من ثقات الرواة لأبي عبد اللّه عليه السلام.
(35) سيأتي في ثقات المشاهير أيضاً.
(36) وداود هذا هو الذي قتل المعلّى بن خنيس واستلب أمواله، وهمّ بالصادق عليه السلام، فدعا عليه الصادق فعاجله اللّه بالهلاك، كما سيأتي في باب استجابة دعائه.
(37) التمكّث.
(38) ولا انقضاء في نسخة.
(39) وهي بغداد، وكانت تسمّى مدينة أبي جعفر لأنه هو الذي بناها وكان انتقاله اليها عام 146، ولعلّه في هذه السنة دعا الصادق اليها.
(40) ما كان ليخفى على المنصور ما عليه أهل البيت في اليمين بالطلاق والعتاق وأنه لا يحنث الحالف كاذباً، أي لا تطلق نساؤه، ولا تعتق مماليكه، ولكنه حاول أن يحطّ من كرامة الصادق وألا يثبت له فقه خاص.
(41) وذكر هذه الكرامة لأبي عبد اللّه عليه السلام جملة من علماء أهل السنّة عند استطرادهم لحياة الصادق، منهم الشبلنجي في نور الأبصار، والسبط في التذكرة، وابن طلحة في مطالب السؤل، وابن الصبّاغ في الفصول، وابن حجر في الصواعق وغيرهم.
(42) ليس له ذكر في كتب رجالنا، ولم نعرف عنه رواية غير هذه، وبها ذكره المتأخّرون، والرواية صريحة في تشيّعه.
(43) أحسب أن هذه القصّة كانت بعد مقتل محمّد وإبراهيم لأن الحرب بالمدينة وبباخمرى والسجون في الهاشميّة أهلكت العدد الكثير من العلويّين هذا سوى من قتله صبراً، ولعلّ إرساله عليه كان الى بغداد أيضاً.
(44) لا بدع لو قال له: طاعة للّه ولرسوله ولأمير المؤمنين، وإن لم تكن للمنصور طاعة، لأن الخوف على النفس والنفيس يلزمه بالمجيء، فتكون المحافظة عليهما واجبة والتخلّف إلقاء بالتهلكة.
(45) بالجيم المعجمة جمع دواج كرمان وكغراب: اللحاف الذي يلبس.
(46) هذا الكلام يدلّنا على معرفة محمّد فوق تشيّعه، والعجب كيف يصارح المنصور بهذا، ولا عجب فإن المنصور أعلم من محمّد بشأن الصادق عليه السلام.
(47) لم يفتنا ذكر هذه الأدعية إِلا لأننا جمعناها في صحائف اُخرى مع ما ظفرنا به من أدعيته الاُخرى فكان ما اجتمع عندنا كما أشرنا اليه ما يناهز 400 صحيفة بقطع هذا الكتاب مع علمنا أنه قد فاتنا الشيء الكثير من دعائه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page