• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

القائد المنتظر

 

مقدّمة

كنت أجدني مدفوعاً نحو هذا الحديث، ومشدوداً إليه بأكثر من رابط.
ذلك أنّي حينما فكّرت في إعادة كتابة فكرنا الإسلامي العملي وجدت أنّ قضية  (القائد المنتظر) تعتبر أهم قضية، ينبغي أن يصاغ تصوّرنا لها صياغة أكثر فعّالية في مجال العمل الإسلامي.
فلقد باتت هذه القضية بالذات محور تصوّرات متجاذبة ومتناقضة.
وأستطيع القول بأنّها في وعي الإنسان المسلم والشيعي بالخصوص فقدت الكثير من ملامحها الحقيقية، ومداليلها العملية والسياسية.
وفي ذات الوقت كنت ألاحظ أنّ القضية تحتل مكاناً مرموقاً في مجموع فكرنا الإسلامي والشيعي خاصّة، فلقد كان يوقفني باستمرار، وأنا أطالع تأريخ وحديث الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام حرصهم البالغ على تصدير هذه القضية في قائمة قضايا الإنسان الشيعي، وتحويلها من مجرّد فكرة خامدة إلى منطلق ثوري نابض، ومن مجرّد أمل غارق في العاطفة  إلى حقيقة تلوح في الأفق كل ساعة، تتدفّق أنوارها حين يغرق الناس في السبات، أو يخشى عليهم من الغرق.
كنت أجد هذه القضية تحتل اهتماماً بالغاً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام حتى ليبدو لقارئ التأريخ أنّ جهوداً كبيرة بذلت من أجل ترسيخ هذه القضية في إيمان الرجل الشيعي، الذي يمثل النموذج الإسلامي الأكمل.
وهنا أحسست بالهوّة الكبيرة التي تفصل بيننا ـ كمؤمنين بهذه القضية ـ وبين المحتوى الحقيقي الذي رسمه الأئمّة لها، وجهدوا في تجذيره وتعميقه في قلب الرجل الشيعي.
وجدت أنّ المنحى الذي سلكنا فيه ونحن نجمع صدورنا على الإيمان بالقائد المنتظر، منحى بعيداً عن الخط الذي كان ينبغي لإيماننا أن يسير فيه، والذي يمثل المعنى الحقيقي الكبير لهذه القضية.
وتساءلت:
كيف انقلبت هذه القضية في تصّور الإنسان الشيعي؟
كيف تحوّل الإيمان بالقائد المنتظر إلى سلاح للهزيمة يتّهمنا به المخالفون؟
وكيف خسرت مجتمعاتنا الإسلامية هذا الإيمان بوصفه أداة وسلاحاً نحو العمل الدائب، والتقدّم باستمرار نحو الانتصار لإسلامنا المنكود؟
والقضية بلا شك ذات جوانب نظرية علمية، من حق الباحث أن يقف عندها، لكنني لا أفهم من ذلك أن يسوغ لنا نسيان الجوانب الإيجابية والعملية، وطمرها تحت ركام المناقشات النظرية البحتة.
لقد كان من الحق، وكل الحق، لرجل أن يسأل عن تفاصيل غيبة هذا القائد؟
وكيف أفلت من قوى المطاردة العنيدة والمتجبّرة والمتغطرسة؟
وكيف أمكن لحياة رجل واحد أن تمتدّ قروناً متطاولة، لا تهدمها الشيخوخة، ولا يفلّ من كبريائها الزمن المتمادي الطويل؟
وكان من الحق والمنطق ـ بعد هذا ـ أن يطالب رجل بالدلائل التأريخية على صدق هذه القضية وواقعيتها، ويكتشف ما إذا كانت حقيقة أم أسطورة خدع بها ناس من الدهماء والأغبياء، ريثما يعلّلون أنفسهم المسحوقة والخاسرة بالأمل بالنصر، ويبتهجون لهذا الأمل، دافعين عنهم شيئاً من سحنة الهمّ القاتل كما يحاول خصومنا أن يصفونا بذلك؟  
كل هذه التساؤلات مقبولة، بل وضرورية في الوقت نفسه، لنعرف حقيقة إيماننا، ونكون على بصيرة من الأمر.
لكن هل كان هذا هو كل شيء في سجل مسؤولياتنا، وأفكارنا؟
ما علينا لكي نصبح شيعة مخلصين في الولاء، إلاّ أن ننظر شيئاً في أدلّة القضية، ثمّ نسلّم للغيب القادر على كل شيء أو الصانع للمعجزات، ثمّ نطوي صدورنا على إيمان أشبه بإيمان العجائز، أو بإيمان الهاربين من الحياة والمسؤولية إلى زوايا الكهوف النائية !!؟
أكان هذا هو كل ما في الأمر؟
إذن فالقضية في غاية البساطة.
ومثلها حينئذ لا يفسّر حجم الاهتمام المبذول من قبل الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام لترسيخ وتصليب إيماننا بها.
ومن هنا فإنّنا سنسيء لا لهذه القضية وحدها، وإنّما للأئمّة من أهل البيت، الذين ما برحوا يغرسون بذرة هذا الإيمان بالإمام المنتظر في قلب كلّ شيعي، آملين أن يتفجّر هذا الإيمان، ويتحوّل إلى عمل وكفاح متواصلين.
القضية إذن ذات مدلول ومعطى عملي.
والقضية إذن ذات حجم كبير في قاموس تصوّراتنا السياسية الإسلامية. هذا الحجم للقضية هو الذي دعا أهل البيت عليهم السلام لطبعها بكل ضغط وشدّة في ذهن الرجل الشيعي, والإصرار على تحويلها إلى إيمان نابض حي، وأمل وطيد بالنصر الحتمي.
ولقد بات تصوّري صادقاً حينما شاهدت ـ تأريخياً ـ أنّ هذا الإيمان بقضية القائد المنتظر، دفع رجال التشيّع على طول الخط إلى نضال دائم غير يائس من النصر أبداً.
وإذا الإيمان بالقائد المنتظر هو الشعلة التي فجّرت معارك باسلة وشريفة من أجل الحق، ونصر الحق.

وعدت أدراجي لأنظر من جديد في ما دهانا!!
المشعل الذي كان بأيدينا فقدناه.
لم نفقده وإنّما بعناه رخيصاً، وابتذلناه.
ويوم رآنا العدو غارقين في الظلام، بدأ يسخر منّا، ويسخّرنا.
بدأ يقول لنا: إنّكم خرفان! تؤمنون بالخرافات.
ولأنّنا قد حطّمنا المشعل الذي كنا نحمله، فقد أصبحنا لا نعرف طريق الجواب، وبدأنا نتذرّع، ونبدي أنفسنا كما لو كنّا فلاسفة.
بينما انجرف آخرون وراحوا إلى صفوف العدو، يهزؤون بنا، لأنّا نؤمن بالإمام المنتظر، ويطلبون منّا بسخرية مزيداً من الانتظار المخدوع!
وفي الوادي المظلم لم نفكّر في العثور على المشعل لنهتدي على ضوئه، ونعتلي الجبل، وإنّما بدأنا نجمع الأحجار نرمي بها العدو المتسلّط علينا من السفح، والمنهمر علينا بسلاح أقوى من سلاحنا ألف مرّة.
لقد غدونا نردّ على سخريته قائلين: إنّنا لسنا خرفان، ولسنا من المؤمنين بالخرافات.
لقد قلنا:
إنّ قضية الإمام المنتظر معجزة، كما لله معاجز في أوليائه، فلا داعي للاستغراب، والاتّهام.
وحسبنا لجهلنا أنّنا فزنا، وأنّنا أصبحنا على المرتفع، وعدوّنا في الوادي.
ولكن دون أن يتغيّر شيء!
فما زلنا في ظلمات الوادي.
وما زلنا محل سخرية العدو، ومطعن ضرباته، والفريسة الدسمة التي لا تنتهي.
كيف ذلك؟
هل كان جوابنا خطأ؟
إذا كان الله قادراً على أن ينطق عيسى وهو في المهد، ثمّ يرفعه إليه ليبقى حياً إلى اليوم.
إذا كان أصحاب الكهف قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة عام وازدادوا تسعاً، بعناية الله، وهم مقطوعون عن الأكل والشرب، فهل كان الله عاجزاً عن مدّ حياة الإمام المهدي إلى قرون؟
أليست القضيّتان من فصيلة واحدة؟
فلماذا نقبل الأولى ولا نقبل الثانية؟
إذن نحن على حق في هذا الجواب، فما هو الخطأ؟
الخطأ الذي وقعنا فيه ليس هنا، إنّما في أنّنا أفرغنا إيماننا بالقضية من محتواه العملي، ثم انزاح من قلوبنا حتّى هذا الإيمان، بمستواه المطلوب، فلم يَعد هو الإيمان الذين يمشي في عروقنا، ويؤثّر في مشاعرنا، وتصوّراتنا.
لقد تعاملنا مع القضية كما لو كانت مجرّد نظرية علمية.
لقد تحوّل إيماننا إلى تصوّر، ومجرّد تصوّر جامد.
فكرة في الذهن، وصورة في الخيال، لا تحرّك حتى ريشة، ولا تغيّر من الواقع حتى ما يغيّره الهواء.
ومن هنا فقد أضعنا الطريق.
وسمحنا لعدوّنا أن يواصل سخريته بنا دون أن يقنع بالجواب.

إنّ قيمة كل قضية ـ من الناحية الميدانيّة ـ تناط بمقدار عطائها، ومقدار تفاعلها في ميادين العمل. وثمّة قضايا صحيحة منطقياً، لكنها مهملة ورخيصة، لأنّ الإنسانية لا تكسب من ورائها جدوى.
وحينما نفترض ـ خطأً ـ أنّ قضية الإمام المنتظر هي من هذا الطراز، أي من القضايا الفكرية المحضة, فمن الأجدر أن لا يعنى بها كثيراً قاموس أفكارنا وتصوراتنا.
لأنها لا تحمل إلينا منتوجاً.
ونكون أكثر جدارة بالموقف البارد في التعاطي مع هذه القضية حينما تستحيل هذه القضية إلى سلاح يتوسّل به الضعفاء للهزيمة، والهروب من الساحة.
إنّها سوف تصبح نقمة، وتنقلب إلى آلة هدم, والعياذ بالله.
لكن هل نستطيع أن نطرح هذه القضية، ونتنازل عنها؟!
إننا لو فعلنا ذلك لم ننج من التناقض!
فالقضية ـ قضية القائد المنتظر ـ أصيلة في فكرنا ومعتقدنا.
وقد باتت محل تأكيد كبير من قبل الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام.
حتّى جاءت الأحاديث لتقول: (لو لا الحجّة لساخت الأرض).(1)
ولو أردنا أن نرفض هذه القضية لكان علينا أن نرفض موقفاً يعتبر من أهم المواقف الفكرية.
إذن، فالحل المذكور ليس عملياً.
فلكي لا نخسر إيماننا بالقضية، وإيماننا بأهل البيت الذين رسّخوا هذه القضية، ولكي نقطع على عدوّنا طريق السخرية بنا، واستغلالنا.
علينا أن نستوعب جوهر القضية من جديد، ونمسح عنها الأتربة التي لصقت بها من خلال منطق المهزومين وتفسيراتهم.
علينا أن نخلق من هذه القضية سلاحاً يدرأ عنّا الخصوم.

وفيما يلي أحاول أن استجلي بعض الانعكاسات الإيجابية لقضية القائد المنتظر، مكتشفين الروح الحقيقي الذي يستبطنه إيماننا الراسخ بالقائد الموعود.
السيد صدر الدين القبانجي
النجف الأشرف 1399هـ. الفصل الأول
طبيعة هذا الدين
أوّل انعكاسات هذه القضية أمر يتّصل بفهمنا لطبيعة هذا الدين.
ويبدو لي الآن أنّ الأخطاء التي ارتكبها البسطاء من الناس في طريقة فهمهم لفلسفة رسالة السماء تجد مصدرها حين نصير للحديث عن قضية الزعيم المحتجب.
فإنّه تحت وطأة الضربات التي سدّدت للوجود الإسلامي عموماً، وللوجود الشيعي بالخصوص بوصفه القاعدة الحصينة والأساسية لهذا الدين.
وبفعل المردود النفسي الذي يخلّفه الانهزام في كل مرّة، طاب لعدد من الناس أن ينفضوا أيديهم ورؤوسهم من غبار المعركة، ثم يمسحوها بمناديل الانهزام، تاركين الساحة خلف ظهورهم، قائلين مقالة من سبقهم:
(فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إنّا هاهُنا قاعِدُوُنَ).(2)
لكن جماعتنا هؤلاء كانوا أكثر حياءً من أن يفوهوا بهذا القول، الذي اتّخذه القرآن مثلاً، غير أنّك لو دخلت قلوبهم لم تجد سوى هذا المنطق بدلاً، فقد عقدوا نيتهم عليه في الوقت الذي غامرهم الخجل من أن تنطق به شفاههم.
كيف أصبح هؤلاء يفهمون الدين؟
وأيّ نمط من المعاذير يتمحّلون بها؟
إنّ علينا ـ لكي نفهم تصوّرهم ـ أن ننصت لحكايتهم:
إنّ لهذا الدين ربّ يحميه.
وإيّاك أن تلقي بنفسك في التهلكة.
وإنّ ما عليك ليس إلاّ السكوت، لأنّ الناس مخادعون يراوغون، فاحذر أن تثق بهم وتعتمد عليهم. والعدو شرس فتّاك لا يرحم، وما عددنا إلاّ قليل.
وإذا كان الله قد وعد بنصرة هذا الدين فلا داعي للقلق على مصيره، ولا تقدّم نفسك ضحية.
والحسين عليه السلام حينما ثار كان إماماً معصوماً، تأتيه الأوامر من الله ولسنا مثله، فليس علينا جهاد، ولا تضحية.
إنّ واجبنا أن ندعو بالفرج، ليظهر قائم آل محمّد صلى الله عليه وآله، ويؤدّي مسؤوليته.
وإذا اشتدّت علينا العوادي، فإنّ علينا أن نشتد في الدعاء، قابعين في البيوت.
وإذا رأيت بعض الناس يدافع عن الحق، فاحذر أن يستهويك، فتلك فتنة، وقد قال علي عليه السلام: (كن في الفتنة كابن اللبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب).(3)
ويواصلون حكايتهم:
إنّنا نريد الشهادة مع صاحب الزمان، فنحن لا نهاب الموت، وإنّما نطلب أن نموت مع الإمام لا مع غيره، فنحن هاهنا منتظرون.
تلك حكايتهم، ولا أشك أنّ مثلها يروق لقلوب النساء.
وحين كنت أكتب هذه الحكاية مرّ في ذكري موقف يشبه هذه الحكاية:
إنّه موقف (أبي موسى الأشعري) الوالي على الكوفة، حين بويع لعلي عليه السلام.
فلقد أوعز الإمام علي عليه السلام إلى الناس أن يتجهّزوا لحرب معاوية، ومضى الناس يتجهّزون، أمّا الأشعري فقد كان شديد الامتناع عن التجهّز، وليته خلّى السبيل لغيره، لكي يخرجوا للحرب، ولم يقم فيهم خطيباً وهم حشود، يخذّلهم عن نصرة علي، حتى أرسل الإمام عليه السلام الحسن وعمّار والأشتر فنحّوه عن ولايته.
لقد كانت حجّة الأشعري أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ستأتي عليكم الفتن القاعد فيها خير من القائم!! لكن مالك الأشتر سحبه من يده قائلاً:   إن كنت سمعت ذلك فنحن لم نسمعه.
الحقيقة أنّ هذا الدين رسالة السماء لأهل الأرض، ولابن الأرض.
وعلى ابن الأرض ـ لا على ابن السماء ـ تقع مسؤولية نصرة هذا الدين.
إنّ هذا الدين هو المنحة الإلهية التي سخت بها يد السماء لتضعها في يد البشر، وعلى هذه اليد أن تحتفظ بهذه المنحة، وتدفع عنها بكل سخاء.
إنّ ابن الأرض هو الذي يحدّد مصير هذا الدين، كما يحدّد مصير أيّ مبدأ من المبادئ.
فهذا الدين ذو طبيعة بشرية، وأقصد أنّه لا يعتمد ـ بالأساس ـ في تقرير مصيره على الغيب، وعلى جنود السماء، إنّما أبطال الأرض هم وحدهم الذين أنيطت بهم مسؤولية تقرير مصير ومستقبل هذه الرسالة.
وحينما هبطت رسالات السماء على الرسل والأنبياء، عرفوا جيداً أنّ عبء المسؤولية صار في أعناقهم، وانطلقوا من هذه المعرفة لمصارعة الباطل ومطاردته، مهما كلّفهم ذلك من تضحيات.
إنّ من الخطأ الفاحش أن ننتظر من الملائكة الهبوط إلى الأرض، وترسيخ دعائم الدين.
ولو كان هذا الانتظار صحيحاً لكان من العبث والغباء أن تعرق جبين واحد من الأنبياء والأولياء من أجل دفع العجلة إلى الأمام وإفساح المجال أمام الحق ليغطّي أكبر مساحة ممكنة من الأرض ومن البشر.
في الوقت الذي نرى في طول تأريخ الأديان أنّ أتباع الدين هم الذين يكتبون مستقبله، من خلال الصراع العنيف مع جيش الضلال.
(وَلَوْ يشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ).(4)
وحينما نمشي مع طريقة العجائز في فهم طبيعة هذا الدين، نجد أنفسنا قد ارتكبنا عدّة هفوات.
وسوف نصطدم بأكثر من تشريع، وبأكثر من آية قرآنية.
إنّ تشريع الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يدلّل على الحقيقة التي شرحناها.
والقرآن صريح جدّاً في هذه الحقيقة, حيث يقول:
(وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيْعٌ..).(5)
وتأريخ الأديان حافل بالصراع الإنساني من أجل الحق.
أمّا هؤلاء الذين يريدون أن يصادروا هذا الدين من البشر، ويسلبوهم حقّ تقرير مصيره، ويرفعوا عنهم مسؤولية الانتصار له، فأنا لا أدري بأيّ عين ينظرون إلى التأريخ، وكيف يفهمون الإسلام بوصفه رسالة للبشر؟!
وأنا أفهم أنّ الحسين عليه السلام ، وعلياً عليه السلام ، ومحمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله، كان معصوماً، لكن من يقول لي:
هل كان أبو ذر، وحجر بن عدي، وسليمان بن صرد، والتوّابون، وزيد بن علي، والنفس الزكية، وميثم التمّار... معصومين؟!
صحيح أنّ الإمام كان معصوماً، فهل أنّ الجهاد والدعوة والتبليغ من مختصّاته وواجباته وحده؟  
أليس كلّفنا القرآن بالاقتداء بهم، أم كان ذلك فارغاً من أيّ معنى؟
وإذا كان الله قد وعد بنصرة هذا الدين، فإنّ ذلك لا يكون مبرّراً لتقاعسنا، ولا يبرّئ ساحتنا.
فالنصر الإلهي ليس مطلقاً وبلا حدود.
وإنّما مشروط بتجهيز قوانا أوّلاً من أجل الحق. والتقدّم لنصرة كلمة الله في الأرض.
(يا أيُّها الّذِيْنَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أقْدامَكُمْ).(6)
أمّا إذا كانت أقدامنا لا تشاء إلاّ الهزيمة فهل يقسرها الله على الثبات؟

وإذا كان هذا الدين يتطلّب تضحيات، فهل يجوز لنا أن لا نميّز بين التضحيات والتهلكات، فنزعم أنّ كل تضحية هي تهلكة؟
إنّ من حقّي أن أسأل:
لماذا اختصّت هذه القاعدة بنا، نحن أتباع الدين، فصارت التضحية بالنسبة لنا تعني التهلكة؟ أكان ذلك من شؤم الأديان، أم من سوء حظّّها العاثر!!
إنّ الدفاع عن المال والنفس والعرض لم يعتبر في الإسلام تهلكة، فهل يكون الدفاع عن كلمة الله تهلكة؟ ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد".(7)
ولو شئت أن أشرح الفرق بين التضحية والتهلكة لقلت ـ رغم أنّي أجد أنّ أبسط الناس يفهم هذا الفرق، سوى الذين لا يريدون أن يفهموا ـ:
حينما يكون الإقدام بلا نتيجة وبلا عطاء فذاك تهلكة وخسارة.
وحينما يكون الإقدام مصدر خير وعطاء وأرباح فذاك تضحية وليس تهلكة.
وفي ضوء هذا المقياس لم تكن شهادات أبطال الإسلام على طول التأريخ القاسي تهلكة, لأنّها وحدها التي حصّنت هذا الدين من التحريف، ومصادرة السلطات الغاشمة له.
بينما كان منطق أبي موسى الأشعري، تخاذلاً، ونكوصاً، وإجراماً.

والتقية... هل هي لغز لا نفهمه؟
إنّ كل مذهب، وكل حركة سياسية حين تجد أنّها غير قادرة على تحصين قواعدها ووجودها إلاّ بأن تعيش تحت الأرض، وتعمل تحت جنح الظلام، وبعيداً عن عيون الأعداء، فإنّها ستفعل ذلك ريثما تستعد للبروز على الساحة يوماً ما.
التقية ليست لغزاً لا يمكن كشف القناع عنه.
إنّما هي العمل في السر، ومواصلة الجهد في خفاء.
فهي موقف إيجابي وليست موقفاً سلبياً.
وهي مبدأ عام تلتزمه كل المبادئ، وكل الحركات، وحينما يكون الإسلام قد أقرّه فإنّ علينا أن نفهمه بالصيغة التي شرحناها.
أمّا أن نجعل منه حجّة للتخاذل والانهزامية، فإنّنا سنرتكب خطأ في فهمنا لهذا المبدأ.
التقية لا تعني أن نتخلّى عن العمل والمسؤولية.
وإنّما هي أسلوب من أساليب العمل والعطاء والجهاد.
ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "المؤمن علوي ـ إلى أن قال ـ والمؤمن مجاهد, لأنّه يجاهد أعداء الله عزّ وجل في دولة الباطل بالتقية، وفي دولة الحق بالسيف".(8)
فالتقية إذن أداة في عملية الجهاد، وأسلوب من أساليبه.
وهذا الأسلوب المرحلة هي التي تقرّره، فهذا أسلوب غير ثابت وإنّما تفرضه المرحلة، وترفعه المرحلة أيضاً.
" التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به" هكذا حدّث الإمام الباقر عليه السلام.(9)
ولقد تورّط كثيرون ـ بعمد أو بغير عمد ـ في مخالفة هذه الحقيقة.
وفي الحديث: أنّ الرضا عليه السلام جفا جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ما هذا الجفاء العظيم، والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟
قال:
لدعواكم أنّكم شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون، ومقصّرون... وتتّقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لا بدّ من التقية".(10)
والذين يطيب في أفواههم طعم كلمة التقية، دافعين عن أنفسهم ما تخفيه من الجبن، والانهزامية، وروح الخذلان، هؤلاء.. كم تكون كلمة الجهاد مرّة في مطعمهم، وربّما ودّوا لو كانت هذه الكلمة محذوفة من قاموس الإسلام.
والذين ينتظرون الفرج وهم في أحضان نسائهم سيكونون أوّل المتخاذلين عن القائد المنتظر يوم يهفّ إليه الرجال الأبطال، وعساهم يقولون يومذاك: إنّ من حوله من الرجال يكفيه!
ما أكثر من يطلب الشهادة بين يدي القائد المنتظر، محتجباً عن العمل الإسلامي، بعيداً عن الساحة، مبرّراً موقفه بالتقية، لكن الإمام الصادق عليه السلام يشرح لك حقيقة هؤلاء، فيقول:
" وأيم الله لو دعيتم لتنصرونا، لقلتم لا نفعل إنّما نتّقي، ولكانت التقية أحبّ إليكم من آبائكم وأمّهاتكم، ولو قد قام القائم ما احتاج إلى مسائلتكم عن ذلك، ولأقام في كثير منكم من أهل النفاق حدّ   الله".(11)
إنّ موقف اليوم يدلّّل على موقف الغد.
ومن يخاف حرّ السيف، فإنّه لا يفرق عنده كان الإمام معه أم لم يكن!
أليس يشبه منطق هؤلاء، منطق بني إسرائيل في الحكاية التي نقلها عنهم القرآن الكريم؟
(أَلَمْ تَرَ إلى المَلأِ منْ بَنِي إسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى؟ إذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبيلِ الله قالَ: هَلْ عَسَيْتُمْ إنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ ألاّ تُقاتِلوا!؟ قالوا: وما لَنا ألاّ نُقاتِلَ في سَبِيلِ الله، وَقَدْ اُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأبْنائِنا؟ فَلمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ تَولّوا إلاّ قَليلاً مِنْهُم، والله عَليِمٌ بِالظالمِين).(12)

إنّّ مبدأ "التقية" مبدأ صحيح، ولكن يجب أن نستعمله بالطريقة التي قدّمها لنا أهل البيت عليهم السلام لا بطريقة أخرى.
والقيادة الإسلامية هي التي تشخّص لنا المرحلة والموقف، وليس مصالحي الشخصيّة أو حالاتي المزاجيّة!
وإذا كانت المرحلة هي مرحلة عمل وعطاء ودفاع عن الدين, فإنّه سوف لا يكون من حقّنا الانسحاب عن المسؤولية بحجّة التقيّة.

والآن أصبح من حقّنا العودة إلى قضية الإمام المنتظر عليه السلام.
فلقد قلت: إنّها ترتبط بشكل وثيق بفهمنا لطبيعة هذا الدين.
إنّ قضية القائد المنتظر تدلّل على أنّ طبيعة هذا الدين طبيعة بشرية.
وإنّ تقرير مصير هذا الدين ومستقبله وتحديد ظروفه بيد البشر أنفسهم، وخاضع لمقدار الجهد المبذول في هذا السبيل
(إنّ الله لا يُغَيّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).(13)
لقد اضطرّ الإمام المهدي عليه السلام للاختفاء، وتغييب وجهه عن الساحة، وما زالت الظروف السياسية تفرض عليه ذلك إلى أن يحين موعد الفرج العظيم.
والسؤال الآن:
بماذا نفسّر هذه الغيبة ؟ وما الذي تعبّر عنه؟
الإمام هنا تفاعل مع الظرف السياسي، واضطر للاختفاء تحت تأثيره.
فلقد عجزت قوى التشيّع عن تحصينه وحفظ سلامته، بينما كانت قوى الانحراف تشدّد قبضتها، وتواصل مطاردتها للوجود الشيعي.
وهنا وجد الإمام أنّه لا بدّ من الاختفاء!
من قرّر هذا المصير للإمام؟
إنّّ حصيلة الصراع بين طرفي القوى البشرية، بين أتباع الحق، وجيش الباطل، هي التي فرضت هذا المصير.
ولو كان تقرير مستقبل هذا الدين لا يخضع لقوى البشر بمقدار ما يخضع لقوى الغيب وجند السماء، فهل كان الإمام سيضطر إلى أن يغيب؟
أليست كانت قوى السماء قادرة على حمايته، ودرء الخطر عن وجوده، فيمارس نشاطه العلني بكلّ أمان؟!
لقد مرّ الوجود الديني بعدّة منعطفات، حسب ما تفرضه طبيعة الصراع في ضوء حدود القوى المناصرة والمعادية، وكان احتجاب القائد المنتظر واحداً من تلك المنعطفات، وبالطبع كان خاضعاً أيضاً لظروف المرحلة، وإيديولوجيّة العمل فيها.
إنّ النصر قد يأتي من السماء، وقد تتدخّل يد الغيب ضمن ضوابط يأتي الحديث عنها، إلاّ أنّ ذلك على العموم لا يؤتي نصراً مجانياً وبغير ثمن.
إنّ راية هذا الدين يحملها الإنسان، وعلى الإنسان نفسه أن يكافح من أجل نصرها وعزّها، ولا ينتظر من السماء أن تمنحه النصر إلاّ بعد أن يقدّم كل جهوده، ويستنفذ آخر طاقاته.
ومرّة أخرى نسأل:
لماذا لا يخرج القائد المنتظر؟ أليس في ذلك شهادة على أنّ مصير هذا الدين يحدّده أتباعه أنفسهم؟ ومن حيث إنّنا نمرّ بظرف سياسي لا يسمح بانتفاضة القائد المنتظر، فقد ظلّّ محتجباًً إلى الوقت الذي تتجهّز قوى الحق للاكتساح العام الشامل والنصر المبين، وعسى أن يكون ذلك قريباً.الفصل الثاني
طبيعة التدخّل الإلهي
في تأريخ الأديان على العموم، نجد ظاهرة ترتسم على أكثر من صفحة، وتتكرّر أكثر من مرّة، هذه الظاهرة هي ما نطلق عليه " ظاهرة التدخّل الإلهي".(14)
فرغم أنّ طبيعة هذا الدين بشريّة ـ كما أسلفنا القول  فيه ـ إلاّ أنّنا ما نزال نرى صوراً عديدة للتدخّل الإلهي في تقرير مصير هذا الدين.
قصّة إبراهيم عليه السلام صورة من صور التدخّل الإلهي، حيث أضحت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
وقصّة موسى عليه السلام هي صورة أخرى لهذا التدخّل، حيث انفلق له البحر، بينما غرقت فيه جنود فرعون.
ومن تلك الصور، قصة محمّد صلى الله عليه وآله وهو مختف في الغار حين هاجر إلى المدينة، فالعنكبوت التي نسجت بيتها، والحمامة التي وضعت بيضها لتغطية وجود محمّد صلى الله عليه وآله ما هي إلاّ تعبير عن التدخّل الإلهي في تقرير مصير هذا الدين.
وعلى طول التأريخ نلتقي بنماذج من هذا التدخّل.
وقضية الإمام المنتظر نفسها واحدة من هذه الصور والنماذج، كما سنرى في ختام هذا الحديث.
الحديث الآن عن طبيعة هذا التدخّل وحدوده.
هل يخضع لضوابط معيّنة؟
وإذا كان فما هي تلك الضوابط؟

دعنا نرجع في فهم الموضوع أكثر إلى استعراض بعض صور التدخّل الإلهي، التي نلتقي بها في تأريخ الأديان.
واحدة من تلك التدخّلات قصّة إبراهيم عليه السلام.
لقد وجدنا كيف امتدّت يد الغيب لتنقذ إبراهيم عليه السلام من موت محتم.
فالنار التي أعدّت له ها هو يسقط في أعماقها، وها هي ألسنة النار المرتفعة تجرّ إليها إبراهيم.
إنّه لا يملك شيئاً في الحال.
ولو اجتمع الإنس والجن على أن ينقذوه وهو يرتمي في أحضان تلك النار لما وجدوا لذلك سبيلاً.
هنا تدخّلت السماء وتدخّل الغيب ليحمي هذا النبي من لهب النار، فكانت عليه برداً وكانت عليه سلاماً.
ولكن كيف حدث ذلك، وضمن أية ظروف؟
أوّلاً:      
لقد دعا إبراهيم قومه.
أوضح لهم سبيل الحق، وكشف لهم زيف الباطل.
تحمّل في ذلك كل عناء، وتجرّع كل مأساة.
ولكن إصراره على الدعوة كان يواجه إصراراً على الباطل، وعناداً عن الحق.
ماذا يصنع إبراهيم؟
لقد استخدم كل وسيلة، وهاهم يبتعدون عنه إلى غير رجعة.
خابت آمال إبراهيم، فأشاح عنهم بوجهه, وإنّه ليقول: (أُفٍّ لَكُمْ وَلما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَفَلا تَعْقِلُون).(15)
فهنا جهاد غير يسير، وعناء غير قليل، وعمل دائب متّصل لم ينقطع عنه إبراهيم.
ثانياً:
ولقد ظلّ إبراهيم وحده، لم يستجب له من قومه حتى الأقربون:
لا يملك جنداً، ولا يملك أتباعاً.
هو وحده في المسير الصعب، لا أحد يخلفه في المسير إذا هو انتهى.
وها هو الآن وشيك أن تأكله النار.
لقد كان يعني موت إبراهيم موت الدعوة كلّها. ولقد كان ارتحاله يعني ارتحال شريعة الله من الأرض.
هنا جاء النداء: (يا نارُ كُوني بَرْداًً وَسَلاماًً على إِبْراهيِمَ)(16)، وتدخّل الغيب فسجّل كلمته في أفق الكون.
(وأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرين).(17)
إنّ هذا العرض يكشف لنا عن ضابطين في التدخّل الإلهي:
الأوّل: أن تبذل قوى الحق آخر إمكانياتها، وتدفع إلى الصراع كل طاقاتها، لا تكسل، ولا تقعد، ولا تعترف للجبن، ولا تخلد إلى راحة.
الثاني: أن تصل قوى الحق إلى الطريق المسدود، ويتعذّر عليها أن تحمي وجودها، وتدفع عنها شبح الموت الساحق.
حينذاك يكون الظرف قد حان لتدخّل غيبـي مباشر، فحين تعجز جنود الأرض، تشترك جنود السماء.

ومهما مشينا في دراستنا لنماذج التدخّل الإلهي فإنّنا سنعثر على هذين الضابطين.
خذوا قصّة موسى...
كم دعا موسى قومه؟ وكم هي الأتعاب التي تحمّلها في هذا السبيل؟
إنّ شيئاً من طاقته لم يبق جامداً، لقد استنفذ كل ما عنده في سبيل الحق، ولم يؤمن له من قومه إلاّ القليل.
لقد طاردهم فرعون إلى عرض البحر، حتى لقد استراب أصحاب موسى، وملكهم القلق:
(فَلَمّا تَرائَى الجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسَى إنّا لمَُدْرَكُونَ، قال كلاّ إنّ مَعي رَبِّي سَيهْدين).(18)
انظروا إلى الثقة التي يتحدث بها موسى، فهو عارف بأنّ جماعته لا يمكن أن تسحق، فضوابط التدخّل الإلهي متوفّرة.
إنّه دعا قومه، ولم يأل في ذلك جهداً.
وإنّ جبهته اليوم على خطر، ولئن سحقت لا يخلفها أحد في الطريق. فالقضاء عليها كان يعني القضاء على الحق كاملاً.
ولقد استبان للغيب أنّ موسى صائر إلى الموت، لو لا أن تدركه رحمة من ربّه، فجنود فرعون على الأثر، وما موسى ومن معه إلاّ قليل.
وهنا قيل لموسى:
(اضْرِبْ بِعَصاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطَّودِ العَظِيم. وَأزْلَفْنا ثَمّ الآخرين وأنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أجْمَعِينْ، ثُمّ أغْرَقْنا الآخَرين).(19)

ومن تأريخ الإسلام، وتأريخ الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله نقتطع أكثر من قضية برز فيها التدخّل الإلهي واضحاً.
ففي معركة بدر كان وعداً إلهياً قاطعاً قد تجسّد.
(بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا، ويأتُوُكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يمُدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَة آلافٍ مِنَ الملائِكَةِ مُسَوّمين).(20)
ونزلت جنود السماء لتقطع طرفاً من الذين كفروا، أو تكبتهم فينقلبوا خائبين.
لقد كانت الثقة تملأ قلب رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو يعرف ضوابط التدخّل الإلهي.
فالمسلمون جهّزوا بسخاء كل قواهم لمواجهة المعركة، والدخول فيها.
ولقد كانوا من قبل قد أبلوا بلاءً حسناً في تحمّل مسؤولية الدعوة وتثبيت دعائم هذه الرسالة الجديدة.
وهم اليوم في أخطر مواجهة.
عددهم لا يتجاوز الثلاثمائة إلاّ قليلاً.
وعدّتهم تقلّ فيها السيوف، ويكثر فيها سعف النخيل.
وعرف الله منهم الإخلاص، فهم يحملون في صدورهم إيماناً لا يثنيه شيء.
وعزماً لا يزعزع منه خوف.
والمواجهة خطرة، خطرة.
والقوى غير متكافئة.
ولئن خسر المسلمون اليوم، لن يبقى لهم على الأرض وجود.
فهي معركة حياة وموت.
لقد رفع رسول الله صلى الله عليه وآله صوته داعياً ربّه:
(إن تهلك هذه العصابة لا تعبد).(21)
إنّ محمّداً صلى الله عليه وآله في هذا الدعاء يعلن عن توفّر ضوابط التدخّل الإلهي.
فلقد وصلت قوى الحق إلى نقطة الحسم، وها هي عاجزة عن المواجهة لولا أن تسعفها السماء بالعون.
إنّ أحداً لن يبقى ليواصل المسير لو هلكت هذه العصابة.
فهم كل ما يملك الإسلام من جند، ونبيّهم معهم.
فمصير الرسالة يتحدّد في هذه السويعات المعدودات.
ومن هنا كان واثقاً بالنصر، كل النصر.
وهبط الملائكة آلافاً مردفين، وصدق الله وعده، وهزمت فلول الشرك.

إنّ الآية نفسها تشرح لنا ضوابط التدخّل الإلهي
لقد قالت:
(إنْ تَصْبِرُوا، وَتَتّقُوا..).
وهذا هو الضابط الأوّل.
أن يصبر المؤمنون على البلاء.
يعدّوا عدّة الجهاد. يسيروا أبطالاً متمرّسين، غير عابئين بسوى الله والحق في دروب التضحية.
(مِنْ فَوْرِهِمْ هذا..).
تلميح بالضابط الثاني.
أن يصير الحق في محنة، وأن يقع موقع الحرج.
أن تنفذ من المسلمين آخر طاقة، ولا يعودوا قادرين على حفظ الرسالة.
فالمعركة بالنسبة لهم مفاجئة، وورطة، وجيوش الشرك لا قبل لهم بها. حينذاك:
(يُمْدِدْكُم رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مَنْ الملائِكَةِ مُسَوِّمين).

هناك آية أخرى احتوت ضوابط التدخّل الإلهي وحدوده، ففي سورة الأنفال قال تعالى:
(الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أنّ فِيكُم ضَعْفاً فإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مائةٌ صابِرَةٌَ يغْلِبُوا مائَتَيْنِ، وإنْ يَكُنْ مُنْكُم ألْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ الله،  واللهُ مَعَ الصّابِرين).(22)
متى جاء هذا القرار الإلهي؟
لقد جاء هذا القرار بعد أن علم الله صدق النية، من خلال التضحيات والبطولات التي جسّدها المسلمون بكل صبر وبسالة.
وبعد أن علم الله أنّ طاقات المسلمين محدودة، والقوى التي تشترك في المعركة غير متكافئة، فالمسلمون قلّة في العدد، وضعاف في العدّة. بينما المشركون أضعافهم عدداً وعدّة.
إذن فالمسلمون بحاجة إلى عون.
لا يمكن أن يتركوا لوحدهم، وإلاّّ اصطلمهم العدو، وسحقهم، وبذلك تسقط راية الحق إلى الأبد.
حينذاك أعطي هذا القرار، وهبطت إلى مسامع وأفئدة المسلمين بشرى تزف إليهم النصر.
إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين.
لأنّ اليد الإلهية تشترك معهم في المعركة، والعزيمة تنفثها السماء في جنود الأرض، ليقلعوا أعمدة الشرك، ويزعزعوا حصونه وقواعده بإذن الله، والله مع الصابرين.

وفي آية النصر يتّضح جداً الضابط الأوّل للتدخّل الإلهي.
(إنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ).
فالنصر الإلهي ليس مطلقاً، وبلا ضابط.
النصر الإلهي رهين بأن يقدّم أنصار الحق أوّلاً كل طاقاتهم من أجل نصرة الحق، وضمان حياته.
النصر الإلهي رهين بأن يتقدّم أنصار الحق خطوات، ويزجّوا أنفسهم في قلب المعركة، ومن ثمّ يثبّت الله الأقدام، وينصر جيوش الحق.
ومن الخطأ أنّ نفهم التدخّل الإلهي بوصفه عملاً ارتجالياً لا يخضع لقانون.
وأكثر منه خطأ أن ننتظر في معركة الحق أن يهبط علينا الجند من السماء، ونحن قابعون في البيوت، وأن ينصرنا الله قبل أن ننصر رسالته، وأن يثبّت أقدامنا قبل أن نتقدّم بها في طريق النضال.

ولنعد الآن إلى قضية الإمام المهدي عليه السلام.
كيف تمثّل هذه القضية صورة من صور التدخّل الإلهي؟
وهل توفّرت فيها شروط قانون التدخّل؟
إنّ غيبة الإمام المهدي، وإفلاته من المطاردة الشديدة، لم يكن أمراً طبيعياً، وبالأخص لشخص لا يجاوز عمره خمس سنوات.
كما أنّ امتداد هذه الغيبة لمئات من السنين هو الآخر ليس طبيعياً، ولا ميسوراً ضمن الظروف الاعتيادية.
ومن هنا فالقضية في فهمنا تعكس تدخّلاً إلهياً.
إنّها قضية إعجاز، وتجاوز لقوانين الطبيعة المألوفة.
ولست هنا بصدد البرهنة على معقولية هذا الإعجاز، فما دمنا نضع هذه القضية في قائمة قضايا التدخّل الإلهي، والإعجاز الغيـبي، إذن لم يعد غريباً أو معسوراً، أن تحقق القدرة الإلهية هذا النمط من الإعجاز.
فالقدرة الإلهية لا تضيق ولا تعجز عن الامتداد بعمر شخص إلى آلاف السنين.
أليست القدرة الإلهية هي التي أنطقت عيسى وهو في المهد؟!
وحافظت على حياة أهل الكهف أكثر من ثلاثمائة عام، دون أن ينالوا فيها طعاماً أو شراباً؟!.
أليست القدرة الإلهية هي التي عرجت بالنبي محمّد إلى السماء، ورفعت عيسى من عالم الشهادة إلى عالم الغيب واختفى على الناس؟
إذا كنّا لا نجد حرجاً في التصديق بكل ذلك، فإنّه ليس من حقّنا أن نتحرّج في قبول قضية القائد المنتظر، فهي صورة من صور الإعجاز، بل ومن أبسط تلك الصور.
ومهما يكن فما أقصده الآن بالحديث هو التعرّف إلى الظروف التي دعت إلى هذا التدخّل.
هل توفرّت ضوابط التدخّل الإلهي في هذه القضية؟
الحقيقة هي ذلك.
فمن جانب كانت القوى الشيعية المناصرة للإمام عاجزة كل العجز عن حمايته، وتحصين وجوده.
ومن جانب آخر فإنّ خط التشيع الذي يمثل الإسلام الأصيل لم يعد قادراً على تحمّل نكبة جديدة، بفقدان زعيمه الإمام المعصوم، فلا أحد يمكن أن يخلفه في هذه الزعامة، ويكون بمستوى المرحلة الحرجة.
فلم يكن رجال الشيعة آنذاك مهيّئين في كافّة المجالات للقيادة والزعامة.
والظروف الحرجة العصيبة التي كانت تحيط بالتشيّع تتطلب قيادة في قمّة النضج، والاستيعاب، أو بالأحرى قيادة معصومة،وهذا ما لم يكن متوفراً لدى أحد من رجال الشيعة.
ومن هنا كان لا بد أن يبقى الإمام المهدي وراء الخطوط، وإلاّ فإنّ التشيع كان قريباً إلى التفتيت.
لكن في ذات الوقت كان الوضع السياسي، وحالة المطاردة العنيدة لا تسمح للإمام أن يبرز تحت الشمس، لا بدّ أن يعمل تحت الستار.
وهكذا كانت الضرورة تقضي على الإمام بما يلي:
إنّ عليه أن لا يترك الخط الشيعي، بل يبدأ بتجهيز وخلق القادة الأكفّاء لمواصلة العمل، وللقيام بمهام القيادة جميعاً، وفي خلال هذا الوقت يكون الإمام قد مشى بالتشيّع شوطاً آخر، يسمح له بترك القيادة ظاهراً لهؤلاء.
ومن ناحية ثانية فإنّ عليه أن يمارس هذا العمل في خفاء، وبعيداً عن عيون الرقابة المنتشرة.
وهذا ما تحقّق تأريخياً.
ففي عهد الغيبة الصغرى التي دامت أكثر من سبعين عاماً، توفّر الإمام خلالها على تهيئة القدرة لدى الخط على تحمل مسؤولية القيادة تماماً.
في الوقت الذي كان يمارس قيادته طوال هذه الفترة متستّراً، وعن طريق نوّابه الأربعة:
عثمان بن سعيد.
محمّد بن عثمان الخلاّني.
الحسين بن روح.
علي بن محمّد السمري.

كيف لم يكن رجال التشيع قادرين على قيادة الخط لوحدهم؟ كما حدث ذلك فيما بعد، في عهد الغيبة الكبرى، حيث بدأ فقهاء الشيعة يمارسون قيادة الخط بالاستقلال؟!
إنّ الإجابة التفصيلية على هذا السؤال تفرض عليّ تناول الوضع التأريخي للتشيع، وطبيعية المرحلة يومذاك.
غير أنّي سأوجز حديثي هنا لأقول:
إنّ حالة الإرباك السياسي، واستخدام كل أساليب القمع والتصفية، ومطاردة الوجود الشيعي في كل الأصقاع، وتحت كل ظل، لم يكن يسمح بنمو قيادات شيعية بارزة، ومتمكّنة من تجاوز كل هذه الصعوبات، والتغلّب على كل هذه المحن، وعدم الانصدام نفسياً والانهيار تحت هذه الضغوط.
ومن زاوية ثانية فإنّ الكفاءة العلمية بالمستوى القادر على مواجهة الأسئلة الكثيرة والمستجدة،وعلى كل الثغرات، أمر لم تتّخذ له تدابير سابقة.
وفي مجموع هذه الملابسات كانت حياة الإمام عليه السلام مهدّدة بالخطر.
ولو لم تقدّر له الغيبة، والخلاص من مخالب القوى المعادية، لكانت ساعة الموت قد أزفت بالنسبة للمذهب كله، وبذلك تسقط آخر قلعة من قلاع الإسلام، التي ظلت محافظة على وجودها طوال هذه الفترة.
إذن فقد كان التدخّل الإلهي أمراً حتمياً، من أجل صيانة خط التشيع.
وبالفعل فقد ضاع الإمام المهدي عليه السلام على الخصوم، بينما ما برحت اتصالاته برجال التشيع غير منقطعة قرابة سبعين عاماً.
وقد كانت هذه الاتصالات بما تحمله من توجيه علمي، أو سياسي، بمثابة الهواء الذي تتنفسه رئة التشيع، ومن دون ذلك فإنّ شجرة التشيع المهزوزة يومذاك لم تكن قادرة على الثبات في الأرض أمام الهزات العنيفة.

والتدخّل الإلهي لا يتجسّد فقط في غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه.
إنّ نهضته المظفّرة في اليوم الموعود مدعومة بيد الغيب، مسدّدة بنصر السماء.
لكن متى يكون هذا التدخّل؟ ومتى يكون ذلك النصر؟
إنّه يخضع لنفس القانون الذي شرحناه في التدخّل الإلهي حينما تقذف جبهة الحق كل عدّتها.
وحينما يتفاعل المؤمنون في معركة الحق، ويبذلون بسخاء كل الإمكانيات، ويرحّبون بكل التضحيات.
غير كاسلين، ولا جازعين.
يدافعون عن الحق بكل قوّة، وكل حرارة،وكل إخلاص.
يتقدّمون بالراية خطوات، يثبتون الأقدام في المواقع.
لا ترهبهم كثرة العدو، ولا توهن من عزمهم قلة الصديق.
هم أصدقاء الحق، والحق وحده.
وحين تنتهي طاقتهم، ويحتاجون إلى عون السماء يتدخّل الغيب.
(حَتّى إذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوُا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنا).(23)
هذا هو قانون التدخّل الإلهي.
وفي ضوء هذا القانون تَتحدّد النهضة الكبرى لقائدنا المنتظر.

لقد بقي علينا سؤال واحد ما هو سرّ بقاء الإمام حياً إلى اليوم؟ ما هو العطاء الذي تقدّمه هذه القضية؟
وما أرجوه الآن هو السماح لي في تأجيل الإجابة عن هذا السؤال إلى فصل لاحق، ريثما نواصل ـ فعلاً ـ الحديث  عن انعكاسات قضية القائد المنتظر.

الفصل الثالث
طبيعة التشريع الإسلامي
لقضية القائد المنتظر دلالة عميقة على حقيقة أساسية من حقائق هذا الدين.
ولأنّ هذه الحقيقة هي بمثابة القاعدة التي ترتكز عليها طبيعة تعاملنا مع هذا الدين، فقد جهد العدو في تحطيم هذه القاعدة، ورسم صورة معاكسة لها في فكر الإنسان المسلم.
ما هي هذه الحقيقة القاعدة؟
وكيف تؤكّدها وتعمّقها قضية القائد المنتظر؟
هذه الحقيقة هي:
جدارة النظام الإسلامي بحلّ مشاكل البشرية.
فالبشرية مهما شهدت من أنحاء التقلبات، اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، ونفسياً.
مهما امتدّ بها الزمن، وتصرّمت بها القرون.
فإنّ الحل الإسلامي يبقى وحده هو القادر على إشباع حاجاتها، ومنهجة حياتها بالنحو الأكمل والأفضل.
إنّه بمقدار ما تظلّ الحلول الوضعية المصطنعة عاجزة عن إنقاذ البشرية، وانتشالها من وديان الطيش، الضلال، الشقاء والبؤس، فإنّ الحل الإسلامي يبقى قادراً، وجديراً، بأن يجهّز البشرية بأروع خريطة لبنائها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والنفسي.
المرحلة دائماً هي مرحلة الحلّ الإسلامي.
والإسلام يبقى جاهزاً للتطبيق دوماً، وقادراً على نقض الركام الذي خلّفته جاهلية القرن العشرين على متون البشرية.
هذه حقيقة من حقائق الإسلام.
وهي طبيعة التشريع الإسلامي.
وإنّها حقيقة لم تكن بحاجة إلى برهان، فرسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات، ونبوّة محمّد صلى الله عليه وآله هي خاتمة النبوّات، ماذا يعني ذلك؟
أليس يعني أنّ شريعة الإسلام تستقطب عمر البشرية إلى الأخير، دون حاجة إلى تعديل، أو تغيير في بنود هذه الرسالة.

لقد ضاعت هذه الحقيقة على عدد من الناس.
من الناس المسلمين بالطبع.
حين أراد عدوّنا أن يسلب منّا الإسلام، والعمل للإسلام، بدأ بهذه الحقيقة، لنفقد ثقتنا بالإسلام، وأملنا في أن يبدأ الإسلام يوماً عملية التغيير.
بعض المساكين نجحت معهم عملية غسل الدماغ، وغسل النفس أيضاً، بدأوا يشكّون في قدرة الإسلام على حلّ مشاكل الإنسانية الضائعة، وفقدوا الأمل في قدرة الإسلام على تغيير هذا المجتمع المعقّد.
ماذا يقولون؟
وما ينظر هؤلاء المساكين؟
البشرية تطوّرت.
سبل الحياة تعقّدت.
لم يعد المجتمع هو المجتمع الذي عاشه الإسلام قبل قرون.
كل شيء تغيّر، حتى نفوس الناس وأمزجتهم.
الحياة صعبة، صعبة.
الحياة أصبحت صورة جديدة، لا يوجد بينها وبين الماضي خيط شبه.
مشاكل ضخمة، ومعقّدة, وجديدة.
الأرض غير الأرض، الناس غير الناس، والحياة غير الحياة، كيف يبقى الحلّ الإسلامي جديراً؟
ولو كان جديراً، فكيف يستطيع أن يغيّر هذا التركيب البشري المعقّد؟
أم هل سينجح في عملية التغيير؟
يقولون: لا
الخلق الإسلامي لم يعد مقبولاً، ولا مهضوماً.
والناس أينما كان الشرّ كانوا معه. إنّهم لا يقبلون الحق.
وإذن.. فهم لا يقبلون الإصلاح. ومهما جهدت في تغييرهم فإنّك ستدور في فراغ.
تلك مقالة أصحابنا المساكين.
لقد أوحيت لهم إيحاءً، وهي نتيجة أراد العدو أن يصلوا إليها.

والحديث مع هؤلاء قد يكون طويلاً لو أردت أن أعرض لهم نظام الإسلام، وأوقفهم على جوهر التغيّر الذي تعيشه البشرية، كيما نرى جدارة الحلّ الإسلامي أم لا!
لكنّي لا أستطيع هنا أن أفعل ذلك، فإنّه يكلّفني الخروج عن دائرة بحثي.
ولذا فإنّ ما سأفعله الآن هو الإشارة إلى التناقض الذي يتورّط فيه هؤلاء الذين يشكّون في جدارة الإسلام.
كيف يؤمنون بأنّ رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات؟
ولو كان الحل الإسلامي قد استنفذ طاقته. ألسنا بحاجة إلى رسالة جديدة؟
أمّا إذا كنّا نؤمن بأنّ الإسلام هو الشريعة الخاتمة، فذاك يدعونا إلى الاحتفاظ بثقتنا بالإسلام بوصفه الحلّ الجدير لمشاكل البشرية.
نحن أمام الخيار التالي:
إمّا أن نثق بجدارة الإسلام في حل مشاكل البشرية، وإمّا أن نتّهم السماء التي لم تسعفنا برسالة جديدة، وختمت دورها بالإسلام.

وفي مجرى هذا الحديث يكون لقضية القائد المنتظر مشاركة فعّالة.
ما تقول لنا هذه القضية؟
وماذا تشرح لنا عن قيمومة هذا الدين الأبدي؟
سأوضّح ذلك:
حينما نؤمن بالقائد المنتظر.
وحينما ننتظر ثورته المظفّرة.
ننتظر الساعة التي يحكم فيها الحق، والإسلام، والسلام.
الساعة التي تملأ فيها الأرض بالقسط وتسعد بالعدالة.
إنّ ذلك يؤكّد لنا ضرورة الثقة بالإسلام.
فمهما بدت التقلّبات والتطورات البشرية كبيرة ومستوعبة، فإنّ ذلك لا يمنع عن نجاح الإسلام، وإنّ ذلك لا يمنع عن بقاء الحل الإسلامي هو الحل القادر على معالجة العقدة البشرية. وبناء أفضل مجتمع إنساني.
حين نؤمن حقيقة بالقائد المنتظر لا يبقى لنا مجال للشك في الإسلام، وجدارة الإسلام.
انزلوا إلى أعماق قضية القائد المنتظر، وانظروا ماذا تعكس لنا من ثقة، ومن مفاهيم.
كيف نستطيع أن نصدّق بنهضته الكبرى، وانتصار الإسلام، ثمّ يراودنا الشك في قدرة الإسلام على حل مشاكل العصر.
أليس ذلك تهافتاً في القول، والعقيدة.
ونحن حينما نكون على ترقّب دائم، وانتظار متّصل، لثورة الإمام المهدي عليه السلام، أليس ذلك يعني الثقة بأنّ الإسلام ليس فقط صحيحاً، وإنّما هو قادر على التغيير، وخلق المجتمع المسلم، وتطبيق أحكامه في الأرض؟!
أولئك الذين أذهلتهم التقلّبات البشرية.
أولئك الذين قالوا:
إنّ الناس غير الناس، والحياة غير الحياة.
وتساءلوا بعجب:
كيف سيغيّر الإسلام هذه النفوس التي تعوّدت على الضلال.
هؤلاء ما هو رأيهم في النصر العميم الذي ستظفر به ثورة القائد العظيم.
إنّ الأرض ستملأ بالقسط والعدل.
إنّ الإسلام سيسود ويحكم، ويغيّر، ويخلق الإنسانية الجديدة التي هو يريدها.
وإذا كنّا نشك في قدرة الإسلام على ذلك، فالأجدر بنا أن لا نؤمن بالقائد المنتظر!
سيعود الذين آمنوا بالإسلام، ووثقوا بحكم الإسلام، وعرفوا حقيقة الإسلام، سيعود هؤلاء حكّاماً في الأرض، خلفاء لله على البرية.
(وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمنُوُا مِنْكُمْ وَعَمِلُوُا الصّاِلِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأَرْضِ..).(24)
سوف تتحطّم كل قلاع الكفر والضلال.
سوف تتبخّر كل العقبات، وتنسحب أمام تيّار الإسلام.
سوف تذوب كما يذوب الجليد تحت وهج الشمس كل الحواجز الموهومة.
الإسلام له يوم يثبت للناس كيف سيحقّّق لهم العدالة، والسعادة المنشودة.
كيف أنّه جدير وحده بإنقاذ أبناء الأرض من وديان البؤس والشقاء.
إنّه الشريعة الخالدة.
الشريعة التي ستحكم، وتنتصر.
حينما أكّد القرآن أنّ الأرض سيرثها عبادي الصالحون.
وحينما رسّخ أهل البيت هذا المفهوم، وعبّروا عنه بقضية القائد المنتظر.
وحينما أضحت هذه القضية أهم قضية في قاموس الفكر الشيعي.
لم يكن ذلك عبثاً، وبدون عطاء.
لقد كان ذلك من أجل أن لا نفقد الثقة العلمية بإسلامنا.
ومن أجل أن لا يغمرنا الشك في قدرة إسلامنا على التغيير.

إنّ الفكر الشيعي حينما يعمّق فكرة الإمام المنتظر عليه السلام ، يكون قد خلق أمنع حصن، وبنى أركز قاعدة، تمنع عن تسرّب الشك في الإسلام إلى الإنسان المسلم.
لقد كان أروع تحصين قدّمه الفكر الشيعي في قضية القائد المنتظر.
حينما نؤمن بهذه القضية، ويكون إيماننا حقاً، وإيماناً واعياً، نكون قد ضبطنا صمّام الأمان، وكسرنا عود الشك، وتجاوزنا أوهام العدو، وعاصفته بسلام. الفصل الرابع
نهاية الصراع
يعتبر تأريخ البشرية منذ أعمق امتداداته تأريخ صراع مرير بين قوى الخير وقوى الشر.
بين جبهة الحق وجبهة الباطل.
هذا الصراع لم يتوقّف لحظة في طول عمر البشرية، ولم يفتر.
مظاهر هذا الصراع متعدّدة، ومتنوّعة، ومستقطبة.
والأدوات التي استخدمت في هذا الصراع هي الأخرى متعدّدة ومتنوّعة، كل واحد من البشر شارك في هذا الصراع.
وأيّ عمل تصادفه تستطيع أن تعرف إلى أي جبهة ينتمي، إلى الحق أم إلى الباطل.
وهذا الصراع ينعكس على الإنسان الواحد، ففي أعماق نفسه نزعات خير، ونزعات شر، ومواقف الإنسان تخضع لطبيعة الصراع بين هذه النزعات، وتلك قضية تصدق حتى على الرسل:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ إلاّ إذا تَمَنّى أَلْقى الشّيْطُانُ في أُمْنيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشّيْطان...).(25)
مظاهر هذا الصراع تمتد إلى أعماق التأريخ، بل إلى بدايات التأريخ.
فمنذ أولاد آدم والخلاف الذي نشب بينهما سجّلت أوّل جريمة على الأرض، في أوّل جولة من جولات الصراع.

ولقد مثّل الأنبياء والرسل على طول التأريخ الرادة المخلصين لجبهة الحق، وكان يقف في نفس الجبهة الأوصياء، وكل أتباع الرسل.
بينما كان يقف في الجبهة المقابلة الوجوه النفعية، وأصحاب الذوات الانتهازية، أو العقد النفسية، سواء ما تسترّ منهم بقناع الإيمان، أو ما بدا مكشوفاً يعلن الشرك والجحود.
ولقد تعاقب على قيادة جبهة الحق مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، يعزّز بعضهم بعضاً، ويدفع إلى الإمام عجلة الحق كلّما تسرّب إليها الوهن والتعب.
(إذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوُهُما فَعَزَّزْنا بَثالِث، فَقالُوا إنّا إليْكُمْ مُرْسَلُونَ).(26)
وكل نبوّة جديدة تواجه صراعاً جديداً متوقعاً، وعناداً عن الحق يرتكبه النفعيون.
(وَما أَرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قالَ مُتْرَفُوُها إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).(27)
وبالطبع فإنّ نتيجة الصراع لم تكن واحدة.
فهناك انتصارات متبادلة، وبالمثل تراجعات متبادلة.
والبشرية على هذا المنوال إلى اليوم الحاضر.
وستبقى غير جازعة، ولا متهاونة.

لمن نهاية الصراع؟
بعض الناس يحملون روح التشاؤم، وآخرون يحملون روح الخوف.
وأولئك وهؤلاء يقلقون على مصير الحق.
هل يمكن أن يفوز يوماً ما؟ وكيف ذلك؟
ها هو الباطل يحكم الشعوب!
وما تزال الأرض تشهد حكم الطاغوت!
بل وكل الأرض في قبضة الكف السوداء!
فأين الحق، وأين جيش الحق؟
إلا أننّا لا نستطيع أن نمضي مع هذا المنطق التشاؤمي.
فالحق الكامل لا يوجد في الأرض.
لكن هل يوجد باطل كامل في الأرض؟
إنّ مع كل باطل في هذه الأرض قدراً من الحق، وهذا الحق يحكم، وينفذ ويطبّق.
وحينما نتوقع أن نجد حقاً محضاً خالصاً في هذه الأرض فإنّنا سنخيب يقيناً. وتبدو لنا الصورة قاتمة.
لكن لماذا نفعل ذلك؟
إنّ التوحيد حق، والإسلام حق، والتشيع حق.
وفي حكومة الخلفاء العباسيين كان هناك حق يحكم وباطل يحكم.
هناك حق يحكم. فالتوحيد منتصر، والإسلام على إجماله منتصر.
وهناك باطل يحكم، فالخط الإسلامي الأصيل مشرّد، ومطرود، ومعذّب والإسلام لا يملك الفرص الكافية لبناء المجتمع القويم.
انحرافات الخلفاء كثيرة، والجور مبثوث في كل مكان.
لكن لم يكن ذلك يعني أنّ الباطل وحده هو الذي يحكم.
ألم يكن الإمام علي بن الحسين عليه السلام يدعو لجيوش المسلمين في العهد الأموي، بالانتصار على جيوش الروم؟ إذن فهي تعبّر عن حق.
إنّك تستطيع أن تجد الحق في كل مكان، وفي كل موقع، لكن لن تجده وحده بالطبع.
حكومات الغرب، وحضارة الغرب كم بلغت من الانحراف؟
لكن ألست تجد فيها الإيمان بالله؟ مهما تكن طبيعة هذا اليمان.
وقد لا تجد فيها الحرية الكاملة، لكن ألست تجد فيها بعض الحرية؟
ومهما يكن القانون غارقاً في الظلم والتعسّف، لكن قد يصيب بعض الحق حينما يمنع المعتدين، والمستغلين والنفعيين.

وإذا كان الحق يواجه افتراقات وصراعات داخلية قد تضعف جبهته. ألم يكن الباطل مثل ذلك؟
إنّ صف الباطل لم يسلم من الاشتباكات الداخلية، ولم يطب له العيش يوماً، كلّما أتت أمّة لعنت أختها.
(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى).(28)
وأنت لا تجد وجهاً واحداً يدوم له العرش.
إنّه سيقهر حتماً أمام قوىً أخرى، ولتكن من فصيلة الباطل، إلاّ أنها كثيراً ما تحمل قسماً من الحق.
ومن هنا فالباطل في صراع، كما الحق في صراع:
(وَقالَتِ اليَهُوُدُ لَيْسَتِ النّصارى على شَيءٍ وَقالَتِ النّصارى لَيْسَتِ اليَهُوُدُ على شَيء).(29)
وبمقدار ما ينحسر الباطل يتقدّم الحق خطوات.
وجبهة الحق مهما بدت سليمة، فإنّها تعيش الصراع.
إننا بحاجة إلى عمق في الرؤية.
(إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُه).(30)
(إنْ تَكُوُنُوا تَألَمُونَ فَإنّهُم يَألَمُونَ كَما تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مالا يَرْجُوُن).(31)
لقد عالج القرآن نقطة الضعف التي أحسّها في المسلمين حين أصيبوا بنكبة، فألفتهم بسرعة إلى أنّ العدو يشكو مثل شكواكم، وتلك حقيقة صادقة إلى الأبد.
حين كانت جيوش النصارى تتقدّم، ألم تكن الكنيسة تعيش صراعاً عميقاً بين الكاثوليك والبروتستانت، لغاية التحرّر من بعض تعسّفات الكاثوليك، واضطهادهم.
وحينما يزحف الجيش الشيوعي في العصر الحاضر، ألسنا نشهد أكبر انشقاق بين اتّجاهين فيه.
وفي كل مكان تجد يميناً ويساراً ووسطاً!
أليس الحق هو المستفيد من هذه التناقضات؟

لمن نهاية الصراع؟
مرّة أخرى نعود لنطرح هذا السؤال، لكننا هذه المرّة نطرحه على قضية القائد المنتظر لنجيب.
لقد أعلن القرآن عن خاتمة الصراع الطويل.
الصراع الذي بدأ منذ اليوم الأوّل من عمر البشرية.
الصراع الذي عاشته البشرية طوال مسيرتها المكدودة.
خاتمة هذا الصراع للحق، والحق وحده.
(وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ في الأَرْضِ، كَما اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِنْ قَبْلِهِم وَلِيُمَكّنَنّ لَهُم دِينَهم الذي ارْتَضى لَهُم وَليُبَدّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً...).(32)
(وَنُريدُ أنْ نمُنَّ على الّذين اسْتُضْعِفُوا في الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثين).(33)
وقضية القائد المنتظر هي تجسيد لهذا الوعد، وتعميق لإيماننا به.
إنّها تبعد عنّا شبح اليأس
تدفع بنا في قلب المعركة، أبطالاً متمرّسين، واثقين بأنّ النصر حليفنا وأنّ الموت للعدو.
لا داعي للقلق على مصير الحق.
لا تبهرنا جيوش الانحراف.
صخرة الباطل مهما بدت شامخة، ومهما توطّدت في الأرض، فإنّها ستتحطم يوماً ما.
إنّ حكم الطاغوت لن يدوم، ولن يهنأ له العيش.
إنّ حكم الطاغوت مهما تجبّر، وتعملق، وشمخ في العلو، فإنّه سيخسر الجولة، ويتهشم تحت وطأة الحق.
(وَلا يَغُرنّكَ تَقَلّبُ الّذينَ كَفَرُوا في البلاد).(34)
نعم..
إنّ الأرض سيخيّم عليها الظلام، والظلم.
لكن حجب الباطل مهما تكاثفت فإنّها لا تمكث طويلاً أمام وهج الشمس.
سيزول الظلام، وتملأ الأرض بالقسط والعدل.
هكذا تحدّثنا قضية القائد المنتظر.
هؤلاء الذين قطع اليأس آخر آمالهم، وملكهم الانهيار.
هؤلاء.. يجب أن يسترجعوا الأمل.
يجب أن يقنعوا بأنّ الباطل هزيل، وأنّه سوف ينهزم.
المستقبل لجبهة الأنبياء والرسل والأوصياء.
وواحد من هؤلاء الأوصياء هو القائد المنتظر.
(وَمَا أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأساءِ..).(35)
إنّ قضية القائد المنتظر مصدر قوّة.
(مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنَ دِوُنِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوُتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمَوُنْ).(36)
وإذا كان الأمل هو المحفز لأيّ تحرك، فإنّ قضية القائد المنتظر تخلق فينا هذا الأمل الحافز.
المؤمن بهذه القضية لا ينهار، ولا ييأس، ولا ينخلع قلبه وهو يرى الباطل يجول، ويعربد، ويحطّم، ويعيث في الأرض فساداً.
إنّنا لن نموت.
لن نتنازل.
لن ننسحب من معركة الشرف والحق والحياة.
فحينما يضرب الباطل ضربته الأخيرة ستنكسر عصاه، وينتهي، ومن ثمّ يحكم الحق.
والذين كانوا مستضعفين في الأرض سيصبحون حكّام الأرض وقادة المسيرة.
لكن من هم الذين لا يأكل قلوبهم اليأس.
إنّهم قليل، وقليل جداً.
غير أنّ هؤلاء القليل هم الذين يحملون راية الحق، ويحتضنون لواء القائد العظيم، مهدي آل محمّد.
أفلا نكون من هؤلاء القليل؟ الذين وصفهم الإمام علي عليه السلام قائلاً:
(أولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً)(37). الفصل الخامس
العطاء الذاتي لحياة القائد المنتظر
إنّ ما أقصده بالعطاء الذاتي هو المردود النفسي الذي تعكسه قضية القائد المنتظر على ذواتنا.
إنّ الحجم الذي تخلّفه من الأثر في نفوسنا ـ نحن المؤمنين بالقضية ـ من المكانة بنحو لا يمكن تغافله وتناسيه.
وإنّني أحاول هنا أن استجلي صورة عن هذا العطاء.
الأمل:
لقد تحدّثت لكم شيئاً ما عن الأمل، ودور القضية في ترسيخه وتعميق جذوره في نفوسنا، وكيف نصبح هازئين بالظلم، رافضين لحكومة الظلم، غير مستسلمين، ولا واهنين.
على ثقة كاملة بأنّ عمر الظلم قصير، وأن سيصبح الصبح، أليس الصبح بقريب.
إنّ تجبّر الظلم، وكبرياء الطاغوت، وسيطرته على الأرض، وعلى شعوب الأرض، كل ذلك لا يثني عزمنا القاهر على المضي قدماً، فالنتيجة لنا، الطريق المزروع بالأشواك نحن قادرون على أن نقطعه بكل صبر وبسالة، والعزّة للمؤمنين.
(وَأنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ).(38)
لقد قلت فيما سبق:
إنّ قضية القائد المنتظر هي مصدر قوّة.
وليس كما يحسب بعض الناس أنّها بمثابة الكهف الذي نلجأ إليه عند الهزيمة.
أبداً.. إنّها لن تقبل منّا الهزيمة، وتسخر من المهزومين.
فحصون الباطل يجب أن تتحطّم.
وأعواد عرش الطواغيت يجب أن تتكسّر.
وسيموت كل الفراعنة، سيغرقون في نفس البحر الذي ملؤوه دماً، وستسيخ بهم الأرض.

التماسك:
وسوى ذلك فإنّ قضية القائد المنتظر، ووجوده حيّاً بين صفوفنا، وفي داخل جبهتنا، يحفزنا على الشعور بالأصالة، والاستقلال، والحياة والقوّة.
دعني أشرح ذلك وأوضّحه أكثر:
هناك فارق كبير في الوضع النفسي لأمّة لا تعرف قيادتها.
أو لا تملك قيادة حية تتفاعل معها.
ليس لها من تثق به.
ليس لها من ترمي بطرفها إليه.
إنّها أمّة ستذوب، وتتلاشى، وتتمزّق.
ستأكلها الاتجاهات، وتميّلها الافتراقات.
وتنصهر في الكل،  وفي الأكثرية المحيطة بها.
ستضيع ملامحها، وتفقد شخصيتها، وتنسى أصالتها واستقلاها.
وتتوسّل للدخول ضمن الاتجاهات الأكثر قوّة، والأكثر منعة وتماسكاً.
ما الذي يمنع الفئة القليلة من الذوبان، والاندكاك في الفئات الكبرى؟
وما الذي يحصّن دائرتها من التلاشي في الدوائر الأخرى؟
شيء واحد بالتأكيد...
هو شعورها بأصالتها، واستقلالها، وثقتها بوجودها.
مهما تملك هذه الفئة من فكر، ومن حق، فإنّ ذلك لا يدفع عنها خطر الانهيار، والتفلّل، والذوبان، ما لم تستشعر الثقة بنفسها، وقوّة كتلتها، وحيوية جبهتها، ووحدة صفّها.
إنّ هذا الشعور هو الذي يقطع حبل الانهيار، والتحلّل والانصهار ضمن الأكثرية.
والأمّة التي لا تعرف قيادتها، ولا تملك الثقة بأنّ قيادتها وراء الخط، تدبّر وتعمل، وتشهد، وتخطّط، وتنتهز الفرص للهجوم، إنّ مثل هذه الأمة تفقد الشعور بالمنعة، والحصانة.
تفقد الشعور بالاستقلال، والوحدة.
وعلى العكس من ذلك الأمة التي توطد حبل الاتصال مع قادتها، وتعرف جيداً أنّهم داخل الساحة، والأحداث لا تمرّ دون اطّلاعهم.
هذه الأمّة مهما بلغت من الصغر، والقلّة.
ومهما أحاطت بها الاتجاهات ذات الأكثرية الساحقة.
إنّ هذه الأمّة وهذه الفئة تصبح ذات قناعة كافية لأن تقيها خطر الذوبان.
وإذا كان الحديث عن جبهة التشيع فبوسعك أن تلاحظ معي:
إنّ هذه الجبهة تحتضن الأقلية الضعيفة، والمطاردة.
وكل التيارات التي شهدها تأريخ الإسلام وقفت ضد هذه الجبهة، وكانت ترى فيها الخطر الذي يقوّض كيانها لو قدّر لها أن تواصل نشاطها بقرار، وحرّية.
ومع ذلك فإنّ قلعة التشيع لم تستسلم:
وباتت غير مستسلمة حتى في حال غياب قائدها (الإمام الثاني عشر) من أهل البيت.
وبالطبع فإنّها كانت معرّضة للتمزّق بغياب قائدها.
وشيء من ذلك قد تحقق بالفعل.
لقد كان الإمام يقول:
(كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدىً ولا علم، يتبرّأ بعضكم من بعض).(39)
لكن رغم كل ذلك فهاهي أحد عشر قرناً مضت على غيبة هذا القائد، والتشيع ما يزال راسخاً.
والمؤمنون بهذا الخط لم يقتلهم الوهن، ولم يحدّ من نشاطهم الضعف، والقلّة، وحياة المطاردة.
ترى ماذا كان وراء ذلك؟
وكيف لم تذب هذه الفئة، كما ذابت معظم الفئات الأخرى؟
لقد شهد التأريخ الإسلامي عشرات من الفرق الدينية، لكن يد المنون مسحت عليها، وانتهت.
إنّها لم تصمد أمام أدنى الضغوط، أو أدنى الافتراقات.
بينما ظلّ التشيع، رغم كل الأعاصير، والصدمات، والمكائد.
رغم القلّة، والضعف، والتشتّت.
ظلّ حيّاً راسخاً، معبّراً عن جوهر الإسلام.
صارخاً بالحق، ساخراً بالظالمين، ومؤامرات الظالمين.
ماذا كان وراء ذلك، والقائد محتجب؟!
كيف لم يصب الانهيار عزائم الشيعة؟
كيف لم يستسلموا للأكثرية الساحقة والقويّة.
ما الذي شدّهم هذا الشدّ الوثيق بالمذهب.
الشدّ الذي خابت معه كل محاولة للتمزيق والتفكيك.
بلا شك كان وراء ذلك إيمان الشيعة بحياة قائدهم المغيّب، وأنّه معهم، وفي أوساطهم.
يعيش همومهم، ويتمزّق قلبه ألماً لمآسيهم.
يرقب حالهم، وجبهتهم.
ينتظر.. ينتظر، كما هم في انتظار.
هو مرتبط معهم، غير بعيد عنهم، ولا ناسٍ لقضيته وقضيتهم.
فهناك وحدة في القضية، وهناك وحدة في المصير.
إنّ هذا القائد الذي احتجب عن الرقابة التي تلاحقه، والذي ما يزال محتجباً ريثما تكون ساعة النصر قد أزفت، وريثما تكون شروط الثورة قد مثلت في الأفق.
إنّ هذا القائد حي..
ومن هذه الحياة تخفق قلوبنا بالحياة.
ومن هذا النشاط نستمد النشاط، ونعرف كيف نعمل، وكيف يجب أن نتكتل.
فنحن أمة لها أصالة، ولها استقلالها ما دامت قيادتها حية، صابرة مشرفة على الساحة.
مادامت قيادتها غير ضائعة ولا واهنة.
الفواصل الزمنية بيننا وبين هذا القائد معدومة.
فلا داعي لاستشعار البعد، والدهشة، والافتراق عن القيادة.
لأنّ هذه القيادة ما تزال حيّة، كما لو كانت وليدة عصرنا.
دعنا نتصوّر ماذا يكون الوضع النفسي لو كنّا لا نملك هذا القائد، الذي نثق به ثقة مطلقة، والذي نثق بأنّه سيسحق كل الخصوم.
هب أنّ الإمام المهدي عليه السلام قد مات في الستينات أو السبعينات من عمره الشريف.
وفقدنا القيادة المعصومة والمظفرة.
وأصبحنا ننتظر فقط مجيء مصلح قد تجود به يد الزمان في يوم من أيام المستقبل.
ثمّ كنّا نواجه الصدمة تلو الصدمة.
نواجه الذبح، والخنق، والسجن والتشريد.
نواجه الدسائس الخبيثة التي تحرص على إبادتنا.
ونحن قلّة، وضعاف، ومشرّدون.
والناس ينظرون إلينا شزراً.
والرجل الذي ننتظر صولته غير موجود.
أليس كنا نقترب نفسياً إلى الهزيمة.
نؤثر العافية، والسلم والأمان.
فندخل ونموع في أحضان الأكثرية.
نذوب كأننا الشمع.
نفقد الشعور بأنّنا تكتّل رصين محقّ.
في كل صدمة نفقد مجموعة من الأعوان الذين يُهزمون بفعل الصدمة والمحنة.
انظروا كيف تمزّقت وبادت الفئات الأخرى، لدى أدنى صعوبة، وفي بداية الصراع؟
كيف انتهى المعتزلة من الوجود، وانتهى مذهب الاعتزال، حينما انتفضت عليه السلطات؟
إنّ تلك الفرق والمذاهب لم تواجه عشر العناء، والخطر الذي واجهه التشيع.
حينما طوردت الفئات، وأصيبت بالشتات، وحين تمزّقت جغرافياً، ونفسياً، وفكرياً كانت قد حكمت على نفسها بالموت والفناء.
أمّا جبهة التشيّع، فالداخلون فيها يعرفون أنّ قائدهم المظفر المعصوم.. معهم، يشهد، يسمع، يرقب الأحداث، يتحرك، يسدد، ينتظر.
إذن فهم كتلة حية بحياة هذا القائد.
وأينما ذهب الرجل الشيعي، وفي كل مكان قذفته الأمواج، هو يشعر بأنّ قائده يعيش مأساته، ويحمل همّه، وتربط بين الاثنين علاقة مودّة، وحبّ، وهمّ مشترك، وهدف مشترك.

أنتم تعرفون مقدار التركيز والتشديد الذي أعطاه مذهبنا لربط الشيعة، وتوطيد علاقتهم، حتى نفسياً وعاطفياً، بالقائد المنتظر.
هناك مناجاة خاصة يتّصل من خلالها الشيعي ويتعاطف مع إمامه، ذلك ما نقرؤه في (دعاء الندبة).
هذه المناجاة كل شيعي مدعو لممارستها أسبوعياً لا أقل.
وهناك زيارة خاصّة للقائد المنتظر، يعيش الرجل الشيعي في أثنائها مع إمامه، وقائده، يستشعر وجوده وحبّه، ومشاركته، وقيادته.
وهناك دعاء خاص يتوسّل به الشيعي إلى الله تعالى في رعاية القائد في غيبته، وتسديده، ودفع الشرّ عنه، والإذن له بالظهور، وإزاحة ثقل الاحتجاب عن صدره.
كل هذا وأكثر من هذا من أجل قضية واحدة.
من أجل توثيق الربط بين الشيعي وقيادته المعصومة.
حتى يشعر أنّ إمامه مثله يعيش همّ المأساة.
ويتحرّق شوقاً للانفتاح على شيعته.
إنّ العزلة تشق عليه.
إنّه يضيق ذرعاً بالوحشة.
إنّه يرجو منّا الدعاء له بالفرج، وإعلان الثورة الكبرى.
إنّه يعمل ويدعونا للعمل.
إنّه صابر ويدعونا للصبر.
إنّ هذه المناجاة، والتوسلات، والأدعية، لم تكن عبثاً، أو مجرّد تسلية للضمائر الخائرة.
إنّها تحمل أكبر عطاء....
تصوّر نفسك وأنت تناجي بكل حب ولهفة قائدك المغيّب عنك.
تبثّ إليه همّك، وتعرض له شوق قلبك، وتسرد له مآسي جبهة الحق، وتجدّد العهد معه بأنّك سائر على الدرب، ساحق كل الأشواك، صابر على العناء.
تصوّر نفسك وأنت تتحدث للإمام القائد المفدّى، حديث مسؤولية، وحديث مودّة، وحديث أشجان، وحديث توسل، وحديث انتظار وتلهّف وحديث عهد لا تتراجع عنه.
تتحدّث معه كما لو كان يشترك معك في الحديث، فاتحاً قلبه إليك، مبصراً بالأسى الذي لا يبارحك.
كم يجعلك هذا اللقاء قوي العزيمة، رابط الجأش.
واثقاً بالأصالة، شاعراً بالاعتزاز.
كم يهبك هذا اللقاء قوّة، ومنعة عن الذوبان، والانهيار، والتلاشي؟!
ستشعر بأنّك لست ريشة في مهب الريح.
ولست قطعة خشب تطفو على مياه البحر يتقاذفها الموج.
ولست وحدك يتخطّّفك العدو من كل مكان.
إنّما أنت جندي في جبهة الحق.
الجبهة الرصينة، المتكاتفة.
الجبهة ذات القيادة الحيّة، المتحرّكة، التي تعرفك، وتعرفها جيداً.

إنّ هذا العطاء الذاتي هو أغلى شيء نستفيده من حياة القائد المنتظر.
وأنت تستطيع أن تفسّر معنى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله:
(من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني).(40)
كيف ذلك، ولماذا؟
لماذا كان من يموت وهو لا يعرف إمام زمانه، يموت ميتةً جاهلية، كما ورد في الحديث.(41)
إنّ عدم معرفة الإمام، أو إنكار الإمام تساوي الشك، وعدم وضوح الرؤية، وعدم الثقة بالخط، وتلك هي الجاهلية.
أمّا حين تعرف إمامك، فأنت إذن قد رسمت منهج حياتك، وقد وثقت من الخط الذي تسير عليه، وتحصّنت عن الشك، وعن الذوبان، وعن الانحراف.

في الكتاب الذي بعثه الإمام المهدي عليه السلام للشيخ المفيد   ـ المتوفّى سنة413هـ  ـ والذي كان زعيماً للطائفة الشيعية في يومه. سجّل حقيقة ضخمة في محتواها، وعطائها.
اقرأ معي ما سطّره الإمام في كتابه:
(ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا.
فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتّصل مما نكرهه، ولا نؤثره منهم).(42)
إنّ ما يصدر منّا لا يحتجب عن الإمام.
وهو إذا كان غائباً عن أنظارنا فإنّه حاضر في ساحتنا.
إنّ أخبار شيعته تنقل إليه.
من الذي انهزم، ومن الذي نافق، ومن الذي أساء لجبهة الحق.
وعلى العكس..
من الذي يصمد، ومن الذي يخلص للحق، ومن الذي يحسن العمل والنشاط.
كل ذلك في علم الإمام، ومطروح بين يديه.
وحينما نفهم هذه الحقيقة كم نشعر بالمسؤولية؟
إنّ قائدنا المفدّى يرقب أعمالنا، ويعرف كيف نتصرّف، ويحكم علينا من خلال مستوى إخلاصنا.
نحن لسنا في غيبة عنه، وإن كان في غيبة عنّا.
وبهذا يكون العطاء الذاتي لحياة الإمام أكبر.
فنحن لا فقط نستلهم من حياته الحياة، ومن نشاطه النشاط.
ولا فقط نستشعر الأصالة، والحصانة، والاستقلال.
وإنّما يتعمّق فينا الشعور بالمسؤولية حينما نكون على يقين بأنّ أعمالنا تعرض على الإمام، وليست في خفاء عنه!!

الفصل السادس
مسؤوليّتنا في عصر الغيبة
حينما يكون الحديث عن المسؤولية فإنّني أشعر بخطورة هذا الحديث. فلقد أرى أنّني أمام بحث يفرض عليّ مزيداً من الإمعان، ومزيداً من الموضوعية.
إنّ البحث عن المسؤولية، وعمّا ينبغي أن نفعل، وعمّا هو الواجب علينا، ليس بحثاً نظرياً أستطيع أن أقول فيه كلمتي دون أن ألاحظ بذلك موقف الناس وموقف الأمّة، وموقف الرجل المسلم.
حينما أحدّد المسؤولية في شيء فإنّني أكون قد وضعت الموقف العملي للرجل الشيعي، ورسمت له المنهج الذي تتطلّبه المرحلة، ومن هنا تنشأ خطورة هذا البحث.
إنّه بطبيعته بحث مسؤول، يشعر الداخل فيه أنّه مسؤول عن كل كلمة يقولها، ويسجّلها بهذا الصدد.
على أنّ خطورة هذا الحديث تنشأ من أهميته وفاعليته في حياتنا في ذات الوقت.
فليس هو موضوعاً عابراً، تصادفه مرّة أو مرّات معدودة في العمر، بل إنّنا نعيش معه في كل لحظة
ونرسم على ضوئه منهج حياتنا طول العمر.
فالخطأ فيه ليس أمراً قد يهون.
والتأثر بالعواطف والخلجات النفسية، والعقد الباطنية في مثل هذا الموضوع يعتبر في غاية الانحراف والتجاوز عن حدود المسؤولية.
وأنا غير شاك في أنّ طبيعة مزاج الشخص، ونوع ميوله النفسية، قد يقف حاجباً بينه وبين أن يصل لحقيقة الموقف الذي ينبغي أن يتخذه.
كثيراً ما نرى أنّها تعمل عملها في تفهم واقع المرحلة، وتحديد الموقف على ضوئه.
فبطبيعة الحال نجد أنّ الانهزاميين والجبناء والمتشبثين بالأرض، الطامعين في ترف الأرض ومجد الأرض هؤلاء.. نستطيع أن نجزم مسبقاً بالحكم الذي سيصدرونه حينما يكونون بصدد تحديد المسؤولية.
لا تنتظر سوى أحكام متخاذلة جبانة.
سوف ترى مواقف تهرّب، وكسل، وخوف.
سوف تشهد على الدوام، صمتاً، صمتاً، صمتاً.
قف، لا تتحرّك القضية خطرة، الإقدام لا يخلو من تهلكة.
لا عليك، ولا يعنيك الأمر، ما أنت وذا؟ "لا يكلّف الله نفساً إلاّّ وسعها".
وعلى النقيض حينما تكون القضية محقّقة لمصلحة شخصية، مجد في الأرض، جاه عند الناس، ثروة من الثروات، تفوّق على الآخرين بحساب المادّة.
هنا تستخدم كل الحيل، وكل الوسائل.
أقصى ما يملك هذا الرجل من لباقة، وفطنة، وعبقرية يضعه لحساب البرهنة والتدليل على صواب موقفه.
يدافع بكل حرقة، وكل حرارة، كما لو كان الموضوع يهم الإسلام والمسلمين.
يفتش عن آخر طريق يستطيع النفاذ من خلاله ليقول: إنّ مسؤوليته تحكم عليه بهذا الموقف، ومن ثمّ يكون قد كسب المال، والمجد والراحة، أو ما حلى له من طيّبات الدنيا، باسم المسؤولية، وباسم الدين والشرع والقانون.
لقد رأينا هذه النماذج من الناس.
لقد عرفناهم معنا، وعرفناهم في امتداد التأريخ.
من منكم لا يعرف عمرو بن العاص، أو أبا موسى الأشعري.
ماذا كانت مواقفهم؟
ماذا قالوا للناس؟
المواقف جميعاً كانت لحساب مصالح شخصية.
لحساب الطمع، والجشع، والهوى.
أليس قد انحاز عمرو بن العاص إلى جبهة معاوية، وإنّه ليعرف أنّ معاوية لعلى ضلال؟
لقد راجع قضيته في نفسه مسبقاً، وعرض عليها الخيار بين الدنيا وبين الدين، أشار عليه أحد ولديه بأن يتّبع علياً طالما هو يعرف أنّه على حق، والحق أحق أن يتبع. بينما وسوس له الآخر الدخول في سلك معاوية، فإنّ الدنيا تنضح من إنائه.
ماذا كانت النتيجة؟
لم يصمد (ابن العاص) أمام إلحاح الذات، وقوّة الهوى، واندفع مهرولاً يلثم أعتاب معاوية، وإنّه يلتمس لنفسه المعاذير عن هذا الموقف ويودّ لو يجد من الشريعة ما يسمح له بذلك.
وأبو موسى الأشعري؟
أنت تدري أنّه هو الذي كان يخذّل الناس عن عليّ, وهو بطل التحكيم، وفارس لعبة السلام، حينما اتفق مع مبعوث معاوية، عمرو بن العاص على أن ينزع كل منهم الخلافة من صاحبه ويريحوا الأمّة من عناء الخلاف والقتال.
هؤلاء يعرفون الحقيقة جيداً، وإنّهم لعلى يقين.
لكن الحقيقة لم تكن دوماً مع هوى الإنسان أو عواطفه ومزاجه.
ولذا فقد ابتعدوا عنها، لأنّها لا ترضي طموحهم، ولا تروي ظمأهم للترف والجاه والمال.
ولقد برّؤوا ساحتهم بشتى المعاذير، لكن أيّها كان صادقاً؟

لقد اخترت هذه النماذج من قائمة الصحابة.
صحابة الرسول الذين سمعوا، وشاهدوا، وعرفوا، أكثر مما سمعنا وشاهدنا، وعرفنا.
لقد كان هؤلاء من نفس القائمة التي كان منها الأبطال المخلصون، أبو ذر، وعمّار، وسلمان، وبلال.
بلا شك كان (ابن العاص) و (الأشعري) يعرف كل شيء عن المسؤولية، وعن الواجب، وعن خط الشريعة القديم.
لكنّها لا تعمى الأبصار، وإنّما تعمى القلوب التي في الصدور.
فمهما يكن الشخص عالماً، واعياً، مشحوناً بقضايا العلم والدين، فإنّ ذلك لا يكفي للثقة بمواقفه ورؤيته، إذا لم يتجرّد عن دوافع الأنا ونزعات الذات.
ومن ذلك يصبح المطلوب هو أن نعرف:
كيف نحدّد مسؤوليتنا بعيداً عن المزاج، والعاطفة، والطموحات الشخصية.
وهذا أمر لا أراه يسيراً.

ومهما يكن فإنّ علينا الآن تحديد مسؤولياتنا.
ما هو الدور الذي يجب أن نلعبه في ساحة الصراع العام بين قوى الحق، وقوى الانحراف.
وما هو الموقف الذي يجب ترسيخ أقدامنا فيه؟
بأي نفسية يجب أن نكون؟
وإذا كانت قيادتنا المعصومة مغيّبة عنّا، فهل نملك قيادات ثانوية نيابية؟
وما هو أسلوب تعاملنا مع تلك القيادات؟
لقد وجدت أنّ بالإمكان اختصار مسؤولياتنا تحت العنوان التالي:
(التمهيد للدولة الإسلامية الكبرى).
التقدّم خطوات من أجل تحقيق الإنقاذ العام للبشرية.
التمهيد لسحق آخر كتيبة من كتائب الظلم، وفتح أبعد حصن من حصونه.
التمهيد لتحقيق شرائط الوعد الإلهي القاطع.
(وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ...).(43)
إنّ البشرية التي مارست مختلف الأطروحات وحرصت على التشكيك بكل وسيلة، من أجل الحياة المطمئنة السعيدة.
ثمّ خابت كل آمالها، ويئست من كل الحلول، وتكشف لها الضلال، والخداع، والزيف حيثما ولّت وجهها، ولمست العفونة والتعسّف حيثما وضعت يدها.
إنّ هذه البشرية التي حرفتها أيادي الغاشمين، المستبدين عن رسالة السماء، ستعود إلى رسالة السماء.
ريثما تنكشف الخدعة، وريثما يتجهّز الحق للهجوم الأخير الظافر.
فتملأ الأرض بالقسط، وتسود العدالة.
ماذا علينا الآن؟
ما علينا إلاّ أن نواصل العمل. أن نكسب انتصارات، أن نحقّق أهدافاً. أن نفتح حصوناً.
أن نكتشف الخدع والمؤامرات.
أن نفضح الغاشمين، فراعنة الأرض في كل مكان.
أن نفتح عيون البشرية على الطريق.
أن نمسك الزمام ثمّ نتقدّم.
إنّك حين تكسب واحداً للحق، تكون قد مهّدت لدولة الحق, وحينما تفضح زيف الباطل تكون قد عرقلت مسيرته.
إنّ ساعة النصر قريبة لكنها مرهونة بمقدار ما نحققه من انتصارات جزئية، تمزّق كبد الظلم والطاغوت، وتدعم جبهة الحق، وشعوب الحق.
إنّ مسؤوليتنا هي:
أن نقطع مسافة أكبر من الطريق الذي بدأه الأنبياء والمرسلون والأوصياء، والذي سلكه كل المناضلين من أجل الحق.
إنّ هذا الطريق الذي وصل محمّد صلى الله عليه وآله إلى آخر حلقة من حلقاته.
ودخل آخر منعطف من منعطفاته. إنّ علينا أن لا نقف فيه وإنّما نمضي.
لقد أصبحنا وأصبحت البشرية على شرف النصر الساحق.
وإنّ مسافة ليست طويلة هي التي بقي علينا أن نقطعها.
وحينما نكون أمام النتيجة نجد راية القائد المنتظر في أوساطنا، ومن داخل جبهتنا.
البشرية بانتظار قيادتنا.
لقد جزعت من كل الحلول والقرارات، والبروتوكولات.
أصبحت تضج بما حولها.
هائمة في مجاهل الظلام.
والمصباح بأيدينا، يجب أن نوصله.
لتهفو البشرية إلينا بكل شغف.
وتهوي إلى وحي السماء أفئدة أهل الأرض المعذّبين.
تلك هي مسؤوليتنا.
وعن ذلك نحن محاسبون.
لقد جعلنا الله والقرآن أمّة وسطاً، وشهداء على الناس، والرسول علينا شهيداً.
ورسالة السماء بيدنا أمانة، نحن استلمناها، وتعهّدنا أن لا نبيعها رخيصة.
كيف نفرّط بهذه الأمانة؟
أم كيف ننسى قيمومتنا، وشهادتنا على الناس؟
ولو نسينا أليس الرسول علينا شهيداً، فمن يبرّئ عنده ساحتنا؟

لقد وجدت أنّني أملك البرهان الواضح على مسؤوليتنا التي تحدّثت عنها.
هذا البرهان آخذه من الرسالة التوجيهية القيادية التي كتبها القائد المنتظر للشيخ المفيد.
لقد كتب إليه وهو يوجّه الحديث لكل الشيعة في الأرض، حملة راية الإسلام الحرّة الأبيّة:
اتّقوا الله جلّ جلاله.
وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم...(44)
أرأيتم ماذا يطلب؟
العمل الدائب، إعانته في تحقيق أهدافه الكبرى، مظاهرته في عملية إنقاذ العالم وإنقاذنا.
اتخاذ كافة التدابير الموصلة لذلك، والتي تضمن نجاح ثورته المظفّرة.
(ظاهرونا على انتياشكم..).
لا تتركوا الساحة لغيركم.
لا تقفوا وسط الطريق.
لا تطرحوا من أيديكم سلاح الحق.
إنّنا عند ندائكم، وفي انتظار لحظة الحسم، فأعينونا، وظاهرونا، ومهّدوا الأرض.
امسحوا العراقيل، إردموا الثغرات، افتحوا عيون الناس عليكم. وستجدون أنّني هنا.
هكذا يقصد القائد المنتظر.
ولقد أصبح واضحاً ـ وأنّه لواضح من قبل ـ كما تحدّث الإمام الصادق عليه السلام:
لقد سأله الراوي عن مسؤولية زمن الغيبة، حيث الفتن، والضلال وتيارات الانحراف.
قال: فكيف نصنع؟
وهنا نظر الإمام إلى شمس داخلة في الصفّة، فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس؟
قلت: نعم
قال: (والله لأمرنا أبين من هذه الشمس).(45)

والآن أفضّل العودة معكم إلى طبيعة مهمّتنا بنحو أكثر تفصيلاً.
فلقد قلت: إنّ مهمتنا يمكن أن نختصرها كالتالي:
"التمهيد للدولة الإسلامية الكبرى".
وأعتقد أنّ ذلك بحاجة إلى تفصيل أكثر.
فما هي حدود هذا التمهيد ؟ وما هي كيفيته؟
وإجابة على هذا السؤال سأتحدّث عن العمل المطلوب منّا في إطارين:
الأوّل: العمل على صعيد الذات.
الثاني: العمل على صعيد الخارج.
أولاً: العمل على صعيد الذات
كيف نعمل على مستوى ذواتنا؟
أقصد.. بأي نفسية يجب أن نواجه مشكلتنا؟
وعلى أي محتوى، وعلى أي استعدادات يجب أن نطوي صدورنا؟
إنّنا نواجه مشكلة عنيفة، وفي غاية العنف.
إنّنا نعيش صراعاً مريراً قاسياً غاية القسوة.
حكم الطاغوت والفراعنة يستبد، ويتجبّر، ويُبيد.
والباطل يعمّ وينتشر ويقارع الحق بأخبث كيد، وأعقد وسيلة.
الباطل يتسرّب باتجاهاته، وتياراته إلى صفوف الحق.
وكثيرون راحوا ضحية هذه الاتجاهات المدسوسة.
الانحراف عن الحق لم يعد أمراً غريباً.
أصبحت ترى مظاهر الانحراف في كل مكان وفي كل جادّة، وفي كل بيت!
والانحراف هو الذي يملك الحكم، وأجهزة السلطة.
يملك الجند، والشرطة، وأجهزة الأمن.
يملك المادّة,  والسلاح، والرجال.
يملك وسائل الإعلام، وسبل الدعاية.
حقارته تزداد يوماً بعد يوم.
يقتل، يشرّد، يعذب، يحبس.
يخادع، ينافق، يمكر، يغوي.
وغرق كثير من الناس في البحر، وطمّهم الموج.
ابتعدوا عن النور.
ركضوا وراء كل صيحة.
نعقوا وراء الناعقين.
لا ثبات لهم على الأرض.
ولا قرار لهم على رأي، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.
والخطر يداهم كل واحد منا.
لم تبق بيننا وبين الانحراف حدود، ولا سدود.
تداخلت الجبهات، فالباطل يعيش في ديار الحق.
هذه هي مشكلتنا.
ومعها.. فإنّا نريد النصر لجبهتنا، نريد أن لا ننحرف، ولا ننصهر، ولا نيأس.
نريد أن نتقدّم كل يوم، نخنق أنفاس الباطل، نضيّق عليه الأرض.
غزو متبادل، ومعركة في غاية التعقيد والضراوة.
فصائل من قوى الانحراف انضمت إلى جبهة الحق.
وفصائل من قوى الحق أسرها الانحراف، فاستسلمت.
كيف نعمل على مستوى ذواتنا إذن؟ من أجل حمايتها.
ومن يدّلنا على طبيعة هذا العمل؟
مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي التي تحدّد لنا طبيعة العمل.
إنّ علينا أن نلتزم بثلاث:
الثبات:
حينما نعرف أنّنا على حق فما علينا إلاّ أن نثبت.
وحينما نعرف أنّ خصومنا على ضلال فما علينا إلاّ أن لا نتنازل لهم.
(يُثَبّتُ اللهُ الّذينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثّابِتِ..).(46)
هل تعرفون ثبات أبي ذر، وميثم التمّار وحجر بن عدي؟
لقد ثبت أبو ذر.
كيف ثبت؟
لقد أربك الانحراف، حتى اضطرّوا إلى نفيه للربذة، الخالية من الناس والخالية من القوت، ولكن شيئاً من ذلك لم يمنعه عن الإصراح بالحق، والصراخ في وجوه الظالمين.
ولقد قال له علي ساعة توديعه وهو راحل إلى الربذة:
"يا أبا ذر إنّك غضبت لله، فارجُ من غضبت له.
إنّ القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك".(47)
ولقد ثبت ميثم التمّار، ولم يعبأ أن تقطع يداه ورجلاه، ثم يقطع لسانه.
فهو مشدود إلى جذع نخلة، لم ينقطع عنه نزيف الدم، كان يفضح الباطل، ويشهّر بحكم الطواغيت، ويعرّف الناس بالحق.
ويلقّنهم درساً في الثبات والنضال، حتى اضطرّ خصومه لأن يقطعوا لسانه فيكفّ عن الكلام.
وأنت تعرف حجر بن عدي، بطل من أبطال جبهة علي عليه السلام.
هؤلاء كيف ثبتوا؟
لقد وثقوا أنّ الحق معهم، والحق لا يعدله شيء، والهزيمة عن الحق ارتماء في أحضان الضلال، وجرم ليس مثله جرم.
(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فأولئك حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في الدُنيا وَالآخِرَة).(48)
ولقد شرح لنا الحسين عليه السلام قيمة الثبات، وهو في معرض الحديث عن القائد المنتظر، فقال:
(له غيبة يرتدّ فيها أقوام، ويثبت على الدين آخرون، ويقال لهم: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ أما أنّ الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله).(49)
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
"إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسّك فيها بدينه كالخارط للقتاد.. ثمّ قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليتمسّك بدينه".(50)
والثبات يتطلّب منّا جهداً.
فعلينا أن نعرف مواقع العدو، وخدع العدو.
وعلينا أن نحصّن أنفسنا بالسلاح الكافي للحماية، والكافي للهجوم في ذات الوقت.
علينا أن نعرف كاملاً عقيدتنا، لنملك حينذاك تمام الثقة بها، والقدرة على الدفاع عنها، فإنّ العقل الفارغ مغارة إبليس كما ورد في الحديث الشريف.
علينا أن نكتشف باستمرار زيف التشكيلات التي يقدّمها أعداؤنا.
ثم علينا أن نعرف أنّ القضية قضية نفس لا بدّ أن نعوّدها الصبر، والعزّ، والإقدام، والتضحية, والشجاعة.
يجب أن نصبح على مستوى قضيتنا، فكل شيء إزاءها رخيص وكل شيء من أجلها يهون.
ولنتمثل جيداً منطق المقداد حين استشار رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه للحرب، فقام إليه وقال:
"يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك.
والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون".(51)
يحدّثنا عمّار الساباطي، أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام:
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيّما أفضل العبادة في السر مع الإمام منكم المتستّر في دولة الباطل، أو العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام منكم الظاهر؟
فقال:  يا عمّار: الصدقة في السرّ أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك والله عبادتكم في السر مع إمامكم المتستّر في دولة الباطل وحالة الهدنة أفضل ممن يعبد الله عزّ ذكره في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق.
وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق.
ولقد عجب عمار وهو يسمع هذا الجواب من الإمام، ولم يكتم استغرابه، فقال:
"قد والله رغّبتني في العمل، وحثثتني عليه.
ولكن أُحب أن أعرف كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق، ونحن على دين واحد.
فقال:
إنّكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل، وإلى الصلاة والصوم والحج، وإلى كل خير وفقه، وإلى عبادة الله عزّ ذكره سراً من عدوكم، منتظرين لدولة الحق، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك والظلمة.. مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوّكم، فبذلك ضاعف الله عز وجل الأعمال، فهنيئاً لكم".(52)
وهكذا يصبح الثبات عظيماً، حين نعيش تحت سيطرة الظلم، دون أن نصافحه، أو نلين له.

إذا كنّا نريد أن نخدم الحق، ونقدّم له، فإنّ الثبات أولاً شرط ذلك. وإذا كنّا قد خسرنا من جبهة الحق عدداً من الناس، فلماذا نخسر أنفسنا، ونضيّع على الحق حتى طاقتنا نحن؟!.
ومهما يكبر حجم الضلال، ويزداد عدد الزالقين في واديه، فإنّه لا يجوز لنا أن نترك الساحة خالية من أحد، ونولّي للمعركة دبرنا، إنّا إذن لظالمون.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ.. فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ..).(53)
والمعسكر يتكوّن من آحاد.
أولسنا نشكّل أولئك الآحاد لنكوّن معسكراً.
لقد تحدّث الإمام الصادق عن ضرورة الثبات في عصر الغيبة قائلاً: " كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع الله عليكم نجمكم".(54)
لا ننحرف إلى يمين أو شمال.
لا تجذبنا عن مواقع الحق إغراءات الباطل.
ولا تقلعنا من أرض الصدق رعدات الفراعنة واليزيديين.
أم نريد أن نكون مثل قوم موسى؟
حين غاب عنهم نبيّهم أربعين ليلة فاتخذوا العجل إلهاً.
(قالوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتى يَرْجِعَ إليْنا مُوسى).(55)
لقد ذهبوا مثلاً في التأريخ.
مثلاً للسقوط في الفتنة، والفشل عند الامتحان.
لقد كانت لهم فتنة أن غاب عنهم نبيّهم، وأغواهم السامري.
وإنّا لفي فتنة يضل فيها من يضل، ويثبت فيها الثابتون.
لقد روي عن إبراهيم بن هليل أنّه قال لأبي الحسن عليه السلام:
"جعلت فداك مات أبي على هذا الأمر، وقد بلغت من السنين ما قد ترى، أموت ولا تخبرني بشيء؟
فقال:
يا أبا إسحاق، أنت تعجل!
فقلت: أي والله, وما لي لا أعجل، وقد بلغت من السن ما قد ترى؟
فقال:
يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتى تميّزوا وتمحّصوا وحتى لا يبقى فيكم إلاّ الأقل..".(56)
الانتظار:
وعلى مستوى ذواتنا أيضاً، وكأسلوب من أساليب تحصينها ضد الانحراف، وتجهيزها للعمل والنشاط, علينا أن نكون في حالة انتظار.
في حالة ترقّب دائم مستمر لبزوغ فجر الثورة الكبرى، ثورة القائد المنتظر.
يجب أن نعيش حالة توقّع غير يائس، ولا جازع.
عيوننا متطلّعة للحدث الأكبر.
أسماعنا متلهفة لاستماع خبر النهضة العظمى.
أفئدتنا مفعمة بالشوق والشغف لساعة الوعد الإلهي.
أن نكون على أهبة الاستعداد.
ننتظر المفاجأة ونستشرف لمواجهتها.
لا يغيب عن بالنا قضية الإمام المنتظر.
ولا ننسى الوعد الإلهي بالنصر الظافر.
هكذا أراد لنا الأئمّة أنفسهم، وسجّلوه كموقف يجب أن نتخذه, وكحالة نفسية يجب أن نستشعرها ونعيشها باستمرار.
استمع معي للإمام علي عليه السلام وهو يقول:
" انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فإنّ أحبّ الأعمال إلى الله انتظار الفرج".(57)
واستمع لحديث آخر عن أبي الجارود من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام:
"قلت لأبي جعفر عليه السلام: يا ابن رسول الله هل تعرف مودّتي لكم وانقطاعي إليكم، وموالاتي إيّاكم؟.
فقال: نعم..
والله لأعطينّك ديني ودين آبائي الذي ندين الله عز وجل به:
" شهادة لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله.. وانتظار قائمنا والاجتهاد والورع".(58)

ولكن لماذا الانتظار؟
ما هي طبيعته؟
ما هو مردوده النفسي؟
لا حاجة إلى تأكيد القول: إنّ الانتظار يعني في جملته حالة الأمل، وعدم القنوط.
الأمل الذي هو شرط لكل حركة، نحن مدعوّون إلى تمثله دائماً.
واليأس الذي هو مدعاة للانحراف، المطلوب منّا رفضه واقتلاع جذوره من أعماق وجداننا.
الانتظار يعني أنّنا ما زلنا على أمل بالنصر.
لا مجرّد أمل، وإنما ثقة مطلقة بتحقق هذا النصر.
فالذين يأملون في شيء قد لا يملكون قناعة بأنّهم سينالوه، وهم ينتظرون لكن على وجل وفي ريبة.
كل الناس يأملون بانتصار الحق، ومحق الباطل، مسلمين وغير مسلمين، لكن من يملك اليقين الذي نملكه؟
والذي كان يملكه الأنبياء والأوصياء، ويغرسونه في نفوس أشياعهم.
إنّنا لا نأمل بالنصر، وإنّما نرى أنفسنا ونحن نقترب منه.
لا يمضي يوم إلاّ وتكون المسافة قد تقلّصت، وأصبحنا على المشارف.
هذا هو معنى الانتظار المطلوب.
أن لا يخامرنا شك، أدنى شك في أنّنا سننتصر.
أن نرى بعين البصيرة رايات الحق تتقدّم، وها نحن ننتظرها كيما تصل إلينا أو نصل إليها.
والذين يصابون باليأس يفقدون السلاح وهم وسط المعركة.
فما أيسر أن يقعوا في أسر الضلال والانحراف، وتلك هي الفتنة, وقد قال الإمام عليه السلام:
" إنّ هذا الأمر لا يأتيكم إلاّ بعد يأس".(59)
ومن هنا تأتي قيمة الانتظار.

على أنّ الانتظار له مدلول آخر، ومعنىً عميق غاية العمق.
هذا المدلول هو الذي يفسّر لنا لماذا كان الانتظار مطلوباً، وواحداً من مسؤولياتنا مع ذواتنا؟
فالانتظار تعبير عن قناعتنا بجدارة الحل الإسلامي.
واستعدادنا لتقبّله، والمشي في ركبه.
من يعيش حالة الانتظار لنهضة القائد المنتظر، لا يستطيع إلاّ الثقة بحيوية الإسلام، وقابليته الأزلية على حلّ مشاكل البشرية، وسكب السعادة في قلوبها الحرّى.
أنت حينما تنتظر من رجل القانون أن يرسم لك حلّ المشكلة، أو يختار لك الصيغة المفضّلة، فإنّك لا محالة واثق بقدرته، وجدارته ولو لا ذاك فإنّك لم تكن مستعداً للتفاهم معه في حل المشكلة.
وأنت حين تزور طبيباً تطلب الدواء، لا تفعل ذلك عبثاً، وإلاّ كان من الأيسر لك أن تذهب إلى جيرانك وتعرض له مرضك، وإنّما أنت على قناعة كافية بأنّ الطبيب هو الجدير والمؤهّل لإعطاء العلاج، وتشخيص الداء، ولذا فأنت تؤثر زيارته، وتنتظر منه.
فالانتظار إذن هو القناعة بالجدارة والأهلية.
ونحن حينما ننتظر الحل الإسلامي الذي يسود العالم كله تحت راية القائد المنتظر، لا بد أن نكون على أعمق الثقة بهذا الحل.
فالتقدّم الحضاري، والتطوّر الذي شهدته الأرض.
والتقلب الذي عمّ كل شيء، في التركيب الاجتماعي، والوضع الاقتصادي، وطبيعة الحالة النفسية العامة.
إنّ كل ذلك لا يغير من واقعية الإسلام، وقدرته على النجاح، سواء على مستوى النظرية، أو على مستوى التطبيق.
فسيبقى الإسلام هو الحلّ الحتمي أزلاً وأبداً.
ومهما انحرفت البشرية عنه، فإنّها ستؤوب إليه، وستجده حينذاك مصدر كل السعادة، ومقتلع جذور الشقاء في الأرض.

إذا كان علينا أن ننتظر, فما هي طبيعة الانتظار المطلوب؟
هناك نوعان من الانتظار:
الانتظار الجامد، والانتظار المتحرّك.
انتظار أشبه بالموت، أو هو الموت.
وانتظار أشبه بالحياة، أو هو الحياة.
الأسير المقيّد بالأغلال، والمدفوع نحو المقصلة، ينتظر.
والبطل الذي يخوض غمار الحرب، وهو شاكي السلاح، شديد العزم، ينتظر أيضاً.
كل من هذين ينتظر الموت والقتل.. لكن هناك فرق كبير بين نوعي الانتظار.
فالأوّل مستسلم، لا يستطيع حراكاً، ولا يفكّر حتى في الفرار.
والثاني متحرّك، مقدام، ينتظر الشهادة بكل بطولة, بل هو يسعى إليها، ويرحّب بها.
فكيف علينا أن ننتظر القائد المنتظر؟
الإجابة على هذا السؤال نأخذها من القرآن، ومن محمّد صلى الله عليه وآله، ومن أهل البيت عليهم السلام.
من هذه المدرسة الواحدة نأخذ الإجابة الصحيحة.
لقد كان محمّد صلى الله عليه وآله ينتظر.
كيف كان ينتظر؟
كان القرآن يأمره بالانتظار، أيّ انتظار ؟
(وَقُلْ للّذينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا على مَكانَتِكُم إنّا عامِلُونَ، وانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ).(60)
لقد انتظر النصر والفتح، لكن هو الذي كان يمهّد للنصر وللفتح لا غيره.
لم يكن يطلب أن يأتيه النصر منحة خالصة من السماء ومن دون ثمن.
لقد هاجر، ولقد قاتل، ولقد دعا، ولقد عمل كل شيء في سبيل النصر، ثم كان ينتظر النصر.
الانتظار في القرآن، وعند محمّد صلى الله عليه وآله رديف العمل (اعمَلُوا على مَكانَتِكُمْ، إنّا عامِلُونَ ).
(وَانْتَظُرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ ).
فهناك عمل ثم انتظار.
الانتظار في مفهوم القرآن لا يعني الجمود والتوقّع البارد الزائف الميت.
إنما يعني التربّص، المداورة مع العدو، التحرّك في شتّى الطرق، استغلال لحظات الضعف، عدم تضييع الفرص، هذا هو التربّص وهو الانتظار القرآني.
(قُلْ كُلٌ مُتَرَبّصٌ، فَتَرَبّصُوُا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصْحابُ الصّراطِ السَّوي، وَمَنِ اهتَدى).(61)

ولقد انتظر أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله.
كيف انتظروا؟
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ).(62)
لكنه لا ينتظر أن يأتيه الموت، وهو في قعر داره.
وإنّما يتقدّم ليكسب الموت، أو يكسب الفتح، فما هو إلاّ إحدى الحسنيين.
لقد كان أئمّتنا ينتظرون الفرج، ويوصون أصحابهم بالانتظار.
وكما ننتظر اليوم قائم آل محمّد، لقد كانوا مثلنا ينتظرون.
لكن هل تركوا العمل والتضحية، والنشاط الدائب من أجل الحق.
هل وقفوا أسارى الصدف؟
إنّ انتظارهم لم يكن يعني إلاّ الاستعداد الدائم والعمل المتواصل، في السرّ أو في العلن، والتمهيد للنتيجة المطلوبة.
هذا هو الانتظار في مفهوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
بث الدعوة، وتوجيه الناس.
تحصين قواعد الشيعة، وتوسيع دائرتها.
ألم يبارك الأئمّة ثورات العلويين.
ثورة زيد، والنفس الزكية، وحركات الحسنيين المتصلة.
لقد مدّوا لها جميعاً يد العون في السر، بينما كانوا يحافظون على الخطوط الخلفية، ويحصنون قواعد الشيعة في ذات الوقت.
ألم تكن أموالاً طائلة تصب في دورهم ليلاً، وتجمع لهم سرّاً؟
أين كانت تصرف؟ وما معنى هذا العمل؟
لو عرف الأئمّة من الانتظار معنى الجمود فلماذا طاردهم العدو، واضطهدهم ورماهم في غياهب السجون؟!
فالانتظار عمل وليس سكوناً.
ومن هنا كان " أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج " كما عبّر الإمام(63)، فإذا كنا مدعوّين إلى الانتظار، فإنما نحن مدعوون إلى العمل إلى الانتظار المتحرّك الحي، لا إلى الانتظار الجامد الميت.
وفي الحديث عن علي بن الحسين عليه السلام:
يا أبا خالد: إنّ أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان...
أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً".(64)
إنّ مثلنا في عصر الغيبة مثل الطليعة التي تنتظر كتائب الجيش.
بعد أن تكون قد مسحت لها الأرض، وكشفت لها الساحة.
توطيد الصلة مع القائد المنتظر:
وثالث الأمور التي علينا توطيد صلتنا مع الإمام المغيّب بواسطتها:
ربط قلوبنا به.
التعاطف مع قضيته.
استشعار وجوده، وحياته.
الدعاء له بالفرج، والأمان والقرار والنصر العاجل.
الحديث معه، والشكوى إليه، كما لو كان أمامنا.
ولقد حدّثتكم فيما سبق عن عطاء هذا الاتصال، ومردودات هذا الارتباط.
إنّ مضامين هذا الارتباط كثيرة.
وسأنقل لكم بعض الصور الحيّة من هذا الارتباط.
هذه الصور الحيّة تجدونها في الأدعية والمناجاة، والزيارات.
لقد وضعها لنا أهل البيت لتعريفنا بطريقة التعامل مع قائدنا المنتظر.
ومهما أبلغ في القول، فإنّي لا أستطيع أن أجسّد لكم الحالة النفسية التي يستشعرها من يمعن في تلكم الأدعية، والمناجاة.
ذلك ما أتركه إليكم، وإلى ممارستكم، أمّا هنا فاستعرض معكم بعض تلك المضامين، بما تحدثه من مردود نفسي عميق.
تجديد البيعة:
"اللّهم إنّي أجدّد له في هذا اليوم، وفي كل يوم عهداً، وعقداً، وبيعةً في رقبتي".
"اللّهم إنّي أجدّد له في صبيحة يومي هذا، وما عشت من أيامي، عهداً وعقداً وبيعة, له في عنقي لا أحول عنها، ولا أزول أبداً ".
ماذا تعني هذه البيعة؟
وما يعني هذا العهد والعقد؟
البيعة هنا تعني أنّك ما تزال على درب الحق، مصمّماً على المضي فيه، لا تميل عنه، ولا تتّخذ من دونه بدلاً.
فأنت تعرف قيادتك الحقيقية.
وأنت تعرف أنّك على جادّة الحق المنشود.
فتصمد أمام تيارات الانحراف، أمام اتجاهات الضلال.
من اليمين جاءت أم من الشمال.
أمام كل دعوة غريبة، لا تنتمي إلى جبهة الحق.
أنت لا تعترف بأي قيادة أخرى.
أنت رافض، وكلّّك رفض لقوى الشر والاعتداء في الأرض، المقنّعة بالحرير الأملس.
لا تضع يدك بيد كل أحد سوى قيادتك الرشيدة.
ولا تنتمي إلى أي جبهة سوى جبهة القرآن.
إنّ في عنقك بيعة.
وأنت عضو في جبهة، تحت قيادة صاحب الوعد الإلهي القاطع.
إنّ اتجاهك الذي أنت عليه هو الحق وحده، فلا يأخذك شك ولا يحلّ لك أن تستريب
" أشهد يا مولاي أنّك والأئمّة من آبائك أئمّتي ومواليّ في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد".
" اللهم صلّ على وليّك وابن أوليائك الذين فرضت طاعتهم، وأوجبت حقّهم، وأذهبت عنهم الرجس، وطهرتهم تطهيراً".
إنّك تؤكّد عهدك، وتجدّد عزمك، في هذه الكلمات.
الرغبة في دولة الإسلام:
"اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد، وأنجز لوليّك ما وعدته.
اللّهم أظهر كلمته، واعل دعوته وانصره على عدوّه وعدوك يا رب العالمين.
اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد وأظهر كلمته التامة. اللّهم انصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً. اللهم وأعزّ الدين به بعد الخمول. اللّهم املأ به الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً"
"اللّهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله".
هذا الدعاء.. ليس فقط دعاء.
وإنّما هو دعاء وهو في ذات الوقت شدّك إلى الإسلام وتوثيق علاقتك به.
وحينما تنشدّ إلى القيادة الإسلامية الرشيدة، المتمثلة في شخص القائد المنتظر، فإنّك بذلك ترتبط بالإسلام وتنشدّ إليه.
فالقضية أوّلاً وأخيراً هي قضية الإسلام.
وأنت في هذا الدعاء تنفتح على الإسلام، فترى الظلم متسلّطاً في كل مكان وفي كل حكومة وتحت كل راية، سوى حكومة الإسلام، وراية الإسلام، ودولة الإسلام.
تلك هي الدولة الكريمة، التي تجسّد كلمة الله في الأرض.
أنت، وأنا، وكل مؤمن، نرغب من الأعماق في تلك الدولة الكريمة لأنّنا نجد فيها العدالة، والمثل الإنسانية وكل خير.
ونحن لا نريد الظلم، بل نريد العدالة.
نريد أن تملأ الأرض بالقسط والعدل، وينزاح كابوس الظلم، الذي يخنق أبناء آدم في كل الأرض.
هذه صورة من طبيعة الدعاء للقائد المنتظر
دعوة إلى المشاركة:
"اللّهم..
اجعلني من أنصاره وأشياعه والذابّين عنه.
اجعلني من المستشهدين بين يديه.
طائعاً غير مكره.
في الصف الذي نعتّ أهله في كتابك فقلت (صَفّاً كَأَنّهُم بُنيانٌ مَرْصَوص).(65)
"اللهم..
اجعلنا في حزبه، القوّامين بأمره، الصابرين معه.
اجعلنا ممن تنتصر به لدينك، وتعز به وليك.
ولا تستبدل بنا غيرنا، فإنّ استبدالك بنا غيرنا عليك يسير وهو علينا كثير..".
هو وإن كان دعاءً لكنه يعلّمك شيئاً كثيراً من مواصفات الرجل الرسالي.
هو دعاء.. لكنه يعلّمك أنّك مدعو إلى المشاركة والنصرة والتضحية.
العزلة لا مجال لها.
السكون ليس موقف الرجل الرسالي.
كن من أنصار الحق، والدعاة للحق.
لا يسبقك الآخرون فتندم يوم لا ينفع الندم.
(إلاّّ تَنْفِرُوُا يُعَذّبْكُمْ عَذاباً ألِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمَاً غَيْرَكُم..).(66)
ذلك على الله يسير.
لكنّه يجب أن لا تختاره لنفسك، ولا لوجودك.
يجب أن يكون عليك كبيراً أن تتراجع عن الحق، ويتقدّم غيرك.
كن في صف المناضلين.
في صف الذين لا يخافون في الله لومة اللائمين.
في حزب الله، وحزب القائد المنتظر.
جندياً في الإقدام والبسالة.
قدوة للآخرين.
صابراً على تعب المعركة، وعنائها.
هكذا يعلّمنا الدعاء.
أرأيت حيوية هذا الارتباط بالقائد المنتظر؟!
أنت تدعو.. وأنت تتعلّم في وقت واحد قيم الإسلام، وشرف معركة الإسلام.
أنت تدعو.. وأنت تسمو، وتزداد يقيناً وإصراراً على الحق.
ذلك هو الدعاء العظيم.
رفض الطواغيت
"اللّهم.. قوّ ناصريه واخذل خاذليه ودمدم من نصب له ودمّر من غشّه واقتل به جبابرة الكفر، وعمده، ودعائمه واقسم به رؤوس الضلالة، وشارعة البدع، ومميتة السنة، ومقوية الباطل. وذلّل به الجبارين. وأبر به الكافرين، وجميع الملحدين، في مشارق الأرض، ومغاربها، وبرّها، وبحرها، وسهلها وجبلها، حتى لا تدع منهم ديّاراً، ولا تبقي لهم آثاراً.
طهّر منهم بلادك، واشف فيهم عبادك..".
الإسلام يرفض الظلم، والجبابرة، والطواغيت.
والتشيع وحده هضم من الإسلام هذه الخصلة، لأنّ التشيع هو الإسلام بدون تحريف.
ولقد ضرب التشيّع مثلاً رائعاً في الإباء.
وبقي القاعدة الحصينة التي لم تستسلم.
لا يجوز الاستسلام للظلم، ولا السكوت عنه.
لا تربط بيننا وبينه مودّة، ولا عاطفة.
ولئن عجزنا يوماً عن ضربه، فإنّنا لا ننسى بغضنا له، ولا ننسى الرجاء في أن يزول، وتمور به الأرض موراً.
حتى في الدعاء والمناجاة نجسّد إباءنا، وبراءتنا.
إنّنا أحرار ... نعمّق ذلك ونؤكّده حتّى في الدعاء.
لكي نتذكّر دائماً الخصلة التي شرّفتنا، وميّزتنا عن أناس صالحوا الظلم، وخدموه، وهم يدّعون الإسلام.
هذا الدرس تجده في مناجاتك للقائد المنتظر.
فأي مناجاة هذه التي تحوي روائع الدروس.
علاقة مودّة
أيّها القائد المنتظر
"هل إليك ـ يا ابن أحمد ـ سبيل فتلقى؟
هل يتّصل يومنا منك بعدة فنحظى؟
متى نرد مناهلك الروّية فنروى؟
متى ننتقع من عذب مائك فقد طال الصدى؟
متى نغاديك ونراوحك فنقرّ عيناً؟
متى ترانا ونراك؟
وقد نشرت لواء النصر..
هذه المناجاة المملوءة بالحب والمودّة، والحنان.
هذه المناجاة التي هي أشبه بالشعر، وليست بشعر.
هذه المناجاة التي تسكب في النفس أعمق معاني الودّ والإخلاص.
هل تفاعلت معها، لتشعركم تحدث فيك انقلاباً؟
إنّ علاقتك بقائدك المغيّب ليست فقط علاقة هدف، ومبدأ وقيادة.
وإنّما لا بد أن تعيش في نفسك الحب العميق لهذه القيادة.
حتى تحن إليها كما تحن إلى أغلى شيء في حياتك.
إنّها قيادتك التي تنتظر يومها السعيد.
إنّها معقد آمالك.
إنّها تكمن لك الحب والاحترام والتقدير.
إنّها تعيش همّك ومأساتك.
إنها تحمل إليك معنى الأبوّة.
لكنّها مضطرة إلى الاحتجاب عنك.
وهي تشكو من لوعة هذا الاحتجاب.
تنتظر ساعة لقائها مع قواعدها وأنصارها ومحبّيها تحت لواء النصر.
المناجاة هذه المرّة تعطيك شحنة عاطفة وحب.
ترضي خاطرك وتهدّئ عليك من اللوعة.
ما أحلى هذه المناجاة!!
ثانياً: العمل على صعيد الخارج
لقد كان ما مضى حديثاً عن العمل على صعيد ذواتنا، واستطعنا أن نعطي بعض الأضواء حول طبيعة هذا العمل.
السؤال الآن:
ما هو عملنا على صعيد المجتمع والأمّة.
ما هو الدور الذي يجب أن ننفّذه في عملية التمهيد للدولة الإسلامية الكبرى، تلك الدولة التي نقترب يوماً بعد يوم من بزوغ فجرها الأصيل.
أي موقف نتّخذه في داخل جبهتنا، وبعضنا مع البعض الآخر؟
ثم أيّ موقف نتّخذه مع الآخرين من غير جبهتنا؟
إنني ما زلت أشعر بصعوبة الوغول في هذا البحث، وأجد أن ليس بالإمكان إلاّ إعطاء بعض الخطوط العريضة.
ثم إنّي أحاول أن استلهم هذه الخطوط من توجيهات قادتنا أنفسهم، الأئمّة من أهل البيت، ومن مدرسة القرآن، ومحمّد صلى الله عليه وآله.
وفي هذا الضوء فإنّ بالإمكان أن نؤكّد على ثلاث من مهامّنا:
الدعوة إلى الحق:
حينما نجد أنفسنا وسط مجتمع إسلامي ـ مهما كانت درجة تعامله مع الإسلام  ـ فإنّ علينا أن نتذكّر بتقدير السواعد التي شيّدت صرح الإسلام وأمدّته بمصدر الحياة إلى اليوم وإلى الأبد.
كم هي تلك الجهود الأبيّة؟
وكم هي التضحيات التي قدّمت في هذا السبيل؟
من يحصي عدد الشهداء الذين سخوا بدمائهم؟
وماذا كان يصير مستقبل الإسلام، لولا ذاك الصبر، والتحمّل، والجهاد.
ولولا تلك الجهود، والسواعد، والدماء.
ولا أعرض عليك، تأريخ البطولات، تأريخ الدم.
بإمكانك أن تبدأ منذ كانت الدعوة للإسلام سراً لا يجهر به.
ثم الهجرة إلى المدينة والعمل هناك.
ثم معارك بدر وأحد والأحزاب وخيبر.
ثم جهود عليّ عليه السلام ورفاقه الأبطال.
ومعارك الجمل وصفّين، والنهروان.
ثم حجر بن عدي ورفاقه.
ميثم التمّار ورفاقه.
ثم ثورة الحسين، والثورات التي أعقبتها، والجهود التي سبقتها.
ثورة التوّابين، والمختار.
ثورة زيد، وإبراهيم ومحمّد ذي النفس الزكيّة.
ثورات الحسنيين التي لم تنقطع.
وفي خلال تأريخ الدم هذا.. كم هي الجهود العظيمة التي قدّمت في إطاره.
كم هي الجهود العلمية الضخمة؟
كم هو العناء الذي تحمّله الشيعة في الدعوة للحق؟
الدعوة التي مارسها التشيع خلال أزمنة طويلة، وفي ظل أقسى الظروف.
تلك جهود ضجّت بها صفحة التأريخ الإسلامي.
وإننا لنعيش اليوم ثمرة تلك الجهود.

فأنت ترى من خلال هذا التأريخ أنّ كيان الإسلام كلاً قام على الدعوة، بمختلف أشكالها، وبكل ما تتطلبه من مقدّمات وما تجرّ إليه من نتائج.
بكل ما يسبقها من إعداد، وما يلحقها من تضحيات.
ولقد حدّثنا القرآن عن هذه المسؤولية، وجعلها في أعناقنا
(وَكذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً، لِتَكُوُنُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..).(67)
أمّا الذين يرفضون العمل، ويريدون أن يعيشوا على جهود الآخرين، ويستأكلوا بالعلم، وبالدين، هؤلاء يخرجون عن حقيقة أساسية من حقائق هذا الدين.
إنّهم يتّخذون من الهوى ما يبرر لهم القعود، وهؤلاء هم (الّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُم لَهْواً وَلَعِباً..).(68)

مهما نسينا فإنّه لا يحق لنا أن ننسى مسؤوليتنا في عصر الغيبة.
إنّ مسؤوليتنا هي الدعوة إلى الحق.
وعصر الغيبة في هذا لا يختلف عمّا تقدّمه من عصور.
فالمسلم أينما كان، ومتى ما كان، فإنّ عليه العمل أوّلاً وأخيراً.
العمل في الإسلام ليس كمالاً، بل هو ضرورة.
والعمل في الإسلام ليس أمراً طارئاً.
التديّن هو العمل للحق ومن أجل الحق.
التديّن هو أن تعمل على مستوى ذاتك، وعلى مستوى الآخرين.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ...).(69)
استمعوا إلى محمّد صلى الله عليه وآله ماذا يقول، وهو يتحدّث عن مستقبل الأمّة في عصر الانحراف:
"إنّ من ورائكم أيّام الصبر، الصبر فيهن على مثل قبض الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون بعمله".(70)
والدعوة إلى الحق ذات أنماط وأشكال.
ومهما كان الشكل فإنّ علينا أن نوطّن أنفسنا على مضاعفات العمل.
وعمل بلا مضاعفات لا تتوقع أن يوجد في الأرض.
انفض عنك غبار الكسل والخمول.
اصبر نفسك مع الذين يدعون.
وهؤلاء الذي يثبّطون عن العمل لا تنسى الشبه بينهم وبين أبي موسى الأشعري، فمن قبل خذّل الناس عن عليّ، وهؤلاء خرّيجوا مدرسته.

هناك صنفان من الناس أنت بالخيار مع أيّهما تكون.
هناك ناس لا يعرفون سوى ذواتهم، وأهون عليهم أن يتركوا الدين ويرفضوه من أن يقدّموا من عندهم حبة شعير، أو يمسّهم حرّ الصيف أو ينالهم برد الشتاء.
لقد صارح القرآن هذا النموذج من الناس فقال:
(ما لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ، أَرَضِيتُمْ بِالحَياةِ الدّنْيا مِنَ الآخِرَةِ، فَما مَتاعُ الحَياةِ الدّنيا مِنَ الآخِرَةِ إلاّ قَليل).(71)
والقرآن أيضاً شرح حقيقة هؤلاء للرسول فقال:
(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلِيْهِم الشّقّة..).(72)
هؤلاء الناس ليسوا من مدرستك، ولا تعرفهم مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
والصنف الآخر من الناس هم:
(الّذينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قّدْ جَمَعُوُا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيماناً، وَقالُوا حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكيل).(73)
هؤلاء عرفوا أنّ الحق بحاجة إلى رجال.
وانتصار بلا عمل لا يمكن أن يكون.
وعمل بلا تضحية لا تعرفه البشرية.
إذا جمع لهم الناس لا تهتز عزائمهم، فإنّهم حينما قدموا كانوا على علم.
هؤلاء يعرفون أنّ الجهاد باب فتحه الله لأوليائه.
والذين لا يريدون العمل، ويرفضون الجهاد، هم من فسطاط النفاق بلا إيمان.
وإذا كانت الدعوة إلى الحق ضرورة، فإنّ ما تتجسّد فيه هو الدعوة إلى إقامة المجتمع الإسلامي.
المجتمع الذي يكون الإسلام فيه هو الحاكم، وهو المسيّر للحياة.
توحيد الصّف:
مرّة أخرى نرجع إلى وصايا أهل البيت عليهم السلام لنأخذ بعض الخطوط حول مسؤولياتنا.
قال الإمام الصادق عليه السلام وهو يحدّث أحد أصحابه:
"إذا أصبحت وأمسيت لا ترى إماماً تأتم به، فأحبب من كنت تحب، وابغض من كنت تبغض، حتى يظهره الله عز وجل".(74)
من أجل أن لا نتلاشى ولا نتمزق يعطينا الإسلام هذا الدرس.
فالضعف قد لا يكون وليد القلّة، بمقدار ما هو وليد التفرّق.
ومهما بلغ العدد، فإنّ ما يبقى شرطاً في الانتصار هو التكتل، وتوحيد الجبهة، ووحدة الكلمة.
إنّ وحدتنا في الهدف يجب أن تنعكس على علاقاتنا مع بعضنا البعض.
على ولائنا، وكلمتنا، وموقفنا.
فالموقف يجب أن يكون واحداً.
والكلمة يجب أن تكون واحدة.
والولاء والتعاطف يجب أن نحكّم فيه أهدافنا، فمن يشترك معنا في الهدف نشترك معه في الولاء.
أينما كنّا فالواجب علينا أن نتكاتف، ونتكتل، ونعرف أنّنا جبهة واحدة، وكتيبة من كتائب جيش الحق.
حينما تعيش وحدك، بعيداً عن الدائرة، معزولاً عن رفاقك.
فإنّ اقتناصك يكون سهلاً وسريعاً.
والقنّاصون دائماً من يكون فريستهم؟
الإنسان الفريد، التائه، المترسّل، الذي لا يعرف الطريق، هو الذي ترديه الرصاصة إلى الأرض.
ارتبط دائماً مع الكتلة، اعمل بالاشتراك مع أصحابك.
وإن لم توجد كتلة، فإنّ ما عليك هو أن تخلقها، وتكون أنت محورها.
وحينما تريد أن تعمل للحق، لماذا لا تحفّز الآخرين على العمل معك.
اعمل بتخطيط.
اشترك مع الجماعة.
كوّن جبهة.
حرّض المؤمنين على القتال.
وحتى لو كنت وحدك، اعمل كما لو كنت جبهة كاملة، وادفع كما لو كنت قلعة حصينة.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدوَةِ وَالعَشِيِّ).(75)
إنّك لست وحيداً..
إنّ الملايين من الناس معك، وأنتم جميعاً تشكّلون جيش الحق.
إنّنا أمّة ولقد أراد لنا القرآن أن نكون أمّة.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمّةً..).(76)
لا نعيش فرادى.
لا نكون شتاتاً ضائعاً.
إنّ علينا أن نربط حبل الصلة مع كل من نعرفه بالانتماء إلى جبهة الحق.
إنّ علينا أن نكون أمّة.
وتستطيع أن تكون أمّة حتى وأنت وحيداً.
أمّة في إصرارك على الحق، وتماسك عزيمتك، وقوّة معانيك.
ألم يكن كذلك أبو ذر الغفاري!!
"رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".(77)
كن أبا ذر، كن أبا ذر.
الارتباط بالقيادات الثانوية:
الحقيقة، أنّّ هذا الجانب من جوانب مسؤولياتنا يتطلب مني حديثاً أكبر مما سأسوقه الآن.
وإنّني أعتذر لكم على الإيجاز الذي سأعمله هنا، فعلى الرغم من الأهمية البالغة لهذا الموضوع فإنني أفضّل أن أضعكم الآن على مشارفه، بأمل أن أوفق للكتابة عنه مفصّلاً في كتاب غير هذا الكتاب.
في عصر الغيبة بمن نرتبط؟
وإذا كانت قيادتنا محتجبة عنّا فمن إذن قادة المرحلة؟
وقائدنا المنتظر حيث غاب عنّا هل وضع لنا البديل؟
القيادات التي تبرز نفسها كثيرة... والاتجاهات هي الأخرى كثيرة.
ومع أيّ تحدّثت، وأينما ولّيت شطرك فإنّك تسمع النداء بالحق، والدعوة له، فلمن نصدّق؟
والذين يدّعون أنّهم مع الحق، هل يرضى الحق بزمالتهم؟
وهل توجد قيادة، أم هل يوجد إنسان يقول أنّه على باطل؟
فمن هي قيادتنا إذن؟
إنّ قيادتنا الرائدة هي باختصار: "الفقهاء الواعون والمخلصون".
هذه القيادة هي التي حدّدها لنا الإمام الصادق عليه السلام حين سئل عن رجلين اختصما في مسألة فقال:
" ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً.
فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك".(78)
والإمام المنتظر أعطانا هذا التحديد أيضاً، فحين سئل عن المسائل التي تقع جديداً، كتب في الجواب:
"وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله".(79)
قيادتنا إذن هي القيادة التي تحمل مفاهيم هذا الدين، وتحكم وفق مقاييس هذا الدين.
على أن تبقى هذه القيادة مخلصة لقضيتها، ورسالتها، وأمّتها.
بعيدة عن رغبة الذات، ودافع الأنا.
وبمقتضى هذا الإخلاص فإنّها تكون مدفوعة للتعايش مع الأمة وحمل همومها، والتعرّف على مشاكلها، وتكوين أوضح صورة عن المرحلة التي تمرّ بها، ويمرّ بها الحق.
الالتزام بالدين والمسؤولية هو أوضح شرط في هذه القيادة.
أن يكون:
"صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه" كما ورد في الحديث.(80)
إنّ مسؤوليتنا في عصر الغيبة أن نتعرّف على قيادتنا.
نرتبط بها، نستجيب لندائها، نتفاعل معها بوصفها هي الموجّه لمسيرتنا.
كيف كنا نتعامل مع القائد المنتظر عليه السلام لو رفعت بيننا وبينه الحجب؟
بنفس هذا المستوى يجب أن نتعامل مع الفقيه الصالح.
ومسؤوليتنا لا تنحصر في حدود الانقياد لهذه القيادة.
إنّ جزءً آخر من مسؤوليتنا هو اطلاعها على ما يجري في الساحة، المشاركة في تكوين صورة واضحة لديها عن طبيعة المرحلة.
فنحن جميعاً العيون التي تنظر بها هذه القيادة.
كما نحن في ذات الموقف الأصابع التي تتحرّك بها.
إنّ من مسؤوليتنا أيضاً التنبيه على كل قضية نرى ضرورة التنبيه عليها.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
"إذا علمت الخاصّة بالمنكر، فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من الله عزّ  وجل".(81)

الهوامش

------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) لاحظ : التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام: 232, بحار الأنوار: 57/213 الحديث22, مع اختلاف يسير في الألفاظ.
(2) المائدة (5) : 24.
(3) نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام /1.
(4) محمّد (47): 4.
(5) الحج (22): 40.  
(6) محمّد (47):7.
(7) وسائل الشيعة: 28/383 الحديث35016.
(8) وسائل الشيعة : 16/209 الحديث 21375.
(9) وسائل الشيعة: 16/214 الحديث 21392.
(10) وسائل الشيعة: 16/217 الحديث21400.
(11) وسائل الشيعة:16/235 الحديث 21446.
(12) البقرة (2):246.
(13) الرعد (13): 11.
(14) انظر شرح هذا القانون في كتابنا (الكتاب العقائدي): الجزء الأوّل منه.
(15) الأنبياء (21) : 23.
(16) الأنبياء (21):69.
(17) الأنبياء (21)/ 70.
(18) الشعراء (26): 61و62.
(19) آل عمران (3) : 125.
(20) الشعراء (26) : 63ـ65.
(21) تاريخ ابن خلدون:2/20, الخرائج والجرائح:1/156, مناقب أبي طالب :1/163, بحار الأنوار:19/221و226و256و324.
(22) الأنفال (8) : 66.  
(23) يوسف (12): 110.
(24) النور (24) : 55.
(25) الحج (22) : 52.
(26) يس (36): 14.  
(27) سبأ (34) : 34.
(28) الحشر (59): 14.
(29) البقرة (2) : 113.
(30) آل عمران (3) : 140.
(31) النساء (4) : 104.
(32) النور (24) : 55.
(33) القصص (28) : 5.
(34) آل عمران (3) : 196.
(35) الأعراف (7) : 94.
(36) العنكبوت (29) : 41.
(37) الكافي: 1/335, الحديث 3و339 الحديث 13.
(38) آل عمران (3) : 139.
(39) إكمال الدين وإتمام النعمة : 348 الحديث 36.
(40) إكمال الدين وإتمام النعمة: 412 الحديث 8. بحار الأنوار: 51/73 الحديث 20.
(41) الكافي : 1/377 باب من مات وليس له إمام, ولاحظ أيضاً: التأريخ الكبير للبخاري 6/445 الحديث.
(42) الاحتجاج للطبرسي : 2/325.
(43) النور (24) : 55.
(44) الاحتجاج للطبرسي: 2/323.
(45) الكافي : 1/336 الحديث3.
(46) إبراهيم (14) : 27.
(47) نهج البلاغة: 2/12 الخطبة 130, الكافي : 8/207.
(48) البقرة (2) : 217.
(49) إكمال الدين وإتمام النعمة: 317 الحديث 3.
(50) الكافي: 1/335 الحديث 1, إكمال الدين وإتمام النعمة: 343 الحديث 25.
(51) سيرة ابن كثير : 2/392, بحار الأنوار : 19/248.
(52) الكافي : 1 /333 الحديث 2.
(53) الأنفال (8) : 16.
(54) إكمال الدين وإتمام النعمة: 349 الحديث41.
(55) طه (20) : 91.
(56) الغيبة للنعماني : 208 الحديث 14.
(57) الخصال للصدوق : 616.
(58) الكافي : 2/22 الحديث 10.
(59) إكمال الدين وإتمام النعمة: 346 الحديث 31, الأنوار البهيّة : 366.
(60) هود (11): 121و122.
(61) طه (20) : 135.
(62) الأحزاب (33) : 23.
(63) الأمالي للشيخ الصدوق: 436.
(64) إكمال الدين وإتمام النعمة: 320 الحديث 2, الاحتجاج للطبرسي : 2/50.
(65) الصف (61) : 4.
(66) التوبة (9) : 39.
(67) البقرة (2) : 143.
(68) الأعراف (7) : 51.
(69) التوبة (9) : 105.
(70) سنن ابن ماجة : 2 /1331 الحديث 4014, سنن أبي داوود: 2: 324 الحديث 4341.
(71) التوبة (9) : 38.
(72) التوبة (9) : 42.
(73) آل عمران (3) : 173.
(74) إكمال الدين وإتمام النعمة: 348 الحديث 37, بحار الأنوار : 52/148 الحديث 71.
(75) الكهف (18) : 28.
(76) آل عمران (3) : 104.
(77) بحار الأنوار : 31/ هامش الصفحة 186, كنز العمّال : 3/712 الحديث 8538, السيرة النبوّية لابن هشام: 4/179.
(78) الكافي : 1/ 67 الحديث 10, من لا يحضره الفقيه : 3/8 الحديث 3233, وسائل الشيعة: 1/34 الحديث 51.
(79) إكمال الدين وإتمام النعمة : 484 الحديث 4.
(80) الاحتجاج للطبرسي : 2/263, وسائل الشيعة: 27/131 الحديث 33401.
(81) وسائل الشيعة : 16/136 الحديث 21174.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page