• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجهل المركب


أنواع الرذائل المتعلقة بالعاقلة
أما الأنواع المتعلقة بالعاقلة فمنها:
الجهل المركب
وهو خلو النفس عن العلم واذعانها بما هو خلاف الواقع، مع اعتقاد كونها عالمة بما هو الحق، فصاحبه لا يعلم، ولا يعلم انه لايعلم، ولذا سمي مركباً. وهو أشد الرذائل واصعبها، وازالته في غاية الصعوبة، كما هو ظاهر من حال بعض الطلبة. وقد اعترف اطباء النفوس بالعجز عن معالجته كما اعترف اطباء الأبدان بالعجز عن معالجة بعض الأمراض المزمنة، ولذا قال عيسى (ع): " اني لا اعجز عن معالجة الاكمه والابرص وأعجز عن معالجة الاحمق ". والسر فيه! أنه مع قصور النفس بهذا الاعتقاد الفاسد لا يتنبه على نقصانها، فلا يتحرك للطلب، فيبقى في الضلالة والردى مادام باقياً في دار الدنيا. ثم ان كان المنشأ له اعوجاج السليقة فأنفع العلاج له تحريض صاحبه على تعلم العلوم الرياضية من الهندسة والحساب، فانها موجبة لاستقامة الذهن لألفه لأجلها باليقينيات فيتنبه على خلل اعتقادها، فيصير جهلها بسيطاً، فينتهض للطلب. وان كان خطأ في الاستدلال، فليوازن استدلاله لاستدلالات أهل التحقيق والمشهورين باستقامة القريحة، ويعرض أدلة المطلوب على القواعد الميزانية باحتياط تام واستقصاء بليغ، حتى يظهر خطأه. وإن كان مانع من عصبية أو تقليد أو غير ذلك فليجتهد في ازالته.


أنواع الرذائل المتعلقة بالعاقلة
أما الأنواع المتعلقة بالعاقلة فمنها:
الجهل المركب
وهو خلو النفس عن العلم واذعانها بما هو خلاف الواقع، مع اعتقاد كونها عالمة بما هو الحق، فصاحبه لا يعلم، ولا يعلم انه لايعلم، ولذا سمي مركباً. وهو أشد الرذائل واصعبها، وازالته في غاية الصعوبة، كما هو ظاهر من حال بعض الطلبة. وقد اعترف اطباء النفوس بالعجز عن معالجته كما اعترف اطباء الأبدان بالعجز عن معالجة بعض الأمراض المزمنة، ولذا قال عيسى (ع): " اني لا اعجز عن معالجة الاكمه والابرص وأعجز عن معالجة الاحمق ". والسر فيه! أنه مع قصور النفس بهذا الاعتقاد الفاسد لا يتنبه على نقصانها، فلا يتحرك للطلب، فيبقى في الضلالة والردى مادام باقياً في دار الدنيا. ثم ان كان المنشأ له اعوجاج السليقة فأنفع العلاج له تحريض صاحبه على تعلم العلوم الرياضية من الهندسة والحساب، فانها موجبة لاستقامة الذهن لألفه لأجلها باليقينيات فيتنبه على خلل اعتقادها، فيصير جهلها بسيطاً، فينتهض للطلب. وان كان خطأ في الاستدلال، فليوازن استدلاله لاستدلالات أهل التحقيق والمشهورين باستقامة القريحة، ويعرض أدلة المطلوب على القواعد الميزانية باحتياط تام واستقصاء بليغ، حتى يظهر خطأه. وإن كان مانع من عصبية أو تقليد أو غير ذلك فليجتهد في ازالته.

الشك والحيرة

ومنها الشك والحيرة
وهو من باب رداءة الكيفية وهو عجز النفس عن تحقيق الحق وابطال الباطل في المطالب الخفية، والغالب حصوله من تعارض الأدلة، ولا ريب انه مما يهلك النفس ويفسده، إذ الشك ينافي اليقين الذي لا يتحقق الايمان بدونه. قال أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه: " لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا "، وكأن الارتياب في كلامه (ع) مبدأ الشك. وقال الباقر (ع): " لا ينفع مع الشك والجحود عمل ". وقال الصادق (ع): " إن الشك والمعصية في النار ليس منا ولا الينا ". وسئل (ع) عن قول الله تعالى!
" الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ "[1].
قال: " بشك ". وقال (ع): " من شك في الله تعالى بعد مولده على الفطرة لم يفىء إلى خير أبداً ". وقال (ع): " من شك أو ظن فأقام على أحدهما احبط الله عمله، أن حجة الله هي الحجة الواضحة ". وقال (ع): " من شك في الله تعالى وفي رسوله (ص) فهو كافر ". وبمضمونه وردت أخبار أخر. وغير خفي ان المراد بالشك ما يضعف الاعتقاد ويزيل اليقين لا مجرد الوسوسة وحديث النفس، لما يأتي أنه لا ينافي الأيمان، بل الظاهر من بعض الأخبار أن إيجاب الشك للكفر إذا انجر إلى الجحود، كما روي أن أبا بصير سأل الصادق (ع) ما تقول فيمن شك في الله تعالى؟ قال: " كافر "، قال: فشك في رسول الله (ص)؟ قال " كافر "، ثم التفت إلى زرارة فقال: " انما يكفر إذا جحد ".
ثم علاجه ان يتذكر أولا قضية بديهية، هي: ان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ومنه يعلم اجمالا أن أحد الشقوق العقلية المتصورة في المطلوب ثابت في الواقع ونفس الامر والبواقي باطلة، ثم يتصفح المقدمات المناسبة للمطلوب ويعرضها على الأقيسة المنطقية باستقصاء بليغ واحتياط تام في كل طرف، حتى يقف على موضع الخطأ ويجزم بحقية أحد الشقوق وبطلان الآخر. والغرض من وضع المنطق (لا) سيما مباحث القياسات السوفسطائية المشتملة على المغالطات ازالة هذا المرض. ولو كان ممن لا يقتدر على ذلك، فالعلاج في حقه أن يواظب على العبادة وقراءة القرآن، ويشتغل بمطالعة الأحاديث وسماعها من أهلها، ويجالس الصلحاء والمتقين وأصحاب الورع وأهل اليقين، لتكتسب نفسه بذلك نورانية يدفع بها ظلمة شكه.

اليقين

اليقين
قد عرفت: أن ضد الجهل المركب والحيرة والشك هو (اليقين)، وأول مراتبه اعتقاد ثابت جازم مطابق للواقع غير زائل بشبهة وان قويت، فالاعتقاد الذي لا يطابق الواقع ليس يقينا، وإن جزم به صاحبه واعتقد مطابقته للواقع، بل هو ـ كما اشير إليه ـ جهل مركب ينشأ عن اعوجاج القريحة، أو خطأ في الاستدلال، أو حصول مانع من افاضة الحق كتقليد أو عصبية أو غير ذلك. فاليقين من حيث اعتبار الجزم فيه يكون ضد الحيرة والشك، ومن حيث اعتبار المطابقة للواقع فيه يكون ضداً للجهل المركب. ثم العلم ان لم يعتبر فيه المطابقة للواقع ففرقه عن اليقين ظاهر، والا فيتساويان ويتشاركان في المراتب المثبتة لليقين.
هذا ومتعلق اليقين إما اجزاء الايمان ولوازمه، من وجود الواجب وصفاته الكمالية وسائر المباحث الالهية من النبوة واحوال النشأة الآخرة، أو غيرها من حقائق الاشياء التي لا يتم الايمان بدونها. ولاريب في أن مطلق اليقين أقوى أسباب السعادة، وإن كان اليقين في المباحث الالهية أدخل في تكميل النفس وتحصيل السعادة الاخروية، لتوقف الايمان عليه، بل هو اصله وركنه، وغيره من المراتب فرعه وغصنه، والنجاة في الآخرة لاتحصل إلا به، والفاقد له خارج عن زمرة المؤمنين داخل في حزب الكافرين.
وبالجملة: اليقين اشرف الفضائل الخلقية واهمها، وافضل الكمالات النفسية واعظمها، وهو الكبريت الأحمر الذي لا يظفر به إلا اوحدي من اعاظم العرفاء أو ألمعي من اكابر الحكماء. ومن وصل إليه فاز بالرتبة القصوى والسعادة العظمى. قال سيد الرسل (ص): " اقل ما اوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن اوتي حظه منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار وقيام الليل "، وقال (ص): " اليقين الايمان كله " وقال (ص): " ما أدمي إلا وله ذنوب، ولكن من كانت غريزته العقل وسجيته اليقين لم تضره الذنوب، لأنه كلما اذنب ذنباً تاب واستغفر وندم فتكفر ذنوبه ويبقى له فضل يدخل به الجنة " وقال الصادق (ع): " ان العمل الدائم القليل على اليقين افضل عند الله تعالى من العمل الكثير على غير يقين "، وعنه (ع): " ان الله تعالى بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ". وفي وصية لقمان لابنه: " يا بنى‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لايستطاع العمل إلاّ باليقين، ولايعمل المرء الابقدر يقينه، ولايقصر عامل حتى ينقص يقينه ".

علامات صاحب اليقين

علامات صاحب اليقين
ثم لصاحب اليقين علامات!
(منها) إلاّ يلتفت في اموره إلى غير الله سبحانه. ولا يكون اتكاله في مقاصده إلاّ عليه، ولا ثقته في مطالبه إلاّ به. فيتبرّى عن كل حول وقوة سوى حول الله وقوته، ولا يرى لنفسه ولا لابناء جنسه قدرة على شيء ولا منشأية لاثر. ويعلم أن ما يرد عليه منه تعالى وما قدر له وعليه من الخير والشر سيساق اليه. فتستوي عنده حالة الوجود والعدم. والزيادة والنقصان والمدح والذم. والفقر والغنى. والصحة والمرض. والعز والذل. ولم يكن له خوف ورجاء إلاّ منه تعالى. والسر فيه: انه يرى الاشياء كلها من عين واحدة هو مسبب الأسباب. ولا يلتفت إلى الوسائط، بل يراها مسخرة تحت حكمه قال الإمام أبو عبد الله (ع)! " من ضعف يقينه تعلق بالأسباب، ورخص لنفسه بذلك، واتبع العادات وأقاويل الناس بغير حقيقة، والسعي في أمور الدنيا وجمعها وإمساكها، مقراً باللسان انه لا مانع ولا معطي إلا الله، وان العبد لا يصيب إلا ما رزق وقسم له، والجهد لا يزيد في الرزق، وينكر ذلك بفعله وقلبه، قال الله سبحانه:
" يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون "[2].
وقال (ع): " ليس شيء إلاّ وله حد " قيل: فما حد التوكل؟ قال: " اليقين "، قيل: فما حد اليقين؟ قال: " إلاّ تخاف مع الله شيئاً ". وعنه (ع): " من صحة يقين المرء المسلم ألا يرضي الناس بسخط الله ولا يلومهم على ما لم يؤته الله فان الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا ترده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت ".
(ومنها) ان يكون في جميع الأحوال خاضعاً لله سبحانه. خاشعاً منه، قائماً بوظائف خدمته في السر والعلن، مواظباً على امتثال ما أعطته الشريعة من الفرائض والسنن، متوجهاً بشراشره إليه، متخضعاً متذللاً بين يديه، معرضاً عن جميع ما عداه، مفرغاً قلبه عما سواه، منصرفاً بفكره إلى جناب قدسه، مستغرقاً في لجة حبه وانسه، والسر أن صاحب اليقين عارف بالله وعظمته وقدرته، وبأن الله تعالى مشاهد لاعماله وافعاله، مطلع على خفايا ضميره وهواجس خاطره، وأن:
" من يعمل مثقال ذرةٍ خيراُ يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره "[3].
فيكون دائماً في مقام الشهود لديه والحضور بين يديه، فلا ينفك لحظة عن الحياء والخجل والاشتغال بوظائف الأدب والخدمة، ويكون سعيه في تخلية باطنه عن الرذائل وتحليته بالفضائل لعين الله الكالئة اشد من تزيين ظاهره لابناء نوعه.
وبالجملة: من يقينه بمشاهدته تعالى لاعماله الباطنة والظاهرة وبالجزاء والحساب، يكون أبداً في مقام امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ومن يقينه بما فعل الله في حقه من أعطاء ضروب النعم والإحسان، يكون دائماً في مقام الانفعال والخجل والشكر لمنعمه الحقيقي.
ومن يقينه بما يعطيه المؤمنين في الدار الآخرة من البهجة والسرور، وما أعده لخلص عبيده مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد، يكون دائماً في مقام الطمع والرجاء.
ومن يقينه باستناد جميع الأمور إليه سبحانه، وبأن صدور ما يصدر في العالم أنما يكون بالحكمة والمصلحة والعناية الأزلية الراجعة إلى نظام الخير، يكون أبداً في مقام الصبر والتسليم والرضا بالقضاء من دون عروض تغير وتفاوت في حاله.
ومن يقينه بكون الموت داهية من الدواهي العظمى وما بعده أشد وأدهى، يكون أبداً محزوناً مهموماً.
ومن يقينه بخساسة الدنيا وفنائها، لا يركن إليها. قال الصادق (ع) في الكنز الذي قال الله تعالى:
" وكان تحته كنز لهما "[4]:
" بسم الله الرحمن الرحيم: عجبت لمن ايقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يركن إليها ".
ومن يقينه بعظمة الله الباهرة وقوته القاهرة، يكون دائماً في مقام الهيبة والدهشة. وقد ورد أن سيد الرسل (ص) كان من شدة خضوعه وخشوعه لله تعالى وخشيته منه تعالى بحيث إذا كان يمشي يظن انه يسقط على الأرض.
ومن يقينه بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام، يكون دائماً في مقام الشوق والوله والحب. وحكايات اصحاب اليقين من الأنبياء والمرسلين والاولياء والكاملين في الخوف والشوق وما يعتريهم من الاضطراب والتغير والتلون وامثال ذلك في الصلاة وغيرها مشهورة، وفي كتب التواريخ والسير مسطورة، وكذا ما يأخذهم من الوله والاستغراق والابتهاج والانبساط بالله سبحانه. وحكاية حصول تكرر الغشيات لمولانا أمير المؤمنين (ع) في أوقات الخلوات والمناجاة وغفلته عن نفسه في الصلوات مما تواتر عند الخاصة والعامة. وكيف يتصور لصاحب اليقين الواقعي بالله وبعظمته وجلاله وباطلاعه تعالى على دقائق أحواله، أن يعصيه في حضوره ولا يحصل له الانفعال والخشية والدهشة وحضور القلب والتوجه التام إليه عند القيام لديه والمثول بين يديه، مع أنا نرى أن الحاضر عند من له أدنى شوكة مجازية من الملوك والامراء مع رذالته وخساسته أولا وآخراً يحصل له من الانفعال والدهشة والتوجه إليه بحيث يغفل عن ذاته.
(ومنها) أن يكون مستجاب الدعوات، بل له الكرامات وخرق العادات. والسر فيه أن النفس كلما ازدادت يقنيناً ازدادت تجرداً، فتحصل لها ملكة التصرف في موارد الكائنات. قال الإمام أبو عبدالله الصادق (ع): " اليقين يوصل العبد إلى كل حال سني ومقام عجيب، كذلك أخبر رسول الله (ص) من عظم شأن اليقين حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم (ع) كان يمشي على الماء، فقال: لو زاد يقينه لمشى في الهوى ". فهذا الخبر دل على أن الكرامات تزداد بازدياد اليقين، وأن الأنبياء مع جلالة محلهم من الله متفاوتون في قوة اليقين وضعفه.

مراتب اليقين

مراتب اليقين
وقد ظهر مما ذكر: أن اليقين جامع جميع الفضائل ولا ينفك عن شيء منها، ثم له مراتب: (أولها) علم اليقين، وهو اعتقاد ثابت جازم مطابق للواقع ـ كما مر ـ وهو يحصل من الاستدلال باللوازم والملزومات، ومثاله اليقين بوجود النار من مشاهدة الدخان. (وثانيها) عين اليقين، وهو مشاهدة المطلوب ورؤيته بعين البصيرة والباطن، وهو أقوى في الوضوح والجلاء من المشاهدة بالبصر، وإلى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين (ع) بقوله: " لم أعبد رباً لم أره " بعد سؤال ذعلب اليماني عنه (ع): أرأيت ربك؟ وبقوله (ع): " رأى قلبي ربي " وهو إنما يحصل من الرياضة والتصفية وحصول التجرد التام للنفس، ومثاله اليقين بوجود النار عند رؤيتها عياناً، و(ثالثها) حق اليقين، وهو أن تحصل وحدة معنوية وربط حقيقي بين العاقل والمعقول، بحيث يرى العاقل ذاته رشحة من المعقول ومرتبطاً به غير منفك عنه، ويشاهد دائماً ببصيرته الباطنية فيضان الأنوار والآثار منه اليه، ومثاله اليقين بوجود النار بالدخول فيها من غير احتراق. وهذا إنما يكون لكمل العارفين بالله المستغرقين في لجة حبه وانسه، المشاهدين ذواتهم بل سائر الموجودات من رشحات فيضه الأقدس، وهم الصديقون الذين قصروا أبصارهم الباطنة على ملاحظة جماله ومشاهدة أنوار جلاله. وحصول هذه المرتبة يتوقف على مجاهدات شاقة ورياضات قوية، وترك رسوم العادات وقطع أصول الشهوات، وقلع الخواطر النفسانية وقمع الهواجس الشيطانية، والطهارة عن ادناس جيفة الطبيعة، والتنزه عن زخارف الدنيا الدنية، وبدون ذلك لا يحصل هذا النوع من اليقين والمشاهدة:  
سواها وما طهرتها بالمدامع        
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها
ثم فوق ذلك مرتبة يثبتها بعض أهل السلوك ويعبرون عنه (بحقيقة حق اليقين والفناء في الله، وهو أن يرى العارف ذاته مضمحلاً في أنوار الله محترقا من سبحات وجهه، بحيث لا يرى استقلالاً ولا تحصيلاً أصلاً، ومثاله اليقين بوجود النار بدخوله فيها واحتراقه منها.
ثم لا ريب في أن اليقين الحقيقي النوراني المبرى عن ظلمات الاوهام والشكوك ولو كان من المرتبة الأولى لا يحصل من مجرد الفكر والاستدلال، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وتصقيل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق وصدأها، ليحصل لها التجرد التام فتحاذي شطر العقل الفعال، فتتضح فيها جلية الحق حق الاتضاح. والسر ان النفس بمنزلة المرآة تنعكس إليها صور الموجودات من العقل الفعال، ولا ريب في ان انعكاس الصور من ذوات الصور إلى المرآة يتوقف على تمامية شكلها وصقالة جوهرها وحصول المقابلة وارتفاع الحائل بينهما والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة، فيجب في انعكاس حقائق الاشياء من العقل إلى النفس: ـ 1ـ عدم نقصان جوهرها، فلا يكون كنفس الصبي التي لا تنجلي لها المعلومات لنقصانها ـ 2ـ وصفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة واخباث المعاصي، ونقاؤها عن رسوم العادات وخبائث الشهوات. وهو بمنزلة الصقالة عن الخبث والصدا ـ 3ـ وتوجهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب، فلا يكون مستوعب الهمّ بالامور الدنيوية وأسباب المعيشة وغيرهما من الخواطر المشوشة لها، وهو بمنزلة المحاذاة ـ 4ـ وتخليتها عن التعصب والتقليد. وهو بمثابة ارتفاع الحجب ـ 5ـ واستحصال المطلوب من تأليف مقدمات مناسبة للمطلوب على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.
ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن افاضة الحقائق اليقينية إليها، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العقول الفعالة، إذ كل نفس لكونها أمراً ربانياً وجوهراً ملكوتياً فهي بحسب الفطرة صالحة لمعرفة الحقائق، ولذا امتازت عن سائر المخلوقات من السماوات والأرض والجبال، وصارت قابلة لحمل امانة الله[5] التي هي المعرفة والتوحيد، فحرمان النفس عن معرفة اعيان الموجودات انما هو لأحد هذه الموانع، وقد أشار سيد الرسل (ص) إلى مانع التعصب والتقليد بقوله (ص) " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون ابواه يهودانه ويمجسانه[6] وينصرانه "، وإلى مانع كدورات المعاصي وصدأها بقوله (ص): " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض ". فلو ارتفعت عن النفس حجب السيئات والتعصب وحاذت شطر الحق الأول تجلت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسره، إذ هو متناه يمكن لها الاحاطة به، وصورة عالمي الملكوت والجبروت بقدر ما يتمكن منه بحسب مرتبته، لأنهما الاسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المختصة بادراك البصائر، وهي غير متناهية، وما يلوح منها للنفس متناه، وان كانت في نفسها والاضافة إلى علم الله سبحانه غير متناهية، ومجموع تلك العوالم يسمى بـ(العالم الربوبي)، إذ كل ما في الوجود من البداية إلى النهاية منسوب إلى الله سبحانه، وليس في الوجود سوى الله سبحانه وأفعاله وآثاره، فالعالم الربوبي والحضرة الربوبية هو العالم المحيط بكل الموجودات، فعدم تناهيه ظاهر بين، فلا يمكن للنفس أن تحيط بكله، بل يظهر لها منه بقدر قوتها واستعدادها. ثم بقدر ما يحصل للنفس من التصفية والتزكية وما يتجلى لها من الحقائق والأسرار، ومن معرفة عظمة الله ومعرفة صفات جلاله ونعوت جماله تحصل لها السعادة والبجهة واللذة والنعمة في نعيم الجنة، وتكون سعة مملكته فيها بحسب سعة معرفته بالله وبعظمته وبصفاته وافعاله، وكل منها لانهاية له. ولذا لاتستقر النفس في مقام من المعرفة. والبهجة والكمال والتفوق والغلبة تكون غاية طلبتها، ولا تكون طالبة لما فوقها.
وما اعتقده جماعة من ان ما يحصل للنفس من المعارف الألهية والفضائل الخلقية هي الجنة بعينها فهو عندنا باطل، بل هي موجبة لا ستحقاق الجنة التي هي دار السرور والبهجة.

الشرك

الشرك
وهو أن يرى في الوجود مؤثراً غير الله سبحانه، فان عبد هذا الغير ـ سواء كان صنما أو كوكباً أو انساناً أو شيطاناً ـ كان شرك عبادة، وان لم يعبده ولكن لاعتقاد كونه منشأ أثر اطاعه فيما لا يرضي الله فهو شرك طاعة والأول يسمى بالشرك الجلي، والثاني يسمى بالشرك الخفي، وإليه الاشارة بقوله تعالى:
" وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون "[7].
وكون الشرك اعظم الكبائر الموبقة وموجباً لخلود النار مما لاريب فيه، وقد انعقد عليه اجماع الامة، والآيات والأخبار الواردة به خارجة عن حد الاحصاء.
ثم للشرك مراتب تظهر في بحث ضده الذي هو التوحيد، والشرك وان كان شعبة من الجهل، كما أن التوحيد الذي هو ضده من أفراد اليقين والعلم فذكرهما على حدة لم يكن لازماً هنا، إلا انه لما كان المتعارف ذكر التوحيد في كتب الأخلاق. فنحن أيضا ذكرنا له عنواناً علىحدة تأسيا بها، وأشرنا إلى لمعة يسيرة منه، إذ الاستقصاء فيه والخوض في غمراته مما ليس في وسعنا ولا يليق هنا، فان التوحيد هو البحر الخضم الذي لاساحل له.

التوحيد في الفعل

(التوحيد في الفعل)
ضد الشرك (التوحيد)، وهو إما توحيد في أصل الذات بمعنى عدم تركيب خارجي وعقلي في ذاته تعالى وعينية وجوده وصفاته لذاته، ويلزمه كونه تعالى صرف الوجود وبحته، أو توحيد في وجوب وجوده بمعنى نفي الشرك في وجوب الوجود عنه (ولا بحث لنا هنا عن اثبات هذين القسمين، لثبوتهما في الحكمة المتعالية)، أو توحيد في الفعل والتأثير والايجاد، بمعنى أن لا فاعل ولا مؤثر إلا هو، وهو الذي نذكر هنا مراتبه وما يتعلق به، فنقول:
هذا التوحيد ـ على ما قيل ـ له اربع مراتب: قشر: وقشر القشر، ولب ولب اللب كالجوز الذي له قشرتان وله لب، ولللب دهن وهو لب اللب. (فالمرتبة الأولى) ان يقول الإنسان باللسان: لا إله إلا الله، وقلبه منكر وغافل عنه، كتوحيد المنافقين، وهذا توحيد بمجرد اللسان ولا فائدة فيه إلا حفظ صاحبه في الدنيا من السيف والسنان. (الثانية) ان يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما هو شأن عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام وصاحبه موحد، بمعنى انه معتقد بقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه. وهو عقد على القلب لايوجب انشراحاً وانفتاحاً وصفاء له، ولكنه يحفظ صاحبه عن العذاب في الآخرة ان مات عليه ولم يضعف بالمعاصي. (الثالثة) ان يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وذلك بأن يرى اشياء كثيرة ولكن يراها بكثرتها صادرة عن الواحد الحق، وهو مقام المقربين، وصاحبه موحد بمعنى أنه لايشاهد إلا فاعلا ومؤثراً واحداً، لأنه انكشف له الحق كما هو عليه. (الرابعة) ألا يرى في الوجود إلا واحداً، ويسميه أهل المعرفة الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لايرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه، لكونه مستغرقاً بالواحد كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه، وهو مشاهدة الصديقين، وصاحبه موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد. وهذا هي الغاية القصوى في التوحيد.
فالمرتبة الأولى: كالقشرة العليا من الجوز، وكما أن هذه القشرة لاخير فيها أصلا، بل إن أكلتها فهي مر المذاق، وان نظرت إلى باطنها فهو كريه المنظر، وإن اتخذتها حطباً أطفأت النار واكثرت الدخان، وان تركتها في البيت ضيقت المكان، فلا تصلح إلا أن تترك مدة على الجوز لحفظ القشرة السفلى، ثم ترمى، فكذلك التوحيد بمجرد اللسان عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر والباطن، لكن ينفع مدة في حفظ المرتبة الثانية إلى وقت الموت، والمرتبة الثانية: كالقشرة السفلى، فكما أن هذه القشرة ظاهرة النفع بالاضافة إلى القشرة العليا، فانها تصون اللب عن الفساد عند الادخار، وإذا فصلت امكن ان ينتفع بها حطباً، لكنها نازلة القدر بالاضافة إلى اللب، فكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالنسبة إلى مجرد نطق اللسان، إذ تحصل به النجاة في الآخرة، لكنه ناقص القدر بالاضافة إلى الكشف والعيان الذي يحصل بانشراح الصدر وانفتاحه باشراق نور الحق فيه. والمرتبة الثالثة: كاللب، وكما أن اللب نفيس في نفسه بالاضافة إلى القشر وكأنه المقصود لكنه لايخلو عن شوب عصارة بالاضافة إلى الدهن منه فكذلك توحيد الفعل على طريق الكشف مقصد عال للسالكين، إلا أنه لايخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالاضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق، والمرتبة الرابعة: كالدهن المستخرج من اللب، وكما ان اللب هو المطلوب لذاته والمرغوب في نفسه، فكذلك قصر النظر على مشاهدة الحق الأول هو المقصود لذاته والمحبوب في نفسه.
[تنبيه] ان قيل: كيف يمكن تحقيق المرتبة الرابعة من التوحيد لتوقفها على عدم مشاهدة غير الواحد، مع ان كل احد يشاهد الأرض والسماء وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة، فكيف يكون الكثير واحداً؟ (قلنا): من تيقن أن الممكنات بأسرها اعدام صرفة في نفسها، وأن ما به تحققها من الله سبحانه، ثم احاط على قلبه نور عظمته وجلاله بحيث بهره وغلب على قلبه الحب والانس حتى عن غيره اغفله، فأي استبعاد في ان يوجب شدة استغراقه في لجة العظمة والجلال والكمال والجمال وغلبة الحب والأنس عليه، مع عدمية الكثرة ووحدة ما به التحقق عنده ورسوخ ذلك، وارتكازه في قلبه أن لايرى في نظر شهوده إلا هو، ويغيب عنه غيره، لقصر نظر بصيرته الباطنة على ما هو الحقيقة والواقع. ومما يكسر سورة استبعادك: ان المشغول بالسلطان والمستغرق في ملاحظة سطوته ربما غفل عن مشاهدة غيره، وان العاشق قد يستغرق في مشاهدة جمال معشوقه ويبهره حبه بحيث لا يرى غيره، مع تحقق الكثرة عنده، وان الكواكب موجودة في النهار مع انها لاترى لمغلوبية أنوارها واضمحلالها في جنب نور الشمس، فإذا جاز ان يغلب نور الشمس على نور الكواكب ويقهرها بحيث يضمحل ويغيب عن بصر الظاهر، فأي استبعاد في ان يغلب نور الوجود الحقيقي القاهر على الموجودات الضعيقة الامكانية ويقهرها، بحيث يغيب عن نظر العقل والبصيرة ثم هذه المشاهدات التي لايظهر فيها إلا الله الواحد الحق لاتدوم، بل هي كالبرق الخاطف والدوام فيها عزيز نادر.

[1]  الانعام الآية: 82.
[2]  الآية من سورة آل عمران: 161 وهذا الحديث منقول عن (مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة) المنسوب إلى الصادق (ع) وهذا الكتاب قال فيه المجلسي ـ قدس سره ـ في مقدمة البحار: "فيه ما يريب اللبيب الماهر، واسلوبه لا يشبه سائر كلمات الائمة وآثارهم"، ثم قال! "وان سنده ينتهي إلى الصوفية ولذا اشتمل على كثير من اصطلاحاتهم وعلى الرواية عن مشايخهم".
[3]  الزلزال، الآية: 8 ـ 9.
[4]  الكهف الآية: 82.
[5]  اشارة إلى قوله تعالى: "ا نا عرضنا الأمانة على السماوات الأرض فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولا " (الاحزاب، الآية: 72).
[6]  روى السيد المرتضى علم الهدى هذا الحديث في الجزء الثالث من امإليه بدون كلمة (يمجسانه)، وكذا في غوالي اللئالي، إلاّ أن المعروف في روايته اضافة كلمة 0يمجسانه) ولكنها بعد كلمة (ينصرانه)، كما أرسلها في مجمع البيان: ج8 ص303 طبع صيدا، وكذا في مجمع البحرين في مادة (فطر)، وكذا في صحيح البخاري: ج1 ص206، وصحيح مسلم: ج2 ص413، ومعالم التنزيل في هامش تفسير الخازن: ج5 ص172، وغير هؤلاء.
[7]  يوسف الآية: 106.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page