• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الوفاء في الحب


(الوفاء في الحب)
اعلم ان من تمام الحب للاخوان في الله (الوفاء)، وهو الثبات على الحب ولوازمه وادامته إلى الموت وبعده مع اولاده واصدقائه، وضده (الجفاء)، وهو قطع الحب أو بعض لوازمه في أيام الحياة أو بعد الموت بالنسبة إلى أولاده وأحبته، ولولا الوفاء في الحب لما كانت فيه فائدة، إذ الحب إنما يراد للآخرة، فان انقطع قبل الموت لضاع السعي وحبط العمل، ولذلك قال رسول الله (ص) في السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة: " واخوان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ". وروي: " أنه (ص) كان يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وان كرم العهد من الدين ". فمن الوفاء مراعاة جميع الأصدقاء والاقارب والمتعلقين، ومراعاتهم اوقع في القلب من مراعاة الأخ المحبوب في نفسه، فان فرحه بتفقد من يتعلق به اكثر من فرحه بتفقد نفسه. إذ لا تعرف قوة المحبة والشفقة إلا بتعديها من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى ان من قوي حبه لأخيه تميز في قلبه كلبه الذي على باب داره من سائر الكلاب. ولا ريب في ان المحبة التي تنقطع ـ ولو بعد الممات ـ لا تكون محبة في الله، إذ المحبة في الله دائمة لا انقطاع لها. فما قيل من ان (قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره حال الحياة) انما هو لدلالته على كون الحب في الله. وبالجملة: الوفاء بالمحبة تمامها. ومن آثار الوفاء ان يكون شديد الجزع من مفارقته، والا يسمع بلاغات الناس عليه، وان يحب صديقه ويبغض عدوه، وليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل من الوفاء المخالفة له وارشاده إلى الحق.
هذا واما البعد والأُنس، فقد عرفت ان الانس عبارة عن استبشار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول، والبعد خلافه، والأنس والخوف والشوق كلها من آثار المحبة، وكل واحد منها يرد على المحب بحسب نظره، ومما يغلب عليه في وقته، فاذ غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال، واستشعر قصوره من الاطلاع على كنه الجلال، انبعثت النفس وانزعجت له وهاجت إليه، فسميت هذه الحالة في الانزعاج (شوقاً)، وهو بالاضافة إلى أمر غايب، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف، وكان نظره مقصوراً على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف، غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد، استبشر القلب بما يلاحظه فيه. فيسمى استبشاره (انساً)، وان كان نظره إلى صفات العز والجلال والاستغناء وعدم المبالاة، واستشعر إمكان الزوال والبعد، تألم قلبه بهذا الاستشعار، فيسمى تألمه (خوفاً)، وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات، فان غلب الأنس وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال، عظم نعيمه ولذته، وغلب عليه الأنس بالله، ولم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، وذلك لان الانس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كلما يعوق من الخلوة يكون اثقل الأشياء على القلب، كما روى: " ان موسى (ع) لما كلمه ربه، مكث دهراً لا يسمع كلامه أحد من الخلق إلا اخذه الغشيان "، لان الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره، فيخرج عن القلب عذوبة ما سواه، فان خالط الناس كان كمنفرد في جماعة، ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر، وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة، وغائب في حضور، ومخالط بالبدن، متفرد بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر، قال أمير المؤمنين (ع) في وصفهم: " هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بابدان ارواحها متعلقة بالمحل الاعلى، اولئك خلفاء الله في ارضه، والدعاة إلى دينه ".


(الوفاء في الحب)
اعلم ان من تمام الحب للاخوان في الله (الوفاء)، وهو الثبات على الحب ولوازمه وادامته إلى الموت وبعده مع اولاده واصدقائه، وضده (الجفاء)، وهو قطع الحب أو بعض لوازمه في أيام الحياة أو بعد الموت بالنسبة إلى أولاده وأحبته، ولولا الوفاء في الحب لما كانت فيه فائدة، إذ الحب إنما يراد للآخرة، فان انقطع قبل الموت لضاع السعي وحبط العمل، ولذلك قال رسول الله (ص) في السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة: " واخوان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ". وروي: " أنه (ص) كان يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وان كرم العهد من الدين ". فمن الوفاء مراعاة جميع الأصدقاء والاقارب والمتعلقين، ومراعاتهم اوقع في القلب من مراعاة الأخ المحبوب في نفسه، فان فرحه بتفقد من يتعلق به اكثر من فرحه بتفقد نفسه. إذ لا تعرف قوة المحبة والشفقة إلا بتعديها من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى ان من قوي حبه لأخيه تميز في قلبه كلبه الذي على باب داره من سائر الكلاب. ولا ريب في ان المحبة التي تنقطع ـ ولو بعد الممات ـ لا تكون محبة في الله، إذ المحبة في الله دائمة لا انقطاع لها. فما قيل من ان (قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره حال الحياة) انما هو لدلالته على كون الحب في الله. وبالجملة: الوفاء بالمحبة تمامها. ومن آثار الوفاء ان يكون شديد الجزع من مفارقته، والا يسمع بلاغات الناس عليه، وان يحب صديقه ويبغض عدوه، وليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين، بل من الوفاء المخالفة له وارشاده إلى الحق.
هذا واما البعد والأُنس، فقد عرفت ان الانس عبارة عن استبشار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول، والبعد خلافه، والأنس والخوف والشوق كلها من آثار المحبة، وكل واحد منها يرد على المحب بحسب نظره، ومما يغلب عليه في وقته، فاذ غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال، واستشعر قصوره من الاطلاع على كنه الجلال، انبعثت النفس وانزعجت له وهاجت إليه، فسميت هذه الحالة في الانزعاج (شوقاً)، وهو بالاضافة إلى أمر غايب، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف، وكان نظره مقصوراً على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف، غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد، استبشر القلب بما يلاحظه فيه. فيسمى استبشاره (انساً)، وان كان نظره إلى صفات العز والجلال والاستغناء وعدم المبالاة، واستشعر إمكان الزوال والبعد، تألم قلبه بهذا الاستشعار، فيسمى تألمه (خوفاً)، وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات، فان غلب الأنس وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال، عظم نعيمه ولذته، وغلب عليه الأنس بالله، ولم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة، وذلك لان الانس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كلما يعوق من الخلوة يكون اثقل الأشياء على القلب، كما روى: " ان موسى (ع) لما كلمه ربه، مكث دهراً لا يسمع كلامه أحد من الخلق إلا اخذه الغشيان "، لان الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره، فيخرج عن القلب عذوبة ما سواه، فان خالط الناس كان كمنفرد في جماعة، ومجتمع في خلوة، وغريب في حضر، وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة، وغائب في حضور، ومخالط بالبدن، متفرد بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر، قال أمير المؤمنين (ع) في وصفهم: " هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بابدان ارواحها متعلقة بالمحل الاعلى، اولئك خلفاء الله في ارضه، والدعاة إلى دينه ".

الانس بالله

(الانس بالله)
من انكر وجود الحب والشوق انكر وجود الانس أيضاً وظناً انه يدل على التشبيه، وهو ناش عن الجهل بالابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية، وعن القصور في طريق المعرفة، والجمود على أحكام الحس، والغفلة عن عالم العقل والبصيرة، وقد ظهر ثبوت الانس من بعض الأخبار السابقة، ويدل عليه ما ورد في أخبار داود: " ان الله ـ عز وجل ـ اوحى إليه: يا داود! ابلغ أهل ارضي: اني حبيب لمن احبني، وجليس لمن جالسني، ومؤنس لمن أنس بذكرى، وصاحب لمن صاحبني، ومختار لمن اختارني، ومطيع لمن اطاعني، ما احبني عبد اعلم ذلك يقيناً من قلبه إلا قبلته لنفسي، واحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فارفضوا يا أهل الأرض ما انتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي، وآنسوا بي اؤانسكم، واسارع إلى محبتكم ".

الأنس قد يثمر الادلال

(الأنس قد يثمر الادلال)
قال أبو حامد العزالي: " الأنس إذا دام وغلب واستحكم، ولم يشوشه قلق الشوق، ولم ينغصه خوف البعد والحجاب، فانه يثمر نوعاً من الانبساط في الاقوال والافعال والمناجاة مع الله ـ سبحانه ـ، وقد يكون منكراً بحسب الصورة، لما فيه من الجرأة وقلة الهيبة، ولكنه محتمل ممن اقيم في مقام الأنس، ومن لم يقم في ذلك المقام وتشبه بهم في الفعل والكلام، هلك واشرف على الكفر. ومثاله مناجاة (برخ الأسود) الذي أمر الله ـ تعالى ـ كليمه موسى (ع) أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل، بعد أن قحطوا سبع سنين، وخرج موسى في سبعين الفاً، فاوحى الله ـ عز وجل ـ إليه: كيف استجيب لهم وقد اظلت عليهم ذنوبهم؟ سرائرهم خبيثة، يدعونني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له (برخ)، فقل له: يخرج حتى استجيب له. فسأل عنه موسى، فلم يعرف، فبينا موسى ذات يوم يمشي في طريق، إذا بعبد اسود قد استقبله، بين عينيه تراب من اثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى بنور الله ـ عز وجل ـ، فسلم عليه وقال له، ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ، قال: فأنت طلبتنا منذ حين، اخرج فاستسق لنا، فخرج، فقال في كلامه: ما هذا من فعالك. ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟ أتعصت عليك غيومك؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك؟ ام نفد ما عندك؟ ام اشتد غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعفو، أم تربنا انك ممتنع؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟!... قال: فما برح حتى اخضل بنو إسرائيل بالمطر، وانبت الله ـ عز وجل ـ العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، ثم رجع (برخ)، فاستقبله موسى، فقال: كيف رأيت حين خاصمت ربي، كيف أنصفني؟! فهمّ به موسى، فاوحى الله إليه: إن برخا يضحكني كل يوم ثلاث مرات "!![1]. ولا ريب في ان امثال هذه الكلمات الصادرة عن الانبساط والادلال يحتمل من بعض العباد دون البعض، فمن انبساط الانس قول موسى:
" إن هي إلا فتنتك "[2].
وقوله في التعلل والاعتذار، لما قيل له:
" اذهب إلى فرعون إنه طغى "[3]: " ولهم على ذئب فأخاف أن يقتلون "[4]. وقبله " ويضيق صدري "[5]. وقوله: " اننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى "[6].
وهذا من غير موسى سوء الادب، لان الذي اقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل منه ما لا يحتمل من غيره. كيف ولم يحتمل من يونس النبي (ع) ما دون هذا الحال، اقيم مقام القبض والهيبة، فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، فنودي عليه إلى يوم الحشر، لولا ان تداركته نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم. ونهى نبينا ان يقتدى به، فقيل له:
" واصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم "[7].
وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف المقامات والأحوال، وبعضها لما سبق في الازل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد. قال الله ـ سبحانه ـ:
" تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعضٍ منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجاتٍ "[8].
فالانبياء والأولياء مختلفون في الصفات والأحوال، ألا ترى ان عيسى بن مريم (ع) كان في مقام الانبساط والادلال. ولا دلالة له سلم على نفسه، فقال:
" والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً "[9].
وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الانس. واما يحيى (ع) فانه اقيم مقام الهيبة والحياء، فلم ينطق حتى سلم عليه خالقه، فقال:
" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً "[10].
وانظر كيف احتمل لاخوة يوسف ما فعلوا به، وقد قال بعض العلماء:
" قد عددت من أول قوله ـ تعالى ـ:
" إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منّا "[11].
إلى رأس العشرين آية من اخباره ـ تعالى ـ عنهم، فوجدت به نيفاً واربعين خطيئة، بعضها اكبر من بعض، وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والاربع، فغفر لهم وعفى عنهم، ولم يحتمل لعزيز في مسألة واحدة: سأل عنها في القدر، حتى قيل: لئن عاد محى اسمه عن ديوان النبوة ". ومن فوائد هذه القصص في القرآن : ان تعرف بها سنة الله في عباده الذين خلوا من قبل، فما في القرآن شيء إلا وفيه اسرار وانوار يعرفها الراسخون في العلم.

العزلة

(العزلة)

اعلم ان من بلغ مقام الانس، غلب على قلبه حب الخلوة والعزلة عن الناس. لان المخالطة مع الناس تشغل القلب عن التوجه التام إلى الله. فلابد لنا من بيان ان الافضل من العزلة والمخالطة ايهما. فان العلماء في ذلك مختلفون. والأخبار أيضاً في ذلك مختلفة. ولكل واحد منها أيضاً فوائد ومفاسد. فنقول: الظاهر من جماعة: تفضيل العزلة على المخالطة مطلقا. والظاهر من الأخرى: عكس ذلك.
نظر الاولين إلى اطلاق ما ورد في مدح العزلة، وإلى فوائدها وما ورد في مدحها، كقول النبي (ص): " ان الله يحب العبد التقي الخفي ". وقوله (ص): " أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب "، وقوله (ص) لمن سأله عن طريق النجاة: " ليسعك بيتك، وامسك عليك دينك، وأبك على خطيئتك "، وقول الصادق (ع): " فسد الزمان، وتغير الاخوان، وصار الانفراد اسكن للفؤاد "، وقوله (ع): " اقلل معارفك، وانكر من تعرف منهم "، وقوله (ع): " صاحب العزلة متحصن بحصن الله ـ تعالى ـ، ومتحرس بحراسته، فيا طوبى لمن تفرد به سراً وعلانية! وهو يحتاج إلى عشر خصال: علم الحق والباطل، وتحبب الفقر، واختيار الشدة، والزهد، واغتنام الخلوة، والنظر في العواقب، ورؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود، وترك العجب، وكثرة الذكر بلا غفلة، فان الغفلة مصطاد الشيطان ورأس كل بلية وسبب كل حجاب، وخلوة البيت عما لا يحتاج إليه في الوقت. قال عيسى بن مريم عليهما السلام: (اخزن لسانك لعمارة قلبك، وليسعك بيتك، واحذر من الرياء وفضول معاشك، واستح من ربك، وابك على خطيئتك، وفر من الناس فرارك من الاسد والافعى، فانهم كانوا دواء فصاروا اليوم داء، ثم الق الله متى شئت) ". قال ربيع بن خثيم: " إن استطعت أن تكون اليوم في موضع لا تعرف ولا تعرف فافعل، ففي العزلة صيانة الجوارح، وفراغ القلب، وسلامة العيش، وكسر سلاح الشيطان، والمجانبة من كل سوء، وراحة القلب، وما من نبي ولا وصي إلا واختار العزلة في زمانه، إما في ابتدائه، وإما في انتهائه "[12].
وأما فوائد العزلة، فكالفراغ للعبادة، والذكر، والفكر، والاستيناس بمناجاة الله، والاشتغال باستكشاف اسرار الله في ملكوت السماوات والارض، والتخلص عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالباً بالمخالطة: كالغيبة، والرياء، وسائر آفات اللسان، ومسارقة الطبع الأعمال الخفية والأخلاق الردية من الناس، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستخلاص من الفتن والخصومات واخطارها، أو من شر الناس وايذائهم قولاً وفعلا، وقطع طمعه عن الناس، وقطع طمعهم عنه، والخلاص من مشاهدة الظلمة، والفسقة، والجهال، والثقلاء، والحمقى، ومقاساة أخلاقهم.
ونظر الآخرين ـ اعني القائلين بتفضيل المخالطة على العزلة ـ إلى اطلاق الظواهر الواردة في مدح المخالطة والمؤالفة والمؤانسة وإلى فوائدها، أما ما ودر في مدحها، كقول النبي (ص): " المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ". وقوله (ص): " من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية " وكالاخبار الواردة في ذم الهجرة عن الاخوان، وقوله (ص): " إياكم والشعاب، وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد ".
وأما فوائد المخالطة: كالتعليم، والتعلم، وكسب الأخلاق الفاضلة من مجالسة المتصفين بها، واستماع المواعظ والنصائح، ونيل الثواب بحضور الجمعة والجماعة والجنازة، وعيادة المرضى، وزيارة الاخوان، وقضاء حوائج المحتاجين، ورفع الظلم عن المظلومين، وادخال السرور على المؤمنين، والاستيناس بالإخوان، وبأهل الورع والعبادة والتقوى، وهو يروح القلب، ويهيج داعية النشاط في العبادة، وايصال النفع إلى المسلمين بالمال والجاه واللسان، واستفادة مزيد الأجر والثواب بتحصيل المعاش والكد على العيال، وارتياض النفس بمقاساة الناس في تحمل أذاهم، وكسر النفس وشهواتها، وادراك صفة التواضع لتوقفه على معاشرة الناس ومخالطتهم وعدم حصوله في الوحدة، واستفادة التجارب والكياسة في مصالح الدنيا والدين، فانها لا تحصل إلا من مخالطة الخلق ومشاهدة مجاري أحوالهم.
هذه هي فوائد كل من العزلة والمخالطة، وفوائد كل منهما مفاسد وغوائل للآخر، وأنت ـ بعد ما عرفت فوائد كل منهما وغوائله ـ تعلم أن الحكم بترجيح أحدهما على الاخر على الاطلاق خطأ، كيف يجوز أن يقال: ان العزلة أفضل لشخص جاهل لم يتعلم شيئاً من اصوله وفروعه، ولم يقرع سمعه علم الأخلاق، ولم يميز بين فضائل الصفات ورذائلها، فضلا عن أن تحصل له التخلية والتحلية. ومع ذلك يمكن أن يحصل ذلك بالمخالطة مع العلماء وأولى الأخلاق الفاضلة؟ وكيف يجوز أن يقال: إن المخالطة أفضل لمن حصل ما في وسعه وقدرته من العلم والعمل، ووصل إلى مرتبة الابتهاج والالتذاذ بالطاعات والمناجاة، ولم يترتب على مخالطته مع الناس شيء من الفوائد الدينية والدنيوية، بل تترتب عليه المفاسد الكثيرة؟.
فالصحيح أن يقال: إن الأفضلية فيهما تختلف بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة. فينبغي أن ينظر إلى كل شخص وحاله، وإلى خليطه، وإلى باعث مخالطته، وإلى ما يحصل بمخالطته من فوائد المخالطة، وما يفوت لاجلها من فوائد العزلة. ويوازن بين ذلك، حتى يظهر الافضل والارجح. ولاختلاف ذلك في حق الاشخاص، بملاحظة الأحوال والفوائد والآفات. وربما يظهر ـ بعد التأمل ـ أن الافضل لبعض الخلق العزلة التامة، ولبعضهم المخالطة، ولبعضهم إلاعتدال في العزلة والمخالطة. وبما ذكر يظهر أن الافضل لمن بلغ مقام الانس والاستغراق: الخلوة والعزلة، إذ لا ريب في أن المخالطة توجب السقوط عن مرتبة الشهود والإنس، ولا يتصور من فوائدها شيء يقاوم ذلك. ولذلك كان المحبون المستأنسون بالله يعتزلون عن الخلق ويؤثرون الخلوة. قال أويس القرني: " ما كنت أرى أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره "، وقال بعضهم : " إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس ". وقال بعضهم: " سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه ". وقال بعض الصالحين: " رأيت في بعض البلاد عابداً خرج من بعض قلل الجبال، فلما رآني تنحى عني وتستر بشجرة. فقلت له: سبحان الله! أتبخل علي بالنظر إليك؟ فقال: يا هذا! اني قمت في هذا الجبل دهراً طويلا اعالج قلبي في الصبر عن الدنيا واهلها، فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري، فسألت الله ـ تعالى ـ أن يعطيني ذلك. فسكن قلبي عن الاضطراب، وألف الوحدة والانفراد. فلما نظرت إليك خفت ان اوقع في الأول. فاني اعوذ من شرك برب العالمين وحبيب القانتين. ثم صاح وقال: واغماه من طول المكث في الدنيا! ثم حول وجهه عني وقال: سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخلود وحلاوة الانقطاع إليه! ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان ". وقال بعض الأكابر: " إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة. فبملاقاة الناس ومخالطتهم يفرح ويطرد الوحشة من نفسه. فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم والحكمة ". ومن هنا قيل: " الاستيناس بالناس من علامات الافلاس ". فمن تيسر له منزلة بدوام الذكر والإنس بالله وبدوام الفكر والتحقيق في معرفة الله، فالتجرد والخلوة افضل له من كل ما يتعلق بالمخالطة. فان غاية العبادات وثمرة المجاهدات أن يموت الإنسان محباً لله عارفاً بالله، ولا محبة إلا بالانس الحاصل بدوام الذكر، ولا معرفة إلا بدوام الفكر. وفراغ القلب شرط لكل منهما، ولا فراغ مع المخالطة.
فان قلت : لا منافاة بين المخالطة مع الناس والإنس بالله، ولذا كان الأنبياء مخالطين للناس مع غاية استغراقهم في الشهود والإنس.
قلنا: لا يتسع للجمع بين مخالطة الخلق ظاهراً والاقبال التام على الله سراً إلا قوة النبوة. فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك. ثم بما ذكرناه يظهر وجه الجمع بين الأخبار الواردة من الطرفين. فان ما ورد في فضيلة العزلة إنما هو بالنظر إلى بعض الناس، وما ورد في فضيلة المخالطة انما هو بالنظر إلى بعض آخر.

السخط

السخط
السخط فيما يخالف هواه من الواردات الإلهية والتقديرات الربانية. ويرادفه الانكار والاعتراض. وهو من شعب الكراهة لافعال الله. وهو ينافي الإيمان والتوحيد. وما للعبد العاجز الذليل المهين الجاهل بمواقع القضاء والقدر، والغافل عن موارد الحكم والمصالح، والاعتراض والانكار. والسخط لافعال الخالق الحكيم العليم الخبير. وانى للعبد ألا يرضى بما يرضى به ربه. ولعمري! أن من يعترض على فعل الله فهو اشد الجهلاء، ومن لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء. وقد ورد في الخبر القدسي: " خلقت الخير والشر. فطوبى لمن خلقته للخير واجريت الخير على يديه، وويل لمن خلقته للشر وأجريت الشر على يديه، وويل ثم ويل لمن قال لم وكيف! "وفي خبر قدسي آخر: " أنا الله لا إله إلا انا، من لم يصبر على بلائي، ولم يشكر على نعمائي، ولم يرض بقضائي، فليتخذ رباً سواي " وفي مناجاة موسى: " أي خلقك أحب إليك؟ قال: من إذا اخذت منه المحبوب سالمني. قال: فأي خلقك أنت عليه ساخط؟ قال: من يستخيرني في الأمر، فإذا قضيت له سخط قضائي ". وقي الخبر القدسي: " قدرت المقادير، ودبرت التدبير، واحكمت الصنع، فمن رضى فله الرضا مني حين يلقاني، ومن سخط فله السخط مني حين يلقاني ". وقال الباقر (ع): " ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء، واحبط الله اجره ". وقال الصادق (ع): " كيف يكون المؤمن مؤمناً، وهو يسخط قسمته، ويحقر منزلته، والحاكم عليه الله، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضا ان يدعو الله فيستجاب له ". وفي بعض الأخبار: " أن نبياً من الأنبياء شكى إلى الله ـ عز وجل ـ الجوع والفقر والعرى عشر سنين، فما اجيب إليه، ثم اوحى الله ـ تعالى ـ إليه: كم تشكو؟ وهكذا كان بدؤك عندي في ام الكتاب قبل ان اخلق السماوات والارض، وهكذا سبق لك مني، وهكذا قضيت عليك قبل ان اخلق الدنيا، أفتريد أن اعيد خلق الدنيا من اجلك؟ ام تريد ان ابدل ما قدرته عليك، فيكون ما تحب فوق ما احب، ويكون ما تريد فوق ما اريد؟ وعزتي وجلالي! لئن تلجلج هذا في صدرك مرة اخرى، لا محونك من ديوان النبوة "[13]. وروى انه: " اوحى الله ـ تعالى ـ إلى داود (ع): تريد واريد وانما يكون ما اريد، فان اسلمت لما اريد كفيتك ما تريد، وان لم تسلم لما اريد اتبعتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما اريد "[14].
وبالجملة: من عرف أن العالم بجميع اجزائه، من الجواهر والاعراض، صادرة عنه على وجه الحكمة والخيرية، وانها النظام الاصلح الذي لا يتصور فوقه نظام، ولو تغير جزء منه على ما هو اختلت الاصلحية والخيرية، وعرف الله بالربوبية، وعرف نفسه بالعبودية، يعلم ان السخط والاعراض وعدم الرضا بشيء مما يرد، ويكون غاية الجهل والخطر، ولذلك لم يكن أحد من الأنبياء ان يقول قط في امر: ليت كان كذا، حتى قال بعض أصحاب النبي (ص): " خدمت رسول الله (ص) عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت، ولا لشيء لم افعله: لم لم تفعله، ولا قال في شيء كان: ليته لم يكن، ولا في شيء لم يكن: ليته كان، وكان إذا خاصمني مخاصم من اهله، يقول: دعوه، لو قضى شيء لكان ". وروى: " ان آدم (ع) كان بعض اولاده الصغار يصعدون على بدنه وينزلون، ويجعل احدهم رجليه على اضلاعه كهيئة الدرج فيصعد إلى رأسه، ثم ينزل على اضلاعه كذلك، وهو نطرق إلى الأرض لا ينطق، ولا يرفع رأسه، فقال له بعض ولده: يا بات! أما ترى ما يصنع هذا بك؟ لو نهيته عن هذا، فقال: يا بني! انى رأيت ما لم تروا، وعلمت ما لم تعلموا، اني تحركت حركة واحدة فأهبطت من دار الكرامة إلى دار الهوان، ومن دار النعيم إلى دار الشقاء، فاخاف ان اتحرك حركة اخرى فيصيبني ما لا اعلم "[15].

الرضا

الرضا

فضيلة الرضا ـ رضا الله ـ رد انكار تحقيق الرضا ـ هل يناقض الدعاء ونحوه الرضا؟ ـ طريق تحصيل الرضا ـ التسليم.
ضد السخط (الرضا)، وهو ترك الاعتراض والسخط باطناً وظاهراً، قولا وفعلا، وهو من ثمرات المحبة ولوازمها، إذ المحب يستحسن كلما يصدر عن محبوبه، وصاحب الرضا يستوي عنده الفقر والغنى، والراحة والعناء، والبقاء والفناء، والعز والذل، والصحة والمرض، والموت والحياة، ولا يرجح بعضها على بعض، ولا يثقل شيء منها على طبعه، إذ يرى صدور الكل من الله ـ سبحانه ـ، وقد رسخ حبه في قلبه، بحيث يحب افعاله، ويرجح على مراده مراده ـ تعالى ـ، فيرضى لكل ما يكون ويرد. وروي: " ان واحداً من ارباب الرضا عمر سبعين سنة، ولم يقل في هذه المدة لشيء كان: ليته لم يكن، ولا لشيء لم يكن: ليته كان " وقيل لبعضهم: " ما وجدت من آثار الرضا في نفسك؟ فقال: ما في رائحة من الرضا، ومع ذلك لو جعلني الله جسراً على جهنم، وعبر عليه الاولون والآخرون من الخلائق ودخلوا الجنة، ثم يلقوني في النار، وملأ بي جهنم، لا حببت ذلك من حكمه، ورضيت به من قسمه، ولم يختلج ببالي أنه لم كان كذا، وليت لم يكن كذا، ولم هذا حظي وذاك حظهم ". وصاحب الرضا أبداً في روح وراحة، وسرور وبهجة، لأنه يشاهد كل شيء بعين الرضا، وينظر في كل شيء إلى نور الرحمة الإلهية، وسر الحكمة الأزلية، فكأن كل شيء حصل على وفق مراده وهواه. وفائدة الرضا، عاجلاً، فراغ القلب للعبادة والراحة من الهموم، وأجلاً، رضوان الله والنجاة من غضبه ـ تعالى ـ.
[1]  هذا من عجائب المنقولات الخرافية، والغريب من (أبى حامد الغزالي) ان يركن إلى مثله، وقد أشار المصنف ـ قدس سره ـ إلى بطلان ما نقله بقوله: (ولا ريب).
[2]  الأعراف، الآية: 154.
[3]  طه، الآية: 24. النازعات، الآية: 17.
[4]  الشعراء، الآية: 14.
[5]  الشعراء، الآية: 13.
[6]  طه، الآية: 45.
[7]  القلم، الآية: 48.
[8]  البقرة، الآية: 253.
[9]  مريم، الآية: 33.
[10]  مريم، الآية: 14.
[11]  يوسف، الآية: 8.
[12]  صححنا هذا القول، وكذا الحديث السابق، على (مصباح الشريعة): باب 24، وعلى (البحار): ـ باب العزلة عن شرار الخلق ـ: مج 15: 2/51 طبعة أمين الضرب.
[13]  صححنا هذا الحديث، وكذا الأخبار القدسية السابقة، على (إحياء العلوم): 4/295 ـ 296.
[14]  صححنا هذا الحديث، وكذا ما روي قبله عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ على (أصول الكافي): ج2 ـ باب الرضا بالقضاء. وعلى (سفينة البحار): 1/224.
[15]  صححنا الحديث على (إحياء العلوم): 4/295.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page