• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجزء الأول سورة البقرة آیات 25الی29


وَ بَشرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ أَنَّ لهَُمْ جَنَّت تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ كلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِن ثَمَرَة رِّزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشبِهاً وَ لَهُمْ فِيهَا أَزْوَجٌ مُّطهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(25)
اللغة
البشارة هي الإخبار بما يسر المخبر به إذا كان سابقا لكل خبر سواه لأن الثاني لا يسمى بشارة و قد قيل للإخبار بما يغم أيضا بشارة كقوله تعالى : « و بشرهم بعذاب أليم » و ذلك على سبيل التوسع و هي مأخوذة من البشرة و هي ظاهر الجلد لتغيرها
مجمع البيان ج : 1 ص : 161
بأول خبر و تباشير الصبح أوله و الجنات جمع الجنة و هي البستان و المراد بذلك الجنة ما في الجنة من أشجارها و ثمارها دون أرضها فلذلك قال « تجري من تحتها الأنهار » لأن من المعلوم أنه أراد الخبر عن ماء أنهارها بأنه جار تحت الأشجار لأن الماء إذا كانت تحت الأرض فلا حظ فيها للعيون على أنه روي عن مسروق أن أنهار الجنة جارية في غير أخاديد رواه عنه أبو عبيدة و غيره و أصلها من الجن و هو الستر و منه الجن لتسترها عن عيون الناس و الجنون لأنه يستر العقل و الجنة لأنها تستر البدن و الجنين لتستره بالرحم قال المفضل البستان إذا كان فيه الكرم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غيره أو لم يكن و الجنة كل بستان فيه نخل و إن لم يكن فيه غيره و الأزواج جمع زوج و الزوج يقع على الرجل و المرأة و يقال للمرأة زوجة أيضا و زوج كل شيء شكله و الخلود الدوام و البقاء .

الإعراب
موضع أن مع اسمه و خبره نصب معناه بشر المؤمنين بأن لهم جنات فلما سقطت الباء أفضى الفعل إلى أن فنصبه و على قول الخليل يكون أن في موضع جر و إن سقطت الباء و جنات منصوب بأنه اسم أن و لهم الجار و المجرور في موضع خبره و التاء تاء جماعة المؤنث تكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة كما أن ياء جماعة الذكور في الزيدين و نحوه يكون في حال النصب و الجر على صورة واحدة و قوله « تجري » مع ما اتصل به جملة منصوبة الموضع بكونها صفة لجنات و كلما ضم كل إلى ما الجزاء فصارا أداة للتكرار و هو منصوب على الظرف و العامل فيه رزقوا منها من ثمرة من مزيدة أي ثمرة و قال علي بن عيسى هي بمعنى التبعيض لأنهم يرزقون بعض الثمرات في كل وقت و يجوز أن يكون بمعنى تبيين الصفة و هو أن يبين الرزق من أي جنس هو و من قبل تقديره أي من قبل هذا الزمان أو هذا الوقت فحذف المضاف إليه منه لفظا مع أن الإضافة مرادة معنى فبني لأجل مشابهته الحرف و إنما بني على الحركة ليدل على تمكنه في الأصل و إنما خص بالضم لأن إعرابه عند الإضافة كان بالفتح أو الجر نحو من قبلك و قبلك لكونه ظرفا فبني على حركة لم تكن تدخلها في الإعراب و هي الضمة و موضعه نصب على الظرف و متشابها نصب على الحال و أزواج رفع أما بالابتداء أو بالظرف .

المعنى
قرن الله تعالى الوعد في هذه الآية بالوعيد فيما قبلها ليحصل الترغيب و الترهيب فقال « و بشر » أي أخبر بما يسر « الذين آمنوا » أي صدقوا « و عملوا الصالحات » فيما بينهم و بين ربهم عن ابن عباس ب « أن لهم جنات تجري من تحتها »
مجمع البيان ج : 1 ص : 162
أي من تحت أشجارها و مساكنها « الأنهار » و النهر لا يجري و إنما يجري الماء فيه و يستعمل الجري فيه توسعا لأنه موضع الجري و قوله : « كلما رزقوا منها » أي من الجنات و المعنى من أشجارها و تقديره كلما رزقوا من أشجار البساتين التي أعدها الله للمؤمنين « من ثمرة رزقا » أي أعطوا من ثمارها عطاء و أطعموا منها طعاما لأن الرزق عبارة عما يصح الانتفاع به و لا يكون لأحد المنع منه « قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » فيه وجوه ( أحدها ) أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل هذا قول أبي عبيدة و يحيى بن كثير ( و ثانيها ) أن معناه هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا عن ابن عباس و ابن مسعود و قيل هذا الذي وعدنا به في الدنيا ( و ثالثها ) معناه هذا الذي رزقناه من قبل في الجنة أي كالذي رزقنا و هم يعلمون أنه غيره و لكنهم شبهوه به في طعمه و لونه و ريحه و طيبه و جودته عن الحسن و واصل قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله و أقوى الأقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال : « كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل » فعم و لم يخص فأول ما أتوا به لا يتقدر فيه هذا القول إلا بأن يكون إشارة إلى ما تقدم رزقه في الدنيا و يكون التقدير هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا لأن ما رزقوه في الدنيا قد عدم فأقام المضاف إليه مقام المضاف كما أن القائل إذا قال لغيره أعددت لك طعاما و وصفه له يحسن أن يقول هذا طعامي في منزلي يريد مثله و من جنسه و قوله « و أتوا به » أي جيئوا به و ليس معناه أعطوه و قوله « متشابها » فيه وجوه ( أحدها ) أنه أراد متشابها في اللون مختلفا في الطعم عن ابن عباس و مجاهد ( و ثانيها ) أن كلها متشابه في الجودة خيار لا رذل فيه عن الحسن و قتادة و اختاره الأخفش قال و هذا كما يقول القائل و قد جيء بأشياء فاضلة فاشتبهت عليه في الفضل لا أدري ما اختار منها كلها عندي فاضل كقول الشاعر :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري يعني أنهم قد تساووا في الفضل ( و ثالثها ) أنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب عن عكرمة ( و رابعها ) أنه يشبه بعضه بعضا في اللذة و جميع الصفات عن أبي مسلم ( و خامسها ) أن التشابه من حيث الموافقة فالخادم يوافق المسكن و المسكن يوافق الفرش و كذلك جميع ما يليق به و قوله « و لهم فيها أزواج » قيل هن الحور العين و قيل هن
مجمع البيان ج : 1 ص : 163
من نساء الدنيا قال الحسن هن عجائزكم الغمص الرمص العمش طهرن من قذرات الدنيا « مطهرة » قيل في الأبدان و الأخلاق و الأعمال فلا يحضن و لا يلدن و لا يتغوطن و لا يبلن قد طهرن من الأقذار و الآثام و هو قول جماعة المفسرين « و هم فيها » أي في الجنة « خالدون » يعني دائمون يبقون بقاء الله لا انقطاع لذلك و لا نفاد لأن النعمة تتم بالخلود و البقاء كما تنتقص بالزوال و الفناء و الخلود هو الدوام من وقت مبتدإ و لهذا لا يقال لله تعالى خالد .
* إِنَّ اللَّهَ لا يَستَحْىِ أَن يَضرِب مَثَلاً مَّا بَعُوضةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كثِيراً وَ يَهْدِى بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَسِقِينَ(26)
القراءة
يستحيي بيائين و روي عن ابن كثير يستحي بياء واحدة و وجه هذه القراءة أنه استثقل اجتماع اليائين فحذف إحداهما و هي لغة بني تميم .

اللغة
الاستحياء من الحياء و نقيضه القحة .
و الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا يقال ضرب في التجارة و ضرب في الأرض و ضرب في سبيل الله و ضرب بيده إلى كذا و ضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه و ضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد يقال ضربت القول مثلا و أرسلته مثلا و ما أشبه ذلك و البعوض القرقس و هو صغار البق الواحدة بعوضة و المثل و المثل كالشبه و الشبه قال كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا
و ما مواعيده إلا الأباطيل و الفسق و الفسوق الترك لأمر الله و قال الفراء الفسق الخروج عن الطاعة تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت و لذلك سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها .

الإعراب
ما في قوله « ما بعوضة » بالنصب فيه وجوه ( أحدها ) أن تكون ما
مجمع البيان ج : 1 ص : 164
مزيدة و معناها التوكيد كما في قوله « فبما رحمة من الله لنت لهم » و تقديره أن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب ( و ثانيها ) أن يكون ما نكرة مفسرة ببعوضة كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى : « هذا ما لدي عتيد » فيكون تقديره لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء بعوضة فتكون بعوضة بدلا من شيئا ( و ثالثها ) ما يحكى عن الفراء أن معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية و له عشرون ما ناقة فجملا و هي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين في جميع ذلك و الاختيار عند البصريين الوجه الأول و إنما اختير هذا الوجه لأن ضرب هاهنا بمعنى جعل فجاز أن يتعدى إلى مفعولين و يدخل على المبتدأ و الخبر و في التنزيل ما يدل عليه و هو قوله تعالى : « إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء » فمثل الحياة مبتدأ و كماء خبره و في موضع آخر و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء فدخل اضرب على المبتدأ و الخبر فصار بمنزلة قولك ظننت زيدا كعمرو و يجوز في الإعراب الرفع في بعوضة و إن لم تجز القراءة به و فيه وجهان ( أحدهما ) أن يكون خبرا لمبتدء محذوف في صلة ما فكأنه قال الذي هو بعوضة كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع و هذا عند سيبويه ضعيف و هو في الذي أقوى لأن الذي أطول و ليس للذي مذهب غير الأسماء .
( و الثاني ) على الجواب كأنه لما قيل « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما » قيل ما هو فقيل « بعوضة » أي بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد فتكون ما على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة و الصلة و قوله « فأما الذين آمنوا » لغة العرب جميعا بالتشديد و كثير من بني تميم يقولون أيما فلان فيفعل كذا و أنشد بعضهم :
مبتلة هيفاء أيما وشاحها
فيجري و أيما الحجل منها فلا يجري و هي كلمة تجيء في شيئين أو أشياء يفصل القول بينهما كقولك أما زيد فمحسن و أما عمرو فمسيء فزيد مبتدأ و محسن خبره و فيها معنى الشرط و الجزاء و تقديره مهما يكن من شيء فزيد محسن ثم أقيم أما مقام الشرط فيحصل أما فزيد محسن ثم أخر الفاء إلى الخبر لإصلاح اللفظ و لكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام فقوله « الذين آمنوا » على هذا يكون مبتدأ و يعلمون خبره و كذلك « الذين كفروا » مبتدأ و يقولون خبره و قوله « ما ذا أراد الله بهذا مثلا » ما استفهام و هو اسم في موضع الرفع بالابتداء و ذا بمعنى الذي و صلته ما بعده و هو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ تقديره أي شيء الذي أراد
مجمع البيان ج : 1 ص : 165
الله فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل و يحتمل أن يكون ما و ذا بمنزلة اسم واحد تقديره أي شيء أراد الله فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل و مثال الأول قوله تعالى : « ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين » و مثال الثاني قوله « ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا » و مثلا منصوب على الحال و قيل على القطع و قيل على التفسير .

النزول
روي عن ابن مسعود و ابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قوله « مثلهم كمثل الذي استوقد نارا » و قوله « أو كصيب من السماء » قال المنافقون الله أعلى و أجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية و روي عن قتادة و الحسن لما ضرب المثل بالذباب و العنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين و عابوا ذكره فأنزل الله هذه الآية .

المعنى
« إن الله لا يستحيي » أي لا يدع و قيل لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شيء تركه و امتنع منه و معناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها و قيل معناه هو أن الذي يستحيي منه ما يكون قبيحا في نفسه و يكون لفاعله عيب في فعله فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح و لا عيب حتى يستحيي منه و قيل معناه أنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال « و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه » أي تستحيي الناس و الله أحق أن تستحييه فالاستحياء بمعنى الخشية هنا كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك و أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء و الامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح و قال علي بن عيسى معناه أنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيي منه فكأنه قال لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيي منه فوضع قوله « إن الله لا يستحيي » موضعه و قوله « ما بعوضة فما فوقها » أي ما هو أعظم منها عن قتادة و ابن جريج و قيل فما فوقها في الصغر و القلة لأن الغرض هاهنا الصغر و قال الربيع بن أنس أن البعوضة تحيى ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره و زيادة عضوين آخرين فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه و عجيب صنعه و قد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشيء الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق :
مجمع البيان ج : 1 ص : 166

ضربت عليك العنكبوت بنسجها
و قضى عليك به الكتاب المنزل و بقوله أيضا
و هل شيء يكون أذل بيتا
من اليربوع يحتفر الترابا و قوله « فأما الذين آمنوا » أي صدقوا محمدا و القرآن و قبلوا الإسلام « فيعلمون أنه الحق من ربهم » مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم و أن المثل وقع في حقه « و أما الذين كفروا » بالقرآن « فيقولون » أي فلإعراضهم عن طريق الاستدلال و إنكارهم الحق قالوا « ما ذا أراد الله بهذا مثلا » أي ما ذا أراد الله بهذا المثل فحذف الألف و اللام و قوله « يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا » فيه وجهان ( أحدهما ) حكي عن الفراء أنه قال أنه حكاية عمن قال ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا أي يضل به قوم و يهتدي به قوم ثم قال الله تعالى « و ما يضل به إلا الفاسقين » فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا و هذا وجه حسن و الآخر أنه كلامه تعالى ابتداء و كلاهما محتمل و إذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله « يضل به كثيرا » إن الكفار يكذبون به و ينكرونه و يقولون ليس هو من عند الله فيضلون بسببه و إذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه و قوله « و يهدي به كثيرا » يعني الذين آمنوا به و صدقوه و قالوا هذا في موضعه فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال و ذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن فضل عندها سميت إضلالا و إذا سهلت فاهتدى سميت هداية فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير و يهتدي بها قوم كثير و مثله قوله « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » أي ضلوا عندها و هذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها فظهر فسادها أفسدت فضتك و هو لم يفعل فيها الفساد و إنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته و قريب من ذلك قولهم فلان أضل ناقته و لا يريدون أنه أراد أن يضل و إنما يريدون ضلت منه لا من غيره و قولهم أفسدت فلانة فلانا و أذهبت عقله و هي ربما لم تعرفه و لكن لما ذهب عقله و فسد من أجلها أضيف الفساد إليها و قد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة و ترك المنع بالقهر و منع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم و هذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك أريد به أنك لم تحدث فيه الإصلاح في كل وقت
مجمع البيان ج : 1 ص : 167
بالصقل و الإحداد و قد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال و الحكم به كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال و أكفره إذا نسبه إلى الكفر قال الكميت :
فطائفة قد أكفروني بحبكم
و طائفة قالوا مسيء و مذنب و قد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك و العذاب و التدمير و منه قوله تعالى « إن المجرمين في ضلال و سعر يوم يسحبون في النار على وجوههم » و منه قوله تعالى « أ إذا ضللنا في الأرض » أي هلكنا و قوله « و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم » أي لن يبطل سيهديهم و يصلح بالهم فعلى هذا يكون المعنى أن الله تعالى يهلك و يعذب بالكفر به كثيرا بأن يضلهم عن الثواب و طريق الجنة بسببه فيهلكوا و يهدي إلى الثواب و طريق الجنة بالإيمان به كثيرا عن أبي علي الجبائي و يدل على ذلك قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه أو يكون أراد به التحيير و التشكيك فإن أراد الحيرة فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله إلا إذا وجدت حيرة قبلها أيضا و هذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة لا إلى أول أو ثبوت إضلال لا إضلال قبله و إذا كان ذلك من فعله فقد أضل من لم يكن فاسقا و هو خلاف قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » و على هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر و براءته منهم و لعنته عليهم إهلاكا لهم و يكون إهلاكه إضلالا و كل ما في القرآن من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه و لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان و إلى فرعون و السامري بقوله و لقد أضل منكم جبلا كثيرا و قوله « و أضل فرعون قومه » و قوله « و أضلهم السامري » و هو أن يكون بمعنى التلبيس و التغليط و التشكيك و الإيقاع في الفساد و الضلال و غير ذلك مما يؤدي إلى التظليم و التجويز على ما يذهب إليه المجبرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

] فصل في حقيقة الهداية و الهدى [
و إذا قد ذكرنا أقسام الإضلال و ما يجوز إضافته إلى الله تعالى منها و ما لا يجوز
مجمع البيان ج : 1 ص : 168
فلنذكر أقسام الهداية التي هي ضده اعلم أن الهداية في القرآن تقع على وجوه ( أحدها ) أن تكون بمعنى الدلالة و الإرشاد يقال هداه الطريق و للطريق و إلى الطريق إذا دله عليه و هذا الوجه عام لجميع المكلفين فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق بأن دله عليه و أرشده إليه لأنه كلفه الوصول إليه فلو لم يدله عليه لكان قد كلفه بما لا يطيق و يدل عليه قوله تعالى « و لقد جاءهم من ربهم الهدى » و قوله « إنا هديناه السبيل » و قوله « أنزل فيه القرآن هدى للناس » و قوله « و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى » و قوله « و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم » و قوله « و هديناه النجدين » و ما أشبه ذلك من الآيات ( و ثانيها ) أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى و منه قوله تعالى « و الذين اهتدوا زادهم هدى » أي شرح صدورهم و ثبتها ( و ثالثها ) أن يكون بمعنى الإثابة و منه قوله تعالى « يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم » و قوله « و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم و يصلح بالهم » و الهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة لأنه ليس بعد الموت تكليف ( و رابعها ) الحكم بالهداية كقوله تعالى « و من يهد الله فهو المهتد » و هذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة و هم المؤمنون و يزيدهم بإيمانهم و طاعاتهم ألطافا و يحكم لهم بالهداية لذلك أيضا ( و خامسها ) أن تكون الهداية بمعنى جعل الإنسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه كما يجعل الشيء متحركا بخلق الحركة فيه و الله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب فذلك هداية منه تعالى و هذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به و بأنبيائه و غير ذلك فإنها من فعل العباد و لذلك يستحقون عليها المدح و الثواب و إن كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك و إرشادهم إليه و دعائهم إلى فعله و تكليفهم إياه و أمرهم به فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم و منة منه واصلة إليهم و فضل منه و إحسان لديهم فهو سبحانه مشكور على ذلك محمود إذ فعل بتمكينه و ألطافه و ضروب تسهيلاته و معوناته .
الَّذِينَ يَنقُضونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَ يَقْطعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصلَ وَ يُفْسِدُونَ فى الأَرْضِ أُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ(27)

مجمع البيان ج : 1 ص : 169
اللغة
النقض نقيض الإبرام و العهد العقد و العهد الموثق و العهد الالتقاء و هو قريب العهد بكذا و عهد الله وصيته و أمره يقال عهد الخليفة إلى فلان بكذا أي أمره و أوصاه به و منه قوله تعالى « أ لم أعهد إليكم يا بني آدم » و الميثاق ما وقع التوثيق به كما أن الميقات ما وقع التوقيت به و يقال فلان ثقة يستوي فيه الواحد و الجمع و المذكر و المؤنث و يقال ثقات في الرجال و النساء و القطع الفصل بين الشيئين و أصل ذلك في الأجسام و يستعمل ذلك أيضا في الأعراض تشبيها به يقال قطع الحبل و قطع الكلام و الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل هذه صيغته ثم يصير أمرا بإرادة الآمر المأمور به و صيغة الأمر تستعمل في الإباحة نحو قوله فاصطادوا و في التهديد نحو قوله « اعملوا ما شئتم » و في التحدي نحو قوله « فأتوا بسورة من مثله » و في التكوين كقوله « كن فيكون » و الأصل في الجميع الطلب و الوصل نقيض الفصل و هو الجمع بين شيئين من غير حاجز و الخسران النقصان و الخسار الهلاك و الخاسرون الهالكون و أصل الخسران ذهاب رأس المال .

الأعراب
« الذين ينقضون » في موضع النصب لأنها صفة الفاسقين و أولئك مبتدأ و الخاسرون خبره و هم فصل و يجوز أن يكون مبتدأ و الخاسرون خبره و الجملة خبر أولئك و قوله « من بعد ميثاقه » من مزيدة و قيل معناه ابتداء الغاية و الهاء في ميثاقه عائد إلى العهد و يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الله تعالى و قوله « أن يوصل » بدل من الهاء التي في به أي ما أمر الله بأن يوصل فهو في موضع جر به .

المعنى
ثم وصف الله الفاسقين المذكورين في الآية فقال هم « الذين ينقضون عهد الله » أي يهدمونه لا يفون به و قيل في عهد الله وجوه ( أحدها ) أنه ما ركب في عقولهم من أدلة التوحيد و العدل و تصديق الرسل و ما احتج به لرسله من المعجزات الشاهدة لهم على صدقهم و نقضهم لذلك تركهم الإقرار بما قد بينت لهم صحته بالأدلة ( و ثانيها ) أنه وصية الله إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهاهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به ( و ثالثها ) أن المراد به كفار أهل الكتاب و عهد الله الذي نقضوه « من بعد ميثاقه » هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتباع محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و التصديق بما جاء به من عند ربه و نقضهم لذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته و كتمانهم ذلك عن الناس بعد أن أخذ الله ميثاقهم ليبيننه للناس و لا يكتمونه و أنهم إن جاءهم نذير آمنوا به فلما جاءهم النذير ازدادوا نفورا و نبذوا العهد وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا و اختار هذا الوجه الطبري ( و رابعها ) أنه العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب
مجمع البيان ج : 1 ص : 170
آدم كما وردت به القصة و هذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحتج على عباده بعهد لا يذكرونه و لا يعرفونه و لا يكون عليه دليل و قوله تعالى « و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل » معناه أمروا بصلة النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و المؤمنين فقطعوهم عن الحسن و قيل أمروا بصلة الرحم و القرابة فقطعوها عن قتادة و قيل أمروا بالإيمان بجميع الأنبياء و الكتب ففرقوا و قطعوا ذلك و قيل أمروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل معناه الأمر بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه و هذا أقوى لأنه أعم و يدخل فيه الجميع و قوله « و يفسدون في الأرض » قال قوم استدعاؤهم إلى الكفر هو الفساد في الأرض و قيل إخافتهم السبيل و قطعهم الطريق و قيل نقضهم العهد و قيل أراد كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها و الأولى حمله على العموم « أولئك هم الخاسرون » أي أهلكوا أنفسهم فهم بمنزلة من هلك رأس ماله و روي عن ابن عباس أن كل ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين فإنما عنى به الكفر و ما نسبه إلى المسلمين فإنما عنى به الدنيا .
كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كنتُمْ أَمْوَتاً فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28)
القراءة
قرأ يعقوب ترجعون بفتح التاء على أن الفعل لهم و الباقون بضم التاء و فتح الجيم على ما لم يسم فاعله .

الإعراب
كيف في الأصل سؤال عن الحال و يتضح ذلك في الجواب إذا قيل كيف رأيت زيدا فتقول مسرورا أو مهموما و ما أشبه ذلك فتجيب بأحواله فكيف ينتظم جميع الأحوال كما أن كم ينتظم جميع العدد و ما ينتظم جميع الجنس و أين ينتظم جميع الأماكن و من ينتظم جميع العقلاء و معناه في الآية التوبيخ و تقديره أ متعلقين بحجة تكفرون فيكون منصوب الموضع على الحال و العامل فيه تكفرون و قال الزجاج هو استفهام في معنى التعجب و هذا التعجب إنما هو للخلق أو للمؤمنين أي أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون و قد ثبتت حجة الله عليهم و معنى و كنتم و قد كنتم و الواو واو الحال و إضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه و مثله قوله تعالى « أو جاءوكم حصرت صدورهم » أي قد حصرت صدورهم و هي جملة في موضع الحال و إنما وجب إظهار قد في مثل هذا أو
مجمع البيان ج : 1 ص : 171
تقديرها لأن الماضي لا يكون حالا و قد إنما يكون لتقريب العهد و لتقريب الحال فبدخوله يصلح أن يكون الفعل الماضي حالا .

المعنى
ثم عاد الله تعالى إلى الاحتجاج على الكفار في إنكارهم البعث و جحودهم لرسله و كتبه بما أنعم به عليهم فقال « كيف تكفرون بالله » و من قال هو توبيخ قال معناه ويحكم كيف تكفرون كما يقال كيف تكفر نعمة فلان و قد أحسن إليك و من قال هو تعجب قال تقديره عجبا منكم على أي حال يقع منكم الكفر بالله مع الدلائل الظاهرة على وحدانيته و المعجزات القاهرة على صدق من اختصه برسالته و قيام الحجج الباهرة على وجوب طاعته و شكر نعمته ثم ذكر سبحانه بعض نعمه عليهم فقال « و كنتم أمواتا فأحياكم » أي و حالكم أنكم كنتم أمواتا و فيه وجوه ( أحدها ) أنهم كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم يعني نطفا فأحياهم الله ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم بعد الموت فهما حياتان و موتتان عن قتادة ( و ثانيها ) أن معناه لم تكونوا شيئا فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة عن ابن عباس و ابن مسعود ( و ثالثها ) أن معناه كنتم أمواتا يعني خاملي الذكر فأحياكم بالظهور ثم يميتكم عند تقضي آجالكم ثم يحييكم للبعث و العرب تسمي كل امرىء خامل ميتا و كل امرىء مشهور حيا كما قال أبو نخيلة السعدي
فأحييت من ذكري و ما كان خاملا
و لكن بعض الذكر أنبه من بعض ( و رابعها ) أن معناه كنتم نطفا في أصلاب آبائكم و بطون أمهاتكم و النطفة موات فأخرجكم إلى دار الدنيا أحياء « ثم يميتكم ثم يحييكم » في القبر للمسائلة « ثم إليه ترجعون » أي يبعثكم يوم الحشر للحساب و المجازاة على الأعمال و سمي الحشر رجوعا إلى الله تعالى لأنه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولى الحكم فيه غير الله كما يقال رجع أمر القوم إلى الأمير و لا يراد به الرجوع من مكان إلى مكان و إنما يراد به أن النظر صار له خاصة دون غيره و إنما بدأ الله تعالى بذكر الحياة و من بين سائر النعم التي أنعم بها على العبد لأن أول نعمة أنعم الله بها عليه خلقه إياه حيا لينفعه و بالحياة يتمكن الإنسان من الانتفاع و الالتذاذ و إنما عد الموت من النعم و هو يقطع النعم في الظاهر لأن الموت يقطع التكليف فيصل المكلف بعده إلى الثواب الدائم فهو من هذا الوجه نعمة و قيل إنما ذكر الموت لتمام الاحتجاج لا لكونه نعمة و في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من عباده الكفر و لا خلقه فيهم لأنه لو أراده منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله « كيف تكفرون بالله » كما لا يجوز أن يقول لهم كيف أو لم كنتم طوالا أو قصارا و ما أشبه ذلك مما
مجمع البيان ج : 1 ص : 172
هو من فعله تعالى فيهم .
هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فى الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ استَوَى إِلى السمَاءِ فَسوَّاهُنَّ سبْعَ سمَوَت وَ هُوَ بِكلِّ شىْء عَلِيمٌ(29)
اللغة
أصل الخلق التقدير و الجمع الضم و نقيضه الفرق و سميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس و الاستواء الاعتدال و الاستقامة و نقيضه الاعوجاج و السبع للمؤنث و السبعة للمذكر و السبع مشتق من ذلك لأنه مضاعف القوى كأنه ضوعف سبع مرات و العليم في معنى العالم قال سيبويه إذا أرادوا المبالغة عدوا إلى فعيل نحو عليم و رحيم .

المعنى
قال المفسرون لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله تعالى خلق السموات و الأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة فقال « هو الذي خلق لكم » أي لأجلكم « ما في الأرض جميعا » ما في موضع نصب بأنه مفعول بها و معناه أن الأرض و جميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم إما دينية فتستدلون بها على معرفته و إما دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا و قوله « ثم استوى إلى السماء » فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه قصد للسماء و لتسويتها كقول القائل كان الأمير يدبر أمر الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز أي تحول تدبيره و فعله إليهم ( و ثانيها ) أنه بمعنى استولى على السماء بالقهر كما قال لتستووا على ظهوره أي تقهروه و منه قوله « و لما بلغ أشده و استوى » أي تمكن من أمره و قهر هواه بعقله فعلى هذا يكون معناه ثم استوى إلى السماء في تفرده بملكها و لم يجعلها كالأرض ملكا لخلقه و منه قول الشاعر :
فلما علونا و استوينا عليهم
تركناهم صرعى لنسر و كاسر و قال آخر :
ثم استوى بشر على العراق
من غير سيف و دم مهراق ( و ثالثها ) أن معناه ثم استوى أمره و صعد إلى السماء لأن أوامره و قضاياه تنزل من السماء إلى الأرض عن ابن عباس ( و رابعها ) ما روي عن ثعلب أحمد بن يحيى أنه سئل
مجمع البيان ج : 1 ص : 173
عن معنى الاستواء في صفة الله عز و جل فقال الاستواء الإقبال على الشيء يقال كان فلان مقبلا على فلان ] يشتمه [ ثم استوى علي و إلي يكلمني على معنى أقبل إلي و علي فهذا معنى قوله « ثم استوى إلى السماء » و قوله « فسواهن سبع سماوات » التسوية جعل الشيئين أو الأشياء على استواء يقال سويت الشيئين فاستويا و إنما قال « فسواهن » فجمع الضمير العائد إلى السماء لأن السماء اسم جنس يدل على القليل و الكثير كقولهم أهلك الناس الدينار و الدرهم و قيل السماء جمع سماوة و سماءة و لذلك يؤنث مرة و يذكر أخرى فقيل السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي بينه و بين واحده الهاء نحو نخل و نخلة و بقر و بقرة و قيل إن السماوات كانت سماء فوق سماء فهي في التقدير واحدة و تكون الواحدة جماعة كما يقال ثوب أخلاق و أسمال و برقة أعشار و أرض أعقال و المعنى أن كل ناحية منها كذلك فجمع على هذا المعنى جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور و لا أمت قال علي بن عيسى أن السموات غير الأفلاك لأن الأفلاك تتحرك و تدور و السموات لا تتحرك و لا تدور لقوله « إن الله يمسك السموات و الأرض أن تزولا » و هذا قول ضعيف لأن قوله أن تزولا معناه لا تزول عن مراكزها التي تدور عليها و لو لا إمساكه لزالت عنها .

سؤال
ظاهر قوله تعالى « ثم استوى إلى السماء » يوجب أنه خلق الأرض قبل السماء لأن ثم للتعقيب و التراخي و قوله في سورة أخرى « و الأرض بعد ذلك دحاها » بخلافه فكيف يجمع بينهما الجواب معناه أن الله خلق الأرض قبل السماء غير أنه لم يدحها فلما خلق السماء دحاها بعد ذلك و دحوها بسطها و مدها عن الحسن و عمرو بن عبيد و قد يجوز أيضا أن لا يكون معنى ثم و بعد في هذه الآيات الترتيب في الأوقات و إنما هو على جهة تعداد النعم و التنبيه عليها و الإذكار لها كما يقول القائل لصاحبه أ ليس قد أعطيتك ثم رفعت منزلتك ثم بعد هذا كله فعلت بك و فعلت و ربما يكون بعض ما ذكره متقدما في اللفظ كان متأخرا لأن المراد لم يكن الإخبار عن أوقات الفعل و إنما المراد التذكير كما ذكره و قوله « و هو بكل شيء عليم » و لم يقل قدير لأنه لما وصف نفسه بالقدرة و الاستيلاء وصل ذلك بالعلم إذ بهما يصح وقوع الفعل على وجه الإتقان و الإحكام و أيضا فإنه أراد أن يبين أنه عالم بما يؤول إليه حاله و حال المنعم به عليه فتتحقق بذلك النعمة و في هذه الآية دلالة على أن صانع السماء و الأرض قادر و عالم و أنه تعالى إنما يفعل الفعل لغرض و أن له تعالى
مجمع البيان ج : 1 ص : 174
على الكفار نعما يجب شكره عليهم بها و فيها أيضا دلالة على أن الأصل في الأشياء الإباحة لأنه ذكر أنه خلق ما في الأرض لمنفعة العباد ثم صار حظا لكل واحد منهم فما يتفرد كل منهم بالتصرف فيه يحتاج إلى دليل


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page