• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة البقرة:قصَّة المولد البشري

 قبل أن نتحدّث عن المولد البشري ـ المتمثل في قصة خلق آدم (عليه السلام) ـ يجدر بنا
أن نشير إلى أنّ قصص آدم في القرآن متعدّدة أو متكرّرة ، و مثلها قصص اُخرى كقصص موسى (عليه السلام) و إبراهيم (عليه السلام)و سليمان (عليه السلام)و قصص المجتمعات البائدة ، أي قصص قوم نوح و هود و صالح ... إلى آخره. و لابدّ من الإشارة إلى أنّ تكرار القصص في القرآن الكريم لا يعني صياغتها بنفس المادة و عناصرها بقدر ما يعني تفاوت صياغتها بحسب متطلّبات السياق الذي ترد فيه القصة. و قد ترد الإشارة لهذه القصة أو تلك عابراً في نسق واحد من العرض ، إلاّ أنّ الغالب ، هو تفاوت الصياغة كما قلنا ...

فقصة آدم ـ كما سنرى ـ ترد في سياق علم الله تعالى حيث جاءت القصة بعد القسم الأوّل من السورة سورة البقرة فيما انتهت العبارة:

﴿وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ

من هنا جاءت القصة لتتحدّث عن علم اللّه تعالى بالنسبة إلى إبداع كوني جديد هو: لتجربة البشرية متمثّلة في إبداع آدم (عليه السلام)حيث ركّزت القصة حديثها على العلم الذي ينفرد به اللّه تعالى والعلم الذي أودعه لدى آدم (عليه السلام)و عدمه عند الملائكة الذين تساءلوا عن علّة خلق اللّه تعالى عمّن يفسد في الأرض... إلى آخره.

بعد ذلك تحدثت عن تجربة الشيطان و عدم سجوده... إلى آخره. و لكن لو اتّجهنا إلى قصة المولد البشري في سورة «طه» لوجدنا أنّ السياق يتمثل في عملية النسيان أو عدم الذكر للمهمة العبادية لدى الإنسان ، حيث أشارت السورة إلى نزول القرآن و إحداث الذكر أو التقوى في ممارسة المهمّة المتقدّمة ، و لكن السورة تابعت بعد قصة آدم بقولها: ﴿أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي: جاء النسيان أو عدم الذكر ، هو الموقف الفكري المطروح في هذا القسم من سورة «طه» ، و لذلك جاءت القصة لتركّز على هذا الجانب ، فقالت أوّلا:

﴿وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ... إذن جاء النسيان هنا مادة فكرية يستهدفها النص ، ... و لذلك أعقب هذا عرض قصة آدم من خلال التأكيد على تذكيره حيث قالت  مثلا:

﴿هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى

﴿إِنَّ لَكَ أَ لاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَ نَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى ...

و هذا النمط من التأكيد لم يرد في سورة اُخرى و حينئذ عندما يوسوس لهما الشيطان و ينسيان التذكير ، تكون القصة قد وردت في سياق النسيان و عدم الذكر.
و هكذا بالنسبة إلى سائر قصص آدم (عليه السلام) و القصص الاُخرى ، كما لا نجد ضرورة رصدها في هذه الدراسات ، لأنّ هدفنا هو إبراز القصة وحدها بما تحمله من هدف
خاص يجسّد عبرة لاُولي الألباب ...

أما ورود هذه القصة أو تلك في سياقات متنوّعة ، فقد تناولناه في دراسة شاملة لتفسير القرآن الكريم ، و هي الدراسة التي تحمل عنواناً هو «التفسير البنائي للقرآن الكريم» حيث عالجنا فيه سور القرآن الكريم من خلال العمارة أو البناء الهندسي للسورة من حيث صلة موضوعاتها و عناصرها بعضها مع الآخر ، و من جملة ذلك العنصر القصصي الذي يرد في سياق ما تتناوله السورة من الموضوعات أو حتى ورودها حيناً مستقلّةً كما هو الملاحظ في سورة  «نوح (عليه السلام) » مثلا حيث تمحّضت للعنصر القصصي ، فكان موضوع القصة هو الهدف الفكري للسورة ...

المهم بعد هذا التلميح إلى قصص القرآن المتكرّرة هو قصة المولد البشري أي خلق آدم (عليه السلام) ، لا مناص من الإشارة إلى أنّنا لا نعرض لجميع القصص المتكررة ،
بل نكتفي بواحدة منها حيناً ، و نكرر الحديث عن قصص اُخرى حيناً آخر بحسب ما تسمح لنا به الدراسة.

و نبدأ الآن و نتحدث عن قصة المولد البشري فنقول:

تعتمد هذه القصة من حيث الشكل الخارجي لها عنصر الحوار في عرضها لقضية المولد البشري ، و الحوار كما هو المألوف في الأدب القصصي قد يشكّل جزءاً من اللغة القصصية التي تعتمد كلاّ من السرد و الحوار ، أو تستقل بأحدهما في صياغة القصة.

و أهمية الحوار تتمثّل في مساهمته بجملة من ظواهر القصص الفنّية ، منها:
الكشف عن الأحداث و تطويرها ، و الكشف عن أعماق الأبطال فيما لا يتاح لنا أن نحيط بخفاياها لولا هذا العنصر الحيوي في القصة.

المهم أنّ مستويات الحوار و أشكاله ستتحدّد عند متابعتنا للقصص القرآني لاحقاً ، و يعنينا الآن أن نقف عند أوّل نماذجه ، و هو قصة آدم ، أي قصة المولد البشري فيما بدأت بهذا النحو من الحوار بين اللّه و الملائكة:

﴿وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ

﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً

﴿قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ

﴿وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ

﴿قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ

لقد كشف هذا الحوار عن التصوّر الملائكي للتجربة الأرضية الجديدة ، مثلما كشف عن حجم المعرفة التي أوكلتها السماءُ إليهم.

الملائكة يشكّلون نموذجاً خاصاً من مخلوقات اللّه ، كما أنّ طبيعة تركيبتهم قائمة على الامتثال لأوامر اللّه ، نظراً لكونهم لا يتجاذبهم طرفان من الدوافع التي تطبع الكائن الآدمي العقل و الشهوة ، بل يتحركون من خلال دافع واحد هو: العقل أو الخير أو الموضوعية.

و هذا يعني أنّ القارئ ـ و هو مقتنع بالسمة الملائكية المذكورة ـ يظل في تساؤل و دهشة حيال موقفهم من وجود خليفة في الأرض.

بيد أنّ الأهمّ من ذلك ، أنّ عنصر الحوار هو الذي تكفّل بالكشف عن أسرار الفكر الملائكي في هذا الصدد.

كان من الممكن مثلا ، أن تفصح القصّة عن موقف الملائكة المذكور من خلال عنصر السرد ، كأن تقول القصة:

خُيّل للملائكة بأنّ وجود الآدميين في الأرض يستتبع فساداً و سفكاً للدم ، بخلاف العنصر الملائكي الذي يتمحّض للحمد و التقديس.

إلاّ أنّ القصة اتجهت إلى الحوار بدلا من السرد مستهدفةً من ذلك في احتمالنا الفنّي حقيقتين:

إحداهما: أن نتعرّف على دقائق أفكار الملائكة من خلال ألسنتهم مباشرة ما دمنا ندرك جميعاً أنّ الاستماع المباشر أشدّ حيويةً و إمتاعاً من مجرّد النقل و الإخبار.

ثانياً: أن نتعرّف على المفارقات التي يَشيء بها سلوكُ الشخصية المتحاورة ، فيما ينبغي أن تُعهَدَ إليها مباشرة دون تدخّل من مبدع النص إلاّ بعد انتهاء الحوار.
و هو أمرٌ قد حقّقته القصةُ فعلا ، حينما عقّبت على موقف الملائكة بهذه الإجابة:

 ﴿إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ

*    *    *

الحوار إذاً تكفّل بمهمّة فنّية هي: الكشف عن أفكار الملائكة بكلّ دقائقها حيال خليفة الأرض.

طبيعيّاً ، قد يتساءل القارئ عن سبب هذا الموقف الملائكي حيال خليفة الأرض ، مع معرفته بتركيبتهم التي لايتجاذبها طرفان من الصراع بين الخير و الشر ، أو العقل و الشهوة.

القصة ساكتةٌ ـ فنّياً ـ عن هذا الجانب. إلاّ أنّ النصوص المفسّرة تكفّلت بشيء من توضيح الجانب المذكور ، فيما أوضح بعضها أنّ تساؤل الملائكة كان على نحو الاستخبار و ليس على وجه الاعتراض. بيد أنّ نصوصاً تفسيرية اُخرى قررت بأنّ الملائكة أدركوا خطأ موقفهم ، و تابوا إلى اللّه.

و أيّاً كان ، فإنّ وجه التساؤل هو ـ حسب بعض النصوص المفسّرة ـ وجود تجربة أرضيّة لعنصر الجانّ ، حيث أفسدوا في الأرض ، فبعث اللّه الملائكة وأجلوهم عنها ، و جُعلوا مكانهم. و لذلك تساءلوا عن السرّ في إعادة تجربة أرضيّة جديدة.

و الأهمّ من ذلك هو: أنّ سكوت النص عن تحديد السبب ، يظل من الوجهة الفنّية مرتبطاً بهدف القصة التي تشدّد على إبراز علم اللّه ، و إلى أنّ الملائكة الذين اختيروا وفق تركيبة خاصة ، ... حتّى هؤلاء لا يمكنهم أن يقفوا على الأسرار و ما تنطوي عليه من الحِكَم و المصالح.

و من هنا جاء تعقيبُ القصة على تساؤلهم المذكور ، بأنّ اللّه «يعلم ما لا يعلمون» تأكيداً لهذه الحقيقة الفنّية التي أشرنا إليها.

مضافاً لذلك ، فإنّ سرّاً فنّياً آخر يكمن وراء الحقيقة المذكورة ، و هي: إكساب الشخصية الآدمية قدراً ضخماً من التقدير و التفضيل ، تكفّل القسمُ الثاني من القصة بتحديده.

*    *    *

القسم الثاني من القصة يبدأ على هذا النحو:

﴿وَ عَلَّمَ آدَمَ الاَْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ

﴿فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

﴿قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

﴿قالَ: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ

﴿فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ

﴿قال: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الاَْرْضِ

﴿وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

إنّ هذا الحوار الجديد بين اللّه و الملائكة يكشف عن أسرار فنّية جديدة تتصل بسمات الملائكة و الآدميّين.

القارئ يستكشف بأنّ هدف القصة في هذه الشريحة الجزئية منها ، هو إبراز علم اللّه الذي لا يرقى إليه المخلوقون أيّاً كانوا من جانب ، و إكساب الشخصية الآدميّة قيمةً قد تفوّق الملائكة من جانب آخر.

فها هم الملائكة الذين تساءلوا عن سرّ التجربة الأرضيّة الجديدة قد واجهوا تجربة جديدة لم تخطر ببالهم ، ألا و هي: أنّ آدم الذي تساءلوا عنه ، قد أفاض اللّه عليه علماً لم يكن الملائكة على إحاطة به. و هنا أقرّوا بعدم علمهم و أدركوا بأنّ تساؤلهم ـ أو بالأحرى ، أدرك القارئ ـ بأنّ التساؤل المذكور ناجمٌ من القصور المَعرفي عند الكائنات جميعاً ، و إلى أنّ اللّه جعل من الخلافة الأرضيّة تجربةً خاصةً أكسَبَها للآدميين بنحو فضّلهم من خلاله على كثير ممّن خلق تفضيلا ...  .

هذا الاستخلاص للدلالة المذكورة لم تحدّده القصة مباشرة ، بل تركتنا ـ نحن القرّاء ـ نستكشفه من خلال لغة الفنّ الذي يكتسب خطورة بقدر ما يجعل القارئ مساهماً في عمليات الاستكشاف الذهني ، ... و هي حقيقة يعرفها كلّ مَن اُوتي خبرة في تذوّق النص القصصي.

و من هنا يمكننا أن ندرك دلالة ما أوضحه الإمام علىّ (عليه السلام) حينما قرّر حقيقة
التركيبة الدافعية لكلٍّ من الآدميين و الملائكة على النحو الذي استشهدنا به سابقاً و تعقّبه على ذلك:

«فَمَن غَلَبَ عقلُه شهوتَه كان خيراً من الملائكة».

و سنرى ـ فضلا عمّا تقدم ـ أنّ الأمر بسجود الملائكة لآدم ، يظل حاملا شيئاً من الحقيقة المذكورة ، و هو ما يتكفّل القسمُ الثالث من القصة بعرضه.

*    *    *

يبدأ القسمُ الثالث من القصة ، على هذا النحو:

﴿وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لاِدَمَ

﴿فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ

لقد تدرّجت القصةُ ـ فنّياً ـ في صياغتها لهذه الحقيقة ، و نعني بها أهمية الكائن الآدمي. ففي القسم الأوّل من القصة ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً حدّدت بنحو مُجمل أهمية هذا الكائن ، بحيث سحبت عليه سمة الخليفة.

و في القسم الثاني ، أوضحت بعض الأسرار المتصلة بهذا الكائن ، فجعلته موضع تقدير خاص ، هو إيداعه علماً لم يتوفّر حتى عند الملائكة.

و في القسم الثالث ، جاءت المطالبة بسجود الملائكة له إشعاراً بأهميته المذكورة ، بعد أن مهّدت لذلك بعضاً من أسباب الأمر بالسجود له.

و بهذا النحو من البناء العماري للأقسام الثلاثة من القصة ، أفرزت أهميّة الخليفة في الأرض من حيث الموازنة بينه و بين الملائكة.

و أمّا من حيث العلاقة بين الكائنين: الآدميّين و الملائكة ، فقد تدرّجت القصة ـ فنّياً ـ في صياغة الموقف الملائكي من الخليفة في الأرض ، فأوّلا مهّدت القصة بموقف متحفظ لدى الملائكة ، هو التساؤل و الدهشة من جعل مثل هذا الخليفة ، ثم انتقلت من موقف متحفظ لدى الملائكة إلى رسم موقف متمرّد صراحةً.

في هذا القسم من القصة ، أو في هذا الموقف المتمرّد على السجود ، تُدخل القصة شخصيةٌ جديدة هي إبليس.

و قد أحاطت القصةُ هذه الشخصية بغموض فنّي من حيث صلته بعنصر الملائكة.

و سبب هذا الغموض يعود إلى أسرار فنّية تخصّ صياغة الشكل القصصي ، فالقصة كما قلنا سابقاً ليست في صدد عرض الحقائق المتصلة بتركيبة الملائكة و افتراقهم عن الآدميين ، أو نقاط الإلتقاء بين العنصرين بقدر ما هي في صدد إبراز أهميّة الكائن الآدمي عبر ممارسته لوظيفة العبادة أو الخلافة. و لذلك أهملت كلّ ما يتصل بالفارقية بين العنصرين ، و شدّدت على إبراز كلّ ما يتصل بأهمية العنصر الآدمي.

أمّا نصوص التفسير ، فهي التي تتكفّل بإبراز سائر الحقائق المتصلة بهذا الجانب أو ذاك ، مادام هدفها توضيح ما اُبهم ، بخلاف القصة التي يظل هدفها عرض الحقائق وفق هندسة خاصة تتصل بعملية التلقّي و طرائق الاستجابة المؤثرة.

و المهم أنّ نصوص التفسير ، قد تفاوتت في تحديد شخصية إبليس الذي أبهمها النص ، و لم يتعرّض لتحديد هويّتها مفصلا. فَثَمَةَ نصوص تذهب إلى أ نّه من عنصر الجنّ. و في الحالين ، فإنّ منطق القصة الفنّي يعزّز كلاّ من التفسيرين.

أمّا الذهاب إلى أ نّه من عنصر الملائكة  فإنّ إبراز موقفهم من آدم وفق التدرّج الذي ذكرناه ، يظل من الوضوح بمكان كبير.

و أمّا الذهاب إلى أ نّه من الجنّ فإنّ تميّزهم عن الآدميّين و تماثلهم مع الملائكة من حيث كونهم عنصراً غير مرئي ، يظل بدوره متوافقاً مع عملية التدرّج الفنّي التي أشرنا إليها.

و المهم ، أنّ إبليس و هو يدخل شخصيةً جديدة في القصة ، سيُنهي دور الملائكة ، أو لِنقُل: إنّ دور الملائكة بصفتهم أبطالا ثانويين في القصّة قد انتهى مع عملية التساؤل و إعلامهم بحقيقة الأمر. و جاء الآن دور إبليس الذي لم يقف بعد عند التمرّد ، بل كما سنرى في القسم الرابع من القصة ، أنّ لدخول هذه الشخصية آثاراً ستعكس فاعليّتها على أحداث القصة لاحقاً على النحو الذي سيحدده القسمُ الرابع منها.

*    *    *

يبدأ القسم الرابع من قصة الميلاد البشري ، بالنحو الآتي:

﴿وَ قُلْنا: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ

﴿وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما

﴿وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ

﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ

﴿وَ قُلْنَا: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ

﴿وَ لَكُمْ فِي الاَْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِين

﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمات فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ

﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ

﴿وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ

بهذا القسم تنتهي قصة الميلاد البشري.

و يُلاحظ أنّ هذا القسم من القصة ، قد دخلته شخصية جديدة هي: حوّاء. كما أنّ أحداثاً جديدة قد انتظمته ، متمثلة في سكنى الجنّة ، و الأكل منها ، و النهي عن الشجرة ، و إزلال الشيطان لآدم و حوّاء ، و إخراجهما من الجنّة ، و توبة آدم (عليه السلام). ثم هبوطهما إلى الأرض.

إنّ هذه الأحداث السريعة المتلاحقة ، تمّت صياغتها وفق عمارية ممتعة ، و انتخاب من بين وقائع متنوعة ، مفصلة ، تكفّلت بها نُصوص قصصية اُخرى.

و يعنينا أن نشير إلى الأسرار الفنّية التي تقف وراء انتقاء وقائع خاصة دون سواها من هذه القصة.

إنّ القصة لم تتحدث عن تفصيلات تتصل بطريقة إبليس في إزلال آدم ، و لا بطريقة الخروج من الجنّة و ما واكبها من تفصيلات ذُكرت في قصص اُخرى.

لقد اعتمدت القصة في بداية هذا القسم عنصر المفاجئة فيما يتصل ببطل جديد هو حوّاء أو زوجة آدم فيما لم يسبق ذلك أيّ تمهيد للبطل المذكور. و رسمت لنا بيئةً أوليّة للبطلين ، هي: الجنّة ، ثم شدّدت على ملمح خاص من البيئة المذكورة ، هي: شجرة مبهمة ، أُمِرَ البَطلان بعدم تناول شيء منها ، ثم طوت الأحداث و أبرزت دخول الشيطان إلى بيئة القصة ، حيث أزلّ البطلين ، فأُخرجا من الجنّة.

ثم رسمت القصة قضية التوبة و قبولها ، بعد ذلك اتجه رسمُ القصة إلى هبوط الكائن الجديد إلى الأرض ، ثم تجربة الأرض بعامّة من حيث كونها مستقرّاً إلى حين ، و من حيث ترتيب آثار العقاب و الثواب على التجربة المذكورة.

و السؤال هو: لماذا لم نلحظ ـ فضلا عن البيئة التي تحرّك آدم من خلالها ـ التفصيلات المتصلة بموقف إبليس منذ بداية القصة مثلا  ، حيث لوحظ أنّ كلّ ذلك قد اختزُل ، و أنّ المواقف و الوقائع قد انتُخبت ، خاطفة ، سريعة ، لمّاحة ، كالبرق لا تحمل أدنى تفصيل.

و نُجيب:

إنّ القصة مادامت تستهدف قضية العلم و الخلافة في الأرض ، ثم ما يقف حيالهما من طرفي الصراع ، ... حينئذ فإنّ رسم المواقف و الوقائع و الشخصيات ، يظل خاضعاً لعملية انتخاب خاص ، يتناسب و الأهداف المذكورة.

إنّ وجود خليفة في الأرض مُزوّد بطاقة علمية تنير له معالم الخلافة ، هو عصب القصة. كما أنّ وجود طرف آخر يقف حجراً أمام الطريق ، هو المسوّغ لدلالة التجربة الجديدة: ميلاد البشرية. فالتجربة تتطلب طرفين من الصراع من الممكن تجاوزها مادام العلم الذي أودعته السماء في الشخصية الآدمية كفيل بإنارة الطريق لها ، و تنكبّ الدروب التي تنشر الحجارة فيها هنا و هناك ، هذا هو الهدف الذي ينتظم القصة ...

و المهم من الزاوية الفنّية أنّ القصة رسمت موازنة بين تجربة الخلافة في الأرض ، و بين تجربتها قبل الهبوط إلى الأرض ، بين تجربة آدم (عليه السلام) و هو في الجنة يتعرض لصراع و بين تجربة الآدميين و هم في الأرض يتعرضون لصراع ...

هذه الموازنة ينبغي أن نقف عندها و نتأمّلها بدقة ، ما دمنا نعرف أنّ القصص القرآني حينما يتجه إلى شكل فنّي خاص ، إنّما يستهدف من ذلك إلقاء إنارة ضخمة على دلالات القصة قبل كلّ شيء ، و إفادتنا ـ نحن القرّاء ـ من ذلك ، في محاولتنا لتعديل السلوك عبر مهمة خلافتنا في الأرض.

و في ضوء هذا يمكننا الآن أن نتابع تفصيلا طريقة رسم الوقائع و المواقف و الشخصيات حتى نتبيّن أسرار الفنّ وراء ذلك.

و لعلّ الوقوف على رسم الأبطال يتكفل بتوضيح سائر العناصر القصصية الاُخرى، فلنقف إذن عندها.

لقد انشطر شخوص القصة إلى ملامح محددة مثل: آدم ، حوّاء ، إبليس. و إلى ملامح مبهمة مثل: الملائكة.

و انشطروا إلى نمطين أيضاً ، شخصيات رئيسة مثل: آدم ، و ثانوية مثل: إبليس ، حواء ، الملائكة.

كما أنّ الأبطال قد انشطروا إلى نمطين: إنس و ملائكة ، أو إنس و ملائكة ، مضافاً إلى جنسهم المماثل: الجنّ.

و أخيراً رُسِمَ الأبطال جميعاً بملامح النموّ حسب اللغة القصصية ، أي رسموا ذوي مواقف غير ثابتة ، بحيث بدأوا في القصة بملامح معينة و انتهوا بملامح اُخرى.

و الآن ما هي المسوّغات الفنّية لمثل هذا الرسم للأبطال المذكورين؟

من حيث تحديد هوية الأبطال أو إبهامهم ، نجد أنّ تحديد شخصية مثل آدم يظل متناسباً مع خطورة المولد البشري ، فيما يتطلّب المعرفة برجوعنا إلى أصل محدّد.

و حوّاء محكومة بنفس الطابع.

أما التحديد لشخصية إبليس ، فيتناسب بدوره مع خطورة الشخصية المذكورة ، و تمثيلها طرف الصراع الآخر من تجربة الأرض.

و هذا كلّه بخلاف شخوص الملائكة الذين رُسموا ذوي ملامح مبهمة ، عامّة ، غير محدّدة. فالمهمّة التي اُنيطت بهم ، مهمّة جماعية ، و مواقفهم جماعية ، فيما كانت منصبّة على تساؤلهم عن سرّ الخليفة في الأرض ، و إقرارهم بعدم المعرفة ، و السجود لآدم (عليه السلام) دون أن يكون البعض منهم متميزاً عن الآخر.

و من هنا جاء رسمُهم أبطالا مُبهمين أمراً يتناسب و الطابع المذكور.

أمّا فيما يتصل بتقسيم الأبطال إلى رئيسين و ثانويين ، فيمكننا أن نذهب إلى أنّ آدم بصفته شخصية رئيسة ، يظل أمراً من الوضوح بمكان كبير. فمادامت هذه الشخصية مجسّدة للآدميين في تجربتهم الخلافية في الأرض ، حينئذ ينبغي أن تُرسم شخصية رئيسة تتحرّك في الأقسام الأربعة من القصة.

ففي القسم الأوّل من القصة تحرّك آدم من خلال جعله خليفة.

و في القسم الثاني تحرّك آدم من خلال تعلّمه الأسماء كلها.

و في القسم الثالث أُمرت الملائكة و إبليس بالسجود له.

و في القسم الرابع تمّ سكناه في الجنّة ، و هبوطه إلى الأرض.

و هذا بخلاف الأبطال الآخرين: الملائكة ، إبليس ، حوّاء فيما رُسموا ثانويين يمارسون وظائفهم في نطاق محدّد ، ثم يُخلون من مسرح الأحداث بعد أن يكونوا قد ألقوا إنارة على الموقف.

فالملائكة مثلا قد انتهى دورهم في نطاق التساؤل عن سرّ الخلافة و السجود ، حيث ألقوا إنارة على الموقف متمثلة في عدم علمهم بأسرار الخلافة ، و تحسيسنا بأهميّتها في تجربة الأرض.

و أمّا حوّاء فتجسّد شخصيتها عنصر التزاوج الذي لا مناص منه في استمرارية النسل البشري ، و لذلك لم تدخل بيئة القصة إلاّ في القسم الأخير منها بما واكبه من السكنى و الهبوط من الجنّة.

و أمّا شخصية إبليس فقد دخلت القصة في نطاق التمرّد و التضليل اللذين يمثّلان مرحلة تاليةً على جعل آدم خليفةً ، و الأمر بالسجود له.

و أخيراً فإنّ الرسم للشخوص بطابع النموّ و الانقلاب في المواقف ، يمكننا أن نلحظه متناسباً مع قضية المولد البشري الذي يتطلّب صراعاً مع طرفي التجاذب في السلوك. فإبليس رُسِمَ شخصية نامية بدأت مطيعة و انتهت متمرّدة. و آدم و حواء اللذان بدءآ بالسكنى في الجنّة بشكل اعتيادي ، إذا بهما يتعرضان للإزلال ، ممّا استتبع هبوطهما إلى الأرض. و الملائكة بدأوا في القصة متسائلين ، و انتهوا عارفين بحقيقة الأمر ... كلّ هذه المستويات من الانقلاب داخل الأبطال ، تظل متناسبة مع تجربة جديدة لا عهد للأبطال بها ، حيث دفعهم ذلك إلى التسرّع في الاستجابة حيال هذا المثير أو ذاك ، بغضّ النظر عن مستوى المفارقة التي
تفاوت الأبطال في درجتها.

و إذا استثنينا شخصية إبليس التي جسّدت قمة المفارقة ، فإنّ الشخصيات الاُخرى ، لم تتجاوز دائرة ترك ما هو مندوب إليه من السلوك ، بخاصة شخصية آدم (عليه السلام).

أمّا الملائكة فقد تفاوتت النصوص المفسّرة ـ كما سبق القول ـ في تحديد مفارقتها ، فيما ذهب بعضها إلى أنّ تساؤلها كان على نحو الاستعلام ، و بعضها ذهب إلى أنّهم تابوا إلى اللّه.

و المهم ، أنّ نموّ هذه الشخصيات و عدم رسمها مسطّحة ، فرضته التجربة الجديدة كما سبق توضيح ذلك ، ممّا يفسّر لنا جانباً من الأسرار الفنّية وراء الرسم المذكور.

إذن أمكننا ، أن نحدّد المسوّغات الفنّية لانشطار أبطال القصة إلى محدّدين ومبهمين ، وإلى رئيسين وثانويين ، وإلى إنس وملائكة ، وإلى نامين ومسطحين ، حيث أنّ الانشطار المذكور يستبطن مهمّتين:

إحداهما دلالية.

والثانية جمالية ، بالنحو الذي لحظناه.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page