• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة البقرة : قصَّة إحياء القتيل

 إذا كانت قصة المولد البشري المتمثّلة في آدم (عليه السلام) قد وردت في سياق الإشارة إلى العلم ، فإنّ القصة التي نعرض لها الآن ترد في سياق خاص ، هو السلوك الإسرائيلي بعامّة ، حيث يلاحظ بوضوح أنّ سورة «البقرة» و هي أكبر سور القرآن الكريم قد خُصص ثلثها تقريباً للحديث عن مجتمع اليهود و انحرافاته طوال التاريخ ، و هذا يكشف عن الأهمية التي يهبها القرآن الكريم لهذا الموضوع ، بحيث سنجد في السورة المشار إليها أكثر من قصة و موقف و حدث يتناول السلوك المذكور ...

و هذا من حيث أحد السياقات التي ترد فيها القصة المذكورة ... و لكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ غالبية السور القرآنية تتضمن سياقات متنوعة ، أي: تطرح موضوعات مختلفة ، و لكنها تنتظم عبر خيوط متلاحمة من حيث البناء الهندسي للسورة ، حينئذ نجد أنّ أحد الموضوعات الرئيسة التي تنتظم سورة «البقرة» هو موضوع الإحياء و الإماتة عند اللّه تعالى ، أي: ظاهرة إماتة الحيّ و إحيائه من جديد بصفتها واحدة من ظواهر القدرة الإلهية ، و واحدة من الظواهر الإعجازية التي تستهدف السورة الكريمة إبرازها إلى المتلقّي ...

من هنا ، فإنّ السياق الآخر الذي ترد فيه قصة إحياء القتيل هو ظاهرة الإماتة و الإحياء ، حيث تضطلع السورة الكريمة بعرض جملة قصص تحوم بأكملها على الظاهرة المذكورة ، كقصص إبراهيم (عليه السلام) في تقطيعه للطيور الأربعة و إحيائها ، و إماتة أحدهم مائة سنة و إحيائه ، و ... إلى آخره.

المهم أن نعرض لقصة إحياء القتيل بعد أن ألممنا عابراً بسياقها الذي وردت فيه. و لنقرأ أولا نص القصة:

 ﴿وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً

﴿قالُوا: أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً؟

﴿قالَ: أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ

﴿قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟

﴿قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ

﴿إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ

﴿قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها؟

﴿قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ

﴿إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النّاظِرِينَ

﴿قالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ

﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اللّهُ لَمُهْتَدُونَ

﴿قالَ: إِنَّهُ يَقُولُ

﴿إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الاَْرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها

﴿قالُوا: الاْنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ

﴿وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

﴿فَقُلْنا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

إنّ هذه الآية الأخيرة:

﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى ...

هي العصب الفكري الذي تحوم عليه القصة ، فيما تجيء الحوادث و المواقف و الشخوص أدوات فنّية لإنارة هذا الهدف الفكري.

من حيث السمة الفنّية في هذه القصة ، فإنّ أهم ما يلفت انتباهنا ، هو طريقة البناء الهندسي لها أولا ، ثم السمات أو الملامح الخارجية للبقرة من حيث التفصيلات المتنوّعة للحجم و اللون و الحركة.

و سنقف عند هذين الملحظين للقصة:

من حيث البناء الهندسي للقصة فمن الواضح أنّ القصة مطلقاً ، إمّا أن تُسرد حوادثها من البداية ، فالوسط ، فالنهاية حسب التسلسل الزمني لها ، و إمّا أن تُسرد من وسط الحوادث و ترتدّ إلى البداية ، أو تسرد من النهاية مرتدّة إلى ما قبل ذلك.

و المهم ، أنّ المسوّغ الفنّي لأيّة بداية قصصية ، سواءاً سُردت الحوادث من أولها أو وسطها أو خاتمتها ، هو أنّ مبدع القصة يستهدف لفت الانتباه إلى أهمية هذا الاستهلال للقصة بما ينطوي عليه من دلالة خاصة تفوق ما سواها من الدلالات الثانوية.

و الآن حين نقف عند قصة إحياء القتيل ، نجد أنّها تبدأ من وسط الحوادث ، و ليس من أولها أو آخرها. و هذا يعني أنّ هناك هدفاً خاصاً وراء هذا الاستهلال للقصة من وسطها.

فالقصة ـ كما لحظناها ـ تتلخص في حادثة قتل لأحد الاشخاص ، حيث كان القاتل مجهولا. ثمّ حدَثَ اختلاف بين الناس في معرفة القاتل ، فاتجهوا إلى موسى (عليه السلام)للكشف عن هويته. فأمرهم حينئذ بذبح بقرة ذات سمات خاصة ، و أن يُضرِبَ القتيلُ ببعض أجزاء البقرة ، حيث أُحيي القتيل و كشف عن هوية القاتل.

إذن أوّلُ الحوادث هو: حادثة قتل لأحد الأشخاص ، و وسط الحوادث هو:
الاختلاف في معرفته و اللجوء إلى موسى (عليه السلام) للكشف عن ذلك ، و ذبح البقرة.

و أمّا آخر الحوادث فهو: إحياء القتيل.

بيد أنّ القصة بدأت في عرض المواقف من وسطها ، و هو: ذبح بقرة ما. ثمّ ارتدّت إلى البداية ، و بعد ذلك عبرت الوسط ، فتحدّثت عن النهاية ، بهذا النحو:

 ﴿وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً

﴿فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ

﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

فالقتل يمثل بداية الحوادث ، و ضربُ القتيل ببعض البقرة يمثل نهاية الحوادث ، لكنّ النص القصصي وصل بينهما فنياً على النحو الذي لحظناه ، بعد أن بدأ من وسط الحوادث ، متمثلا في الأمر بذبح البقرة.

و السؤال هو: ما المسوّغ الفني لأن تبدأ القصة من الأمر بذبح البقرة بدلا من أن تبدأ من أول الحوادث حسب تسلسلها الطبيعي؟

إنّ اوّل ما يسوّغ ذلك ، هو أننا حيال أمر من السماء:

﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً

و مجرّد كونه أمراً من اللّه كاف باستشعار الأهمية. بيد أنّ الأهم من ذلك كلّه هو أنّ القصة تستهدف لفت الانظار إلى الذبح الذي يشكل بؤرة تتجمّع عندها ظاهرة الاحياء للميت. أي أنّ ظاهرة الإحياء التي خُتِمت القصةُ بها ، و لفتت انتباهنا إليها عبر التعقيب القائل:

﴿كَذلِكَ يُحْيِ اللّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

هذه الظاهرة هي الهدف الرئيسي للقصة. و حينئذ عندما تبدأ القصة من حادثة ذات صلة بعملية الإحياء للميت ، فإنّما تعني أنّ هذه الظاهرة ذات دلالة كبيرة تستهدف القصة التركيز عليها ، و لفت الانتباه حيالها.

مضافاً لذلك ، أنّ القصة جاءت في سياق الحديث عن تمرّد الاسرائيليين ، و نِعَم اللّه عليهم ، فيما يظل استهلال القصة بحادثة تكشف عن مواقفهم التي بدأوها حتى في قضية الذبح ، ثمّ نعمة السماء عليهم بالرغم من ذلك ، يظلّ مثل هذا الاستهلال متساوقاً مع سياق السورة التي تتحدّث عن الاسرائيليين. فهؤلاء قد اعترضوا على موسى (عليه السلام) قائلين: ﴿أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً ثمّ ترقّعوا في طلباتهم بأن سألوا عن سنّها ، و عندما أجابهم بذلك سألوه عن لونها. و عندما أجابهم ، سألوه عن حركتها ... فأجابهم ، و مع ذلك فإنّهم﴿ما كادُوا يَفْعَلُونَ.

إذن نستكشف بوضوح ، أنّ المسوّغ الفنّي لأن تبدأ القصة من وسط الحوادث ، المتمثل في الأمر بذبح بقرة ، هو أنّ القصة جاءت في سياق عرض المواقف الإسرائيلية التي يطبعها التمرّد ، و نعم اللّه عليهم ، فيما كشفت هذه البداية عن نفس الطابع الذي وَسَمهم سابقاً ، و لكن بطريقة اُخرى من السلوك الملتوي ، متمثلة في تلك الذهنية البليدة التي تترقّع في طلباتها. و تتردّد في تنفيذ ما عُهد إليها ، و تُشكّك في صدق ما أمرها به موسى (عليه السلام) فضلا عن أنّ هذه الحادثة تستتلي عملية إحياء للميت ، فيما تشكل هذه العملية ـ كما قلنا ـ عصب القصص التي سنواجهها لاحقاً في سورة البقرة.

و انطلاقاً من هذه المسوّغات الفنية  التي حدّدت لنا دلالة بدء القصة من وسط الحوادث ، ... يمكننا أيضاً أن نفسّر الأسرار الكامنة وراء هذا الرسم التفصيلي لملامح البقرة ، و هي السمة الفنية الاُخرى التي طبعت هذه القصة.

*    *    *

إنّ نمط التعامل الإسرائيلي مع موسى (عليه السلام) في مطالبتهم بمعرفة القاتل ، يفسّر لنا
سبب ذلك الوصف الممتع للبقرة و الدخول في تفصيلات لافتة للانتباه إلى حدٍّ كبير ، حتى أنّ التفصيلات قد انتظمتها أربع طوابق من الوصف:

جاء التفصيل الأوّل متصلا بثلاثة مظاهر:

السن: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ.

اللون: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها.

الهيكل: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ.

و جاء التفصيل الثاني جواباً للأول:

السن: وسط «عوان»

اللون: أصفر «بقرة صفراء»

الهيكل: حيويّ «مُسلّمَة»

و جاء التفصيل الثالث متفرعاً من الثاني ، حيث لم تكتف الاجابة باعتدال السن ، و صفرة اللون ، و حيويّة الهيكل ، بل فصّلت في جزئيات كلّ من السن و اللون و الهيكل:

السن: «لا فارض  ...» إلى آخره.

اللون: «فاقع لونها ...» إلى آخره.

الهيكل: «لا ذلول تثير الأرض ...» إلى آخره.

و جاء التفصيل الرابع:

السن: «... و لا بكر»

اللون: «... تسر الناظرين»

الهيكل: «... و لا تسقي الحرث»

مضافاً لذلك ، فإنّ وصف الهيكل اُضيفت إليه سمات متنوعة ، منها:

الهيكل: «لاشية فيها».

إنّ هذه التفصيلات التي تناولت الملمح الخارجي للبقرة ، تظل فضلا عمّا تنطوي عليه من جمالية ممتعة ، ذات صلة بالسياق الذي استتلى الأمر بذبح البقرة ، و ما واكبه من الطلب الإسرائيلي الذي يطبعه تمرّدٌ ، و تشكيكٌ ، و تحفّظ بليد. ثم ما يقابله من النِعَم التي لا حدود لها ، و منها: إجابة طلباتهم بالنحو الذي انتهى بمعرفة القاتل فعلا.

المهم ، أنّ قصة إحياء الميت وما واكبها من التفصيلات ، تظل من جانب مرتبطة بأحد المحاور الفكرية للسورة وهو محور السلوك الإسرائيلي المنحرف ، ومن جانب آخر تظل مرتبطة بمحور آخر من السورة وهو محور الإماتة والإحياء حيث ختمت القصة بقوله تعالى:

﴿كَذلِكَ يُحْييِ اللّهُ الْمَوتى

وسنرى جملة قصص في مختلف مواقع السورة تتناول ظاهرة الإماتة والإحياء ، مثل قصة إبراهيم مع طاغية عصره ، وإحياء الطير الأربعة ، والمارّ على القرية... إلى آخره.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page