تعدّ هذه القصة الواردة في سورة «البقرة» من أشدّ القصص إثارة من حيث التنوّع لأحداثها و مواقعها ، و من ثم الهدف الفكري منها حيث تفصح بجلاء تامّ عن أشدّ الحالات الانحرافية لدى الطائفة اليهودية. و أنّ المتلقّي ليقف مندهشاً حيال العرض القصصي لهذا الجانب ، سواء أكان ذلك مرتبطاً بأبطال القصة من أمثال:
الملأ من بني إسرائيل و نبيّهم و طالوت و داود و جالوت ...
أو بالمواقف المتقلّبة لهذه الطائفة من جبن و تشكيك و مناورة و ... إلى آخره ، أو بالوقائع المواكبة لها ، كانسحابهم من المعركة التي اقترحوا خوضها ... إلى آخره.
هذه المواقف و الأحداث التي تتناولها القصة المذكورة بصياغة مدهشة و مثيرة ، نتقدم الآن لملاحظتها بعد أن نقدّم تلخيصاً لها في البداية ، فنقول:
تعرض القصة شريحة من سلوك الإسرائيليين في واحد من مواقفهم التاريخية متمثّلة في حفنة من رؤسائهم ، طلبوا من نبيّ لهم من بعد موسى أن يبعث لهم قائداً ينتشلهم من حياة مهينة تعرّضوا لها ، و هي تسليط الجبابرة عليهم و تشريدهم و سبي نسائهم و ذراريهم ...
و قد أجابت السماءُ دعوة النبيّ المذكور ، تفضّلا منها و منّةً ... و كان القائد هو طالوت.
غير أنّ السماء و هي أعرف بواقع هذه النفوس الذليلة بعثت إليهم على نحو الاختيار القائد المذكور ، وفق خصائص معيّنة تتطلّبها طبيعةُ المعركة التي سيخوضها ، لكنها لا تتفق مع التطلّعات و الأحلام المريضة لليهود.
لقد اعترض الإسرائيليون على النبيّ المذكور في انتقاء هذا القائد ، مُحتجّين بأنـّه لم ينحدر من اُسرة عسكرية دينية ، علماً بأنّ القيادة العسكرية و الدينية كانت عهدئذ منحصرةً في بيتين من بيوتاتهم ، بينما جاء القائد العسكري الجديدُ من بيت ثالث ، و من هنا جاء اعتراضُهم على الشخصية المذكورة.
مضافاً لذلك تقدّم اليهود باعتراض آخر على القائد العسكري ، محتجّين على ذلك بأنـّه شخصية فقيرة لا تملك أموالا ضخمة .
و طبيعيّاً أنّ مثل هذه الاعتراضات تحملنا على الاقتناع بأنّ هؤلاء الأذلاّء لا يستحقّون أيّة عناية تُذكر ، ماداموا حائمين على نفس التطلّعات و الأحلام المريضة التي غلّفت شخصيّاتهم منذ أن دبّوا على هذه الأرض.
و مع ذلك فإنّ نبيَّهم أبدى مرونةً ملحوظةً حيال هذا الاعتراض. و قال لهم: إنّ اللّه عوّض عن فقر القائد و عدم انتسابه للأُسَرِ التي توارثت قيادة الجيش ، ...
عوّضه عن ذلك بسعة في العلم ، و بطولة في الجسم ... و هما من أبرز مميّزات القائد
العسكري.
* * *
و أخيراً خضع اليهود للأمر الواقع.
لكنّهم مع ذلك بدأوا يشككون في الأمر ، فطلبوا من نبيّهم آيةً أو دليلا حسّياً على صدق ادعائه باختيار طالوت.
و حينئذ أجابهم النبىّ بأنّ دليل ذلك ، هو التابوت الذي كان اللّه قد أنزله على اُمّ موسى (عليه السلام) فوضعت ابنها فيه. و لما تُوفّي موسى ، وُضِعَ فيه الألواح ، و الدرع ،
و جملة من آثار النبوّة.
و كان التابوت المذكور ـ نقلا عن النصوص المفسّرة ـ يستفتح اليهودُ به على عدوّهم. و حين أمعن اليهودُ في سلوكهم المتمرّد اُنتزعَ التابوتُ منهم ، ثم اُعيدَ إليهم مع طالوت حتى يكون دليلا على صدق ادعاء النبىّ لهم في اختيار هذا القائد العسكري. و لما رأى الإسرائيليون هذه الآية أو الدليل حسّياً اقتنعوا بذلك و انقادوا لطالوت القائد العسكري الجديد الذي طلبوه حتى يحرّرهم من أسر العبودية ، و التشريد ، و السبي.
لكن اليهود للمرة الثالثة أمعنوا في الغواية ، حينما تمرّدوا على طالوت ذاته و ذلك عندما جهّز جيشاً لمقاتلة جالوت ، و هو الشخصية التي استعبدت اليهود و أذلّتهم .
و كان طالوت قد أمرهم بناءً على أوامر السماء ألاّ يشربوا من نهر معيّن خلال عملية زحف الجيش ، إلاّ تناوُلَ الماء غرفةً واحدة ... و ذلك لمصلحة إرتأتها السماءُ. و هدفُها هو اختبار اليهود في مدى التزامهم أو تمرّدهم.
لكن الغالبية منهم ـ في ضوء هذه التجربة ـ تمرّدت على أوامر طالوت ، إلاّ فئة قليلة. و كان ذلك عندما وصلوا إلى النهر ، حيث قال المتمرّدون: لا طاقة لنا بجالوت و جنوده.
أمّا الفئة القليلة ، فقالت: إنّ النصر من عنداللّه.
و بالفعل ، بدأ القتال ، ... و انتهى بالنصر ، حيث قُتِلَ جالوت.
و قد تمّ قتلُ جالوت على يد داود الذي اختير لهذه المهمّة ، حينما ألبسه طالوت ـ نقلا عن النصوص المفسّرة ـ درعَ موسى ، على تفصيلات نذكرها في حينه.
هذا هو ملخّص القصة ، والهدف من هذا التلخيص ، أن نقف على الخطوط العامة للأحداث و الشخصيات و المواقف ، ... حتى نتبيّن مفصّلا طبيعة الصياغة الفنّية لها ... فضلا عمّا انطوت عليه من دلالات فكرية تستهدفها القصة عبْر سردها لهذه الوقائع.