• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة البقرة : القيم الفنّية في القصة

  إنّ القصة الفنّية بنحو عام ، هي انتقاءُ مجموعة من الأحداث و الشخصيات و المواقف ، ... تُنتَخب بشكل يتّسق مع طبيعة الأفكار المستهدفَةِ فيها.

فحين يستهدف النصُّ مثلا توضيح عناد اليهود و إمعانهم في الغواية ، نجده يُبرز
من الوقائع ما له صلة مباشرة بالعناد و التمرّد.

و حين يستهدف التركيز على الجهاد في سبيل اللّه ، نجده ينتقي من الوقائع ما يُبرز هذا الجانب بوضوح.

و هكذا في سائر الدلالات التي يستهدفها.

و الآن ، حين نعود إلى قصة طالوت ، نجد أنّ هذه القصة قد تعمّدت ترْكَ كثير من التفصيلات ، و أبرزت بعض عناصر الحركة فيها على نحو تتساند فيه كلّ من الاستنتاج الفردي الصرف ، و النصوص المفسّرة ، و نصوص القصة ... تتساند فيه كلّ هذه العناصر الثلاثة في عملية فهم القصة و تذوّقها و إدراك دلالاتها.

إنّ ما نحاوله الآن هو أنْ نتابع كلاًّ من عناصر السرد و عناصر الاختزال ، أي أن نتبيّن ما هو مذكور فيها من الحركة ، و ما هو محذوفٌ منها.

لكننا قبل ذلك ، ينبغي أن نقرأ القصة نفسها حتى يُمكن إدراك أسرارها الفنّية المتصلة بعملية السرد و الاختزال.

لقد بدأت القصةُ على هذا النحو:

﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإَِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى

﴿إِذْ قالُوا لِنَبِيّ لَهُمُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ

﴿قالَ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا

﴿قالُوا: وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا

﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ

هذا هو القسمُ الأوّل من القصة.

هناك ملأ ، أو وجهاء من الإسرائيليين عاشوا من بعد موسى (عليه السلام). قالوا ذات يوم
لنبيٍّ لهم: ابعث لنا رجلا عسكرياً نقاتل معه في سبيل اللّه.

لكنّ نبيّهم شكّك في صدق دعواهم ، فتساءل: أصحيحٌ أ نّكم ستقاتلون فعلا ، عندما تحين الساعةُ الحاسمة؟

و عند ذلك أجابه اليهود ، قائلين: كيف لا نُقاتل في سبيل اللّه؟ و نحن قومٌ مُستضعفون قد اُخرجنا من أوطاننا و سُبيَت ذرارينا؟ لكنّ الذي حدث هو ، أ نّه عندما و اجهوا الأمر الواقع تخلّفوا عن القتال ، إلاّ فئة قليلة منهم ...

و السؤال هو: ما هي العناصر التي سردها النص؟ و ما هي العناصر التي اختزلها؟ و ما هو السرّ الفنّي في ذلك؟.

يُلاحظ في الطلب الذي تقدّم به اليهود ، أ نّه مرتبط بشخصية نبويّة مبهمة. تقول القصة:

﴿إِذْ قالُوا لِنَبِيّ لَهُمُ

ترى: مَن هذا النبىّ الذي لم تذكر القصةُ إسمه؟! ... بل لم ترسم لنا حتّى بعض ملامح شخصيته.

من الزاوية الفنّية ينبغي أن نشير إلى أنّ السبب في ذلك عائدٌ إلى أنّ القصة ليست في صدد التعريف بشخصية النبىّ الإسرائيلي حتى تذكر إسمه أو تحدّد هويّته الشخصية ، بل في صدد التعريف بسلوك هذه الشرذمة الإسرائيلية التي أذلّها اللّه على يد طواغيت من أمثالها. إنّ القصة في صدد الكشف عن الكذب و التردّد الذي يطبع سلوك اليهود في ادعائهم بأنّهم مُستعدّون للقتال في سبيل اللّه.

و لكي تكشف القصةُ مثل هذا الادعاء ، كان لابدّ من وجود شخصيّة كبيرة مرتبطة بالسماء ، بحيث تُصبح واسطةً بين اليهود و بين السماء في تحقيق طلبهم بإرسال مَن ينقذهم من الذلّ.

و لا بدّ أن تكون مثل هذه الشخصية ذات طابع غير عادي ، كأن تكون نبيّاً أو وصىّ نبىّ مثلا ، حتى تستطيع تحقيق مثل هذا الطلب.

و من هنا اكتفت القصةُ برسم شخصية ذات طابع نبوىّ ، دون أن تحدّد إسمه و هويّته ، لعدم الحاجة فنّياً إلى مثل هذا التحديد ، ما دام الأمر متّصلا بمجرّد وجود شخصيّة مقتدرة على تحقيق طلب الإسرائيليين.

يُلاحظ أيضاً أنّ القصة لم تحدّد لنا زمان هذه الحادثة. إنّها اكتفت بالقول، بأنّ هذه الحادثة تمّت من بعد موسى (عليه السلام) ، أمّا متى حدث ذلك ، و في زمن أيّ نبيٍّ من أنبيائهم؟ كلّ ذلك لم تتحدّث عنه القصة.

و السّر من الوجهة الفنّية يعود إلى القصة عندما حدّدت الزمان بأنّه من بعد موسى (عليه السلام) ، دون أن تذكر تأريخاً معيّناً لذلك ، إنّما تستهدف التركيز على دلالة خاصة هي ، أنّ الشخصية اليهودية تظلّ في كلّ زمان و مكان مريضةً ، ملتويةً ، متمرّدةً ، كاذبةً ، متردّدةً ، منافقةً ... أنّها حتى من بعد موسى (عليه السلام) ظلّت محتفظةً بطابعها المريض الذي لا سبيل إلى إصلاحه. فهي في زمان موسى (عليه السلام) أتعبته كثيراً من خلال مواقفها التي سردتها قصص اُخرى من القرآن. و ها هي من بعد موسى أيضاً تمارس نفس السلوك الشاذّ على النحو الذي توضّحه هذه القصة التي نحنُ في صددها.

إذن عدمُ تحديد القصة زماناً خاصاً لهذه الحادثة ، و الاكتفاء بأنّ ذلك قد حدَثَ بعد نبوّة موسى له مغزىً فنيٌّ يعرفه من له أدنى إلمام بفنّ القصة.

* * *

و الآن لنقف عند طلب اليهود نفسه ، و ردّ الفعل الذي أحدثه هذا الطلب في جواب نبيّهم (عليه السلام).

لقد زعمت هذه الشرذمة بأ نّها مستعدّة للقتال في سبيل اللّه ، و لذلك طلبت إلى نبيّهم أن يبعث لهم شخصية عسكرية ينضوون تحت قيادتها.

و لكن نبيّهم شكّك منذ البداية بصدق ادّعائهم ، و لذلك أجابهم قائلا:

﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا

أي: لعلّكم ـ يا معاشر اليهود ـ إذا فرض اللّه عليكم القتال لم تقاتلوا حينئذ.

هنا أجاب اليهودُ نبيَّهم قائلين:

﴿وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا

هذه الإجابة توحي و كأنّ اليهود صادقون كلّ الصدق ، متيقّنون كلّ اليقين بأ نّهم
سيحاربون فعلا ما دام الأمر متصلا بهذا المدى الذي آلت حياتُهم إليه، من تشريد و سبي و إذلال.

لكن نبيّهم و هو أعرف من سواه بواقع هذه الشخصيات المريضة ، كان على و عي بواقعهم المذكور و لذلك شكّك منذ البداية بصدق دعواهم.

و هذا التشكيك بمزاعم الإسرائيليين له دلالة فنّية في بناء القصة من حيث أ نّه يشكّل ارهاصاً و تنبّؤاً بما ستؤول إليه أحداث المستقبل.

كما ينبغي ألاّ نغفل عن سمة فنّية اُخرى في هذا القسم من القصة ، هي أنّ حوار
اليهود كشف عن حادثة كانت مجهولةً لدى القارئ ، و نعني بها حادثة اخراجهم
من ديارهم و سبي ذراريهم من قِبَل الأقباط.

فالقصة من حيث البناء الهندسي بدأت من وسط الأحداث ، حيث نقلت طلب اليهود إلى النبىّ بارسال الشخصية العسكرية ، دون أن نعرف سبب ذلك. و بعدئذ رجعت القصة إلى أوّل الأحداث ، حيث نقلت سببَ ذلك و أوضحت أنّ الحادثة هي استذلال الأقباط للإسرائيليين...

* * *

و مثلما بدأت القصةُ من وسط الأحداث و رجعت إلى أوّلها ، إتجهت في الوقت ذاته إلى نهاية الأحداث ، فقدّمت النتيجة قبل أن تدخل في تفاصيل الموقف.

فقد عقّبت السماء على مزاعم اليهود القائلة بأ نّهم: كيف لا يجاهدون و قد أُخرجوا من ديارهم و أبنائهم. عقّبت قائلةً:

﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ: تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً

أي عندما حانت ساعة الموقف الحاسم امتنعوا عن القتال.

إذن ، أعطتنا القصة نتيجة الموقف سَلَفاً ، بحيث عرفنا أنّ اليهود سوف لن يُقاتلوا ، إلاّ فئة صغيرة منهم.

بعد ذلك رجعت القصةُ من جديد تنقل لنا تفاصيل المُلابسات التي رافقت سلوك الإسرائيليين منذ البداية حتى انتهاءهم إلى التمرّد المذكور.

إنّ تقطيع الأحداث بهذا النحو: البدء من الوسط ، ثمّ الرجوع إلى البداية ، ثمّ الاتجاه نحو النهاية ، ثمّ العود إلى الوسط ... هذا النحو من تقطيع الأحداث ينطوي على أسرار فنّية بالغة الأهمية ، لعلّنا نتعرّفها خلال حركة القصة في أقسامها اللاحقة.

و يعنينا الآن أن نتعرّف تفصيلات الموقف ، متمثلةً في ردّ الفعل الذي تركته إجابة اليهود في نفس نبيّهم (عليه السلام).

فقد لحظنا أنّ النبىّ شكّك في مزاعم اليهود حينما قال لهم: لعلّكم عندما يحين موعد القتال تمتنعون عن ذلك. و لحظنا أيضاً أ نّهم أجابوه بلغة الواثق من نفسه من أ نّهم كيف لا يُحاربون العدوّ و قد شرّدهم من ديارهم و سبى ذراريهم!!

و يبدو أنّ النبىّ قد اُمرَ بتنفيذ طلبهم فعلا ـ على سبيل الاختبار ـ حتّى يكشف المزيد من وساخة أعماقهم. فها هو النبىّ يُبشّرهم بتحقيق ما طلبوه ، قائلا لهم:

﴿إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً

إنّ القارئ يتوقّع أن يستبشر اليهود بهذه الشخصية الجديدة: طالوت ، لأ نّها ـ ببساطة ـ جاءت بناءً على طلبهم. إنّهم هم الذين قالوا لنبيّهم: إبعث لنا مَلِكاً ، نقاتل في سبيل اللّه.

و ها هو المَلِكُ أو الشخصية العسكرية تُرسل إليهم مِن قِبَل اللّه ، فهل من عذر؟

القارئ ـ كما قلنا ـ لا يتوقّع أىّ اعتراض على هذه الشخصية العسكرية ، لأنّها جسّدت أحلام الإسرائيليين بالشكل الذي طلبوه بأنفسهم ...

لكنّ الذي حدث يجيء على خلاف ما نتوقّعه أبداً ... الذي حدث من ردود الفعل اليهودية حيال هذه الشخصية طالوت يُثير السخرية و الاشفاق و العجب ...
ألم يُرسل بناءً على طلبهم؟! ألم يُرسل وفق ما يتطلّبه القتال من توفّر سمات عسكرية في شخصيته؟! كلّ ذلك متحققٌ في شخصيته ، فما هو العذر بعد هذا كلّه؟!

هاهم الإسرائيليون: أذلاءُ ، طُردوا من ديارهم و سُبي الكثير من ذراريهم ... طبيعيّاً ، أنّهم مستحقون لمثل هذا الاستذلال ما داموا قد أمعنوا في المعاصي ، و تنكّروا لعهود اللّه ، لكن عناية اللّه عظيمة و الاختبار محكٌ ، بل فرصةٌ جديدة ، لأن يُعدّلوا من سلوكهم ... و ها هي السماءُ ترسل إليهم نبيّاً يتعامل معهم برفق و يتفقّد شؤونهم ، ... لعلّهم يرعوون.

و ها هُم أيضاً يضيقون ذرعاً بهذا الاستذلال الذي لحقهم و يتطلّعون إلى أيّة فرصة ، أو سبب يفتح لهم طريق الخلاص ... و هل هناك فرصةٌ أو سببٌ أفضل من وجود نبيّ بينهم يمثّل السماء بكلّ قدراتها التي لا تُحد . إذن فليتّجهوا إلى نبيّهم و ليطلبوا منه أن يدعو اللّه بإرسال من ينقذهم ، ليطلبوا منه إرسال قائد عسكري يستطيع أن يقتحم المعارك ، و يحقّق النصر ...

و ها هو النبيّ يستجيب لطلبهم ... ها هو يُبشّرهم بمجيء الشخصية العسكرية الّتي تطلّع الإسرائيليون إليها ... ها هو طالوت البطل الذي أرسلته السماء يجيء لتحقيق ما يصبو إليه الإسرائيليون ، لكن يالدهشة الموقف ، ... و لا دهشة في الواقع ... لا دهشة لِمن خَبَرَ اليهود ، و عرف عمق التواءاتهم ، و أمراضهم ، و وساختهم ، و لؤمهم ، و عنادهم ... إنّهم جبناء مصلحيون ، ... جبناء عندما يستذلّهم الجبابرة ... طغاة عندما يسيطرون على غيرهم ... إنّهم كذلك منذ أن دبّوا على الأرض ... منذ أن مسخهم اللّه قردة و خنازير ... منذ ذلك الحين و حتى أيامنا المعاصرة ... إنّهم كذلك ...

ها هم و قد بعث اللّه إليهم طالوت بناء على طلبهم ... ها هم يعترضون على هذه
الشخصية ... و لكن أيّ اعتراض ، أيّ مهزلة وراء مثل هذا الاعتراض ...

قالوا: إنّ بيوتاتنا أحقّ بتسلّم المناصب العسكرية ... قالوا: إنّ القيادة الدينية و القيادة العسكرية منحصرة ـ منذ القديم ـ في بيتين هما: وُلدُ لاوي و وُلدُ يوسف ...
و لكن طالوت من وُلد أخ يوسف ... فلا شغل لنا به ... يا للسخرية ... إنّهم في وهدة الذلّ ... ، لكنّهم ينطلقون من حسٍّ سُلاليٍّ مقيت ...

و هل وقف الأمرُ عند هذا الحد؟ كلاّ.

لننظر إلى بقية اعتراضهم عبر هذه السلسلة المُزرية من الاعتراضات.

* * *

قال هؤلاء الجبناء: إنّ طالوت لم يُؤتَ سعةً من المال ... للمرة الجديدة:
يالسخرية الموقف ، ما علاقة المال بالكفاءة العسكرية؟

هل إنّ مثل هذا الاعتراض مجرّد حجّة يتستّرون بها لتغطية جُبنهم؟ إنّه لكذلك ، لكنه في الوقت ذاته يُعبّر عن عمق المرض في الشخصية اليهودية .

ألم يقولوا ذات يوم: إنّ النار لن تمسّهم ـ يوم القيامة ـ إلاّ أيّاماً معدودات؟

ألم يقولوا: إنّ سواهم ليس على شيء؟ ألم يزعموا أ نّهم الشعب المُختار؟ ...

ألم يزعموا غير ذلك و هم يجسّدون قمّة ما يمكن تصوّرة من رذيلة و فسق و عناد و جبن و تلذّذ بإراقة الدم ، و بالتعذيب ، و ... و ... إلى آخره ، أليسوا هم قتلة الأنبياء؟ أليسوا هم المتمرّدين في أكثر من معركة و موقف في حياة موسى (عليه السلام)؟
إنّهم لكذلك ...

و ها هم حتى في أحطّ مواقف الاستذلال يُعلنون عن جُنبهم ، يعلنون عن التوءاتهم ، يُعلنون عن أفكارهم المريضة الممسوخة ، يعلنون رفضهم لطالوت ، لا لسبب ، إلاّ لأنّه لم يؤتَ سعة من المال.

إنّها قمّة المهزلة في حياة الآدميين.

لكن لنتجه إلى نبيّهم و نتعرّف ردّ الفعل لديه حيال مثل هذه الاعتراضات. علماً بأنّ نبيّهم منذ البدء تنبّأ بمثل هذا الموقف و شكّك بصدق دعواهم بأنّهم سيقاتلون في سبيل اللّه و كان هذا التنبّؤ ـ مثلما أشرنا ـ دلالة فنّية من حيث البناء الهندسي للقصة تجسّد إرهاصاً بسلوك الإسرائيليين اللاحق ، و ها هو سلوكهم يتجسّد في الاعتراض المذكور ... ها هو سلوكهم يجيء جواباً لتوقّعات نبيّهم.

و من جديد نتساءل: ما هو ردّ فعل نبيّهم حيال مثل هذا الاعتراض؟

* * *

قال نبيّ الإسرائيليين عصرئذ:

﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ...

هذه الإجابة تدلّنا على جملة من الدلالات النفسية و الفنّية ينبغي الوقوف عندها.

إنّها تدلّنا على أنّ نبيّهم أبدى من رحابة الصدر ما يتّسق مع تركيبة الأنبياء ...
إنّه تحدّث بموضوعيّة تفوق الحدّ ... قدّم لهم برهاناً أو دليلا لا سبيل إلى نكرانه أبداً ... قال لهم: إنّ اللّه هو الذي اصطفاه ، و ليس أنا حتى تعترضوا على ذلك ...
و كان اصطفاؤه بناء على طلبهم هُم ... فما معنى الاعتراض على ذلك؟

ألم يقل الإسرائيليون لنبيّهم: أدعُ اللّه أن يرسل من ينقذنا؟

و ها هو المُنقذ يحلّ في الساحة ... فَعَلامَ إذن هذا الضجيج؟

ثمّ من الزاوية الفنّية الخالصة ، تدلّنا هذه الإجابة القائلة بأنّ اللّه زاده بسطةً في العلم و الجسم تدلّنا على سمة فنّية بالغة الأهمية من حيث الموازنة بين طلب اليهود و بين اختيار البطل.

فالبطل طالوت رسمته القصةُ بملمحين: خارجي و داخلي.

الملمحُ الخارجي هو: بسطة في الجسم ، أي بطولة جسمية تتناسب و ما تتطلّبه المعركة من قوىً بدنية ، و من هيئة خارجية تثير الخوف و المهابة في نفوس الأعداء. و كان من عِظَمِ هيئته البدنية ـ كما تقول بعض النصوص المفسّرة ـ : إنّ الرجل إذا قام إليه ، و رفع يدَه ، نال رأسه.

و هذا من حيث الملمح الخارجي و ما يتطلّبه الموقف العسكري من سمات جسمية.

و أمّا من حيث الملمح الداخلي الذي رسمته القصة للبطل طالوت ، فهو: العلم.

و من الواضح أنّ الشخصية العسكرية تتطلّب توفّر خصيصتين فيها:

خصيصة علمية ، أي الإلمام و الخبرة و الإحاطة بالشؤون العسكرية.

ثمّ خصيصة خارجية و هي: الاقتدار الجسمي بما يواكبه من شجاعة ...

و ها هو البطل طالوت قد أرسله اللّه بهاتين السمتين اللتين تتطلبهما المعركة.

* * *

إنّ الأهميّة الفنّية لرسم هاتين الخصيصتين ، البسطة في العلم و الجسم ، تتمثّل ـ كما أشرنا ـ في كون السمتين المذكورتين تشكّلان جواباً فنياً على طلب اليهود.

إنّ السماء و هي تعرف سلفاً أنّ اليهود سيعترضون على البطل الجديد طالوت بأنـّه أولا لا ينتسب وراثياً إلى بيت النبوّة و المُلك الموروثين. و بأنـّه فقيرٌ ثانياً ...
حينئذ عوّضت السماء تينك الصفتين ، بخصيصتين غيرهما ، هُما: العلم و البطولة الجسمية.

و هذا التعويض من حيث الفنّ القصصي يشكل موازنة هندسية بين قضيتين مطلوبتين في أفكار الإسرائيليين ، و بين قضيتين عوّضتا ذلك بما هو مُحقّق للنصر ...

و أمّا من حيث الدلالة الفكرية الصرف ، فالأمر لا يحتاج إلى تعقيب ما دام الهدف من هذا التعويض ، هو تحقيق النصر من جانب ، و إبراز العناد و التمرّد و الجبن لدى الإسرائيليين من جانب آخر.

مضافاً لذلك ، فإنّ اليهود في ضوء إجابة نبيّهم المذكورة اضطروا إلى التسليم بالأمر الواقع ، لأنـّهم لا يملكون حينئذ أيّ عذر في رفض البطل الجديد طالوت ، مادام هذا البطل قد اختير من قبل اللّه أولا ، و ما دامت السمات العسكرية المطلوبة متحققة في شخصية طالوت ثانياً.

و مع ذلك ، فإنّ اليهود فيما يبدو لم يقتنعوا بالأمر. و أظهروا مزيداً من العناد و الالتواء و الرفض على النحو الذي يوضحه القسمُ الثالث من القصة.

يبدو أنّ الإسرائيليين بالرغم من أنّ نبيّهم حاول إقناعهم بتقبّل شخصيّة طالوت قائداً للمعركة المرتقبة يبدو أنـّهم بدأوا باصطناع عقبات جديدة في مواجهة الموقف.

فبعد أن أنهوا قسماً من سلسلة اعتراضاتهم التي بدأوها بالقول ، بأنّ طالوت لم ينتسب إلى بيوتات توارثت النبوّة و المُلك ، ثم اعتراضهم الآخر من أنّ طالوت رجل فقير لا يملك أموالا طائلة . بعد هذا كلّه تقدّموا باعتراض ثالث بعد أن سدّ عليهم نبيّهم كلّ النوافذ ، و ذلك حينما قال لهم: إنّ اللّه عوّض طالوت بدلا من المال و وراثة المُلك عوّضه بسطةً في العلم و الجسم.

حينئذ لم يجدوا مناصاً من التسليم بهذه الحقيقة ، لكنهم و هم خبثاء ، جبناء ، معاندون طلبوا في هذا الموقف الجديد دليلا حسّياً على صحة دعوى نبيّهم.

القصة لم تقل لنا إنّ اليهود طلبوا من نبيّهم أن يقدّم برهاناً أو آيةً على صدق قوله ، لكنها سلكت منحىً فنّياً قائماً على الاقتصاد في السرد ، و ترك القارئ أن يستكشف بنفسه مثل هذا الطلب من اليهود ، حيث تابعت حوار النبيّ مع قومه و من خلال حواره بدأنا نستكشف أنّ اليهود قد تقدّموا بالطلب المذكور.

و لنستمع إلى حواره مع اليهود:

﴿وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ

﴿أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

﴿وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ...

من هذا الحوار نستخلص جملة حقائق فنيّة في غاية الإمتاع:

فأولا: نستنتج أنّ اليهود ـ مثلما قلنا ـ طالبوا نبيّهم بدليل حسّي على صحة دعواه ، بأنّ طالوت هو تلك الشخصية العسكرية التي اُرسلت من قبل اللّه.

ثمّ و هنا تبدأ حركة القصة بانعطاف جديد ، نواجه في هذا الحوار بيئة قصصية ذات بُعد صناعي مُذهل ، يتّسم بما هو مُثير ، و طريفٌ ، و معجز.

لكننا قبل أن نتابع تفصيلات هذه البيئة ، لابدّ أن نشير إلى أنّ نبيّهم للمرة الثالثة أبدى من رحابة الصدر ما يفوق الحدّ ، حينما جارى طريقة سلوكهم بالنحو الذي لحظناه.

و يبدو أيضاً ، أنّ الإسرائيليين كفّوا عن أي اعتراض جديد ، حينما واجهوا حقيقة المعجز الجديد: التابوت ، و لكنهم للمرة الرابعة تمرّدوا عندما اقتربت ساعة القتال.

هذه التفصيلات سنلحظها لاحقاً.

أمّا الآن ، فنتقدم إلى ظاهرة التابوت و ما يواكبها من دلالة.

* * *

قال نبيُّ بني إسرائيل لوجهاء هذه الشرذمة: إنّ الآية التي سترافق مجيء طالوت ، الشخصية العسكرية المصطفاة هو: التابوت ، تحمله الملائكة.

و السؤال هو: ما هي الدلالة الفنّية و الفكرية للتابوت؟ و قبل ذلك ما هي أوصاف هذا التابوت ذاته و علاقته بالمعركة؟

القصة ساكتة عن تفصيلات هذا الحدث الصناعي. لقد اكتفت بالقول أنّ التابوت سيظهر أمام الأعين و قد حملته الملائكة.

و هذا من حيث المظهر الخارجي للتابوت.

أمّا من حيث أوصافه الداخلية ، أي ما يحمله التابوت من محتويات في داخله ، فإنّ القصة اكتفت بالقول بأنّ فيه: سكينةً من اللّه ، و فيه: بقيّةٌ ممّا تَرَكَ آل موسى و آل هارون.

القارئ أو السامع سيقف أمام هذا الحدث الصناعي ، مبهوراً لا يملك أيّ تفسير محدّد المعالم في هذا الصدد. و لعلّ النصوص المفسّرة فحسب ، هي التي تسعفه بالمعلومات التي يتطلّع إليها.

و حتى الرجوع إلى النصوص المفسّرة ، لا تلقي إلاّ إنارة ضئيلة في هذا الموقف.

إذن ، يبقى أن يتجه القارئ و السامع إلى ذائقته الفنّية ، لاستخلاص الدلالات المحتملة لهذا المظهر. و هو أمرٌ تستهدفه القصة دون أدنى شك. إنّها تُريدنا ـ نحن القراء ـ أن نمعن في النشاط الفكري و نقلّب كافة الوجوه و الاحتمالات حتى نصل إلى بعض النتائج ، محققين بذلك في الآن نفسه إمتاعاً فكرياً و جماليّاً ، ... و هو هدف كلّ شكل فنيٍّ ، و منه: فنّ القصة.

إذن ، فلنعد إلى ذائقتنا الفنّية مُستعينين بالنصوص المفسّرة التي تملك الكلمة الأخيرة في تحديد النتيجة الصائبة.

و أول ما يمكن ملاحظته ، هو أنّ القصة في صدد تقويم دليل حسيٍّ أيّاً كان هذا الدليل ، حتى يقتنع الإسرائيليون من خلاله بأنّ طالوت فعلا هو تلك الشخصية التي انتقتها السماء لقيادة المعركة ... بخاصة أنـّهم لم يوافقوا على زعامته مادام لم ينحدر من الاُسر التي توارثت المُلك ، ... و مادام فقيراً لا يملك من المال شيئاً.

أمّا و أنـّه قد عُوّض عن ذلك ببطولة جسميّة ، و بسعةِ الثقافة ، فلا مانع حينئذ من تقبّله قائداً للمعركة ، و لكن شريطة أن يقترن ذلك بآية من السماء حتى تطمئن بذلك نفوس هؤلاء المرضى: بني إسرائيل.

من هنا جاء المسوّغ الفنّي لتقديم أيّـة آية من السماء ، ذات طابع معجز حتى يمكن إقناع اليهود بذلك.

و كان التابوت هو تلك الآية ذات الطابع المعجز.

* * *

طبيعيّاً ، من الممكن أن تكون أيّـة آية نازلة من السماء دليلا على صدق نبيّهم في اختيار قائد المعركة ، لكن القصة القرآنية ـ و هي تُجسّد قمّة ما يمكن تصوّره من سمات الفنّ ـ لم تكتفِ بمجرد دليل حسي ـ مع أنّ هذا وحده كاف في تحقيق الهدف ـ ، بل تجاوزت ذلك إلى تقديم ظاهرة ذات صلة بتجارب اليهود و بخبراتهم السابقة في هذا الصدد.

و من الواضح أنّ تقديم آية إعجازية سبق أن تعرفها هؤلاء القوم ، يظلّ أشدّ تأثيراً في الإقناع من تقديم آية اُخرى لا معرفة لهم بها في سابق تجاربهم.

و من هنا جاء التابوت آيةً نازلةً من السماء ذات صلة بتجارب اليهود حيال هذا التابوت.

فالنصوص المفسّرة تنقل لنا أكثر من ظاهرة تتصل بالتابوت و ملابساته.

تقول هذه النصوص: إنّ التابوت قد أنزله اللّه على اُمّ موسى (عليه السلام) إبّان ولادته فيما وضعت موسى فيه ، و ألقته في البحر خوفاً من فتك فرعون به.

و طبيعيّاً مجرّد كون هذا التابوت ذا صلة بشخصية موسى (عليه السلام) ، كاف في الاقتناع بأهميته عاطفياً على الأقل.

و تضيف النصوص المفسّرة: إنّ موسى (عليه السلام) عندما حضرته الوفاة وَضَعَ في التابوت: الألواحَ ، و الدرعَ ، و ما كان عنده من آثار النبوّة و أودعه عند وصيّه.

أيضاً مجرّد كونه يحمل الألواحَ التي نزلت بتعاليم موسى (عليه السلام) ، فضلا عن الدرع ، و فضلا عن آثار النبوّة الاُخرى ، مجرّد هذا كاف في تحقيق مزيد من الإقناع بأهميته.

أكثر من ذلك ، تقول بعض النصوص المفسّرة: إنّ الإسرائيليين أنفسهم كانوا يستفتحون بهذا التابوت على عدوّهم ...

و معنى هذا أنّ التابوت ذو صلة بتجاربهم التي كانوا يحيونها فعلا ، و بخاصة أنـّه يقترن بما هو مُسرّ مادام الأمر يتصل باستخدامه في معاركهم و استفتاحها به.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ الملابسات التي رافقت التابوت قديماً ، تظل ـ من الوجهة الفنّية ـ ذات أثر كبير في تقبّله جديداً ، بخاصة أنّ النصوص المفسّرة تذكر لنا ، أنّ هذا التابوت قد انتزعته السماء من أيدي اليهود عندما أمعنوا في المعاصي ... و ها هو اليوم يعود آيةً في الاُفق ... فكم سيكون له من أثر في نفوس هؤلاء المشكّكين؟

إنّ غيابه عنهم ، و عودته في الاُفق ... يظلّ من الزاوية النفسية أمراً بالغ الدلالة ... إنّه يفجّر الحنين في أعماقهم ، ... يدعهم ـ على الأقل ـ في مراجعة لأنفسهم عندما يتذكّرون بعضَ النِعَم ، ثم انتزاعها منهم نتيجةً لسلوكهم الخاطئ ...

كلُّ هذه التداعيات الذهنية ستحيا في أعماق هؤلاء القوم و هي كافيةٌ لتفسير مدى الأهمية الفنّية لظاهرة التابوت التي رسمتها القصةُ آيةً على صدق نبيّهم في اختيار طالوت دون سواها من الآيات الإعجازية الاُخرى.

لكن ، إذا كان المرض قد طُبعَ على قلوبهم ، فإنّ هدايتهم من الممتنع أن تتمّ ذات يوم ، لذا فإنّ القصة تُريد أن تُلقي الحُجّة على هؤلاء حتى تصفعهم من جديد دنيوياً و اُخروياً.

* * *

لحظنا أنّ التابوت الذي أنزلته السماءُ آيةً على صدق نبيّ الإسرائيليين في إرسال طالوت قائداً للمعركة من حيث ارتباطه بتجارب اليهود و عواطفهم ، ...
و من ثمّ مدى أهميّته ـ فنّياً ـ في اختياره دون سواه من دلائل الإعجاز في هذا الصدد.

ولو ذهبنا نُتابع الأوصافَ التي رافقت هذا الحديث الصناعي ، للحظنا أنّ الصفة المُعلَمَةَ له ، هي كونه محمولا من قِبَلِ الملائكة ، كما هو صريح القصة.

أما كيفية حمله فأمرٌ سكتت القصةُ عنه تماماً.

إنّ الملائكة يدخلون في هذه القصة أبطالا بجانب الأبطال الآدميين.

و مجرّد كونهم أبطالا من غير جنس البشر ، كاف في تفجير الإثارة لدى قارئ القصة ، و إضفاء المتعة و الحيويّـة عليها.

بيد أنّ الأهمية الفنّية لهذا العنصر في القصة من جانب آخر ، هي كون هؤلاء الأبطال الملائكيّين يشكّلون عنصر إعجاز بجانب عنصر الإعجاز الآخر و نعني به التابوت.

و من هنا يمكننا أن نلحظ بوضوح طابع التجانس الفني بين عناصر الإعجاز في القصة ، مادام الإسرائيلييون يحاولون البحث عن أيّ سبب يمكن اختلاقه لإثارة الضجيج.

و ها هي السماء تقدّم لهم دليلا إعجازياً آخر حتى تسدّ أفواههم ، و تقطع السبيل عليهم. و في نفس الوقت يكون تقديمُ مثل هذا الدليل حجّةً على اليهود في استدراجهم نحو العقاب ، و إنزال الضربة القاضية في نهاية المطاف.

و المهمّ ، أنّ الملائكة جسّدوا عنصراً فنّياً فرضه سياقُ القصة الذي يستدعي وجود عنصر من الإعجاز بجانب التابوت ، حتى يحمل اليهود على الاقتناع بأنّ طالوت (عليه السلام)القائد العسكري المهيّأ لخوض المعركة ، إنّما هو مرسلٌ من قِبَل السماء ، لا أ نّه مجرد شخصية عادية يمكن الاعتراض عليها ، و على كونها غير منتسبة إلى الاُسر التي توارثت المُلك ، أو أنـّها فقيرة لا تملك الأموال مثلا ، على النحو الذي لحظناه في اعتراضات اليهود.

* * *

هنا يُلاحظ أنّ القصة لم تذكر من أوصاف التابوت ، و طريقة حمل الملائكة للتابوت أيّ شيء. لكنّ النصوص المفسّرة قدمت أوصافاً مختلفة تتصل بحجم التابوت و هندسته ، فذكرت بأنّـه ثلاثة أذرع في ذراعين ، و أنّ عليه صفائح الذهب ، إلى غير ذلك من الأوصاف. كما ذكرت فيما يتصل بالملائكة و طريقة حملهم للتابوت أوصافاً متفاوتةً.

المهم ـ من الزاوية الفنّية ـ لا يجد قارئ القصة ضرورة مُلحّة في ذكر مثل هذه الأوصاف ، مادامت القصةُ في صدد تبيين ما هو معجز فحسب ، و لذلك تكفّلت النصوص المفسّرة بذلك دون أن تذكر القصةُ نفسها هذه الأوصاف.

مضافاً لذلك ، فإنّ القارئ سيُحقق مزيداً من الإمتاع الفكري و الفنّي حينما تتركه القصةُ أمام حشد من التخيّل في تصوّر الملائكة و هم يحملون التابوت ما بين السماء و الأرض ، و يعرضونه في شكل مُثير مُدهش أمام الأنظار. أو أنـّهم يسوقونه على الأرض نفسها و ليس في الجوّ ... و لا شك أنّ مثل هذه التصوّرات و غموض الموقف الذي يرافق حمل التابوت ، سيدع القارئ في مرأىً مُمتع يشاهده بخياله ، و كأنـّه حيّ يقع تحت عينيه مباشرة.

الآن نواجه أوصافاً جديدة للتابوت ...

فأوّلا: لحظنا أنّ التابوت كان مرتبطاً بتجارب الإسرائيليين من حيث صلته بموسى (عليه السلام)و اُمّه ، و من حيث استفتاح اليهود به في معاركهم ، و من حيث انتزاعه منهم بعد أن عملوا بالمعاصي.

ثانياً: لحظنا حمل الملائكة ، و دلالة هذا العنصر بالإعجاز.

ثالثاً: نواجه الآن أوصافاً جديدة للتابوت ، ... ذكرتها القصّة على نحوين:

الأوّل منهما ، هو أنّ التابوت فيه «سكينة» من اللّه.

و الثاني: أنّ التابوت فيه «بقية ممّا ترك آل موسى و آل هارون».

و السؤال هو: ما المقصود بــ السكينة؟ و ما هي تلك البقية من تَرِكَةِ آل موسى
و آل هارون ، و ما هي دلالة ذلك فنّياً؟

لقد قالت القصة:

﴿وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ

﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ

و نحن ، قبل أن نتحدث عن السكينة نتقدّم إلى معرفة المقصود بتلك التركةِ أو
الإرث الذي خلّفه آل موسى و آل هارون.

طبيعيّاً لا نحتاج إلى أدنى تأمّل حتى نعرف سريعاً بأنّ كلّ ما له صلة بموسى
و بهارون سيكون له تأثيره في نفسية الشخصية اليهودية ، و تحريك عواطفها.

إنّ هذه القصة الفنّية العظيمة ، لا تكتفي بتقديم بعض الظواهر ذات الصلة بتجارب اليهود ، بل تقدّم أكثر من عنصر حتى تسدّ كلّ الطرق على الإسرائيليين ، ... فقد لحظنا مثلا كيف أنّ التابوت نفسه كان مِلكاً لهم ، و كانوا يستفتحون به في المعارك ... و كيف أنـّه كان وسيلة إنقاذ لشخصية موسى (عليه السلام) من فتك فرعون به ، عندما أُلقي موسى في داخله و طُرح في البحر.

و ها هي القصة تقدّم شيئاً جديداً له صلته أيضاً بتجارب اليهود ، و بعواطفهم ...
ألا و هو: بقايا ما تركه موسى (عليه السلام) و أخوه هارون من الآثار.

إنّ مثل هذه البقايا ، أيّاً كانت ، لها قدسيّتها و أهميتها في مشاعر اليهود ، و بخاصة أنها تُستحضر بعد غيابها.

فمن الواضح من حيث الدلالة النفسية ، أنّ عودة الشيء للظهور بعد غيابه يترك لدى الآخرين أثراً انفعالياً بالغ المدى في الاستبشار به و في تفجير الفرح و السرور بمُشاهدته.

و السؤال: ما هي هذه البقية ممّا تركه موسى و هارون؟

النصوص المفسّرة تتفاوت في شرحها لما هو المقصود بــ : بقية الآثار التي تركها موسى و هارون (عليهما السلام) و يُمكن عرضُها جميعاً ، بغض النظر عن التحديد النهائي لها ، يمكن عرضُها فيما يلي:

الألواح ، و فيها تعاليم السماء التي نزلت على موسى (عليه السلام) ، و كتبت فيها ، ثم جُعلت في التابوت. و منها: الطست التي تُغسل فيها قلوب الأنبياء. و منها: درع موسى (عليه السلام). و منها: الحكمة و العلم مطلقاً. و منها: عصا موسى (عليه السلام). و منها: بعض الملبوسات لموسى و هارون (عليهما السلام).

إذن ، الألواح ، العصا ، الدرع ، الطست ، الحكمة ، الملابس ... إلى آخره ، كلّ اُولئك يمكن أن تشكّل بقيّة ممّا تركه موسى و هارو ن... و يمكن أن يكون بعضها لا جميعها هو الصائب.

و الأهم من ذلك ـ فنّياً ـ هو وجود بقيّة من آثار النبوّة ، أيّاً كانت هذه البقية ما دامت مقترنةً بمعرفة اليهود بها ، و بإقرارهم بصحتها ، و بتقديسهم و تقديرهم لهذه الآثار.

أمّا ماذا كانت الآثار في الواقع ، فأمرٌ لا ضرورة فنّية له بالنسبة إلى قارئ القصة.

إنّ ما له أهميته في نظر القارئ ، هو أن يقتنع بأنّ الإسرائيليين قُدّمت لهم أكثر من حجّة و دليل ، و منه هذا الدليل المتمثّل في مشاهدتهم بأعيانهم آثاراً من النبوّة ، معروفة لديهم.

و حينئذ ، مع وجود و توفّر مثل هذا الدليل ، لا يبقى أيّ عذر أمام اليهود في تخلّفهم عن المعركة ، أو في تمرّدهم على الأوامر التي سيصدرها طالوت عندما يباشر مهمّته العسكرية في ميدان القتال.

و لكننا على نحو ما سنرى في الأجزاء اللاحقة من القصة ، أنّ اليهود كما هو دأبهم طوال التاريخ بالرغم من قناعتهم بمثل هذا الدليل ، و بأدلّة اُخرى عرضنا قسماً منها و سنعرض القسم الآخر منها لاحقاً ، سنرى أنّ هذه الأدلّة و الحجج جميعاً لم تغسل قلوبهم من الدَرَن ، و التشكيك ، و النفعيّة ، و العناد ، و اللؤم ، و التمرّد.

من الأوصاف التي وردت حيال التابوت الذي حملته الملائكة ، هو: السكينةُ من اللّه.

قالت القصة:

﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

القارئ سيقف حيال هذه السمة ، منشطراً بين الذهاب إلى أنّ السكينة هي نوعٌ من الاطمئنان ، و العناية ، و الدعم الإلهي و نحوه مثلا ، و بين الذهاب إلى أنـّها رمزٌ تتكفّل النصوص المفسرةُ بتوضيحه ، لكنه ـ أي القارئ ـ مطمئنٌ إلى أنّ اليهود لابدّ أن يكونوا قد أدركوا دلالة هذه السمة الإعجازية ، مادام الأمر متصلا بتجربتهم ، و بموقفهم اللئيم من الشخصية العسكرية التي أرسلتها إليهم ، و نعني بها طالوت.

و المهم ، حَسبُ القارئ ـ من حيث الدلالة الفنّية لهذه السمة السكينة ـ حسبه أن يُدرك منها ، أنـّها نوع من السمات الإعجازية ذات الصلة بمعطيات اللّه ، و نِعمِه ، و إبداعه. لكننا حين ننقل القصة إلى سياقها التأريخي و دلالتها الفكرية عصرئذ ، أي في سياق موقف اليهود المُعاند ، حينئذ ، فإنّ الرجوع إلى النصوص المفسّرة يُسعفنا في تعرّف الموقف.

إنّ النصوص المفسّرة متفاوتةٌ في تحديد المقصود بــ السكينة من اللّه ، فبعضها يذهب إلى أنها روحٌ من السماء ، تتكلّم. و بعضُها يذهب إلى أنها ريحٌ من الجنّة.
و بعضها يضيف أوصافاً مفصلةً لها.

و أيّاً كان الصائب ، فإنّها ـ و هذا هو المهمّ فنّياً ـ نمطٌ من الظواهر الإعجازية
التي رافقت حمل الملائكة للتابوت.

و لابدّ أن تكون أيضاً ذات صلة بتجارب اليهود و خبرتهم عمليّاً بمشاهده مثل
هذه الآثار سابقاً ، أو بسماعهم عنها من أسلافهم.

و نحن إذ نقول: لابدّ أن تكون هذه السمة ذات صلة بتجارب اليهود ، فلأنّ السياق الفنّي لبناء القصة يسعفنا في الاقتناع بهذا التفسير الفنّي لها.

و السرّ في ذلك ، أنّ كلّ الأوصاف المتصلة بالتابوت جاءت ذات صلة بخبرات
الإسرائيليين ، بدءً من التابوت نفسه ، مروراً بما فيه من بقية آثار موسى و هارون ،
و انتهاءً بهذه السمة السكينة.

مضافاً لذلك ، فإنّ ما لَه صلة بخبرات اليهود يكون أشدّ تأثيراً في نفوسهم المريضة التي تحتاج إلى مزيد من الحجج و الأدلّة و البراهين.

و إذا افترضنا أنـّها ليست ذات صلة بتجاربهم ، فإنّ مجرّد كونها ذات سمة إعجازية ، ... كاف في حمل اليهود على الاقتناع بها ، على نحو السمة الملائكية في حمل التابوت مثلا.

إلى هنا ، يظل الحَدَثُ الصناعي التابوت ، عنصراً قصصياً له تأثيره الضخم في حركة القصة و تغيير مسارها ، بل يمكننا القول: إنّ هذا الحدث الصناعي شكّل عنصراً وحيداً في التأثير على مجرى الأحداث. فقد رأينا مثلا أنّ الإسرائيليين اعترضوا على شخصية طالوت و شككوا في كونها مصطفاة من قِبَل السماء ، اعترضوا على كونها من غير بيت المُلك المتوارث ، و اعترضوا على كونها فقيرة لا تملك أموالا.

أكثر من ذلك ، لم يكادوا يقتنعون حتى بكلام نبيّهم و بمحاولاته في إقناعهم بأنّ اللّه قد عوّض طالوت بدلا من عدم انتسابه إلى الاُسر التي توارثت المُلك و عدم تملّكه للأموال ، عوّضه عن ذلك بسمات بطولية و سمات علمية تؤهّلانه لخوض المعركة و قيادتها العسكرية ، إنّهم لم يكادوا يقتنعون حتى بهذا المنطق الواقعي الواضح ، حتى وصل الأمرُ بهم إلى أن يطالبوا نبيّهم بتقديم آية أو دليل حسّي على صحة ما يقول.

و لهذا السبب تقدّم نبيّهم مُجارياً عقلياتهم المريضة ، سادّاً عليهم كلّ طريق آخر للاعتراض ... فكانت ظاهرة التابوت هي المؤثّر الوحيد في غلق أفواههم و إرغامهم على السكوت.

إنّ القصة لم تقل لنا أنّ اليهود قد اقتنعوا فعلا بهذا الدليل الحسّي الأخير التابوت ، لكنها سلكت منحىً فنّياً غير مباشر في التدليل على ذلك.

و هذا المنحى الفنّي يتمثل في أنّ القصة انتقلت بعد هذا الحدث الصناعي التابوت ، انتقلت مباشرة إلى صعيد المعركة ، و أخذت تسرد لنا أحداث القتال ، ممّا يعني ـ من الزاوية الفنّية ـ أنّ الإسرائيليين قد اقتنعوا بالإعجاز الذي رافق التابوت ، و أبدوا موافقتهم على القتال في ظلّ القيادة العسكرية لطالوت.

ولو لم يكن الأمرُ كذلك لما انتقلت القصة إلى وصف المعركة ، لأنـّه لو لم تكن موافقةٌ من اليهود لما كان مسوّغ للمعركة ، مادامت المعركة أساساً هي نتيجة لاقتراح اليهود و طلبهم من نبيّهم إرسال شخصية عسكرية ينضوون تحت قيادتها حتى تنقذهم من الذلّ و السبي و التشريد.

إذن ، بهذا المنحى الفنّي المُمتع ، أوحت القصةُ لنا بأنّ اليهود قد اقتنعوا بالإعجاز الذي رافق ظاهرة التابوت ، و إلى أنـّهم ـ في نهاية المطاف ـ التحقوا بطالوت و من ثمّ فإنّ التابوت للسبب المتقدّم ، كان له تأثيره الوحيد في تغيير مجرى الأحداث ، و انعطاف القصة نحو تطوّرات جديدة ، نبدأ الآن بتوضيحها.

* * *

يبدأ القسم الجديد من قصة طالوت بتطوّرات ملحوظة في مجرى الأحداث.

فها هو طالوت يقتحم الساحة و يبدأ بتنظيم الجيش.

و ها هم الإسرائيليّون يلتحقون به ، بل إنّ الجيش يبدأ بالزحف فعلا ، متّجهاً نحو العدو ...

هذه التفصيلات أيضاً لا وجود لها في القصة ، لكننا نستوحيها من خلال لغة الفنّ القصصي.

إنّ القصة بدأت في هذا القسم الجديد ، تحدّثنا عن أوّل تجربة قتال بدأ اليهود فيها قبل خوض المعركة بالنكوص ، و بالتردّد ، و بالتمرّد على أوامر طالوت إلاّ فئة قليلة منهم. أي أنّ الوصف الذي تكفّل بنقل وقائع المعركة لم يبدأ إلاّ من وسط الأحداث ، إنّه بدأ من نقطة التمرّد الإسرائيلي على طالوت ... أمّا قبل هذا ، فكان الصمت هو الذي يُغَلّف حركة القصة. فقبل التمرّد كانت موافقة الإسرائيليين على القتال ، ثمّ التحاقهم بالجيش فعلا ، ثمّ زحفهم نحو العدو ، كلّ هذا لم تذكره القصة ، بل ذكرت ما يلي:

﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ

﴿قالَ: إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر

﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي

أي ، أنّ القصة بدأت السرد بعملية الاختبار الالهي لليهود حيث تمثّل ذلك في حادثة النهر الذي صادفه الجيش الاسرائيلي أثناء توجّهه للقتال.

و طبيعيّاً فإنّ القارئ مدعوّ إلى التأمّل الدقيق لهذا السرد ، ... فإنّه ينطوي على
حقائق فنّية في غاية الخطورة.

فأولا من حيث الاقتصاد في السرد ، طوت القصةُ كلّ المراحل التي سبقت تمرّد اليهود على قائدهم طالوت ... إنّها اختزلت موافقة اليهود على القتال. و قبل ذلك اختزلت الإشارة إلى اقتناعهم بإعجاز التابوت. ثم اختزلت التحاقهم بالجيش.
و اختزلت أخيراً زحف الجيش و توجّهه إلى ساحة القتال ... اختزلت كلّ ذلك ، و طوت كلّ تلك المراحل ، و اتّجهت مباشرة إلى وصف التمرّد الإسرائيلي ...

و نحن من خلال وقوفنا على تمرّد اليهود ، عرفنا أنـّهم قبل ذلك قد اقتنعوا بإعجاز التابوت ، و أنـّهم التحقوا بالجيش ، و أنـّهم زحفوا فعلا ...

إذن ، كم هو مثيرٌ ، و ممتعٌ ، و حيٌّ مثل هذا الاقتصاد في السرد. و تركنا نحن القرّاء نستنتج بيُسر و سهولة كلَّ تلك المراحل التي لا ذكرَ لها في القصة؟!

و لكن خطورة الفنّ و أهميّته العظيمة ، تتضح أمامنا بنحو أشدّ إمتاعاً و حيوية حينما نقف على الأسرار الفنّية التي تقف وراء القصة ، حينما نتساءل عن السبب الذي كانت الأحداث من خلاله تبدأ من نقطة التمرّد الإسرائيلي على طالوت ، و ليس من نقطة سواها ... لماذا بدأت الأحداث من قضية الاختبار الإلهي لليهود في واقعة النهر الذي صادفه الجيش الإسرائيلي أثناء توجّهه للقتال؟

و لماذا التشدّد على هذا التمرّد و العناد و الجبن الذي صدر عن اليهود قبل القتال؟

بدأ القسمُ الجديد من قصة طالوت بهذا النحو:

﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ:

﴿إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

﴿وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ

﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ...

إنّ الأهمية الفنّية لمثل هذا النقل القصصي لوقائع المعركة ، تتمثّل في هذا التفصيل الذي ذكرته القصة عن الاختبار الإلهي لليهود ، ثمّ تمرّدهم على طالوت و شربهم من النهر خلافاً لتوصيته.

و أمّا الحوادث التي سبقت هذا الاختبار و هذا التمرّد الإسرائيلي فقد حذفت من القصة كما قلنا ، لأسباب سبق شرحُها ، فلا نعيد.

أمّا الآن ، فيعنينا أن نشير إلى أنّ السرّ الفنّي وراء هذه البداية بأحداث القصة و تطوّراتها و حذف ما قبلها ... هذا السرّ يتمثّل في أنّ هدف القصة بأكملها ، هو تنبيه القارئ إلى سلوك اليهود. و هو سلوك يعرفه القاصي و الداني طوال وجودهم على هذه الأرض. إنّهم حفنةٌ لا خلاق لها ، لا عهود لها ، لا يقين لها ، أفاضت السماء عليهم كلّ النِعَم ، لكنهم مع ذلك لم يقدّروها. أذلّهم اللّه كلّ الإذلال على يد الأقباط في العصور الماضية ، فاستعبدوهم ، و شرّدوهم ، و سبوا ذراريهم ، و قتلوا الكثير منهم ، ... ثم أُنقِذوا ، لكنهم لم يُقدّروا هذا الإنقاذ. و أخيراً جاء دَورُ جالوت أحد الأقباط ، ليستعبدهم من بعد وفات موسى (عليه السلام) ، لقد أخرجهم من ديارهم و سبى ذراريهم حتّى ضجّوا من ذلك و توسّلوا بأحد أنبيائهم أن يدعو اللّه فيرسل إليهم مَن يُنقذهم.

و ها هو نبيّهم يحقّق طلبهم ، فيجيء طالوت لإنقاذ الموقف ، لكنهم كما رأينا بدأوا بإثارة الاعتراضات السخيفة التي لا تصدر إلاّ عن طفل لا نضج لديه. بدأوا يقولون: طالوت ليس من بيت المُلك ، ... طالوت لا يملك أموالا ... إلى آخره.

قال لهم نبيّهم: اللّه قد عوّضه ببطولة جسميّة و كفاءة علميّة بدلا من المُلك الموروث و المال ، مع ذلك لم يقتنعوا تماماً حتى طلبوا دليلا حسّياً على صدق النبيّ ...

ثم قدّم النبيّ لهم التابوت بكلّ ما رافقه عن إعجاز له صلته بتجاربهم التي شاهدوها أو سمعوا عنها ، و حينئذ كان لابدّ من الإقناع.

لكنهم ـ و هذا هو موضع الشاهد من القصة التي نحن في صددها ـ ما أن التحقوا بالجيش و زحفوا نحو ساحة القتال حتى بدأوا من جديد ينكصون و يرتدّون إلى أساليب الطفولة المرضيّة ...

إنّ القصّة عندما حذفت كلّ شيء ، و سكتت عن التفصيلات المتصلة بلحوقهم بالجيش و بزحفهم نحو ساحة القتال ، ثم ذكرت قضية الاختبار الإلهي فحسب و قضية تمرّدهم على أوامر طالوت فحسب ، إنّما كانت تستهدف بهذا تذكيرنا من جديد بأنّ التمرّد و العناد و التشكيك و الكذب هو طابع هذه الفئة الذليلة ، مهما تظاهرت بالإخلاص ، و مهما أُغدقت عليها النِعَم ، و مهما استُعبدت ، و مهما اُتيحت لها فُرصُ الخلاص.

و إذن السر الفنّي وراء سرد الأحداث من هذه النقطة و حذف ما سواها ، هو التشدّد و التنبيه على وساخة السلوك الذي يغلّف الشخصية الإسرائيلية في الحالات كلّها و بخاصة أنّ القصة منذ البداية أعلنت على لسان نبيّهم أنـّهم غير صادقين في ادعائهم بأنـّهم مستعدّون للقتال.

ثمّ جاءت هذه الحادثة و ما قبلها ، دليلا فنّياً على جُبنهم و عنادهم.

* * *

على أيّة حال ، بعد أن عرفنا الأسرار الفنّية الكامنة وراء بدء القصة ـ في تصويرها للأحداث ـ بهذه النقطة المتصلة بالاختبار ، و بالتمرّد دون سواها من الأحداث ، بعد أن عرفنا ذلك يحسن بنا أن نقف عند الاختبار الإلهي نفسه ، و عند هذا التمرّد الإسرائيلي ذاته ، حتى نتبيّن المزيد من حقائق هذه الفئة الضالّة الشاذّة.

لنُعد إلى قراءة النص القصصي من جديد:

﴿فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ:

﴿إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

﴿وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ

﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ...

ظاهر النص القصصي أنّ طالوت زحف بجيشه نحو ساحة القتال ، لكنّه أثناء الزحف اُوحي إليه بأن يقدّم اختباراً لمعرفة الصادق من الكاذب من هؤلاء القوم.

و كان الاختبار أو التجربة متمثّلا في وجود نهر منَعَهم طالوتُ من الشرب منه ، إلاّ في حدود غَرفة واحدة بقدر الكف.

لكنّ القوم سقطوا في هذا الاختبار ، إلاّ قليلا منهم.

إنّ القارئ أو المستمع بمقدوره أن يستخلص بسهولة دلالة هذا الاختبار.

ففيما يبدو أنّ العطش و قلّة الماء كان وراء هذه التجربة.

لكن السماء ـ دون أدنى شك ـ لا تكلّف الإنسان إلاّ وسعه.

فلا يُعقل أنّ العطش الذي طال القوم ، كان من الشدّة بنحو لا يُطاق ، و إلاّ لما كلّفتهم السماءُ بذلك.

بل إنّ المتيقن ، كان العطشُ بنحو يمكن أن يصبر الانسانُ عليه دون أن يؤثّر ذلك على التوازن الحيوي للشخصية.

مُضافاً لذلك فإنّ طالوت سمح لجنوده بأن يغترفوا غرفةً واحدة بملء الكف.

و في هذا أيضاً دلالة فنّية على أنّ الاختبار كان في حدود ما يطيقه الإنسان.

فإذا افترضنا أنّ العطش كان شديداً ، فإنّ غرفةً من الماء ستُزيح قدراً من التوتّرات الناشئة من العطش ، على نحو يُصبح الجندي من خلاله قادراً على تأجيل لذّته إلى الشرب ، مكتفياً بتلك الغَرفة منه ، لكنّ الباحثين عن اللذة ، اللاهثين وراء الإشباع الزائد عن الحاجة ، المتمركزين حول ذواتهم ، لا يسمحون لأنفسهم أن يمارسوا أيّ تأجيل للذّة ، بل ينشدون إشباعاً عاجلا فورياً دون التقيّد بأيـّة معايير و ضوابط.

أليس تمرّداتهم السابقة كلّها معبّرة عن نشدانهم اللذّة بأيّ ثمن؟

أليس قتلهم للأنبياء سابقاً ، و مجازرهم في حياتنا المعاصرة ، نشداناً للذات ، و اللذّة العاجلة؟

ألم تكن ممانعتُهم للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في عصر رسالة الإسلام و تخلّفهم عن المعارك ، نشداناً للذّة عاجلة؟ ألم يكن إظهارهم للاسلام و استبطانهم الكفر ، نشداناً للذّة
عابرة هي تحقيق مكاسب اقتصادية و اجتماعية؟

إذن هجومهم مثل الهيمِ على الشرب من النهر ، كان أيضاً نشداناً للذّة عابرة ، كان بإمكانهم أن يؤجّلوها كما أجّلها القليل منهم.

ولو كان الأمر خارجاً عن الطاقة لما التزم القليلُ منهم بتوصية طالوت ، و إلاّ لأصاب الضرر هذا القليل من القوم ، في حين أنـّهم ـ أي هؤلاء القليل ـ واصلوا زحفهم دون أن يصيبهم سوء.

* * *

إنّ حادثة النهر تشكّل في الهيكل الهندسي للقصة موقعاً فنّياً له أهميته الكبيرة في تطوير الأحداث و التنبّؤ الفنّي لنهاياتها.

فإذا استعرنا مُصطلح اللغة القصصية ، أمكننا أن نقول: إنّ هذه الحادثة تُشكل ما يُسمّى في مفاهيم العمل القصصي بـ : لحظة الإنارة ، أي اللحظة التي تلقي الضوء على ما يمكن أن تكون نهاية القصة عليه ، بمعنى أنـّها تسبق النهاية و تسبق لحظات التأزّم الأخيرة لنهاية الأحداث.

إنّ تأزّم الأحداث ، أي بلوغها الذروة التي تفضي إلى النهاية قد مهّدت لها هذه الحادثة حادثة النهر ، إنّها ألقت إنارة على ما يمكن أن نتوقّعه من سير المعارك لاحقاً. فإذا كان عدم تناول الماء ـ و هو أمرٌ سهلٌ ـ ، لا يبدو أنّ الإسرائيليين مستعدون لتحمّله ، فكيف نتوقّع أن يتحمّلوا أعباء القتال؟ مع أنّ عدم تناول الماء لا يُفضي إلى الموت ، في حين أنّ القتال مواجهةٌ مباشرةٌ مع الموت.

إذن ، كانت حادثة النهر ، أو الاختبار الالهي ذات سمة فنّية بالغة الأهمية من حيث بناء القصة و خطوطها العمارية.

إنّها كما سنرى ، ترهص بأحداث لاحقة تزيدنا قناعةً بأنّ اليهود قد طُبعَ على قلوبهم إلاّ النادر.

كما أنّ هذه الحادثة حادثة النهر من جانب آخر تشكل امتداداً لمواقف سابقة لليهود ، فليس هذا أوّل سلوك رديء يصدرون عنه. إنّهم قبل ذلك شككوا بصحة دعوى نبيّهم في إرسال طالوت ، اعترضوا عليه بأنـّه لم يكن من اُسرة توارثت المُلك ، و بأنـّه فقير ، و شككوا للمرة الجديدة أيضاً حينما قال لهم نبيّهم: إنّ طالوت قد عوّضه اللّه ببسطة في الجسم و العلم ، حيث طلبوا دليلا حسّياً على صحة إرساله من قِبَلِ السماء. و حينئذ كان التابوت هو الدليل الذي قدّم إليهم.

و ها هم للمرة الثالثة ، يتمرّدون على الاختبار الإلهي ، و سيتمرّدون في اللحظة الحاسمة عند القتال أيضاً كما سنرى.

المهم ، أنّ حادثة النهر كما لحظنا شكلت موقعاً عضوياً في بناء القصة ، رابطاً بين أجزائها السابقة و اللاحقة بنحو محكم فنّياً على النحو العظيم الذي لحظناه.

نواجه الآن واقعةً جديدة في قصة طالوت.

فبعد أن رفض اليهود الالتزام بتوصية طالوت ، ألاّ يشربوا من النهر ، واصل طالوت زحفه نحو ساحة القتال ، و معه تلك الفئة القليلة التي التزمت بتوصيته.

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ عدد هؤلاء الملتزمين ثلاثمأة و بضعة عشر رجلا. و أمّا المتمرّدون فعددهم ثمانون ألفاً. و المهم ، أنّ حادثة النهر التي كانت اختباراً لليهود ، مهّدت لنا من الناحية الفنّية لواقعة جديدة نتوقّعها ، مادامت قد هيّأتنا ذهنيّاً لأن نتنبّأ بنتائج الموقف.

فالمتمرّدون ثمانون ألفاً ، و الملتزمون ثلاثمأة و بضعة رجلا فحسب.

و حيال هذا ماذا نتوقّع؟

إذا حانت ساعة القتال ، هل نحتمل أنّ هؤلاء الثمانين ألفاً ، سيقتحمون الساحة، أو أنـّهم سيصطنعون عذراً للتخلّص من القتال؟

مواقفهم السابقة في هذه القصة عوّدتنا على أنّ اليهود لا عهدَ لهم ، و إلى أنـّهم يُعنون بإشباع عاجل لحاجاتهم المريضة ، و في مقدّمة هذه المواقف عدم التزامهم بتوصية طالوت في الامتناع عن الشرب.

و إذا كان هؤلاء اليهود و هم في الطريق بعد ، قبل أن يصلوا إلى ساحة القتال ، لم يكن لديهم استعدادٌ لتحمّل قليل من العطش ، فهل سيستعدّون لتحمّل الموت أثناء القتال؟

و بالفعل، ها هي الواقعة الجديدة في القصة تكشف لنا عن تخاذل الإسرائيليين و جبنهم الذي لا يضاهيه جبنٌ آخر. إنظر إلى موقفهم الجديد:

﴿قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ

هذا الحوار الصادر من الإسرائيليين يكشف لنا جملةً من حقائق القصة.

فأوّلا من حيث الدلالة الفكرية ، يظل هذا الموقف من اليهود إمتداداً لمواقفهم السابقة بدءً من اعتراضهم على طالوت ، ثمّ قناعتهم به ، ثمّ تشكيكهم من جديد و مطالبتهم بالدليل ، ثمّ قناعتهم بالدليل و هو التابوت ، ثم تمرّدهم على طالوت و عدم التزامهم بتوصيته ، ثمّ هذا الموقف الأخير الذي كشف عن قمّة التخاذل و الجبن و التشكيك و تمزّق النفس و الخواء و الضعة ، مع أنـّهم أذلاّء مُستعبدون ، مشرّدون ، مسبيٌّ ذراريهم .. مع أنـّهم في مثل هذه الحالة الذليلة ، نجدهم غير مستعدّين للقتال. و هذا قمّة ما يمكن تصوّره في البشر من حيث ضعة الشخصية.

* * *

أمّا من حيث الدلالة الفنّية ، فإنّ الحوار السابق لليهود كشف لنا عن بروز شخصية جديدة في القصة هي شخصية جالوت.

فنحن قرّاء القصة لم نعرف من شخصياتها غير نبيّ الإسرائيليين و طالوت ، و لم نعرف من أحداثها غير واقعة الزحف نحو العدوّ ، أمّا العدوّ نفسه فلم تحدّد القصة هويّته ، لكنّ الحوار السابق تكفّل بتحديد هوية العدوّ و قائد جيشه ، فإذا به جالوت.

لنقرأ الحوار جديداً:

﴿قالُوا: لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ

إذن ، العدوّ الذي استعبد اليهود و أذلّهم هو جالوت.

و لا حاجة بنا إلى تذكير القارئ بأهمية مثل هذا الحوار فنّياً من حيث وظيفته في الكشف عن الأحداث و تطويرها و توصيلها إلى هذه النقطة من حركة القصّة ، فيما تشكّل هذه النقطة ما يسمّى في لغة القصة بـ : التأزّم أو الذروة فيما يتصل على الأقل بموقف اليهود من القتال. و إلاّ فإنّ ذروة الحدث من حيث القتال بعامّة ـ بغض النظر عن العنصر الإسرائيلي ـ سيتحدّد وفق حركة اُخرى نقف عليها لاحقاً.

إنّ ذروة الحدث تتجسّد في هذا الموقف الإسرائيلي من القتال. فطالوتٌ زاحفٌ بجنوده نحو ساحة القتال.

و ها هم ثمانون ألفاً منهم يتخاذلون في اللحظة الحاسمة.

إذن ، ماذا بقي من جنوده؟

ثلاثمأة و بضعة رجلا فحسب ، وفق النصوص المفسّرة.

هل يمكن لطالوت أن يقتحم ساحة القتال بعدّة مئآت من الجنود ، في حين أنّ الآلاف منهم تخاذلوا؟

إنّ منطق الأرض و حساباتها العسكرية ، من الممكن أن تؤكّد بأنّ المعركة لصالح جالوت.

لكنّ منطق السماء ، مالكة الأرض و ما فيها ، من المؤكّد أن يسجل النصر لصالح
طالوت.

لكنّ النصر مشفوع بشروط ، في مقدّمتها الثقة التامّة باللّه.

فهل تحقّق ذلك؟

* * *

لنعد إلى قضية النهر و موقف الجنود منها.

لقد قلنا في حينه: إنّ حادثة الشرب من النهر تشكّل من حيث لغة الفنّ لحظة إنارة للأحداث اللاحقة من القصة. فقد قال طالوت لجنوده و هم لا يزالون في الطريق قبل وصولهم إلى ساحة القتال ، قال لهم:

﴿إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

﴿وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً

لقد شرب ثمانون ألفاً من النهر، و لكن القليل منهم لم يشربوا:

﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً

إذن هذا القليل الذي تقول الروايات أ نّه ثلاثمأة و بضعة عشر رجلا ، كانوا من
الملتزمين بأوامر طالوت ، كانوا من المؤمنين باللّه دون أدنى شك ...

و الآن ، لننظر إلى موقف هذه الفئة القليلة من القتال في اللحظة الحاسمة.

الفئة الكثيرة و هم ثمانون ألفاً ، قالوا بوقاحة و جبن:

﴿لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ

و لكن ، لننظر إلى الفئة القليلة و هم ثلاثمأة و بضعة رجلا ماذا كان موقفهم:

﴿قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنـَّهُمْ مُلاقُوا اللّهِ:

﴿كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ

إذن ، كم هو الفارق بين المؤمنين الواثقين باللّه ـ و هُم قليل ـ و بين الجبناء الانهزاميين؟

إنّ هذه المعادلة بين الفئتين ، لها أهميتها الفنّية الكبيرة في تطوير الأحداث و رسم نهاياتها في القصة.

نحن الآن في ذروة الحركة للأحداث ...

ثمانون ألفاً يتخاذلون ، ثلاثمأة و بضعة رجلا فحسب يظهرون كامل استعدادهم للقتال ، ثقةً باللّه.

هنا ماذا نتوقّع من طالوت ، هل سيزحف بهذا النفر القليل نحو ساحة القتال؟ أم سيحاول إقناع الفئات الكبيرة الذليلة؟ أم سيؤجّل المعركة إلى أمد آخر؟

إنّ التخاذل في اللحظة الحاسمة ، سيؤثّر في مجرى الأحداث ... لو كان هذا التخاذل اليهودي قبل الزحف ، أو خلاله ـ أثناء الطريق ـ لهان الأمر ، لكنه انفجر خلال مواجهة العدو في ساحة القتال ذاتها ...

إنّ أمثلة هذه الحسابات ، أو المعادلات حسب منطق الأرض لها مسوّغاتها و أهميتها ، لكنّ منطق السماء كما قلنا ، يتّجه نحو معادلة خاصة مادام ثمّة ثلاثمأة و بضعة عشر رجلا من المؤمنين باللّه ، من الواثقين بالنصر لهم حضورُهم في الموقف ، حينئذ لا قيمة البتة لاُولئك الثمانين ألفاً ، ثمانين ألف شَبَح بلا قلب ، بلا روح.

و على العكس ، فإنّ ثلاثمأة و بضعة عشر رجلا تملأهم ثقةٌ باللّه ، مادام لهذه الفئة القليلة حضورٌ في الموقف ، فإنّ السماء ستكون عند حسن ظنّهم ، و لا نتوقّع أبداً أن ينسحب طالوت من المعركة ، بل نتوقع أن يقتحمها بهذه الفئة القليلة.

عندما جبن اليهود عن القتال ، و انسحب ثمانون ألفاً ـ و هُم كلُّ الجنود ، ما عدا ثلاثمأة و بضعة عشر رجلا ـ لم يُقِم طالوت لهذا الانسحاب المهين أيّ وزن ، بل تقدّم بالفئة القليلة إلى ساحة القتال ، واثقاً بالنصر ...

ثمّ بدأت المعركة ، تقول القصة:

﴿وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا

﴿رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ

إنّ هذا الهتاف الذي جلجل به المؤمنون ، حينما برزوا لجالوت و جنوده ، سَبَقه ـ كما لحظنا ـ يقينٌ تامّ بنصر اللّه.

قال هذا النفر جواباً على الانهزاميين اليهود الذين أفزعهم جيش جالوت ، قال هذا النفر:

﴿كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ

و لما تقدّم هذا النفر إلى ساحة القتال ، هتَفَ:

﴿رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ

ينبغي ـ نحن القرّاء ـ أن نقف عند هذه الموازنة ، بين اليهود المتخاذلين الذين ما أن تراءى لهم جيش طالوت حتّى جبنوا ، وقالوا:

﴿لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ

أقول: ينبغي أن نوازن بين هذا الموقف الجبان للإسرائيليين ، و بين الفئة القليلة المؤمنة التي هتفت:

﴿رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ

هذه الموازنة بين الموقفين ، لا تنطوي فحسب على مجرّد موقفين ، أحدهما كافر و الآخر مؤمن ، بل تنطوي مضافاً لذلك على سمة فنّية تتصل بتطوير الأحداث في القصة ، و التنبّؤ بنتائجها.

إنّ هتاف المؤمنين و دعاءهم بتثبيت الأقدام و النصر ، لابدّ أن يعكس أثره الفنّي على أحداث القصة ، أو بكلمة جديدة لابدّ أن يجعلنا نتوقّع بأنّ النصر سيُسجّل لصالح طالوت و جنوده المؤمنين ، و ذلك لسبب واضح هو ، أنّ الدعاء عندما ينطلق من أعماق المؤمن بحرارة و صدق و انفعال ، مشفوعاً بالسلوك الخيّر فإنّ الدعاء لا محالة سيكون مُستجاباً.

و من هنا ، فإنّ القارئ و هو يتتبّع حركة الأحداث بشغف ، بمقدوره أن يطمئن إلى أنّ طالوت سيواصل معركته ، دون أن يؤثّر هذا الانسحاب المَهين من قِبَل اليهود على ثقته بالنصر.

* * *

لقد بلغت الأحداث حسب مصطلح اللغة القصصية ، بلغت ما يُسمّى بالذروة أو التأزّم ... فالعدو كبير العدد حسب ما نتوقّع ، بخاصة أ نّه رابضٌ في معسكراته ، و طالوت و هو الزاحف لانتزاع الحقّ ، قد انسحب كلّ جنده البالغ ثمانين ألفاً ، عدا ثلاثمأة و ثلاثة عشر مُقاتلا ، و ها هم المُقاتلون يقتحمون المعركة مع قلّة عددهم.

و حسب لغة الأرض و معادلاتها ، فإنّ القارئ العادي قد يتوجّس خيفة من نتائج المعركة ، لعدم التكافؤ بين المتحاربين ، لكنّ لحظة التأزّم أو الذروة سرعان ما تنفرج و تجيء مكانها لحظة ما يُسمّى بـ : الإنارة ، أي اللحظة التي تؤشّر للقارئ بأنّ نهاية الحدث قد تحدّدت ، كلّ اُولئك طوته القصة في فقرة قصصية ممتعة على هذا النحو:

﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ

إذن ، إنتهى كلّ شيء ، المقاتلون بعددهم الضئيل و إيمانهم الكبير اقتحموا المعركة ، و ظفروا بإحدى الحُسنيين دنيوياً ، ألا و هو: النصر ، فضلا عن النصر الاُخروي الذي ينتظرهم.

أمّا و إنّ النصر قد تحقق على نحو ما تنبّأ به قارئ القصة ، فإنّ كلّ شيء قد حُسِمَ بوضوح ...

لكن المُلاحَظ ، أنّ القصة و هي ساكتة عن تفصيلات المعركة و طريقة القتال ، قد أدخلت بطلا جديداً في ختام القصة و جعلته قائد المعركة في خطّها الأمامي ، إنّه داود ، البطل الذي قتل جالوتَ نَفسه.

إن مجيء هذا البطل الجديد داود ، يرافقه من حيث حركة القصة و بناؤها الفنّي أكثر من سرّ فنّي في هذا الجزء من القصة ، فهذا البطل يظهر فجأة على نحو لم يتوقّعه القارئ أبداً.

كما أ نّه يمارس عمليةً ضخمة هي قتل أكبر شخصيّة للعدوّ.

و السؤال: ما هو السرّ الفنّي الكامن وراء مثل هذه الصياغة القصصية للبطل الجديد؟

* * *

المألوف في الأدب القصصي ، أنّ بعضَ الأبطال يمارسون أدوارهم بخفاء ، لا تعلن القصة عن أدوارهم أو وظائفهم ، و قد لا تعلن أيضاً عن هويّاتهم الشخصية ، و إنّما تحتفظ بذلك طوال القصة ، ثمّ تعلن عنه في النهاية بنحو مفاجئ لم يتوقعه قارئ القصة.

و في القصة التي نحن في صددها لم تجيء شخصية داود من خلال أدوار خاصة سكتت تماماً عن كلّ تفصيل يتصل بطريقة القتال ، و اختيار قادته في الخطوط الأمامية ... إنّما قالت لنا: لقد هُزِمَ العدو ، أمّا كيف هُزِمَ ، أو كيف اختير داود بطلا؟ فهذا ما سكتت القصة عنه تماماً ، إنّها أعلنت بشكلِ مفاجئ ، أنّ داود قتل جالوت ، و انتهى كلّ شيء.

و لكي تتبيّن بعض الأسرار الفنّية الممتعة في هذا النطاق ، يحسن بنا أن نتوكّأ على النصوص المفسّرة و نتجه بعدَها إلى تحديد الأسرار المذكورة.

* * *

من حيث البدء ، فإنّ الدخول في تفصيلات القتال لا يشكّل ضرورة فنّية في حركة القصة ، و لذلك سكتت القصةُ عن تفصيلات القتال. و السببُ في ذلك أنّ القصة تستهدف من وراء عرض هذه الواقعة لفت الانتباه إلى أنّ الفئة القليلة إذا كانت واثقةً بنصر اللّه ، فإنّها تغلب الفئة الكبيرة مهما ضخم عددُها و عُدَّتها ، و هذا ما تمّ فعلا ، حيث هزم ثلاثمأة و ثلاثةُ عشر رجلا جيشاً بأكمله ، بالرغم من الانسحاب المهين لليهود ، لأنّ الانسحاب نفسه و بخاصة أنـّه ثمانون ألفاً يترك أثره السلبي الكبير في توازن الجنود و معنويّاتهم.

لكن مع ذلك ، مادامت الثقةُ باللّه هي المحرّك الرئيس للسلوك ، حينئذ فإنّ النصر متحققٌ لا محالة.

و هذا ما حصل فعلا ، و به ينتهي هدف القصة.

و أمّا التفصيلات فبمقدور القارئ أن يرسمها حسب خبراتِه و معرفته بأساليب القتال ، و هو أمر ثانوي.

لكنّ الذي حَدَثَ ، هو: أنّ القصة لم تسكت عن كلّ التفاصيل ، بل أبرزت البطلَ الجديد داود فجأة و أعلنت أ نّه هو قاتل جالوت.

قبل هذا البطل ، كان طالوت هو الشخصية الرئيسة وراء بيئة القتال بكلّ أبعادها ، بدءً من اختيارها قائداً لمعركة كانت سبباً لأن تنتقيها السماء ، مروراً بممارستها تلك التجربة التي أفرزت المؤمن من الكافر في حادثة النهر ، و انتهاءً بإشرافها المباشر على عمليات القتال التي انشطر الجنود حيالها بين منسحب من المعركة و هم الأكثرية ، و بين ثابت على أقدامه و هم القلّة المؤمنة.

لكنّ طالوت يختفي عن مسرح الأحداث عند هذه النقطة بالذات ، ليجيء داود بطلا جديداً يتولّى قتل جالوت بنفسه.

ما هو السرّ الفنّي وراء ذلك؟

انتهت قصة طالوت بالهزيمة العسكرية المنكرة لجالوت و جنوده. و قالت القصة محددة كلاّ من الهزيمة و قتل جالوت على النحو الآتي:

﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ

إنّ هذه الهزيمة العسكرية ذات بُعدين: أحدهما يتصل بهزيمة العدو بشكل عام.
و الآخر يتصل بقتل جالوت على يد بطل المعركة الأمامية داود.

و ممّا لا شك فيه ، أنّ القصة عندما تشطر الهزيمة إلى بُعدَين فهذا يعني أنّ لجالوت فاعلية خاصة بحيث أنّ قتلَه يضع حدّاً للعدوان ، و إلاّ كان بإمكان القصة أن تقول لنا: إنّ المؤمنين هزموا عدوّهم و انتصروا ، و انتهى الأمر.

و لكن بما أنـّها عقّبت على واقعة الهزيمة بقتل جالوت ، فهذا يعني أنّ الشخصية المذكورة لو لم تقتل مثلا ، كان من الممكن أن يتكرّر العدوان ثانية ، كأن تلملم هذه الشخصية المنهزمة فلولها ، أو تمارس نشاطاً خارج الحدود ، و تتهيّأ لعدوان جديد. أو على الأقل ينبغي للطغاة أن يُلاقوا جزاءهم في الدنيا قبل الآخرة حتّى يعتبر الآخرون بهم.

و المهمّ ، أنّ المسوّغ الفنّي لقتل جالوت قد اتضح تماماً ، لكنّ السؤال: ما هو المسوّغ الفنّي لشخصية داود نفسه؟ أما كان بامكان طالوت ذاته أن يتولّى هذه المهمة مثلا؟

* * *

في تصوّرنا ، أنّ طالوت و هو شخصية عسكريّة كبيرة توازن النبيّ في موقعها الاجتماعي ، يتطلّب موقعها المذكور أن تخطّط للمعركة أكثر من مباشرتها للقتال ، و قد رأينا في حينه أنّ النبوّة كانت في بيت ، و المُلك القيادة العسكرية في بيت آخر ، ممّا يعني أنّ الشخصية العسكرية توازن الشخصيّة النبويّة عصرئذ من حيث الموقع الريادي و ما يتطلّبه من بقاء الرائد و استمرارية سلامته لمواصلة الإشراف و التخطيط و التوجيه ... إلى آخره.

من هنا كان لابدّ من وجود شخصية عسكرية اُخرى ، ذات كفاءة في القتال المباشر ، بل ذات سمات بطولية خاصة ، حتّى يمكنها أن تقطع رأس الفساد جالوت.

و جاء داود هو البطل المهيّأ لهذه المهمّة.

و حين نعود إلى النصوص المفسّرة ، نجدها تلقي ضوءً كبيراً على شخصية داود
و طريقة انتقائه لهذه المهمّة ، ممّا يُعزّز التفسير الفنّي الذي اخترناه في هذا الصدد.

تقول النصوص المفسّرة بما مؤدّاه:

إنّ السماء أوحت لطالوت بأنّ قتل جالوت يتمّ على يد بطل يستوي عليه درع موسى (عليه السلام)ـ لا يغب عن بالنا أنّ الدرع المذكور و آثاراً اُخرى كانت ترافق ظاهرة التابوت و محتوياته ـ .

و هنا ، كان لابدّ لطالوت أن يبحث عن مثل هذه الشخصية ، و عندها أحضر طالوتُ إيشا أحد رعاة الأغنام ، و كان له عدّة أولاد ، فألبسهم الدرع واحداً واحداً حتّى استوى على البطل داود.

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ داود جلب مِقلاعاً و مخلاة وضَعَ فيها أحجاراً ثلاثة تناولها في الطريق قبل وصوله إلى طالوت ، كما ترسم النصوص شيئاً من ملامحه الفيزيائية المتصلة ببطولته التي لا تتوفّر عند الرجل العادي ...

كلّ ذلك يفسّر لنا ، أنّ داود لم يُختَر عَبَثاً ، كما أنّ سماته البطولية لم تكن غير عادية فحسب ، بل كانت ذات نمط معجز فيما يبدو ، مادام الدرع ـ و هو ظاهرة اعجازية ـ قد ارتبطت باستوائه على داود ، فضلا عن أنّ السماء هي التي أوحت بذلك لداود ...

* * *

إذن ، نحن الآن أمام بطل متفرّد يتناسبُ تفرّده مع المهمّة العسكرية المُلقاة على عاتقه.

إنبثاقُ مثل هذا البطل ، إدانةٌ جديدة لليهود الذين تخاذلوا عن نصرة طالوت.

لقد انهزم ثمانون ألفاً من اليهود ، و جمدت عروقهم قبل مباشرة القتال ، لكن البطل طالوت و معه فئة قليلة من المؤمنين اقتحموا ساحة القتال و كان داود هو البطل المختار لتحقيق النصر ، و كان لابدّ أن يكون ذات سمات متفرّدة ، متميّزة مشفوعة بإعجاز من السماء ، و ذلك لسبب فنّي واضح في حركة القصة ، هو أنّ المؤمنين ما داموا فئةً قليلة لا يتجاوز عددُهم ثلاثمأة و ثلاثة عشر رجلا ، حينئذ لابدّ أن يقترن ذلك بوجود ظاهرة إعجازية تكشف عن دعم السماء و إسنادهم لهؤلاء الأبطال المؤمنين ، و كان داود هو الظاهرة المذكورة بسماتها المتميّزة التي شرحتها نصوص التفسير.

مضافاً لذلك ، أنّ داود كما ستوضحه القصة ، قد آتاه العلم و الحكمة و علّمه ممّا يشاء بعد مهمّته المذكورة ، ممّا يفصح ذلك عن أسرار فنّية جديدة نستكشفها في هذا الصدد ، بحيث يمكن القول أنّ اختيار مثل هذه الشخصية ، سينعكس على مستقبلها الذي ستكوّن فيه نبيّاً ذا رسالة عصرئذ.

و بكلمة جديدة ، أنّ السمات المتميّزة لداود جاءت تعبيراً عن جملة من الأسباب الفنّية ، منها: أنّ وجود داود بطلا جديداً في المعركة ، سيُهّيئ الأذهان إلى تقبّل شخصية جديدة تحمل وظيفة النبوّة فيما بعد.

و بالفعل كما تقول النصوص المفسّرة: إنّ الناس قد اتّجهوا إليه بعد سماعهم ببطولته التي مسحت جالوت ، و ألغته من الحساب ،ثمّ كانت قضية نبوّته على نحو ما نعرفه في هذا الحقل.

لكننا خارجاً عن ذلك ، لم نتحدّث عن طريقة قتل هذا البطل لجالوت ...

* * *

تقول النصوص المفسّرة: إنّ داود قد استخدم الأحجار الثلاثة في هذه العمليّة ، حيث رمى واحداً عن يمين جالوت ، و ثانياً عن شماله ، فانهزم جنود جالوت ، و رمى بالثالث جبهة جالوت فاخترقها إلى دماغه.

و تضيف هذه النصوص ، خالعةً بعض الأوصاف الخارجية على شخصية جالوت من ركوبه للفيل مثلا و ترصيع جبهته بياقوتة تلمع ، تعبيراً عن زهوه العسكري ... إلى آخره.

و ممّا لا شكّ فيه ، أنّ القصة ذاتها مادامت قد نسجت الصمت حيال هذه الملامح الخارجية لكلٍّ من شخصيتي داود و جالوت ، فإنّ هذا يعني أنّ مثل هذه الملامح تشكّل أهمية ثانوية بالقياس إلى الأهمية الرئيسة لعملية النصر ، متمثّلة في أنّ بطلا واحداً من مجموعة ثلاثمأة و ثلاثة عشر رجلا ، قد حقّق النصر قبال جيش منظّم أعدّته دولة.

لكننا مع ذلك ، نجد أنّ اضطلاع النصوص المفسّرة برسم الملامح الخارجية لكلٍّ من داود و جالوت له تجانسه أيضاً مع الدلالة المذكورة ، فركوب الفيل مثلا ، و ترصيع الجبهة بالياقوت قبال شخصية لاتحمل إلاّ أحجاراً عاديّة ، إنّما يدلنا على مدى الفارقية بين شخصية مزهوّة بملامحها عسكريّاً ، و بين شخصيّة لاتعرف للزهو معنىً ، بل على العكس ، تظلّ الأحجار تعبيراً عن أدنى درجات التحرّك العسكري ، فكم هو الفارق إذن ، بين زهو ينتسب إلى الأرض ، و بين بطولة تنتسب إلى السماء ، بحيث تمسح كلّ معالم الزهو الأرضي بمجرد إلقاء أحجار ثلاثة.

و أخيراً ... تظلّ هذه النهاية و حركة القصة بشكل عام ، تظل إدانةً كبيرة لليهود في كلّ أنماط سلوكهم ، بل إنّها تفسّر لنا كلّ المسوّغات التي تجعلهم طوال التاريخ أذلاّء بالرغم من فترات السيطرة التي يمارسون من خلالها أعتى أشكال القسوة بمثابة ردّ فعل للجبن و للذلّ اللذين يطبعان شخصية اليهودي.

لقد استُعبدوا ، فطلبوا منقذاً ، و جاء المنقذ فاعترضوا عليه ، ثمّ اضطروا إلى تقبّله بعد أن واجهتهم معجزة التابوت ، ثمّ تمرّدوا على أوامره و هم في الطريق بعد ... ثمّ جبنوا عن مواجهة القتال في اللحظات الاُولى ، و انسحبوا بشكل مهين ، لكنّ السماء حسمت كلّ شيء حينما أوضحت ـ من خلال هذه القصة ـ كيف أنّ الثقة باللّه تصنع المعجز ، و إلى أنّ الجبن و التشكيك و ركوب الذات ، لا يعود إلاّ بالخسران في الدنيا قبل الآخرة ...

ختاماً ، لا مناص من الإشارة جديداً بأنّ محاور السورة المباركة سورة «البقرة» تتنوّع من جانب إلى ما هو رئيس كظاهرتي التقوى و الإماتة والإحياء وإلى منعكسات ذلك في مفردات متنوّعة ، بعضها من ظواهر السلوك المضادّ للتقوى وفي مقدمة ذلك سلوك اليهود وسواهم من المنحرفين.  حيث جسّدت القصة المذكورة ـ كما لاحظنا ـ أبرز ملامح السلوك المنحرف ، بنحو يتجانس مع طبيعة ما طرحته السورة من العرض للسلوك المذكور بحيث بلغ ثلث سورة «البقرة» وهو أمرٌ لا يحصل في طرح الظواهر الاُخرى ، ممّا يكشف عن حرص السورة الكريمة ومنها: القصص عن فضح السلوك الإسرائيلي المذكور.

 

 

 

 

 

 

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page