• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة البقرة : قصَّة إحياء الطّير

 نحن الآن أمام الاُقصوصة الثالثة التي تسلسلت ، متحدّثةً واحدةً بعد الاُخرى عن الإماتة و الإحياء.

القصة التي سبقتها و نعني بها قصة المارّ على القرية الخاوية ، كانت تتحدّث عن بطل مرّ على إحدى المدن فوجدها أنقاضاً ، فانفعل بهذا المشهد و تساءل:

﴿أَنـّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟

و كان هدفه من هذا التساؤل هو ، هل هناك من أمل في أن يعيد اللّه الحياة إلى هذه المدينة؟!

و جاءت الإجابةُ من اللّه سريعةً على هذا التساؤل ، فأمات البطل من لحظته ، و أبقاه مائة عام ، ثمّ بعثه حتى يطمئن إلى أنّ اللّه قادر على كلّ شيء.

أمّا الاُقصوصة التي تلتها ـ فيما نتحدّث عنها الآن ـ ، فتتحدّث عن بطل آخر ، أكسبه اللّه مقاماً خاصاً ، هو إبراهيم (عليه السلام) خليل اللّه ، إنّه صاحب الحنيفيّة التي لم تنسخ إلى يوم القيامة.

هذه الشخصيّة تُرسم الآن بطلا لاُقصوصة تتحدّث عن الإماتة و الإحياء أيضاً ، إنّها تتعرّض لاختبار الإماتة و الإحياء أيضاً ، و لكن ليس ذاتها الشخصية ، بل عضوية اُخرى هي: الطيور. لنقرأ الاُقصوصة أولا:

﴿وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى

﴿قالَ: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ: بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

﴿قالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ

﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً

﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

هذه الاُقصوصة تتضمّن موقفاً ، هو: الاطمئنان و اليقين بقدرات اللّه عزّ و جلّ في إحياء الموتى عمليّاً.

و تتضمّن واقعةً هي: تقطيع الطيور و تفريقها على عدّة جبال ، ثمّ عودة الحياة إليها.

و تتضمّن نمطين من الأبطال : أحدهم إبراهيم (عليه السلام) ، و الآخر من عضوية لطير ،
متمثلا في أربعة منها.

الاُقصوصة بما تتضمّنه من وقائع ثلاث: تقطيع الطير ، تفريقها على الجبال ، عودتها إلى إبراهيم (عليه السلام) ، تظل من النوع المُمتع ، المدهش ، المُثير ...

الموقف نفسه ممتعٌ و مثيرٌ أيضاً. إبراهيم (عليه السلام) يريد أن يطمئن إلى عملية الإحياء
مع أ نّه إبراهيم (عليه السلام)!!

لكن ، لنتابع تفصيلات الموقف ...

* * *

إنّ أوّل سؤال يُثار في هذا الموقف هو ، لماذا سأل إبراهيم (عليه السلام) عن كيفية إحياء
الموتى؟ أوَ لم يعلم أنّ اللّه مُحيي الموتى؟ ... إنّه يعلم ذلك كلّ العلم ، إ نّه أراد أن يتيقّن ، و لكن ألم يكن إبراهيم (عليه السلام) متيقّناً من ذلك؟

لنتّجه أوّلا إلى النصوص المفسّرة ، ثمّ نصل بينها و بين الصياغة الفنّية للاُقصوصة.

يقول أحد النصوص بما مؤدّاه: إنّ إبراهيم (عليه السلام) سأل عن كيفيّة الإحياء و هو أمرٌ
يجهله كلّ البشر طالما لم يُشاهد تجريبياً.

و بكلمة اُخرى ، يمكننا أن نصوغ القضية على هذا النحو:

الموتى يبعثون يوم القيامة ، أي في زمن لم يحن بعدُ ، و إبراهيم (عليه السلام) يطلب من
اللّه عزّ و جلّ أن يريه كيفية عودة الروح إلى العظام ، أو كيفية عودة العظام و التحامها في تركيبة جسمية بعد تفرّقها أو تلاشيها.

هنا ينبغي أن نتذكّر أنّ القصة السابقة ـ قصة المارّ على القرية الخاوية ـ تضمّنت كيفية عودة العظام و اللحم المُتلاشيين أو المُتفرقين ، لتركيبة المارّ على القرية أو دابته.

هذا التجانس فنّياً ، أو وحدة الموقف من خلال تماثل العمليتين ، له إمتاعه الجمالي و الفكري فيما يتصل بالبناء الهندسي للاُقصوصتين ...

و لكن لنتابع النصوص التفسيرية الاُخرى:

النص التفسيري الأوّل ، أوضح بأنّ إبراهيم (عليه السلام) طلب أمراً مجهولا لا غبار عليه أبداً ، بل على العكس من ذلك ، أ نّه مفصحٌ عن ثقته (عليه السلام) باللّه عزّ و جلّ إلى الدرجة التي يطلب من خلالها عمليةً لم يجيء زمانها بعد ، و هذا منتهى الثقة باللّه في تصوّرنا ، بمعنى أ نّه واثق بأنّ اللّه يجيبه إلى طلبه ، و هل هناك ثقة باللّه أكبر من هذه الثقة التي تطلب ما لم يتحقق زمنه بعد!!

هناك نصّ تفسيري آخر يقول بما معناه:

إنّ اللّه أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إلى أ نّه سيُصبح خليل اللّه ، و إلى أ نّه إذا سأل
إحياء الموتى لأجابه اللّه ...

هذا النص بدوره يُشكل سمةً إيجابيةً لها أهميتها دون أدنى شك.

إنّ عباد اللّه المخلصين ، المُتفانين في محبّة اللّه ، المنخلعة أفئدتهم من مهابة اللّه ، الذين ما راموا منه بدلا و لا ابتغوا عنه حولا ، هؤلاء الذين يقف إبراهيم (عليه السلام)
في مقدّمتهم ، عندما يوحى إليه بأنـّه سيُصبح خليل اللّه ، عندئذ ماذا نتوقع من استجابة إبراهيم ، و ردّ فعله حيال هذه المنحة العظيمة التي اغدقها اللّه على إبراهيم (عليه السلام) ، و هل هناك منحةٌ أعظم من أن يكون إبراهيمُ خليلا للّه عزّ و جلّ؟

إذن ، كيف لا يطلب إبراهيمُ من اللّه أن يريه إحياء الموتى حتى يكون ذلك شاهداً يطمئن به قلبه إلى أنّ اللّه قد اتخذه خليلاً.

إنّ المصطفين من العباد كلّما اُوغلوا في محبة اللّه وعبادته ، يحسّون بالتقصير وبأنّهم لم يؤدّوا ما للّه من حقّ في العبادة.

إذن ، كم هي فرحتهم من الشدّة حين يوحى إليهم بأنّهم أحباء اللّه؟ أليس هذا بمسوّغ لأن يطمئنوا بذلك ، و يطلبوا ما يُحقّق هذه المعطيات؟

و لنتقدّم إلى نصّ تفسيري ثالث.

يقول هذا النص بما مؤدّاه: إنّ إبراهيم (عليه السلام) شاهد على ساحل البحر جيفةً تأكلها
وحوش البرّ و البحر ، و يثب بعضها على بعض آكلا بعضُه الآخر ، فأخذته الدهشة ،
و طلب إراءة إحياء الموتى ...

هذا النص بدوره يسوّغ طلب إبراهيم (عليه السلام) على نحو ما عقّبنا عليه في النص
التفسيري الأوّل.

و هناك نصّ تفسيري رابع يضيف إلى ما تقدّم: إنّ إبراهيم (عليه السلام) شاهد أعمالا
منكرة لبعض الأشخاص ، فدعا عليهم و استُجيب دعاؤه ، فاُوحي إليه عندئذ :
لا تدعُ على عبادي. و بعدها شاهد قضية الوحوش السابق ذكرُها.

و هناك أكثر من نص تفسيري ـ سوى ما تقدم ـ يُشير إلى أنّ العملية تتصل بمجرد الاطمئنان و اليقين من خلال تجربة حسّية ، مفصحة عن مفروضية اليقين بالغيب ، أي الزيادة في اليقين و ليس مسح الشك و إبداله بيقين ، إذ ثمة فارق بين شاكٍّ يطلب دليلا يمسح عنصر الشك لديه ، و بين مؤمن يريد أن يزداد إيماناً إلى إيمان.

و المهم ، أيّاً كان الأمر ، فإنّ القضية تظل متصلةً بطبيعة التركيبة الآدمية التي يصل اليقين لديها إلى درجة تطلب من خلالها زيادة على ذلك.

أمّا إذا انسقنا مع النصوص التفسيرية السابقة ، فإنّ الأمر يظل ذا وضوح أشدّ ، و بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما سبق أن قلناه ، من أنّ التطلّع إلى رضى اللّه عزّ و جلّ و التلهّف إلى مشاهدة ما يُشير إلى أ نّه عزّ و جلّ في صدد أنّ يتّخذ إبراهيم خليلا له ، حينئذ فإنّ المحبّين للّه خالصاً ، المُريدين له ، العارفين به ... تظلّ فرحتهم بهذه المعطيات ، لا حدّ لها ، بحيث تدفعهم إلى المُطالبة بما يطمئن به القلب من أنّ اللّه يُحبّهم.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّنا حين ندع الجانب الفكري من الاُقصوصة و نتّجه إلى جانبها الفنّي ، نجد أنّ رسم الحادثة قد تميّز بملامح متنوعة ، منها:

1 ـ التقطيع: «فخذ أربعة من الطير ، فصرهنّ إليك».

2 ـ التفريق: «اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءً».

3 ـ الإحياء: «ادعهنّ يأتينك سعياً».

و مع الاستعانة بالنصوص المفسّرة تواجهنا تفصيلات للملامح الثلاثة المذكورة أو لبعضها. فقد ورد عن عملية التفريق بأنـّها تمثّلت في توزيع الشرائح على عشرة جبال. و عن عملية الإحياء ، أنّ إبراهيم (عليه السلام) أخذ بمناقيرهنّ فائتلف لحم كلّ منها إلى رأسه إليه.

و بالرغم من أنّ مجرد فصم الرأس مثلا ، و وضع الطيور في مكان واحد ، و إحياءها في المساحة الزمنية و المكانية قرباً و سُرعة ، مفصحٌ عن عملية الإعجاز ، إلاّ أنّ رسم التباعد مكاناً و تكثيره عدداً: جبالا و شرائح ، لينطوي على معطى جمالي و فكري يتحسّسه القارئ بوضوح. أمّا المعطى الجمالي فيتمثل في الأبعاد الثلاثة لكلٍّ من تقطيع الطير و الجبال و عددها ، حيث يأخذ الأمتاع نصيباً ضخماً حيال تصورنا لعشرة جبال تتجاور أو تتباعد ، تتعالى أو تقصر ، و الأمر نفسه فيما يتصل بقطع الطير المتناثرة ، ثمّ التصوّر لعملية التحام الأجزاء و اجتماعها لحماً و عظماً و دماً ... كلّ اُولئك يصبح ذا معطىً يساهم ـ من خلال جماليّة الحدث ـ في تصعيد لحظات الإنبهار و الرهبة و التأمّل نحو السماء و امكاناتها التي لا حدود لها.

الحصيلة هي: أنّ الاُقصوصة المذكورة جسّدت عملياً في مواقف إبراهيم(عليه السلام)
حيال ظاهرة الإماتة والإحياء حيث تحدّثت الاُقصوصة عن واقع عملي ـ مادّي لظاهرة الإماتة والإحياء ، مقابل ما لاحظناه في موقف إبراهيم مع نمرود في تجسيد ماهو فكري للظاهرة المذكورة.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page