لوا الكهف ، و بلغ خبرهم إلى السُلطة أمرت السلطة بسدّ باب الكهف عقاباً للأبطال حتّى يموتوا داخل الكهف.
و كان هناك بعض المؤمنين قد كتَبَ تفصيلات هذه الواقعة و جعلها في البُنيان ، بغية أن تتبدّل الظروف و يتعرّف الآخرون على قضيتهم. و مع مرور السنين الطوال جاءت سلطةٌ جديدة يتقاسمها اتجاهان: مؤمنٌ و ملتو. و تقول بعض النصوص المفسّرة: إنّ ممثّل الاتجاه المؤمن تضرّع إلى السماء بأن تُرِيَهُ آيةً تحمل الناس على اليقين باللّه و اليوم الآخر ، بعد أن رأى الناس منشطرين إلى مؤمن و ملتو يتجادلون في قضية الإيمان. و حينئذ اُلهمَ الرجل بأن يبني له حضيرة للغنم في مكان الكهف ، الأمر الذي أدّى إلى اكتشاف الكهف و العثور على الفتية.
و هناك من النصوص المفسّرة ما تذهب إلى أنّ ممثّلي الاتجاه المؤمن و الملتوي قد ذهبا إلى الكهف مباشرة ، للإطلاع على حقيقة الأمر بعد أن كُشِفت حقيقة البطل الذي ذهب إلى المدينة لاشتراء الطعام ، حيث دلّهم بنفسه على الكهف.
و أيّاً كان الأمر ، فإنّ ما يعنينا من ذلك هو اكتشاف الكهف ذاته و ليس طريقة اكتشافه.
و لعله لهذا السبب لم يُحدّثنا النصّ القصصي عن طريقة اكتشاف الكهف ، و إنّما حدّثنا مباشرة عن اكتشافه ، الأمر الذي يفسّر لنا من الناحية الفنّية اختزال تفصيلات العثور في عملية السرد الفنّي للقصة.
* * *
إنّ ما يعنينا من واقعة الاكتشاف ، هو دلالتها الفنّية و الفكرية في القصة.
فما هي هذه الدلالة؟
لنقرأ النص القصصي من جديد:
﴿وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ﴾
﴿وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾
من هذا النص نستكشف أنّ العثور على الكهف ينطوي على مهمّة فكرية ، هي وضع حدٍّ للتنازع القائم بين الناس عن الإيمان باللّه و اليوم الآخر ...
و من الناحية الفنّية ، فإنّ القصّة لم تدخل في تفصيلات المناخ التأريخي الذي واكب هذه الواقعة ، و إنّما سلكت طريقة فنّية قائمة على عنصر الاستخلاص أو الكشف الذي تُوكله القصّة إلى القارئ أو السامع ، حتّى يستخلص بنفسه و يكتشف ملابسات الموقف.
من هنا فإنّ القارئ أو السامع سيكتشف لا محالة بأنّ زمن العثور على الكهف ، كان يتنازعه تياران: مؤمنٌ و ملتو.
فمادام هنا تنازع و تصارع بين الأطراف ﴿إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ﴾ حينئذ لابدّ أن يكون التنازع حول قضية الإيمان و اليوم الآخر.
و الدليل على أنّ التنازع حول الإيمان و اليوم الآخر هو أنّ النص القصصي نفسه يُعلّل سبب العثور على الكهف ، بأنـّه من أجل:
﴿لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها﴾
إذن القصةُ من حيث منطق الفن ، هي التي توحي إلى المُتلقّي بأنّ حادثة اكتشاف الكهف مرتبطة بقضية التنازع حول اليوم الآخر و الإيمان بعامّة. أمّا تفصيلات هذا التنازع و صِلتها بالمناخ التأريخي و موقف السلطة السياسية من ذلك ، فأمرٌ لا يحتلّ خطورة مماثلة لخطورة الموقف العقائدي للجمهور.
و من هنا أوكلت القصةُ تلك التفصيلات ، أوكلتها إلى نصوص التفسير. و هي بهذا المنحى الفني من القص ، تكون قد حققت للقارئ أو السامع عنصر المتعة الفنية مادام الأمر متصلا بشكل قصصي في كشف الحقائق.
* * *
و مع أنّ القصة من خلال منطق الفنّ قد أوحت للقارئ أو السامع ، أنّ المناخ التاريخي لواقعة اكتشاف الكهف مرتبط بوجود فريقين متنازعين ، فإنّها تقدّمت بإلقاء أضواء جديدة على ذلك المناخ ، بحيث أفرزت موقع القوى المؤمنة من ذلك المناخ ، و مدى تمتّعها بالنفوذ السياسي ، أو عدمه في هذا المجال. مثلما أفرزت عقليّة القوى غير المؤمنة ، و طريقة تعاملها مع الظواهر التي تجدّدت تماماً.
و لنقرأ النص القصصي:
﴿فَقالُوا: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾
﴿قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾
إنّ هذين الحوارين ، الحوار الذي يقترح ـ بعد العثور على الفتية ـ أن يُبنى جدارٌ على الكهف ، ثمّ الحوار الذي يقترح أن يُبنى مسجدٌ في ذلك الموضع ، هذين الحوارين يكشفان لنا بطريقة فنّية بالغة المدى عن عقلية كلّ من الفريقين المتنازعين ، و مدى نظافة الفريق المؤمن ، مقابلاً لوساخة الفريق غير المؤمن.
فمن الواضح من خلال منطق الفنّ القصصي ، أنّ رسم المظاهر المادية للبيئة في أيّ نص قصصي ، إنّما يكتسب خطورته الفنّية بقدر ما يحقق تلاحماً بين الشكل و المضمون ، أي ينبغي أن يكون رسمُ مشهد أو مرأىً طبيعيّ أو مصنوع مثل:
الجدار و المسجد ، غير مقتصر على كونه مجرّد مشهد أو مرأىً يُشبع أحاسيسنا الجماليّة ، و يمدّنا بمجرّد التسلية و المتعة ، بل ينبغي و هذا شأن الأعمال الفنّية الكبيرة ، أن يُعبّر المشهد أو المرأى عن دلالة وراء رسمه.
* * *
و هنا في حقل الاقتراح الذي يطالب ببناء الجدار ، و الاقتراح الذي يطالب ببناء المسجد ، نلحظ أنّ كلاّ من الجدار و المسجد ينطويان على دلالة نستكشف من خلالها الموقف العقائدي لكلٍّ من الفريقين و طريقة تعاملهما مع الحقائق التي تكشّفت تماماً أمام الجمهور ، عندما شاهد من خلال منطق التجربة ، أنّ السماء قادرة على أن تميت و تُحيي ، و أن تفعل ما تشاء ، تماماً كما صنعت بهؤلاء الفتية الذين أنامتهم طوال هذه المسافة الزمنية ، ثمّ أيقظتهم قبل النشور.
أقول: بالرغم من هذا المنطق التجريبي الذي دمغ القوم غير المؤمنين ، فإنّ عنصر التشكيك قد لفّ عقولهم ، بحيث اقترحوا إقامة الجدار عليهم ، معقّبين على ذلك:
﴿رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾
فإنّ هذه الفقرة تفصح عن أنّهم لم يبلغوا مرتبة اليقين بهذا المعجز كما هو واضح.
و على العكس من ذلك ، فإنّ المؤمنين تقدّموا باقتراح بناء مسجد على الكهف حينما قالوا:
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾
ليكون شاهداً حيّاً على المعجز ، مفصحاً في الآن ذاته عن إيمانهم بالقضية المذكورة.