• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الكهف : قصة صَاحِبِ المزرعتين

 تمهيد

تتناول هذه الحكاية أو القصة ظاهرة أحد الشخوص العاديين ممّن يمتلك مزرعتين ، و هو أمر لا غرابة فيه ، حيث لايعدّ تملّك مزرعتين حالة نادرة بقدر ما يجسّد واحداً من عشرات المصادر الاقتصادية أو الترفيهية التي يمتلكها الكثير من البشر ، إلاّ أنّ صاحب هاتين المزرعتين أخذه الغرور بمزرعتيه حتّى وصل الأمر إلى أن ينحرف عقائدياً حيث شكّك بقيام الساعة ، و حيث أخذ يتباهى أمام الآخرين بممتلكاته الدنيوية ، و هو أمرٌ صاغته القصة عبر محاورة بين صاحب المزرعتين و أحد الأشخاص. المهم أنّ القصة أو الحكاية الثانية في سورة «الكهف» هي حكايةُ صاحب الجنّتين.

و هذه الحكاية تجيء نموذجاً ثانياً أو تجسيداً آخر للمقدّمة التي استُهلّت بها سورة «الكهف».

فقد لحظنا أنّ مقدمة السورة طرحت مفهوماً ، هو زينةُ الحياة الدنيا ، حيث أوضحت أنّ هذه الزينة ما هي إلاّ مجرّد اختبار للكائن الآدمي و أنّ مآلها هو الزوال:

﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الاَْرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً

﴿وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً

بعد هذه المقدّمة جاءت قصةُ أهل الكهف تجسيداً لمفهوم النبذ لزينة الأرض ، حيث يمثّل هروبُ أصحاب الكهف من المدينة إلى الكهف نبذاً لزينة الحياة.

ثمّ تجيء قصة صاحب الجنّتين نموذجاً قصصياً ثانياً حائماً على مفهوم الزينة و كيفية استجابة الآدميين لها.

و لكن ، إذا كانت قصةُ أصحاب الكهف تمثّل موقفاً إيجابياً في السلوك من حيث صلته بمفهوم نبذ الزينة ، فإنّ قصة صاحب الجنّتين تمثّل موقفاً سلبياً من حيث صلة بطلها بمفهوم الزينة.

و من هنا ينبغي أن ننظر إلى هذه القصة من حيث البناء الهندسي ، قسماً ثانياً من مجموع أربعة قصص ، يمثّل كلٌّ منها قسماً مستقلا و متداخلا مع الأقسام الاُخرى من حيث تجسيدها جميعاً لمفهوم واحد طرحته مقدّمة السورة ، و نعني بها الآيتين المتقدّمتين:

﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الأَْرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ ...

﴿وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً

إلاّ أنّ كلّ قصة من هذه القصص الأربع تتناول نموذجاً إنسانياً يختلف الواحدُ منه عن الآخر ، حتّى يشكّل المجموع أوجهاً مختلفة لحقيقة واحدة ينشطر الناس إزاءها فريقين:

فريقاً ينبذ زينة الحياة الدنيا.

و فريقاً يلهث وراء الزينة المذكورة.

و أبطال الكهف يمثّلون النموذج الأوّل ، أي النموذج الذي ينبذ زينة الحياة الدنيا.

أمّا صاحب الجنّتين ، فإنّه يمثّل النموذج الثاني ، أي النموذج الذي يلهث وراء زينة الحياة العابرة.

و لنقف عند هذه القصة أو الحكاية:

تبدأ حكاية صاحب الجنّتين على النحو الآتي:

﴿وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً: رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْناب

﴿وَ حَفَفْناهُما بِنَخْل وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً

﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً

﴿وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ ....

إلى هنا فإنّ الحكاية تتحدّث عن رجل يمتلك بُستانَين كبيرين كثيرَي الثمر.

لكنّ بإزاء هذا الرجل ، رجلا آخر لا يمتلك فيما يبدو مثل أموال صاحبه ، الأمر الذي جعل صاحب الجنّتين أو البُستانين يُدلّ و يتباهى على الآخر بملكيّـته المذكورة.

و لنقرأ:

﴿فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً

﴿وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً

﴿وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً

إذن ثمة بطلان: أحدهما كافرٌ ، مشكّك ، يمتلك أموالا و أمجاداً لا يمتلك مثلها صاحبُه.

أمّا صاحبُه ، البطلُ الآخر فعلى العكس من ذلك ، إنّه رجلٌ مؤمنٌ لا يُعنى بالأموال و الأمجاد الدنيوية ، و لذلك أجاب صاحبه الكافر بهذه الكلمات:

﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ

﴿أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً

﴿لكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً

﴿وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ: ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ

﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً

﴿فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ

﴿وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً

﴿أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً

و بعد هذا الحوار بين الرجلين تُختتم القصة راسمةً مصيراً أسود للرجل الكافر ، هو إبادةُ بُستانيه:

﴿وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

﴿وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

﴿وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً

* * *

إنّ هذه الخطوط العامة للقصة تدلّنا على وجود بطلين ، و حدث ، و بيئة ، و مواقف تحوم جميعاً على مفهوم مُحدّد يتصل بطبيعة الاستجابة الآدمية للمتاع الدنيوي العابر ، و طريقة تعامله مع المتاع المذكور.

غير أنّ ما يهمنا من ذلك كلّه ، هو الشكلُ الفنّي للقصة ، و كيفية صياغة الأفكارالمذكورة فيها ، من حيث صلتها بالهيكل الجمالي للقصة ، و من حيث صلتها بالقصص الثلاث في السورة ، و من حيث صلتها بمقدّمة السورة.

ثمّ من حيث عناصرها: بيئةً و حدثاً و مواقف.

ثمّ من حيث طرائق السرد و الحوار اللذين تمّ من خلالهما صوغ العناصر المذكورة.

و نبادر إلى القول ، بأنّ هذه القصة شأنها شأن سائر القصص القرآنية تحفل بأسرار فنّية بالغة الدلالة و الإمتاع.

و بالرغم من قصر هذه الحكاية من حيث الحجم اللغويّ لها ، و بالرغم من الموقف المفرَد فيها من حيث النَمطِ الفكري لها ، بالرغم من ذلك ، فإنّ الأسرار الفنّية في صياغتها: عناصر و بناء ، تظل بالغة الإثارة و المُتعة على نحو ما نبدأ بتوضيحها مفصّلا.

تتضمّن قصةُ صاحب الجنّتين عنصراً بيئيّاً هو: جنّتان لأحد الأبطال و مجداً اجتماعياً هو: الانتماءُ العشائري للبطل المذكور:

﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً

كما تتضمّن القصةُ بطلين: مؤمناً و كافراً. و الأخيرُ هو الأكثر مالا و الأعزّ نفراً.

و تتضمّن القصةُ موقفاً هو: تباهي الكافر بماله و عشيرته ، ثمّ تصوّره الخاطئ بدوامِ هذا التملّك ، و تشكيكهُ باليوم الآخر.

و على العكس من ذلك ، فإنّ البطل المؤمن يمتلك قضيةً هي: إيمانه باللّه ، ثمّ تأديةُ وظيفتهِ العبادية المتمثّلة في إزجاء النصيحة لصاحبه ، و لفْتِ انتباهه إلى أنّ المُلك للّه ، و إلى أنّ جنّتيه من الممكن أن تُصبحا صعيداً زلقاً: أرضاً جرداء.

و تتضمّن القصةُ حَدَثاً هو: إبادة الجنّتين على نحو ما تنبّأ به البطلُ المؤمن.

إذن عناصر القَصّ من بيئة ، و شخصيّة ، و حدث ، و موقف ، هذه العناصرُ جميعاً
قد انتظمت القصة المذكورة وفق بناء يتساوق مع حجم الاُقصوصة التي يقوم هيكلُها ـ عادة ـ على موقف مُفرد و حدث مُفرد و بيئة مفردة ، و أبطال محدودي العدد.

و من حيث لغة القصّ ، فإنّ الحوارَ هو العنصر الغالبُ فيها.

أمّا السردُ فيُمثّل مساحةً صغيرةً من اللغة. و نقف أولا مع لُغة الاُقصوصة.

* * *

الحوار مثلما قلنا يُمثّل غالبيّة اللغة في هذه الاُقصوصة. و قد انتظم الحوارَ شَكلانِ من أشكالِه المعروفة ، و هما: الحوارُ الخارجي و الحوارُ الداخلي.

و من الواضح ، أنّ تنوّع الحوار يُضفي عنصراً جمالياً على الاُقصوصة ، فضلا عن أنّ السياق القصصي الذي يفرض هذا التنوّع في الحوار ، يُضخّم من عنصر الجمال الفنّي المذكور.

و يتمثّل الحوارُ الخارجي في تلك الحادثة التي جرت بين البطل المؤمن و الكافر من نحو: ﴿فَقالَ لِصاحِبِهِ و ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ ... إلى آخره.

أما الحوارُ الداخلي فينحصر في ذلك الحديث الذي وجّهه صاحبُ الجنّتين لنفسه مرّتين: مرّة قبل أن يُصبح بُستاناه أرضاً جرداء ، و مرّة عندما أصبحا فعلا أرضاً جرداء.

في المرّة الاُولى تحاور مع نفسه ، قائلا:

﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً

﴿وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً

و في المرّة الثانية ، تحاور مع نفسه ، قائلا:

﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

و السؤال الآن هو:ترى ما هي المرتكزاتُ الفنّية للحوار الداخلي في هذه الاُقصوصة ، مع أنّ سائر الحوار كان خارجياً طوال القصة ، خلا ما تقدّم؟

* * *

من حيث المظهر الشكلي للحوار يبدو الحوارُ الداخليُ و كأنّه حوارٌ خارجيٌّ أيضاً. و الدليلُ على ذلك ، أنّ البطل الكافر عندما تحدّث مع نفسه من أنّ جنته لن تبيد و من أنّ الساعة لن تقوم ... إلى آخره ، حينئذ أجابه البطلُ المؤمن ، بأنـّه لن يُشرِك باللّه ، و بأنـّه كان من الأفضل أن يقول: «ماشاءاللّه لا قوة إلاّ باللّه» بدلا من ذلك القول البذيء.

و هذا يعني إحدى حالتين: إمّا أن يكون المؤمن قد سمع حوار الكافر مع نفسه ، و إمّا أن يكون قد اُلهِمَ بما في أعماق الكافر من أفكار.

و القصة لم تُشر إلى إحدى تينك الحالتين ، و إنّما حدّثتنا فحسب عن أنّ الكافر قال:﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً.

هنا يواجه المتلقّي ذينك الاحتمالين من جديد ، أوّلهما: أنّ الكافر قد تحدّث مع نفسه بصوت مسموع بحضور صاحبه.

و الآخر: أنّ المؤمن قد أُلهمَ المعرفة بما في أعماق صاحبه.

أمّا الاحتمال الأوّل ، فيردّه أنّ الكافر لم يتحدّث بمقالته المذكورة إلاّ بعد دخول جنّته و انتهاء محادثته مع صاحبه و لنقرأ المحاورة من جديد:

﴿فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً

﴿وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً

و واضح من هذه الفقرات أنّها تشتمل أوّلا على حوار خارجي هو ، قول الكافر للمؤمن: أنا أكثر منك مالا ، ثمّ انتهى الحوار بينهما. و أعقبه سردٌ ، أي تدخّلٌ من النص و تعقيبٌ على قول الكافر:

﴿وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ

فهذه الفقرة هي تعقيب السماء على الموقف المذكور ، أي: أنّ الحوار الخارجي قد انتهى بين المؤمن و الكافر.

ثمّ أعقبه هذا الكلام:﴿قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ ... إلى آخره ، و هذا يعني أنّ الكلام المذكور هو حديث داخلي يوجّهه الكافر إلى نفسه ، و ليس حديثاً يوجّهه إلى صاحبه مادام الحديث قد انتهى مع دخول صاحب الجنّتين إلى جنّتيه.

و إذن يتعيّن أن يكون الحوار داخلياً ، و إلى أنّ المؤمن قد اُلهِمَ معرفة ذلك بشكل أو بآخر.

* * *

ثمة احتمال ثالثٌ هو: أنّ المؤمن قد استخلص أفكار الكافر استخلاصاً من خلال تباهيه بالجنّتين ، إذ أنّ التباهي يُفصح عن الغفلة التي تصاحب الفرد عندما يغيب عن ذهنه ، أنّ العطاءات من اللّه جميعاً ...

غير أنّ هذا الاحتمال بعيدٌ بدوره ، لأنّ إجابة المؤمن ردٌّ مفصّلٌ على كلّ مفردات التفكير الذي ألمّ بالكافر ، و بخاصة أنّ البطل المؤمن أشار إلى حادثة دخول الكافر إلى بُستانه ، و عقّب عليها قائلا:

﴿وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللّهُ

و إذن يتعيّن من جديد ، أن يكون البطل المؤمن قد أُلهِمَ معرفة الأفكار التي طافت بخيال الكافر.

إلاّ أنـّنا في الحالات جميعاً ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أنّ صياغة الحوار بالشكل المتقدّم ، و جَعْله خاضعاً لجملة من الاحتمالات ، أو استخلاص واحد محدّد منها ، كما استخلصنا ذلك. هذا النمط من الصياغة له أهميته الفنّية الكبيرة دون أدنى شك ، إنّه يُثري أذهاننا بهذه التساؤلات المُمتعة ، و يمدّنا بتذوّق حيّ لأمثلة هذه النصوص الفنية العظيمة.

بعد أن أوضحنا أنّ الحوار الداخلي الذي تحدّث به صاحبُ الجنّتين مع نفسه:

﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً

﴿وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً

﴿وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً

﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

هذه الحوارات الداخلية الأربعة ، بعد أن أوضحنا أنـّها قد تسرّبت بشكل أو بآخر إلى سمع الرجل المؤمن ، حينئذ يحقّ لنا أن نتساءل عن السرّ الفنّي لصياغة هذه الحوارات داخلياً ، بدلا من الحوار الخارجي.

و لقد كان من الممكن أن يخاطب البطلُ الكافرُ البطل المؤمنَ بهذه الأفكار ، كما خاطبها بأفكاره التي تباهى بها من أمثال قوله:﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً ....

طبيعيّاً فإنّ التباهي يتطلّب كلاماً خارجياً موجّهاً إلى الآخرين ، حتّى يُحقّق دلالتَه المَرَضيّة ...

كما أنّ الردّ على التباهي يتطلّب كلاماً خارجياً موجّهاً إلى الآخرين ، حتّى يحقّق دلالته العبادية عند البطل المؤمن.

و هذا ما يسوّغ لنا صياغة الحوار الخارجي في قصة صاحب الجنّتين.

و هناك مسوّغات فنّية اُخرى نقف عليها لاحقاً. غير أنّ ما يهمّنا الآن ، هو توضيح المسوّغات الفنّية للحوار الداخلي ، و ليس الحوار الخارجي.

و مرة ثانيةً نتساءل:

لماذا لم يخاطب الكافرُ المؤمنَ بأفكاره الحائمة على أنّ جنّتيه لن تبيدا ، و أنّ الساعة لن تقوم ، و أ نّه سيجد خيراً من جنّتيه في الحالة المضادّة لتصوّره ، و إلى تمنّيه عدم الشرك في نهاية المطاف ...

نقول: لماذا احتفظ البطلُ الكافر بهذه الأفكار في داخله بدلا من توجيهها إلى صاحبه المؤمن؟

* * *

إنّ الإجابة على التساؤل المذكور تتحدّد بوضوح حينما نضع في الاعتبار أنّ بعض المواقف لا يمكن أن يبرزها الفردُ إلى الآخرين ، نظراً لبذاءة هذه المواقف ، أو للخجل الذي يغلّف الفرد من إظهار أسفه ، أو لغياب الآخرين عنه ، أو ... إلى آخره.

و فيما يتصل بصاحب الجنّتين ، نجد أنّ هناك حوارات داخليةً أربعةً قد وجّهها نفسه. و أنّ كلاّ منها ينطوي من حيث السرّ الفنّي لصياغة مثل هذا الحوار على مسوّغ ، نبدأ بتوضيحه على النحو الآتي:

1 ـ الحوار الداخلي الأوّل هو:

﴿قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً

و من الواضح أنّ مثل هذا القول يتطلّب أن يُحاط بنوع من السريّة ، نظراً لعدم انطوائه على يقين ثابت ببقاء الجنّتين سالمتين مدى العمر. فإنّ كلّ ما تُنبتُه الأرضُ مُعرّض لمختلف الآفات الزراعيّة التي تأتي على النبت ، و هذه حقيقة مألوفه لا تحتاج إلى تأمّل.

حينئذ ، فإنّ إبراز ما يضاد هذه الحقيقة إلى كلام مسموع ، يُعرّض صاحبَه السخرية أو التشكيك بقيمة كلامه مادام لم ينطوِ على حقيقة ثابتة ، و هو ما يجعله محتفظاً بمثل هذه الأفكار بداخله ، حتّى يُجنّب نفسه أيّة إهانة اجتماعية تلحق به.

مضافاً إلى ذلك ، فإنّه ليس هناك ما يشكّل ضرورة لإبراز الأفكار المذكورة مادامت غير متصلة بعنصر التباهي.

فصاحبُ الجنّتين و هو شخصيّة مريضة ، لا يُعنى إلاّ بإبراز أمجاده الموهومة يتشبّث بها حتّى ينتزع تقديراً اجتماعياً زائفاً يُحقق من خلاله إشباع ذاتِه المريضة ، و لقد حقّق هذا الإشباع فعلا عندما تباهى بجنّتيه ، و بعشيرته:

﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً

و حينئذ لا ضرورة لأن يشفع ذلك بتباه آخر لم يطمئن إليه تمام الاطمئنان ، و نعني به: بقاء الجنّتين سالمتين إلى الأبد.

إذن مجرّد كون صاحب الجنّتين غير مطمئنٍّ إلى بقاء مُلكه يُشكّل مسوّغاً لأن يحتفظ بأفكاره داخل نفسه.

و المسوّغ الثاني هو: أنّ إبراز أفكاره المذكورة يُعرّضه للسخرية.

و المسوّغ الثالث هو: أنّ بقاء الملك لا يتصل مباشرة بقيمة التباهي مادامت القيمةُ الفعليةُ منحصرة الآن في وجود المُلك حاضراً ، و ليس في مستقبل وجوده.

إذن ، للمرة الجديدة نلحظ وجود ثلاث مسوّغات فنّية وراء صياغة الحوار داخلياً ، حديث الشخص مع نفسه في الفقرة القائلة:

﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً

و هذا كلّه فيما يتصل بالحوار الأوّل.

* * *

2 ـ أمّا الحوار الداخلي الذي أعقب الحوار السابق ، و نعني به الحوار الآتي:

﴿وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً

هذا الحوار يظلّ مسوّغه الفنّي من حيث ضرورة الاحتفاظ بسرّيّته واضحاً كلّ الوضوح.

فالتشكيك بقيام الساعة يُجسّد فكرة بذيئةً تفرض على صاحبها أن لا يجهَر بها ، بل يحتفظ بها لنفسه مادامت لم تنطوِ على يقين ثابت ، و مادامت تُقابَل من حيث الاستجابة الاجتماعية ، بإنكار.

كلّ ذلك يُشكّل مسوّغاً ، لأن يُصاغ الحوار المذكور ، داخلياً كما هو واضح.

* * *

3 ـ الحوارُ الثالث بدوره:

﴿وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً

هذا الحوار يُلقي الضوء على الحوار السابق من جانب ، كما أ نّه يحتفظ بنفس المسوّغات التي تفرض على صاحب الجنّتين أن يُبقي أفكاره البذيئة داخل نفسه ، من جانب آخر.

فلقد سبق أن قلنا: إنّ إنكار قيام الساعة لا ينطوي على يقين ثابت في ذهن الشخصية المريضة: صاحب الجنّتين.

يدلّنا على ذلك ، أنّ الحوار الثالث ﴿وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي يتضمّن تشكيكاً بذلك الإنكار. فلو كان صاحبُ الجنّتين متيقّناً بصحة أفكاره المريضة التي أنكرت قيام الساعة ، لَـمَا تردّد و قال: ﴿لَئِنْ رُدِدْتُ ... ، و هذا يعني أ نّه غير متيقّن بإنكار الساعة بقدر ما هو مُشكّك ، شأ نُه شأن سائر المرضى الذين تحتجزهم ظلمةُ أعماقهم من رؤية النور.

و مادام الأمرُ كذلك ، فإنّ الاحتفاظ بمثل هذا التشكيك داخل النفس بدلا من الجهر به يشكّل مسوّغاً فنّياً لإبقاء تلكم الأفكار خبيئةً في الأعماق ، و من ثمّ صياغتها ـ من حيث الشكل الفنّي للغة القصة ـ حواراً داخلياً يتحدّث به المرء مع نفسه.

و هكذا نجد أنّ الحوار الثالث تضمّن دلالتين فنّيتين: إحداهما: هي إلقاء الضوء على الحوار السابق ، و الثانية: هي تبيين السرّ الكامن وراء صياغته حواراً داخلياً بدلا من الحوار الخارجي.

* * *

4 ـ الحوار الأخير الذي وجّهه صاحبُ الجنّتين لنفسه هو قوله:

﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

و المسوّغ الفنّي لصياغة هذا الحوار داخلياً يتّضح بجلاء حينما نُدرك بأنّ الندم على موقف خاطئ يتطلّب عدم الجهر به ، و بخاصّة أنّ صاحب الجنّتين في حواره الداخلي الأوّل «لن تبيد أبداً» قد أدرك سخافة تصوّره مثلما أدرك أنّ التشكيك بقيام الساعة و ما وراءها ينطوي على سخف أشدّ في حواره الثاني و الثالث ، و كلّ ذلك يدفعه حين يتكشّف له الواقع إلى أن يضاعف إحساسه بخطأ تصوّره السابق ، و من ثمّ يدفعه إلى أن يحتفظ بسرية أفكاره متمثلةً في ذلك الحوار المرير:﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.

إذن ، المسوّغات الفنّية لصياغة الحوارات الأربعة داخلياً ، قد اتّضحت أمامنا تماماً ، ممّا تعمّق من تذوّقنا لجماليّة هذا النص القصصي بما ينطوي عليه من أسرار فنّية وقفنا عليها بالتفصيل.

 

الوظيفة الفنّية للحوار:

بعد أن أوضحنا طبيعة الأسرار الفنّية وراء صياغة الحوار في قصة صاحب الجنّتين بشكليه الخارجي و الداخلي ، يحسن بنا الآن أن نتحدّث عن الأسرار الفنّية لعنصر الحوار نفسه ، من حيث المهمّات الجماليّة التي انطوى عليها ، و هي مهمّات تتصل بالتطوير العضوي لمواقف القصة و حدَثِها.

لقد خُيِّل لصاحب الجنّتين أنّ جنّتيه ستبقيان عامرتين مدى العمر ، و هذا التصوّر الخاطئ قد استكشفناه من الحوار الداخلي الذي وجّهه البطلُ الكافرُ لنفسه ﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً.

و ممّا لا شك فيه أنّ هذا الحوار قد ألقى إنارة تامّةً على خاتمة القصة من حيث المصير القاتم لجنّتيه. كما أ نّه قد شكّل حلقة وصل بين المقدّمة القصصية التي قالت لنا: أنّ زينة الحياة الدنيا ، زينةٌ عابرة سرعان ما تصبح أرضاً جرداء ﴿صَعِيداً زَلَقاً و بين الخاتمة القصصية التي انتهت بإبادة الجنّتين.

و المُهم ، أنّ الوظيفة الفنّية الاُولى للحوار المذكور ، قد تجسّدت في تطوير الحدَثَ من كونه جنّةً عامرة قد اقترنت بتصوّر خاطئ في ديموميتها إلى تصوّر مضادّ ، هو إبادةُ الجنّة المذكورة.

و بكلمة اُخرى: أنّ القارئ أو المستمع قد تهيّأ ذهنياً لأن يستكشف مصير الجنّة التي تباهى بها صاحبُها ، و أيقن أنّها لن تبيد ... هذا التهيّؤ الذهني قد أثاره حوارُ صاحب الجنّتين مع نفسه ... و حينما جاءت خاتمةُ القصة بمصير تينك الجنّتين ، يكون القارئ أو السامع قد تبلور لديه تماماً خطأ ذلك التصوّر ، أي أنّ التصوّر ببقاء البُستانين قد طوّر الحدَثَ حتّى انتهى إلى ما يضادّه من الموقف و الحدث.

أمّا الحدَثَ فقد انتهى إلى إبادة البُستان.

و أمّا الموقف فقد انتهى إلى الإعلان عن الندم.

و هذا كلّه فيما يتصل بالحوار الأوّل :

﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً

أمّا فيما يتصل بالحوار المشكّك بقيام الساعة:

﴿وَ ما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً

و الحوار الخاطئ عن المصير الاُخروي :

﴿لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً

فقد تحدّد بوضوح مدى إسهامه في تلوين تلك الخاتمة السوداء لمصير صاحب الجنّتين ، ذلك أنّ قوله:

﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

يُعدّ تطويراً عضوياً لذلك التصوّر الخاطئ الذي أعلنه في بداية القصة ، أي:
جواباً حاسماً لكلّ تصوّراته البذيئة.

* * *

و حين نتّجه إلى سائر العناصر المتصلة بــ الحوار و إسهامها في تطوير الأحداث ، نجد أنـّها قد احتفظت بنفس المهمّة الفنّية للتطوير.

و لعلّ الحوار الخارجي الذي وجّهه البطلُ المؤمنُ لصاحبه الكافر ، يُعَدّ نموذجاً واضحاً لعملية التطوير المذكورة.

و لنقرأ هذا الحوار من جديد:

﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُراب

﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً لكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً

﴿وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ

﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ

﴿وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً

إنّ هذا الحوار الخارجي ، مكتنزٌ بمهمّات جماليّة شتّى من حيث تواشُج صلاته بأجزاء القصة كلّها ، و من حيث تشكّله نموّاً عضوياً لمواقف سابقة ، و من حيث مساهمته في تنمية مواقف جديدة ...

فأوّلا: يُعَدّ هذا الحوار صوتاً معبّراً عن السماء في جوابها لأيّ تصوّر خاطئ يصدر عنه هذا الكائن الآدميُّ أو ذاك. فبدلا من أن تُعقّبَ السماءُ في هذه القصة على موقف صاحب الجنّتين ، ... جعلت التعقيب على لسان البطل المؤمن.

و واضحٌ ، أنّ صياغة الجواب على لسان أحد المؤمنين بدلا من السماء ، ينطوي على أكثر من خصيصة فنّية ، منها: أنّ التحاور بين طرفين بشريّين يخلع حيويّة خاصّةً على الموقف.

و منها: أنّ الجواب من قِبَلِ كائن آدمي قد اهتدى إلى الحقيقة ، يظلّ أشدّ قناعة في صواب الموقف الذي صدر عنه بالقياس إلى خطأ الموقف الذي صدر عنه كائن آدميّ آخر ، لم يهتد إلى الحقيقة.

و منها: أنّ البيئة القصصية نفسها قد اقترنت بوجود كائنين: أحدهما يمتلك مالا عابراً ، و الآخر لا يمتلكه. و مادام الأمرُ كذلك ، فإنّ الإجابة مباشرة من قِبل البطل الآخر تظلّ أشدّ وقعاً في بلورة الموقف.

إذن ، قد اتضحت المهمة الجماليةُ الاُولى لهذا الحوار ، متمثلةً في كونها صوتاً معبّراً عن السماء ، و لكن من خلال بطل بشري مؤمن ، فرضته طبيعةُ البيئة القصصية.

* * *

و أمّا من حيث التواشج العضوي بين أجزاء القصة و سائر القصص التي تضمّنتها سورةُ «الكهف» من جانب ، ثمّ التواشح العضوي بين أجزاء هذه القصة وحدها من جانب ثان ، وصِلة اُولئك بالحوار الذي نتحدّث عنه.

أقول: من حيث هذا التلاحم العضوي ، نجد أوّلا أنّ الحوار قد شكّل نموّاً و تطويراً لموقف سابق.

﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً

﴿وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً

فهذه المقدّمة تُشير إلى أنّ الأرضَ متاعٌ عابرٌ ، و أنّ نهايتها صعيدٌ جرزٌ ، أي خراب الأرض و ما فيها.

هذا الموقف قد تنامى و تطوّر على لسان البطل المؤمن ، حيث أعاده على مسامِعنا من خلال محاورته مع صاحب الجنّتين. حيث ألفت انتباهه إلى أنّ المزرعة التي تباهى بها صاحبها ، و خُيّل إليه أنـّها لن تبيد ، من الممكن أن تُباد ذات يوم و تصبح أرضاً خراباً:

﴿وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً

إذن ، الحوار الخارجي الذي وجّهه البطل المؤمن إلى الكافر ، قد تضمّن إجابةً على ذلك الموقف الذي رسمته القصةُ في بداية سورة الكهف ، إنّها تجسيدٌ لذلك الموقف ، و تطبيقٌ عمليّ له.

هذا التجسيد قد اضطلع عنصرُ الحوار بهِ ، ممّا يُفصح عن بُعد آخر من مهمات هذا الحوار فنّياً ، من حيث كونه قد أنمى و طوّر الموقف السابق.

و لكنّ الأمر لا يقف عند كون الحوار قد تشكّل تطويراً عن موقف سابق ، بل قد تشكّل تطويراً لموقف لاحق أيضاً.

ترى: ما هو هذا الموقف؟

* * *

إنّ مهمّة الحوار الفنّية من حيث تطويرها لأحداث القصة لاحقاً ، تتمثّل في أنّ البطل المؤمن قد أرهص بالنهاية المحتومة لصاحب الجنّتين. فالبطل المؤمن حذّر الكافر من أنّ جنّته من الممكن أن تُصبح ذات يوم صعيداً زلقاً ، أي: أرضاً جرداء.

و فعلا تجسّد هذا التحذير في حدث خُتِمتِ القصةُ به ، و نعني به إبادة الجنّة:

﴿و أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

و هنا ينبغي ألاّ نمرّ عابراً على هذا الحدَثَ وصِلته الفنّية بــ الحوار الذي لم يُجره البطل المؤمن عابثاً ، بقدر ما أجراه و هو على إحاطة بمثل هذا المصير. فالبطل المؤمن ، كما سبق القول قد اُلهم معرفة الحوار الداخلي الذي أجراه صاحب الجنّتين مع نفسه عندما حاورها قائلا:

﴿ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ...

و إلهام مثل هذه المعرفة يتساوق فنّياً مع المصير القاتم الذي لحق صاحب الجنّتين.

و المُلاحَظ أنّ كلّ خطوات التفكير الذي رافقَ صاحب الجنّتين ، قد وجَدَ له جواباً في حوار البطل المؤمن ، و هذا ممّا يُضاعف من حجم المهمّة الفنّية للحوار.
فالأمر لم يقتصر على توقّع البوار لِبُستانَي الكافر ، بل واكَبَ كلّ خطوات التفكير الذي ألمّ بصاحب البستان ، سواءٌ أكان ذلك من خلال الحوار الخارجي الذي جرى بين المؤمن و الكافر ، أو الحوار الداخلي الذي أجراه الكافر مع نفسه ، أو من خلال الحوار من حيث صلته بعملية السرد أيضاً. فالبطل المؤمن خاطب صاحب الجنّتين بقوله:

﴿لكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً

و هذا الخطاب قد وجد له جواباً فنّياً في خاتمة القصة عندما ندم صاحبُ الجنّتين على تصوّره الخاطئ ، و هتف قائلا:

﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً

هذا الهتافُ ، هو نهاية النموّ العضوي الذي بدأ بخطاب المؤمن:

﴿لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً

حيث يشكّل مثلُ هذا الخطاب بدايةً ترهص بنهاية مماثلة تلحق صاحب الجنّتين ، حتّى ليَهتفَ بنفس الخطاب الذي وجّهه إليه البطل المؤمنُ في بداية القصة.

* * *

و الخطوة الثانية من خطوات التفكير الذي رافق صاحب الجنّتين و صِلتها بالحوار الذي طَوّر الموقف اللاحق ، هي: قول البطل ، البطل المؤمن:

﴿وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللّهِ

فهذه الفقرةُ الحوارية وجدت لها جواباً في نهاية القصة أيضاً عندما عقّبت السماء على مصير صاحب الجنّتين بقولها:

﴿وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً

حيث نبّه البطلُ المؤمنُ صاحبَه إلى إشاءة اللّه ، و إلى أنـّها هي التي تقف وراء بقاء الجنّتين أو عدمهما ، و حيث جاء الجوابُ في نهاية القصة ، أنّ القوى التي تخيّل صاحب الجنّتين بمقدورها أن تسعفه لا قيمة لها ما لم ترتبط بالسماء ، حيث لم تستطع أن تنقذه من بوار الجنّتين.

﴿فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً

ثمّ تجسيدها عمليّاً :

﴿وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ ... وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها

إذن ، قد طوّر حوارُ البطل المؤمن أحداث القصة و مواقفها اللاحقة على النحو الذي لحظناه الآن. كما شكّل هذا الحوارُ نفسه نتيجةً ناميةً و متطوّرةً عن مواقف سابقة هي: إشارة النص إلى زينة الحياة الدنيا و مصيرها إلى الخراب ، على نحو ما لحظناه سابقاً.

فإذا أضفنا إلى ذلك صِلة هذا الحوار بالحوارات السابقة: خارجيةً و داخليةً ...
أمكننا حينئذ أن ندرك مدى الخطورة الفنّية لعنصر الحوار في قصة صاحب الجنّتين ، و ما قدّمه من وظائف اُخرى وقفنا عليها مفصّلا.

* * *

و حين نتجاوز الحوار إلى العناصر القصصية الاُخرى ، من بيئة و مواقف و أبطال ، نجد أنـّها حافلةٌ بما هو مدهشٌ فنّياً بذات الخطورة التي لحظناها في عنصر الحوار.

و بما أنـّنا ألقينا إنارةً عليها من خلال حديثنا عن عنصر الحوار ، فحينئذ لا نجد حاجةً إلى الحديث عن هذه العناصر ، بل نكتفي بلفت الانتباه إلى جملة من الخصائص الجماليّة لها.

فمن حيث البيئة ، نجد أنّها قد رُسمت وفق مرأىً حيّ موشّىً بجمال الطبيعةِ
نفسها. فالجنّتان حُفّتا بالأعناب ، و بالنخل ، و بالزرع ، و بالأثمار.

و حيال هذا المرأى الجمالي الحيّ ، نجد مرأىً مضاداً له تماماً ، ألا و هو المرأى
الموحش ، حيث أصحبت المزرعةُ
﴿خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها.

ثمّ يتضاعف حجمُ المرأى الموحش عندما يقترن بمشاعر موحشة أيضاً ، تلك المشاعر التي تجسّدها هذه الفقرة:

﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها

فتقليبُ الكفّ فضلا عن أنّه صورة جمالية لها قيمتها الكبيرة ، يظلّ إفصاحاً عن تلكم المشاعر الموحشة التي تراكمت في أعماق صاحب الجنّتين ، و هو يرى مزرعته قد اُبيدت تماماً.

ثمّ ممّا يضاعف من دائرة هذه الوحشة ، أن تقترن أيضاً بالعنصرين المادي و البشريّ اللذين سخّرهما صاحب الجنّتين بغية استمرارها ، حيث تلاشت كلّ هذه الجهود التي بذلها من أجل بقاء المزرعة ، و لذلك نجده يقلّب كفّيه ، ليس على ذهاب المزرعة فيها فحسب ، بل ﴿عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أيضاً ، كما يقول النص.

و إذن ، ما أشدّ هذه الوحشة التي داهمت صاحب الجنّتين من خلال الرسم الفنّي للبيئة و ما اكتنفتها من المشاعر: مزرعة جميلة محفوفة بالزرع ، و الأعناب ، و النخل ، و الأثمار ، ثمّ تُباد فجأةً ، و إذا بصاحبها يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها ، ...
ثمّ لا يجد من ينصره ... ثمّ يتمزّق من جديد حينما يُعلن عن أسفه المرير بأنـّه يتمنّى لو لم يُشرك بربّه أحداً.

كلّ ذلك يتمّ من خلال صورة فنّية هي تقليب الكفّ الذي يفصح عن عمق المرارة و الأسف ، اللذين صاحبا رسم البيئة للبستانين مُستمرين ، ثمّ للبُستانين و قد أصبحا: خاويين موحِشين.

ختاماً ، أمكننا ملاحظة هذا البناء العماري الممتع بين اُقصوصة صاحب الجنّتين مقابلة لقصة أصحاب الكهف ، من حيث الشخوص القصصية ، وانعكاس الموقفين المتضادّين على مصائرهما من حيث الرعاية التي واكبت أصحاب الكهف في البيئة النابذة لزينة الحياة الدنيا ومن حيث العقاب الذي طال صاحب الجنّتين المتشبّث بزينة الحياة الدنيا.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page