• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الكهف : اُقصوصة ذِي القَرنَيْن

 تمهيد

إذا كانت قصة صاحب المزرعتين تتناول شخصية بهرتها الحياة الدنيا بمزرعتين بسيطتين ، فإنّنا الآن أمام قصة ذي القرنين حيث تتناول شخصية لم تبهرها زينة الحياة الدنيا مع أنـّها ملكت شرق الأرض و غربها ، و كم هو الفارق مكانياً بين مزرعتين تعدّان بالأمتار مثلا ، و بين مشرق الدنيا و مغربها ، أي الكرة الأرضية التي يمتلكها ذوالقرنين ، و لكن الأوّل بهرته الزينة البسيطة ، و الثاني لم تبهره الزينه الشاملة لكرة الأرض ...

على أيّة حال ، يجدر بنا أن نتحدّث عن القصة المذكورة فنقول:

هذه هي القصة الثالثة من القصص التي تضمّنتها سورة «أهل الكهف».

كانت القصة الاُولى تتصل بأهل الكهف ، و القصة الثانية بصاحب الجنّتين ، و القصة الثالثة من حيث الترتيب ، هي قصة موسى و العالم ، و قد أجّلنا الحديث عنها إلى الخاتمة. و أمّا القصة الأخيرة فهي قصة ذي القرنين ، فيما نعتزم الآن الحديث عنها.

إنّ ما يهمّنا أن نلفت الانتباه إليه ، هو المبنى الهندسي للسورة من حيث قصصها الأربع ، و صِلة هذه القصص بمقدمة السورة التي طرحت مفهوماً محدّداً هو: زينة الحياة الدنيا ، و ضرورة نبذ هذه الزينة ، و إلى أنـّها محطّ اختبار للكائن الآدمي ، فضلا عن أنـّها متاعٌ عابر ، صعيدٌ جُرُزٌ. و لنقرأ مقدّمة السورة من جديد:

﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الأَْرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً

﴿وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً

هذا المفهوم للزينة و للاختبار ، هو الذي جسّدته العناصر القصصية في السورة ، بنحو هندسي منتقىً. فأهل الكهف جسّدوا نبذ الزينة ، و التجأوا إلى الكهف.
و صاحب الجنّتين أو المزرعتين جسّد تشبّثه بتلك الزينة ، و لكنّه جسّد في الآن ذاته نهاية تلك الزينة ، متمثلةً في إبادة جنّته التي أصبحت صعيداً زَلَقاً على نحو ما أشارت مقدمةُ السورة إليه ، من أنّ ما على الأرض قد جعلته السماء صعيداً جُرُزاً.

و أمّا قصة ذي القرنين ، فإنّها تمثّل وجهاً جديداً من التعامل مع زينة الحياة الدنيا ، مفصحةً عن بُعد آخر من أبعاد التعامل البشري مع الحياة.

* * *

و إذا كان صاحب المزرعتين قد بَهَرتهُ جنّتاه و اختلّ توازنه من التملّك لتينك الجنّتين بحيث دفَعَتاهُ إلى أن يُدلّ و يتباهى و يتعالى على صاحبه الذي لا يملك مزرعةً و مجداً اجتماعياً. أقول: إذا كان تملّكُ مجرّد مزرعتين يدفع صاحبهما إلى تناسي نِعَمِ اللّه ، و التشكيك باليوم الآخر ، و الانغماس في ملذّات الحياة الدنيا ، ...
إذا كان مجرّد تملّك ذينك البُستانين يُفقد صاحبهما وعْيَه بحقيقة السماء و الحياة و وظيفته ، فإنّ ذي القرنين على العكس من ذلك تماماً ، إنـّه يمتلك ليس مزرعتين تحتلاّن مساحة صغيرة من أرض اللّه ، كما أنـّه يمتلك ليس مجرّد نفر ، هو عشيرته التي يتباهى بها ، ... إنـّه يمتلك كلّ الأرض مشرقَها و مغربها ، ... و يمتلك كلّ الرقاب ، كلّ الآدميين الذين بَسَطَ نفوذه عليهم و أخضعهم لِسلطانه ...

إذن ، كم هو الفارق بين مالك و صاحب جنّتين و مجموعة أفراد ، و بين صاحب الدنيا كلّها مشرقاً و مغرباً ، و الآدميين بأكملهم ... كم هو الفارق بينهما ، من حيث ضآلة التملّك لدى الأوّل ، و ضخامة التملّك لدى الآخر.

و مع ذلك ، فإنّ صاحب الجنّتين يلفّه الطغيان و يركب رأسه ، في حين يتواضع ذوالقرنين للسماء ، و يُدرك تماماً وظيفته التي أوكلتها السماءُ إليه ، فيتعامل مع السماء و مع الآخرين على النحو الذي تطلبه السماءُ منه ، بحيث يجتاز الاختبار الذي مهّدت له مقدّمةُ السورة بنجاح ، ... بينا يسقط صاحبُ الجنّتين في الاختبار المذكور على النحو الذي تحدّثنا عنه مفصلا.

إذن المبنى الهندسي لهذه القصة من حيث صلتها بالقصة التي سبقتها يتحدّد بوضوح حينما نقف على هذا التوازن و التقابل بين شخصيتين يمثّلان بَطَلين لِقصتين مختلِفَتين ، تعالج كلُّ واحدة منهما موقفاً متميّزاً كلّ التمايز عن الآخر ، تعالج الاُولى بطلا عادّياً تبهره زينةُ الحياة الدنيا ، مع أنـّه لا يملك منها إلاّ مزرعتين و مجموعة أفراد ، و تعالج الثانية بطلا لا تقعده زينة الحياة الدنيا عن وظيفته الأساس في الحياة ، مع أنـّه يملك الدنيا كلّها مشرقاً و مغرباً و يملك الآدميين كلّهم.

هذا المبنى الهندسي ينبغي ألاّ نغفل عن جماليّـته الضخمة ، ينبغي ألاّ نغفل عن عنصر التقابل و التوازن فيه من حيث صلة قصة ذي القرنين بقصة صاحب الجنّتين.

* * *

أيضاً ينبغي ألاّ نغفل عن صلة اُقصوصة ذي القرنين بقصة أهل الكهف و الجمالية التي ينطوي البناء الهندسي عليها من خلال العلاقة القائمة على التوازن و التقابل بينهما. فأهل الكهف قد هربوا من زينة الحياة الدنيا و اتجهوا إلى كهف منزو.

أمّا ذوالقرنين فلم يهرب من الحياة ، بل تغلغل إلى آفاقها أجمع.

إنّه تملّك كلّ معالم الزينة و أخضعها لسلطانه.

إنّه على العكس تماماً من أصحاب الكهف الذين لم يتملّكوا من زينة الحياة حتّى مجرّد الحياة الاعتيادية ، ... إنّهم لم يتملّكوا أبسط حقوق التملّك ، و هو:
العيش في دار بسيطة مثل الآخرين ، بل لجأوا إلى كهف بعيد عن العمران ، عن الناس ، عن العيش ولو ببساطة.

بيد أنّ هذا الفارق بين فتية الكهف و ذي القرنين ، هو مجرّد فارق بين نمطين من التعامل الإيجابي مع السماء ، و ليس بمثل الفارق بين صاحب الجنّتين و ذي القرنين ، إذ أنّ الفارق هنا ، هو فارق بين تعامل سلبيٍّ خاطئ غلّفَ صاحبَ الجنّتين ، و بين تعامل إيجابيٍّ صائب غلّف ذا القرنين. في حين أنّ الفارق بين أصحاب الكهف و ذي القرنين قائم على طرفين إيجابيين ، يخضع كلاهما للتعامل الصائب مع السماء ... كلّ ما في الأمر ، أنّ الظروف الاجتماعية هي التي جعلت أصحاب الكهف يختارون العُزلة ، و هم مُحقّون في ذلك ، و جعلت ذا القرنين يختار النشاط ، و هو مُحقٌّ في ذلك.

هذا النحو من التقابل بين العزلة و النشاط ، يمثّل وجهاً فنّياً آخر من وجوه التقابل الهندسي في قصص سورة الكهف ، ممّا يضخّم لدينا عنصرُ الإحساس الجمالي ، عنصر التذوّق ، عنصر الاستجابة الفنّية حيال بناء قصصي مُحكم يتوفّر على صياغة مختلف اُسس التوازن و التوازي و التقابل بغية تحقيق أشدّ فرص الإمتاع الفنّي للمتلقّي ، بما يصاحب فرص الإمتاع المذكور ، من مواجهة فكرية للموضوعات المتنوّعة التي يستهدف النصُّ إيصالها إلينا عبر الصياغة الجمالية المذكورة.

بدأت قصة ذي القرنين على النحو الآتي:

﴿إِنّا مَكَّنّا لَهُ فِي الأَْرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْء سَبَباً

و هذا يعني أنّ بداية القصة تتحدّث عن بطل مكّنته السماء من التملّك للأرض و مَن عليها. و إذا تذكّرنا أنّ القصة المتصلة بصاحب الجنّتين ـ و قد وقفنا عليها مفصّلا ـ قد بدأت على هذا النحو:

﴿جَعَلْنا لأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْناب وَ حَفَفْناهُما ...

إذا تذكّرنا بداية هذه القصة و ربطناها ببداية قصة ذي القرنين ، أمكننا أن نفيد من المقارنة بينهما ، أنّ النص قد استهدف من هاتين البدايتين التشدّد على أنّ التمكّنفي الحالتين مصدره هو السماء.

بيد أنّ صاحب الجنّتين قد كفر بأنعُمِ اللّه و لفّه الغرور ، حتّى انتهى الأمرُ إلى أن تُمسح عنه الجنّتان في نهاية المطاف.

و لكن ، ماذا عن ذي القرنين؟

إنّ البداية القصصيّة لا توحي لنا بمستقبل الأحداث اللاحقة بهذا التمكّن الذي هيّأته السماء للبطل ، و طريقة استجابته لهذا التمكّن.

بيد أنـّنا ما أن نتابع أحداث القصة حتّى نبدأ باستكشاف شخصية ذي القرنين ، و افتراقه تماماً عن صاحب الجنّتين.

فمن حيث السمة الاجتماعية ، تنقل لنا نصوصُ التفسير أنّ ذا القرنين لم يكن مجرّد شخصيّة اعتيادية كصاحب الجنّتين. فهناك من النصوص ما يُشير إلى أنـّه كان نبيّاً بعثه اللّه إلى قومه ، لكنهم ضربوه على قرنه الأيسر فمات ، ثمّ بعثه اللّه و أحياه ، و أرسله من جديد إليهم ... فضربوه على قرنه الأيمن ، فسُمّي بذي القرنين.

و هناك من النصوص ما يُشير إلى أنـّه كان مَلِكاً.

لكن غالبيّة النصوص المفسّرة تُشير إلى أنـّه لم يكن نبيّاً و لا مَلِكاً ، بل كان عبداً صالحاً أحبّ اللّهَ فأحبّه اللّهُ ... و دعا قومه إلى عبادة اللّهِ ، فضربوه على قرنه الأيسر ... ثمّ غاب عنهم ، و عاد من جديد يدعوهم إلى اللّه ، فضربوه على قرنه الأيمن.

هذه النصوص المفسّرة الأخيرة تدلّنا على أنّ ذا القرنين لم يكن يحمل سمةً اجتماعية تتصل بالنبوّة أو الملوكية ، ممّا يقتادنا إلى القول بأنّ سِمَته العبادية هي التي أهّلته لأن يُصبح ذا سمة اجتماعية خطيرة على النحو الذي ستكشف نصوصُ القصة عنه.

من هنا يتعيّن على المتلقّي أن يقوم بموازنة بين رجلين إعتياديين ، أحدهما:
ساقته العبادة المخلصة: الحبّ للّه ، إلى أن يحتل مركزاً اجتماعياً فذّاً من حيث تملّكه للأرض و مَن عليها ، و الآخر: ساقته نزعاتُه الذاتية: التباهي بالمال و العشيرة ، إلى أن يفقد حتّى مزرعتيه.

و القصة لم تقل لنا هذا مباشرة ، و لم تُقِم موازنةً بينهما ، لكنّها سلكت منحىً فنّياً غيرمباشر ، بحيث جعلت المتلقّي يستكشف بنفسه هذه الفارقية بينهما حتّى تترك أثراً فنّياً لدى المتلقّي أشدّ فاعليةً في عملية التذوّق.

* * *

المهمّ يتعيّن علينا أن نتابع شخصية ذي القرنين من خلال منطق الأحداث نفسها:

و لنقرأ:

﴿وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْء سَبَباً

﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً

﴿حَتّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْن حَمِئَة

﴿وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً

﴿قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً

﴿قالَ: أَمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً

﴿وَ أَمّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً

إنّ هذا النص يمثّل القسم الأوّل من القصة التي كانت بدايتُها تومئ إلى ظاهرة التمكّن لذي القرنين. و ها هي القصةُ تبدأ في قسمها الأوّل بتفصيل ما أجملته البداية.

إنّ البداية القصصيّة أومأت أيضاً إلى أنّ السماء آتته من كلّ شيء سبباً ، أي:
سبيلا ، أو إمكانيات كبيرة بحيث يستطيع من خلالها أن يُذلّل كلّ الصعاب التي تعترض مهمّته العبادية على الأرض.

و لكن ، ما هي مهمّته العباديةُ هذه؟

لايزال النص في القسم الأوّل من القصةُ يُبهمُ مهمّة ذي القرنين ، و بخاصة أنـّه دلّنا على أنّ ذا القرنين ، قد بدأ باتّباع المنهج الذي رسمته السماء ... إنّه قد بدأ يتّبع سبباً ، يتّبع سبيلا ... يتّبع خطةً ما ، لبلوغ مهمّته ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً.

و من جديد ، ما هي الخطة التي اتّبعها ذوالقرنين في هذا الصدد؟

* * *

هنا تبدأ الأحداث بالانكشاف.

لكنّه انكشاف محفوف بضباب فنّي ، قد استهدفته القصة لمسوّغات جمالية تتصل بعملية التذوّق الفنّي ... و هي عملية ينصبّ اهتمامها على مشاركة المتلقّي في استخلاص الأحداث و تفسيرها دون أن يتدخّل النص في التعقيب و التوضيح و التفصيل لها.

إنّ تكشُّفَ الأحداث تنقله الفقرةُ الآتية:

﴿حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ...

فالقارئ أو السامع يبدأ باستكشاف أنّ المهمة العبادية لذي القرنين قد اكتسبت طابعاً سياسياً هو الفتح ، بما يتطلّبه من رحلة عسكرية تمتدّ إلى مغرب الشمس.

بيد أنّ المتلقّي يبقى في رحلة غامضة لا يكاد يتبيّن من خلالها مقرّ ذي القرنين ، و لا أسلحتَه ، و لا طريقة فتحه للأرض الواقعة في مغرب الشمس.

كلّ ذلك ، يظل مجهولا أمام القارئ أو المستمع.

و لعلّه ـ أيّ المتلقّي ـ يتساءل عن السرّ الفنّي لهذا الغموض الذي واكب رحلة ذي القرنين: بدءً من مقرّه ، مروراً بالزحف العسكري ، و انتهاءً بوصوله إلى مغرب الشمس.

و من قبل اُولئك جميعاً ، يظلّ الغموض يلفّ حتّى شخصية ذي القرنين من حيث علاقته بقومه و نمط تعاملهم و إيّاه.

إنّ هذه التساؤلات من الممكن الإجابة عليها بوضوح إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ النص يستهدف لفت الانتباه على حقيقة فكرية هي: ظاهرة الإخلاص في العبادة ، و استتباعها تمكين الشخصية المخلصة في الأرض بجنود السماء ، و ليس بجنود الأرض التي يصعب ـ حسب منطق الآدميين ـ توفّرها في مناخ لايزال بعيداً عن السماء ، ممّا يتطلّب مُرشداً يهديهم إليها.

و ها هو المرشد تُهيّـؤه السماء متمثلا في شخصية ذي القرنين.

أمّا علاقة ذي القرنين بالآخرين ، و نمط تعاملهم و إيّاه ... ثمّ مقرّه ، أو جيشه ، أو أدوات الزحف بكلّ مستوياتها ، فأمرٌ لاضرورة فنّية لتفصيله مادام الهدف منصبّاً ليس على الأداة ، بل على مطلق التمكين ... مادام ذلك كلّه يبقى موكولا إلى المتلقّي ، حتّى يشارك بنفسه في استكشاف الحقائق وفقاً لخبراته التي يستطيع من خلالها أن يستخلص ، و يقارن ، و يتساءل ، و يتكهّن ، و يتنبّأ بهذا أو بذاك من التفصيلات.

* * *

مع رحلة ذي القرنين نحو مغرب الشمس ، يَبدأ المتلقّي باستكشاف الأحداث ، و استخلاص الهدف من الرحلة.

بيد أنّ عنصراً بيئيّاً محدّداً قد رسمه النص قبل توضيح الهدف من الرحلة ، ألا و هو: أنّ ذا القرنين وجد الشمس تغرب في عين حَمِئة.

تُرى ، ما هو الهدفُ الفنّي من وراء هذا العنصر؟

إنّ غروب الشمس في عين حمئة ـ و الحمأة ، هي الطين الأسود ـ يعني أنّ ذا القرنين شاهد الشمس و كأنـّها تغور في عين ، أي أنـّها مجرّد مشاهدة تخيّليّة ناجمة عن خداع الحواس.

و ممّا لا شك فيه ، أنّ هذا المرأى أو المشهد ينطوي أوّلا على حقيقة حسّية بغضّ النظر عمّا وراء هذه الحقيقة من خداع الحواس. و ثانياً ينطوي المرأى أو المشهد على حقيقة جمالية من حيث خصائص الطبيعة ، و ما تتركه من استجابة جمالية لدى المُشاهد للمرأى المذكور.

بيد أنّ بعض النصوص المفسّرة تربط بين هذا الرسم القصصي للمرأى المذكور ، و بين حقائق غيبيّة اُتيحت لذي القرنين ، بحيث يمكننا أن نستخلص وجود صلة فنّية بين رسم هذه البيئة ، و بين مشاهدة ذي القرنين عيانياً من وراء تكشّف حجب الغيب ، أي: حركة الشمس و الأرض ، و موقع المهمّة التي أوكلتها السماء إلى الملائكة في تسيير الحركة المذكورة.

و هذا يعني في تصوّرنا أنّ الأمر لم يقف عند مجرّد إشباع الحسّ الجمالي لدينا ، أو إرواء الدافع إلى الاستطلاع ، أو تثبيت مشهد واقعي صرف ، بل إنّ الأمر يتعدّى ذلك إلى حقيقة تتصل بذي القرنين نفسه ، من حيث كونه قد هيّأت له السماءُ كلّ شيء ، و سخّرت له السحاب و النور ، كما تذكر ذلك بعض النصوص المفسّرة ، بحيث طُويت له الأرض و شاهدَ ما شاهدَ من أسرار الجوّ و الأرض و المحيطات بضمنها حركة الشمس و الأرض و البحر ، من حيث علاقة بعضها مع الآخر في عملية الغروب.

المهم أنّ مثل هذا الاستخلاص يظلّ مرتبطاً بشخصيّة ذي القرنين أكثر من ارتباطه بشخصية المتلقّي ، إلاّ في حدود اطلاعنا على التمكين الذي هيّأته السماء لذي القرنين و حملنا على إدراك هذه الحقيقة ، بغية الإفادة من ذلك في تغيير سلوكنا و دفعنا إلى الإخلاص في العمل العبادي.

و خارجاً عن ذلك ، فإنّ القصور في إدراك ما وراء هذا من أسرار فنّية تغلّف رسم مشهد الشمس و هي تغرب في عين حمئة ، يظلّ واحداً من عشرات النماذج التي يظل المتلقّي مغلّفاً بالقصور في إدراكها.

* * *

إنّ الأحداث تبدأ بالانكشاف تماماً ، عندما يُدرك المتلقّي أنّ هدف رحلة ذي القرنين نحو أقصى الغرب ، هو تحقيق المهمة العبادية التمثّلة في إرشاد القوم الذين احتوتهم المنطقة المذكورة.

و من خلال حوار فنّي غير مباشر ، جَعَلَنا النصُّ نستكشف أنّ هؤلاء القوم كانوا غائبين عن السماء ... كانوا كفاراً لابدّ أن تصاغ الحجةُ عليهم.

نستكشف ذلك من خلال هذه الفقرة الحوارية:

﴿قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً

فهذا الحوار قد اكتنفته أسرارٌ فنيّة في عملية إنّماء المواقف و الأحداث ، و تطويرها ، و الكشف عن تفصيلاتها التي اختزلها النص فنيّاً ، و تركنا نستخلصها بأنفسنا.

فنحن من خلال الفقرة الحوارية المركّزة المذكورة ، قد استخلصنا هذا الحشد من الحقائق:

أوّلا: أنّ هناك قوماً كافرين.

ثانياً: أنّ السماء خيّرت ذا القرنين في التعامل مع هؤلاء القوم بين قتلهم و بين العفو عنهم. و عملية التخيير تعني أننا نستخلص إمكان أن يهتدي بعضٌ منهم في حالة العفو ... و اليأس من الهداية في حالة الإقدام على القتل.

ثالثاً: أنّ هذا التخيير سيُلقي بإضاءته على المواقف و الأحداث اللاحقة في القصة ، حيث سنرى بالفعل ممارسة ذي القرنين لهذا التخيير ، كما تكشف عنه الفقرة الحوارية أجراها ذوالقرنين مع قومه ، حينما خاطبهم:

﴿أَمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً

﴿وَ أَمّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً

فهذه الفقرة الحوارية تُشكّل تطويراً و إنماءً للموقف السابق الذي طرحته الفقرةُ الحوارية السابقةُ ، القائمةُ على التخيير.

لقد استخلص المتلقّي هذا الحشد من الحقائق الفنيّة ، و انتهى إلى حقائق جديدة عن نمط التعامل لدى ذي القرنين بالنسبة إلى القوم الكافرين.

* * *

هذا التعامل الجديد مع القوم قائمٌ على الالتزام بتوصية السماء في عملية التخيير بين قتلهم و العفو عنهم.

و الشيء الذي كشف عنه الحوارُ الجديد حوار ذي القرنين مع قومه ، هو: الربط بين الثواب و العقاب الدُنيويّين و العقاب و الثواب الاُخرويّين.

و من الواضح أنّ الربط المذكور يُساهم من حيث الاستجابة لنداء السماء في دفع المتمرّدين إلى التفكير في سلوكهم و تعديله مادام الأمر محفوفاً بثواب عاجل ، هو العفو عنهم. ليس هذا فحسب ، بل تيسير اُمورهم أيضاً.

و كلّ ذلك في الحياة الدنيا. و هذا وحده كاف في حملهم على الإيمان ، إذا كان الأمر متصلا باشباع الحاجات الأمنية لديهم في غمرة هذه الحياة العابرة.

و أمّا إذا كان الأمر متصلا بالحياة اللاحقة ، فإنّ الإشباع يظل أشدّ و أمتع ، كما هو واضح.

و أمّا حالة ركوب الخطأ و الانقياد إلى الذات و حاجاتها الملتوية ، فإنّ مجرّد التذكير بإطفاء الإشباع من خلال القتل و التهديد بإطفائه في اليوم الآخر ، كاف في المساهمة بتعديل ما أعوج من السلوك.

و المهم في الحالات كلّها أنّ فقرتين من الحوار: حوار السماء مع ذي القرنين أوّلا ، ثمّ حوار ذي القرنين مع قومه ـ و هو حوار متطوّرٌ عن الحوار السابق ـ قد حفلا بحشد من الحقائق التي انتظمها القسمُ الأوّل من قصة ذي القرنين بما يواكب هذه الحقائق من تجلية لظاهرة التمكين الذي استهدفه النص و هو يقصّ علينا ملامح من شخصية ذي القرنين و تمكّنها من الأرض و مَن عليها ، فيما كشف النصُّ عن أحد مفرداته متمثّلا في الوصول أقصى الغرب ، دون أن يستخدم الوسائل التي يتطلّبها الفتح ، بقدر ما أمدّته السماء بوسائل اختزلها النص من القصة ، لتعميق قناعتنا بأنّ التعامل المخلصَ مع السماء يتجاوز ما هو مألوف إلى ما هو معجز ، من حيث الإمداد الذي ترفده السماء للمخلصين من عبادها.

* * *

إنتهى القسم الأوّل من اُقصوصة ذي القرنين مع رحلته إلى مغرب الشمس.

أمّا القسم الثاني من القصة ، فيتمثّل في رحلته إلى مطلع الشمس.

في رحلة البطل إلى مغرب الشمس واجه قوماً كافرين. أمّا في رحلته إلى مطلع الشمس ، فقد واجه أقواماً نَسَجَ النصُّ صمتاً حيال شخصياتهم ، و اكتفى بوصف المناخ الجغرافي لهم.

يقول النص:

﴿حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْم لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً

بهذه الآية أو الفقرة ينتهي القسم الثاني من القصة.

غير أنّ ما يلفت الانتباه في هذا القسم من حيث صلته بالقسم الأوّل من القصة هو: عمارية الشكل القصصي خلال التقابل بين الرحلتين ، و ما يُشيعه هذا التقابل من إحساس ثر بجمالية القصة.

فنحن حيال رحلتين: الاُولى نحو مغرب الشمس. و الثانية نحو مطلع الشمس.

هذا التقابل بين رحلتين ينطوي على ما يُسمّى في لغة الجمال الفنّي بــ : التقابل من خلال التضاد ، و التضادّ من خلال التقابل.

و يمكننا ملاحظة كلٍّ من ظواهر التضاد و التقابل على هذا النحو:

1 ـ هناك بُعدٌ جغرافي يجمع بين الرحلتين ، يتمثّل في موقع الشمس من الرحلتين.

2ـ تجسّد الشمس بُعدين متقابلين هما: مشرقها و مغربها.

3 ـ مواجهة البطل في الرحلتين لأقوام يتمّ التعامل حيالهم وفق خطة ما.

4 ـ افتراق كلٍّ من المواجهتين إحداهما عن الاُخرى من حيث أنّ الأقوام في رحلة المغرب تُعُومِلَ حيالهم سياسياً ... في حين نُسِجَ الصمتُ حيالَ رحلةِ
المشرق.

5 ـ رحلة المغرب تضمّنت بُعداً جغرافياً يتصل بمواجهة البطل و طريقة استجابته حيال عملية الغروب في العين الحمئة ... أمّا رحلة المشرق فقد تضمّنت بُعداً جغرافياً يتصل بالأقوام أنفسهم ، من حيث سكناهم في أرض قاحلة لا شجر و لا بناء بها ، أو وفق بعض النصوص المفسّرة: أنّ الأقوام كانوا متخلّفين حضارياً إلى الدرجة التي لم يعرفوا حتى إيجاد البيوت لهم.

6 ـ إنّ الرحلتين تمّتا وفق خُطة ، أو دليل ، أو مسلك ، أو كما أسمته السماء وفق سَبَب قد اتبعه ، حيث مهّد النص القصصي لكلّ رحلة ، بقوله عن الرحلة المغربية:
﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً و عن الرحلة المشرقية بقوله:
﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً.

و من البيّن أنّ هذه الصياغة القصصية من خلال عمارة الشكل المذكور ، تترك عند المتلقّي تجربة تذوّق ضخمة لا يتحسّسها غنىً و تنوّعاً ، إلاّ من أُوتي إحساساً بالجمال الفنّي للنصوص ، بما تنطوي عليه من مفردات متقابلة أو متماثلة. تتماثلُ من خلال صعيد يجمع بين أشتاتها ، و تتضادّ من خلال وحدة تنتسب إليها.

* * *

هنا يُثار سؤال:

لماذا نسجَ النصُّ صمتاً حيالَ رحلةِ المشرق ، بنحو اكتفى منه بوصف البيئة الجغرافية للعنصر البشري الذي واجهه البطل؟

في تصوّرنا ـ فنّياً ـ أنّ عنصر التماثل من خلال التضاد ، و التضاد من خلال التماثل ، يجسّده النصُّ هنا في مفردة جديدة هي: التقابل في الرحلتين بين وصف بيئيٍّ يتصل أحدهما باستجابة البطل في رحلته المغربية ... و الوصف البيئي الآخر يتصل باستجابة القوم ، و ليس البطل.

ففي رحلة المغرب ، لفت النصُّ انتباهنا إلى وقوف البطل على أسرار غيبية حِيلَ بين العاديين من البشر و بين معرفتها ، بينما اُحيط البطل بها.

أمّا في رحلة المشرق ، فقد لفت النصُّ انتباهنا إلى بيئة جغرافية تتصل بالأقوام و طبيعة تكيّفهم مع تلك البيئة ، و هو رسمٌ مصحوبٌ بالدهشة أيضاً مادام الأمر كما تقول بعض النصوص المفسّرة ، من أنّ اُولئك الأقوام كانوا يغورون في المياه عندما تشرق الشمسُ عليهم ، و يمارسون نشاطهم مع غروب الشمس ممّا يكشف عن دلالة ما تقوله القصة في وصفها للبيئة المذكورة ، من أنّ الشمس:

﴿تَطْلُعُ عَلى قَوْم لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً

إذن في الحالتين نواجه وصفاً إعجازياً أو على الأقل مُدهشاً من حيث عدم انتساب البيئة إلى ما هو مألوف. كلّ ما في الأمر أنّ الوصف الأوّل يتصل بشخصية ذي القرنين ، و الآخر بشخصيات الأقوام.

يضاف إلى ذلك أنّ النص ـ و قد مهّد في مقدّمة القصة بتمكّن ذي القرنين ـ دلّنا بوصف الرحلة المشرقيّة على بُعد من أبعاد التمكين الذي وفّرته السماء للبطل ، مثلما أطلعتنا على البيئات المختلفة للعنصر البشري من حيث تخلّف البعض حضارياً ، أو فكرياً ... و من حيث التكيّف البيئي الذي تصحبه صعوبات عند بعض الأقوام ، و عدمه عند أقوام آخرين. كلّ ذلك سيترك آثاره الفكرية عند المتلقّي دون أدنى شك ، ممّا يدفعه إلى إعمال فكره في إبداع السماء ، و عطائها ، و حكمتها في تسيير الكون و المجتمع و الفرد.

* * *

و مع انتهاء القسم الثاني من قصة ذي القرنين نواجه القسمَ الأخير من القصة ، أي القسم الثالث منها ، و هو حافلٌ بأحداث و مواقف و بيئات أكثر تفصيلا من القسمين السابقين.

كما أنـّه من حيث الشكل الهندسي يظل خاضعاً لنفس العمارة الفنّية التي لحظناها في القسم الأوّل و الثاني ، سواء أكان ذلك متصلا بوصف البيئة ، أو برسم ملامح الشخوص ، أو المواقف. مع ملاحظة أنّ القسم الثاني من القصة و هو القسم الذي يتناول رحلة البطل إلى مطلع الشمس ، قد اُكتُفي منه بوصف البيئة الجغرافية وصلتها بالأقوام الذين واجههم البطل ، بينما يظلّ القسم الأوّل و القسمُ الثالث من القصة كما سنرى ، حافلين برسوم شتّى عن التعامل القائم بين البطل و قومه ، أو بين البطل و أقوام آخرين ، على نحو ما سنوضحه مفصلا.

و لكن لنقرأ أوّلا نصوص القصة يقول النص عن الرحلة الثالثة:

﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً

﴿حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ

﴿وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً

﴿قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ

﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا

﴿قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً

﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ

﴿قالَ انْفُخُوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً

﴿فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً

﴿قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

بهذا النص القصصي المُمتع تنتهي قصة ذي القرنين.

و لكن ، كيف تمّت صياغةُ النص فنّياً و فكرياً؟ ما هي صلته بالقسمين المتقدّمين من القصة؟

يبدأ القسمُ الثالث من قصة ذي القرنين برحلة ثالثة نحو السدَّين اللذين جُعلَ حاجزٌ بينهما و بين أقوام يأجوج و مأجوج.

هذه الرحلة تختلف عن سابِقتَيها في جملة من المعالم ، منها:

أنّ الرحلة تتجه نحو أحد مجاهيل الأرض حيث الظُلمة و أنّها تخصّ تعامُلَ ذي القرنين مع قوم يستعينون به ضد أقوام غزاة ، و إلى أنـّها تحفل ببيئة صناعية متصلة ببناء السدّ.

و السؤال هو عن عمارية هذا القسم من القصة من حيث صلتها بالقسمين السابقين ... فمن حيث البيئة:

1 ـ إنّ الأقسامَ الثلاثة من قصة ذي القرنين تنتظم في بناء هندسي عام هو:
الرحلة.

2 ـ إنّ الرحلات الثلاث ، يتّجه كلٌّ منها نحو أحد أجزاء الأرض.

3 ـ الرحلات الثلاث تتعامل مع بيئات تنتسب إلى غير المألوف ، و غير الاعتيادي منها.

أمّا من حيث صلة القسم الثالث بالقسم الأوّل و الثاني من القصة ، فيتمثّل من حيث الشخوص في:

1 ـ إنّ أقوام المغرب كانوا كافرين. في حين نَسَجَ النصُّ صمتاً حيال أقوام المشرق ، بينما كان أقوام بين السدّين مستضعفين بعامة ، قبال أقوام غزاة يزحفون عليهم فيأتون على مزارعهم و لحومهم و دوابّهم.

2 ـ أقوام المغرب تُعومِل معهم بالتخيير بين قتلهم و العفو عنهم لإرجاعهم إلى الصواب، بينما تعومل مع أقوام بين السدّين على صعيد المساعدة و نُسج الصمت حيال المشرقيين كما تقدّم.

3 ـ المشرقيون طبعتهم سمةٌ جسميةٌ هي: إحالةُ ألوانهم بسبب حرارة الشمس التي لم يُجعل دونها ستراً. في حين طبعت أقوامَ بين السدّين سمةٌ لغويةٌ غير مفهومة و نُسج الصمت حيال سمات المغربيين الجسمية.

و أمّا من حيث الأحداث ، فإنّ بناء السدّ و منع الغزو يطبعان رحلة بين السدّين ، و عملية القتل و العفو طبعا رحلة المغرب.

و المهم أنّ العمارية المذكورة تنتظم أشكالا هندسيّة مختلفة من البناء ، لكنها تتوازى و تتناسب و تتقابل وفق تخطيط بالغِ الجمالِ و الدلالة ، من خلال شكل هندسي عام يوحّد بينها ، هو الرحلة ، ثمّ من خلال خطوط ثانوية تنتظم حيناً في الرحلات الثلاث ، و حيناً في الرحلتين: الاُولى و الثانية ، أو الاُولى و الثالثة ، أو الثانية و الثالثة على النحو الذي أشرنا إليه.

* * *

و الآن كيف تمّت صياغة الشكل القصصي لهذا القسم من قصة ذي القرنين في رحلته الأخيرة.

تبدأ الرحلة الثالثة على هذا النحو:

﴿حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً

إنّ أوّل ما يلفت الانتباه في هذه الرحلة و سابقتيها ، هو أنّ النص يُحدّد أوّلا أرضاً مجهولة ، لكنّها لافتة للنظر من حيث غرابة موقعها. فهنا تتجه الرحلة إلى ما بين السدّين و هو مكان مجهولٌ لكنّه متميّز من حيث كونه متصلا ببيئة متميّزة ، و هي بين السدّين. و كان الأمر يحمل نفس الطابع بالنسبة إلى مغرب الشمس و مطلعها.

و الطابع الآخر الذي يلفت الانتباه ، هو: وصول ذي القرنين إلى أقوام متميّزين أيضاً بنحو يتساوق فنّياً مع تميّز البيئة التي تكتنفهم. فهنا أقوام لا يكادون يفقهون قولا ... و هناك في الرحلة الثانية أقوامٌ يغورون في المياه عند طلوع الشمس ...

نحن إذن أمام بيئة خاصّة ، و أمام شخوص يحملون سمات خاصّة ، ثمّ نحن أمام رحلة خاصة مطبوعة بسمة الإعجاز أو المُدهش أو الخاص فضلا عن أنـّنا أمام بطل خاص تطبعه نفس السمة المُدهشة.

هذه الأبعاد المتجانسة: بطلا و شخوصاً و بيئةً ، بل و مواقف و أحداثاً كما سنرى ، تشدّ انتباه المُتلقّي دون أدنى شك ، و تدعه أسير جمالية فائقة تشي بسحرها الفنّي الممتع ، ممّا يقف حيالها موقف الدهشة و الانبهار.

و لكن لِنتابع أسرار هذه الرحلة المُدهشة.

لنقف أوّلا مع الموقع الذي انتهت الرحلةُ إليه ، و الشخوص الذين واجههم البَطل.

* * *

تقول النصوص المفسّرة: إنّ ذا القرنين سلك طريق الظُلمة في رحلته الثالثة حتّى وصل إلى موقع يُسمى بــ : «بين السدّين» حسب لغة النص القصصي نفسه:

﴿حَتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ

و أيّا كان هذا الموقع فإنّ طبيعة الأقوام الذين يعيشون فيه طبعتهم سمة عدم تفقّههم للقول.

هذه السمة ينبغي أن نقف عندها ، لنتعرّف على دلالتها الفنّية في القصة.

إنّ المتلقّي يتساءل ، كما تساءَل من قبلُ عن التفسير الفنّي لأقوام المشرق الذين لم تسترهم الشمس ، يتساءل الآن أيضاً عن التفسير الفني لهؤلاء الأقوام الذين لا يكادون يفقهون قولا.

و النصوص المفسّرة تميل في تحديد هذه السمة ، إلى أنـّها تتمثّل في لغة لم يفهمها غيرُ أقوام بين السدّين.

و الحقّ ، أنّ لغة أيّ قوم لا تكاد تُفقه لدى اللغات الاُخرى ، إلاّ لأنفار ضئيلي العدد بالقياس إلى الغالبية. و هذا يعني أنّ تخصيص أقوام بين السدّين بعدم التفقّه ، يظلّ موضع تشكيك إذا كان الأمر عامّاً بالنسبة لكلّ اللغات ... ففيم التخصيص إذن؟

و في تصوّرنا أنّ عدم التفقّه من الممكن أن يكون ناجماً عن التخلّف الحضاري لاُولئك الأقوام و انعكاس هذه البدائية على لغتهم من حيث شحوب مفرداتها و دلالاتها.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ ذا القرنين مادام يحمل سمةٌ إعجازية ، يظلّ تعامُله اللغوي مع القوم واضحاً محدّداً لديه.

بيد أنّ السؤال هو: ما هي الدلالة الفنّية لرسم السمة المذكورة في القصة؟

* * *

إنّ المتتبّع لملابسات الرحلة التي واكبت ذا القرنين في أقسامها الثلاثة ، يلحظ أنّ النص كان يُشدّد على ما هو نادر ، أو ما هو في لغة علماء الأقوام يمثّل مجتمعات منعزلة أو متخلّفة أو واقعة في أقصى الأرض ، بعيدة عن أضواء الحضارة.

و مع أنّ طبيعة الفترة الزمنية لذي القرنين تمثّل في حدّ ذاتها عصوراً ضاربة في القِدم على النحو الذي ترويه بعض النصوص ، فيما تذهب إلى أنـّها فترة أعقبت زمان نوح (عليه السلام) ، أيّ في القرون الاُولى من التأريخ ... إلاّ أنّ هذه القرون ذاتها شهدت بعض الأنماط الحضارية التي لابدّ أن تتفاوت من موقع لآخر في معالمها الحضارية ، أو على الأقل ، فإنّ أقاصي الأرض لابدّ أن تظلّ أضأَلُ حظاً من سواها في المَعلَم الحضاري.

و المهمّ أنّ الرحلة مادامت تستهدف ـ كما لحظنا ذلك في الرحلتين السابقتين ـ إرتياد المجتمعات النائية أو المنعزلة أو المتميّزة بسمة من السمات ... فحينئذ يكون التشدّد على إبراز معالمها المتميّزة أمراً تفرضه ضرورة الفنّ ، فضلا عن أنّها تكشف عن دعم السماء لأيّة شخصية تُخلص في أداء وظيفتها العبادية ، بحيث تُذلّل السماء لها كلّ صعوبة سواء أكانت الصعوبة تتصل بتطويع الأرض، أو بتسخير الجو من سحاب ، أو نور يستعين به البطلُ المؤمن في تحقيق هدفه العبادي ، كما هو شأن ذي القرنين حينما طويت له الأرض و وفقاً للنصوص المفسّرة ، و حينما سُخّر له السحاب ، و حينما سُخّر له النور حتّى يبصر الظلمات ... أو كما نتوقع بوضوح أن يُدرك لغة القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا بحيث يستطيع أن يفقّههم كلامه حينما يأمرهم ـ كما سنرى ـ بتهيئة الوسائل اللازمة لبناء السدّ.

بدأت الرحلة الثالثة من رحلات ذي القرنين مع وصوله إلى الموقع الذي أسماه النص القرآني الكريم بـ : «بين السدّين» حيث يواجه قوماً لا يكادون يفقهون قولا.

و مع هذه المواجهة ، يبدأ القسمُ الثالث من القصة برسم بيئة نستكشف من خلالها أحداثاً و مواقف و شخوصاً و صراعات ، يرسمها النصُّ على هذا النحو الذي تنقله الفقرةُ الحواريةُ التي وجّهها الأقوام الذين لا يكادون يفقهون قولا:

﴿قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ

﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا

إنّ هذا الحوار الموجّه إلى ذي القرنين ينطوي على جملة من الخصائص الفنّية ، ينبغي أن نقف عندها.

لقد اختزلت القصةُ طريقة المواجهة ، بل قد اختزلت قبل ذلك هدف رحلة ذي القرنين إلى هذا الجزء من الأرض.

بيد أنّ المتلقّي سيستخلص أنّ ذا القرنين قد اتّجه إلى هذه الأرض بناءً على أمر ألهمته السماءُ إيّاه. و سيستخلص المتلقّي أيضاً أنّ ذا القرنين عند وصوله لهؤلاء القوم الذين لايكادون يفقهون قولا ، قد تفقّد حالتَهم وفق لغة خاصة علّمته السماءُ إيّاها ، و إلى أنـّهم قدّموا شكواهم من المفسدين: أقوام يأجوج و مأجوج ، و اقترحوا على البطل أن يبني لهم حاجزاً يحول دون المفسدين.

كلّ ذلك يستخلصه المتلقّي خلال الاقتصاد اللغوي الذي توفّر النصُّ القرآني عليه ، بل من خلال حوار واحد يوجّهه القوم إلى البطل ، فيما يكتنزُ هذا الحوار الفنّي بدلالات متنوعة تكشف عن مواقف و أحداث أوكلَها النصُّ إلى استخلاص المُتلقّي.

و يُلاحظ أيضاً أنّ الحوار المذكور قد سكت عن تحديد الملامح الداخلية أو الخارجية لأقوام يأجوج و مأجوج ، مكتفياً من ذلك بتعريفهم بأنّهم مفسدون.

هذا الإبهام لهوية الغُزاة ، يظل بدوره سرّاً فنّياً يصوغه النص على النحو المتقدّم بُغية منح المجال للسامع أو القارئ أن يكتشف بنفسه مستخلصاً ، و مستفهماً ، و متأمّلا أبعاد سمة المفسدين ، مادام الأمر من الوجهة الفنّية غير منصبّ على تحديد مفردات الإفساد ، بل مطلق الإفساد الذي يتطلّب وسيلةً لمحوِهِ.

و ها هي الوسيلة ، أو الحلّ ، أو المواجهة تأخذ فاعليتها في الاقتراح أو الشكوى التي يقدّمها المستضعفون إلى بطل القصة.

* * *

و حين نظلّ بعيداً عن الاستكشاف الموكول إلى المتلقّي و نتجه إلى النصوص المفسّرة ، حينئذ نجد أن هذه النصوص تُلقي إنارة كاملة على هوية المفسدين و طبيعة نشاطهم.

فالنصوص المفسّرة تقدّمهم لنا مجموعتين من الاُمم ، تنتظمهم أصناف ثلاثة من حيث الملامح الخارجية لهياكلهم ، و كلّها تتسم بما هو غير عادي ضخامةً ، أو طولا أو عُرضاً ، أو قوّة أو سلاحاً ... إلى آخره.

و أمّا نشاطُهم المفسد ، فيتمثّل في إغارتهم على المستضعفين ـ أقوام بين السدّين ـ حيث كانوا يأتون على زرعهم و دوابّهم و لحومهم.

و واضحٌ أنّ هذه السمات غير العادية التي سردتها النصوص المفسّرة ، تظلّ متساوقة مع السمات غير العادية التي صاغتها القصة: أحداثاً أو مواقف أو شخوصاً.

و المهمّ أنّ النص القصصي و هو يُبهم ملامحَ الغُزاة ، يقدّمهم لنا نموذجاً من المفسدين ، لابدّ أن تضع السماءُ حدّاً لإفسادهم من خلال رحلة قد خُطِّطَ لها على نحو ما أنهاه الحوار المذكور ، حيث أنهاه إلى تلك الشكوى ... إلى ذلك الاقتراح ببناء السدّ.

و هنا لا مناص من التوقّف عند الاقتراح الذي قدّمه المستضعفون من حيث اقترانه بإعطائهم أجراً لذي القرنين على إنقاذهم.

لنقرأ من جديد:

﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا

إنّ الضبابيّة الفنّية الجميلة التي غلّفت حوار القوم مع ذي القرنين ، و الصمتَ الذي نسجه النصُّ حول طريقة المواجهة و التعرّف ، بل الصمت الذي نسجه النصُّ حيال شخصيات هؤلاء القوم و طريقة تعاملهم الاجتماعي ، كلّ ذلك يدعنا أن نستخلص ـ على الأقل ـ أنّ هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولا ، قد دفعتهم المأساة إلى التعامل مع ذي القرنين بنحو يبتغون من خلاله أن يُنقَذوا بأية حال ، و أن يقدّموا بديلا لعملية الإنقاذ ، بغضّ النظر عن هوية البطل الذي أرسلته السماء ، و إدراك ما إذا كان مثل هذا البطل يتعامل مع البدائل أو الشكر أو غيرهما من سمات التعامل الأرضي. و لعلّ تخلّفهم أو عزلتهم ، أو بكلمة اُخرى لعلّ عدم معرفتهم بالبطل هو الذي دفعهم إلى تقديم المكافأة.

و ممّا لا شك فيه أنّ مثل هذا الاقتراح يكشف ـ من خلال الانتقاء الفنّي له ـ عن مدى الاستضعاف الذي لحق هؤلاء القوم من جانب ، و مدى الأذى الذي يعانونه من جانب آخر ، بحيث يمكننا بسهولة أن نُدرك القيمة الفنّية التي أبرزها النص لنا بتقديمه اقتراح المكافأة المذكورة.

بالإضافة إلى هذا فإنّ اقتراح المكافأة سيُلقي بإنارته ـ فنّياً ـ على جواب ذي القرنين ، وصلة ذلك بما تستهدفه السماء من التشدّد على أنّ عطاءها و ليس عطاء الآخرين هو الذي يقلّب الموازين و يضع حدّاً للمأساة و للإفساد.

و لنرَ جواب ذي القرنين على الاقتراح المذكور.

* * *

لقد أجابَ ذوالقرنين على شكوى المستضعفين و اقتراحهم بتقديم المكافأة ...
أجابهم بما يلي:

﴿قالَ: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ

و هذا هو جوابه على المكافأة.

أما جوابه على الشكوى ، فهو:

﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً

﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ

﴿قالَ: انْفُخُوا حَتّى إِذا جَعَلَهُ ناراً

﴿قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً

﴿فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً

﴿قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي

﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

بهذه الإجابة تنتهي قصة ذي القرنين.

بيد أنـّنا ننوي أن نتحدّث عن المكافأة و الإنقاذ اللذين رافقاً هذه الإجابة ، و ما ينطويان عليه من أسرار فنّية أولا ، و بما واكبهما من أحداث قد انتهت ببناء السدّ ، و مواقف قد انتهت بقول البطل: ﴿هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ، و بمواقف و أحداث تتصل بين إنجاز يتمّ إلى حين ، وصلته باليوم الآخر عندما تتلاشى الأرض و مَن عليها.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page