• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الكهف : قصَّة رحلة مُوسَى (عليه السلام)

 تمهيد

لو دققنا النظر في هذه القصة لأمكن للبعض من القرّاء مثلا أن يقرّر بأنّ قصة رحلة موسى (عليه السلام) المتمثّلة بلقائه مع الخضر (عليه السلام) لا علاقة لها بالقصص الثلاث التي لاحظناها ، من حيث كونها تتحدّث عن شخصين مصطفين تتناول القصة مستوى
إحاطتهما بالبعد المعرفي ، بخاصة فيما يتصل بقناة المغيب و الأسرار المواكبة لها ، و لكنّنا سنرى أنّ لهذه القصة بدورها خيطاً عضوياً يصل بين قصص السورة المباركة.

إذن لنتحدّث عن القصة المذكورة ، فنقول:

هذه هي القصة الرابعة في سورة «الكهف» بغضّ النظر عن تسلسلها في السورة ، حيث جاءت ثالثة القصص منها.

و ممّا لا شك فيه أنّ التسلسل ـ كما سنرى ـ خاضعٌ لهيكل السورة بأكملها، لكننا الآن نُعنى بهذه القصة من حيث صلتها بالقصص الاُخرى من جانب ، و بمقدّمة السورة التي طرحت مفهوم نبذ الحياةِ الدنيا و زينتِها من جانب آخر.

لقد لحظنا كيف أنّ القصص الثلاث التي سبق التحدّث عنها مفصلا ... كيف أنّها عالجت مفهوم الزينة و طرائق الاستجابة حيالها.

فقصة أهل الكهف تناولت نبذ الحياة و زينتها من خلال أبطال أهل الكهف أنفسهم ، حيث نبذوا متاع الحياة و اتّجهوا نحو الكهف في سياق المناخ الاجتماعي الذي فرض عليهم أن يختاروا العزلة بدلا من النشاط ، مادام النشاط في المناخ المذكور لم يسمح للأبطال أن يمارسوا وظيفتهم الخلافية على الأرض.

و هؤلاء على العكس تماماً من ذي القرنين ، حيث تحرّك في قلب الحياة بأكملها ، حتّى استولى على مشرق الأرض و مغربها ، في حين لم تَسَع أصحاب الكهف حتّى الرقعة الصغيرة من مسافة الأرض.

هذا التقابل بين أبطال قصة الكهف و قصة ذي القرنين يكشف لنا بوضوح عن أنّ السياق الاجتماعي هو الذي يفرض حيناً تحرّكاً في قلب الأحداث ، و حيناً آخر سكوناً حيالها ، مادام الأمران محكومين بالطابع الخلافي أو العبادي بالرغم من تضادّ الموقفين.

و المهم ، أنّ الموقفين ـ على تضادهما ـ يعكسان دلالةً واحدة عن نظرة الأبطال ـ في القصتين ـ عن الحياة و زينتها.

فأبطال الكهف نبذوا زينة الحياة من خلال لجوئهم إلى الكهف. و ذوالقرنين نبذ زينة الحياة من خلال تحرّكه في قلب الأحداث ، ممّا لم تحتجزه سيطرتُه على شرق الأرض و غربها من التعامل مع السماء و الاحتفاظ بدلالة مفهوم الخلافة.

و هذا على العكس تماماً من صاحب المزرعتين حيث احتجزه التملّك الضئيل لبعض أمتعة الحياة و زينتها ... احتجزه من التعامل مع السماء بالنحو الذي يتطلّبه مفهوم الخلافة أو العبادة على الأرض ، فيما أصبحت نهايته آسفة على ضياع متاعه العابر: الجنّتين.

إذن القصص الثلاث حامت بأكملها على دلالة الحياة و زينتها ، و طريقة الاستجابة حيالها على النحو الذي فصّلناه سابقاً عند حديثنا عن القصص الثلاث.

* * *

و الآن نواجه قصةً جديدة هي قصة رحلة موسى ... ترى هل تحوم هذه القصة على الحياة و زينتها أيضاً، ثمّ طريقة الاستجابة حيال الزينة المذكورة؟

البناء الفنّي

إنّ طبيعة البناء الفنّي أو الهندسي لمقدمة السورة سورة «الكهف» تدلّنا على أنّ هذه القصة ، قصة رحلة موسى أو قصة موسى و العالِم ، لا مناص من أن تكون بدورها حائمة على مفهوم الزينة و طريقة الاستجابة حيالها.

فمادامت مقدّمة السورة:

﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَها

﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً

مادامت هذه المقدّمة حائمة على الزينة و طريقة استجابتنا حيالها ، و مادامت القصصُ الثلاث: أهل الكهف ، صاحب الجنّتين ، ذوالقرنين حائمة بأكملها على مفهوم الزينة أيضاً ، حينئذ نتوقّع ـ من خلال معايير الفنّ الذي توفّر النصُّ القرآني عليه ـ أن تكون هذه القصة قصة موسى مع العالِم ، حائمةً أيضاً على مفهوم الزينة و استجابة الآدميّين حيالها ، ولكن قبالة بطلين ، كلّ واحد منهما يمارس دوراً إيجابياً حيال الزينة ، ولكن ثمة محور خارجي تركّز عليه القصة بنحو خاص.

و لكن ، كيف نتبيّن ذلك؟

* * *

ونكرّر الإشارة إلى أنـّه قد يبدو لأوّل وهلة أنّ وقائع قصة رحلة موسى وهي قصة تحوم على واقعةِ سفر نحو إحدى بقاع الأرض بصحبة أحدهم ، ثمّ مواجهته لإحدى الشخصيات التي قامت ببعض الممارسات المتصلة ببناء جدار ، و إعطاب سفينة ، و قتل غلام ، كأنّ هذه الوقائع و ما رافقتها من مواقف متصلة بعلاقة موسى مع الشخصية المذكورة ... تظلّ بمنأى عن دلالة الزينة في الحياة و طريقة الاستجابة حيالها.

بيد أنّ التدقيق في وقائع هذه القصة و مواقفها و شخوصها و بيئتها التي تحرّكت في النطاق المذكور ... يدلّنا على أنّ هذه القصة بدورها تحوم على دلالة الزينة و طريقة استجابة الأبطال حيالها.

بيد أنّ الفارق ـ فنّياً ـ بين هذه القصة و القصص الثلاث ، أنّ كل واحدة من القصص الأربع ، تتناول نمطاً خاصاً من الزينة ، و استجابةً خاصة حيالَها ، مع ملاحظة أنّ كلاّ منها يطرح في الآن ذاته أكثر من مفهوم يستهدف النصُّ القرآني الكريمُ توصِيلَه إلينا من خلال القصص الأربع.

و من هنا نُدرك قيمة الفنّ الذي نستجيب لصياغته على النحو المذكور ، حينما نجد أنّ قصة موسى (عليه السلام) مع العالِم ستفصح عن إبراز إحدى دلالات النبذ لِزينة الحياة من خلال البطل العالِم. و إلى أنّ الوقائع التي رافقت سلوك العالِم ، تظلّ متجانسةً ـ فنّياً ـ مع الوقائع التي رافقت حياة ذي القرنين ... و إلى أنّ المواقفالجديدة ستتلاقى مع مواقف سابقة طرحتها القصصُ الثلاث توافقاً أو تضاداً ... و إلى أنّ طرحاً جديداً تتوفّر القصةُ الرابعةُ عليه ، تماماً كما توفّرت القصصُ الثلاث على طرح يتميّز أحدُه عن الآخر.

كلّ ذلك من الممكن أن نلحظه بوضوح حين نبدأ الآن بدراسة هذه القصة و صِلتها بالقصص الثلاث ، و صِلة اُولئك بمقدمة سورة «الكهف».

إنّ الرابطة الفنّية التي تصل بين قصة موسى مع العالِم و قصص سورة «الكهف» ،
تتمثّل في شخصية العالِم الذي لم يعرفه حتّى موسى (عليه السلام).

إنّ هذا العالِم قد أخفى شخصيته على نحو لم يسمع به معاصروه و غيرُ معاصريه ، إلاّ في نطاق التعرّف الذي يخصّ بعض الشخصيات التي اصطفتها السماء ، أو التعرّف الذي سمحت به السماء لغير معاصريه ، أو لغير المصطفين في نطاق التعرّف العلمي الصرف من نحو ما نعرفه جميعاً عن الشخصيّة المذكورة ، خلال رجوعنا لمصادر التفسير أو التأريخ.

و المهم أنّ إبهام هذه الشخصية أو خفاءها عن الآخرين يدلّنا على أنـّها لم تُعنَ بما تُعنى به الشخصيةُ الأرضيةُ عادة من البحث عن تقدير اجتماعي يُشبع حاجتها إليه ، بصفته أشدّ الدوافع البشرية لصوقاً بــ الذات.

و واضح أنّ التأكيد على الذات و التعريف بها أمام الآخرين ، و منه: التقدير أو الثناء أو المكانة الاجتماعية التي تتطلّع الشخوص إليها ، يُعدّ من أبرز مظاهر الزينة الدنيوية التي يُعنى بها الآدميّون. فإذا ألغت الشخصيةُ هذه الحاجة إلى معرفة الآخرين بها ، و بخاصة إذا كانت الشخصية ذات كفاءة علمية تفوق حتى شخصية موسى (عليه السلام) ، حينئذ نستكشف بوضوح أنّ هذه الشخصية قد ألغت الحياة و زينتها من الذاكرة تماماً ، و تمحّضت في نشاطها العبادي للّه وحده.

و هذا كلّه من حيث صلة هذه الشخصية العالِم بمقدمة سورة «الكهف» التي تحوم حول مفهوم زينة الحياة الدنيا ، و طريقة الاستجابة حيالها.

* * *

أمّا من حيث صلتها بسائر الأبطال الذين انتظمتهم قصصُ سورة «الكهف»:
ذي القرنين ، و صاحب الجنّتين ، و أصحاب الكهف ، فإنّها تتحدّد بوضوح حين نوازن بين العالِم و الشخوص المذكورين من حيث طرائق استجابتهم لزينة الحياة.

فصاحب الجنّتين يظلّ هو الشخصية الوحيدة التي استجابت لزينة الحياة استجابةً مريضة ، على العكس من شخصية ذي القرنين التي وظّفت نشاطها للسماء ، أو شخصيات أصحاب الكهف الذين هربوا من زينة الحياة و اتّجهوا إلى كهف منزو لم يتعرّف عليه الآخرون.

أمّا العالِم ، فإنّ استجابته لزينة الحياة فواضحة تماماً ، مادامت قد اختفت من الزينة بكلّ أشكالها ، بما في ذلك الزينة المعنوية المتمثّلة في البحث عن التقدير الاجتماعى ، أو التعرّف على الذات.

و خارجاً عن الصلة الفنّية بين شخصية العالِم و شخصيات القصص الثلاث في سورة «الكهف» ، أو صلة العالِم بمقدّمة السورة ... خارجاً عن ذلك ، فإنّ هذه الشخصية مضافاً إلى شخصيتَين اُخرَيَيْن في قصة موسى مع العالِم ، و نعني بهما موسى و صاحبه الذي رافقه في السفر ، ... هذه الشخصيات الثلاث تظلّ من جانب آخر جزءً من المفهومات التي تطرحها القصة أمام المُتلقّي ، فيما تستهدف صياغة جملة من الأفكار التي سنوضحها مفصّلا.

لكننا قبل كلّ شيء ينبغي أن نقف على الشكل الفني للقصة ، و ما تتضمّنه من عناصر جمالية في هذا الصدد.

* * *

بدأت قصة موسى مع العالِم على النحو الآتي:

﴿وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ

﴿لا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً

هذه البداية القصصية التي تنطوي على جملة من أسرار الجمال الفنّي المتصل ببناء القصة ، ينبغي أن نقف عندها.

فأوّلا: بدأت القصةُ من عنصر الحوار و ليس من خلال السرد ، متمثّلا في تلك الفقرة التي بدأت على هذا النحو: ﴿و إذ قال موسى لفتاه ... إلى آخره.

ثانياً: منذ اللحظة الاُولى نتعرّف على وجود بطل آخر مع موسى ، هو: فتاه أو صاحبه.

ثالثاً: نتعرّف منذ البداية على حادثة سَفَر يعتزمه موسى﴿أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ ...إلى آخره.

رابعاً: نتعرّف على بيئة قصصية معيّنة هي: مجمع البحرين.

إذن منذ البداية نتعرّف على جملة من عناصر النص القصصي: أبطال و حوادث
و بيئات ، فضلا عن واحدة من أدوات القص: الحوار.

كلّ ذلك يتم من خلال فقرة حوارية واحدة بدأتها القصةُ.

و ممّا لا شك فيه ، أنّ المتلقّي الذي يمتلك خبرة فنّيةً في عملية التذوّق القصصي يُدرك جماليةَ أو خطورةَ مثل هذه الفقرة الحوارية المكتنزة بعناصر القص.

و يعنينا الآن بعد التعريف بالعناصر المذكورة ، أن نتبيّن قيمة هذه البداية القصصية ، و ما ترهص به من أحداث و مواقف و بيئات لاحقة ، يظل بعضُها موشَحاً بالإبهام الفنّي الجميل ، و بعضُها الآخرُ يأخذ تفصيلات محدّدة ، تكشف الأجزاءُ اللاحقة من القصة عنها كما سنرى.

* * *

إنّ أوّل ما يواجهه المتلقّي في هذه البداية القصصية ، هو غموض الموقف حيال شخصية موسى. ترى ماذا يستهدف موسى (عليه السلام) من اعتزامه السفر نحو مجمع البحرين؟

ثانياً: مَن هو هذا الفتى الذي وجّهَ موسى خطابَه إليه؟

ثالثاً: ما دلالة هذا الزمن الذي يمتدّ حقباً بحيث يحرص موسى (عليه السلام) عليه بهذا النحو من الحرص؟

هذه الأسئلة تواجه المتلقّي منذ البداية.

و مع أنّ أحداث القصة ستجيب على هذه الأسئلة ، و مع أنّ نصوص التفسير ستكشف جانباً من الغموض الفنّي الذي يحيط بهذه البداية القصصية ... إلاّ أنّ المتلقّي يظلّ بطرحه الأسئلة المذكورة ، مُساهماً بشكل أو بآخر في عملية الكشف الفنّي بما سيستخلصه بعيداً عن نصوص التفسير من دلالات متنوّعة في نطاق التذوّق الجمالي الصرف.

إنّ أهم ما يواجه المتلقّي فيما يتصل بشخصيّة الفتى ، هو:

طبيعة الدور الثانوي لهذا البطل في القصة ، هل أنـّه صحب موسى (عليه السلام) لمجرّد ضرورة وجود الصاحب في الطريق ، أو أنـّه صحبه بغية أن يخدم موسى (عليه السلام) ، أو أنـّه يجسّد عنصراً ستكشف القصة عن أنـّه كان ضرورياً لتذكير موسى (عليه السلام) ببعض ملابسات الموقف ممّا يُعدّ ضرورة فنّية ، أو أ نّه صحبه ليفيد من العالِم أيضاً؟

لا شك أنّ نصوص التفسير قد لا تجيب على الأسئلة المذكورة جميعاً ، بقدر ما تحوم على دلالة الخدمة ، أو إفادة كليهما من العالِم الذي سيواجههما. غير أنّ المتلقّي يستطيع أن يستكشف دلالات اُخرى سنقف عليها مفصلا.

و الأمر ذاته فيما يتصل بالبيئة التي أسماها النص بــ : «مجمع البحرين» ، و علاقتها بطول السفر الذي حدّده موسى (عليه السلام) ، أو أعلن عن اعتزامه لقطع الأميال الطوال من خلاله ، بغية الوصول إلى الهدف الذي أعلنت القصة عنه فيما بعد.

إنّ استكشاف الدلالات المتنوّعة لهذه البيئة و تلك الشخصية ، فضلا عمّا سنواجه من بيئات و أبطال آخرين متآزرة مع نصوص التفسير ، ستعمّق دون أدنى شك من جمالية التذوّق لهذه القصة.

* * *

بدأت قصة موسى و العالِم بالفقرة الحوارية:

﴿وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً

و مثلما رأينا فإنّ هذا القسم من القصة دلّنا على شخصيّتين هما: موسى و الفتى.
كما دلّنا على عملية سفر نحو مجمع البحرين ، دون أن نُدرك دلالة هذا السفر و هدفه و نتائجه.

و مع القسم الثاني من القصة ، فيما يشكّل امتداداً للبداية ، أو التمهيد الذي تُرسَمُ
فيه ملامح عامة عن الأبطال و البيئات و الأحداث و المواقف التي تأخذ تفصيلاتها فيما بعد ... مع القسم الثاني من القصة نبدأ بمواجهة التفصيلات الجديدة لعملية السفر ، كما نبدأ بالعثور على شخصية حيوانية سيكون لها تأثيرها الكبير على سير الأحداث.

إذن ، لنقرأ هذا القسم:

﴿فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً

هذه الفقرة من السرد تحفل بتطوير للأحداث ، و بإرهاص جديد بها.

فقد كشفت لنا عن أنّ موسى (عليه السلام) و فتاه قد قاما بسفرتهما فعلا ، و وصلا إلى الموقع الذي يستهدفانه.

بيد أنّ القصة مع وصولها بالأحداث إلى هذا الموقع ، تجابهنا بمفاجأة هي:
نسيان الحوت.

و برسمها لهذا العنصر المفاجئ، ترتدّ بنا القصة إلى الوراء ، أو بكلمة اُخرى:
برسمها لظاهرة الحوت تنهض القصة بمهمّتين فنّيتين مزدوجتين:

المهمّة الاُولى: هي إدخال عنصر جديد من عناصر القصة يُعدّ تكملةً للتمهيد الذي يتضمّن ـ عادة ـ رسوماً مُجملة لعناصر القصة التي ستتحرّك ضمنها ، و منها:
عناصر الأبطال أو البيئات ، حيث تجيء شخصية الحوت بطلا ثالثاً في القصة لا نُدرك مهمّته الثانوية بقدر ما نتعرّف في البداية على مجرّد كونه عنصراً له دوره في القصة.

المهمة الثانية: هي إدخال عنصر جديد من عناصر القصة ، ليس من حيث كونه تكملةً للتمهيد القصصي ، أو للفصل الأوّل الذي يتضمّن عادة التعريف بعناصر القصة و جزء من حركة الأبطال فيها ، بل من حيث كونه تقطيعاً للأحداث ، و عودة إلى بداياتها ، حتّى تستكمل القصة من خلال التقطيع و العَود صياغتها الكاملة في نهاية المطاف.

و من الواضح أنّ هذا المنحى في صياغة القصة ينطوي على إمتاع جماليّ كبير يتحسّس المتلقّي بجماليته الفائقة ، حينما يجد أنّ النص قد وفّر له إمكانات التذوّق بهذا النحو الذي يجمع بين إعطاء الملامح العامة لتحركات القصة و بين ارتداده إلى بداية القصة بعد أن يسرد طرفاً منها. و هذا ما لحظناه عندما أعطت القصة ملامح السفر ، و شخصيتي موسى (عليه السلام) و الفتى، ثمّ ارتدّت إلى الوراء لتقدِّمُ لنا ملمحاً عن الحوت وصِلته بعملية السفر بعد أن أنهت عملية السفر ، و وصلت بموسى (عليه السلام)و فتاه إلى مجمع البحرين.

للمرة الجديدة ، ينبغي ألاّ نمرّ عابراً على هذا المنحى القصصي و معطياته الجمالية بالنسبة للمتذوّق الذي خبُر طرائق الأدبِ القصصي في هذا الميدان.

* * *

و لنعد إلى ظاهرة الحوت و تحديد موقعها من القصة ، مستعينين بنصوص التفسير التي لا مناص من التوكّأ عليها لمعرفة البُعد الفنّي للظاهرة المذكورة.

لكننا قبل أن نرتكن إلى النصوص المفسّرة ، نتساءل:

هل ثمة امكاناتٌ لاستخلاص الدلالة الفنّية لظاهرة الحوت دون الارتكان للنصوص المفسّرة؟

إنّ المتلقّي من الممكن أن يستخلص بعض الدلالات الغامضة لهذا الحدث ، حدث الحوت و انسرابه في البحر ، لكنه يتعين عليه أن يتابع الجزء الثالث من القصة.

و لنقرأ:

﴿فَلَمّا جاوَزا

﴿قالَ: لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً

﴿قالَ: أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ

﴿وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً

﴿قالَ: ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً

إنّ هذا القسم من القصة و هو قسمُها الثالث ، سنقف عليه مفصلا ، لكننا الآن لا نستهدف منه إلاّ ظاهرة الحوت و إمكان استخلاص فنّي صرف حيال مهمّة الحوت في القصة.

إنّ القارئ أو السامع سيدرك بنحو غامض أنّ الحوت يشكّل على الأقل علامة أو دليلا على نمطين من التحركات داخل القصة ...

فأوّلا: ثمة صلة بين الحوت و بين تناول الغذاء.

و ثانياً: ثمة صلة بين الصخرة التي وقف عندها موسى (عليه السلام) و فتاه ، و بين سيان الحوت هناك ، و بين هدف الرحلة التي قام بها موسى (عليه السلام) و فتاه.

و بكلمة جديدة: أنّ رسم الحوت ينهض بمهمّتين مزدوجتين ، تتداخلان واحدة مع الاُخرى ، هما: مهمة الزاد الذي لا مناص من تهيئته لموسى (عليه السلام) و فتاه ، و مهمّة انسراب الزاد و إفلاسهما منه ، و صلة هذا الانسراب بمهمّة الرحلة الغامضة.

المتلقّي لا يمتلك سوى هذا النمط من الاستخلاص ، مع ملاحظة أ نّه سيقف ذاهلا عن إدراك العلاقة بين الزاد و انسرابه عنهم.

و المهم أنّ الرحلة مادامت محفوفةً بضبابية تتكشّف عنها الأحداث لاحقاً ، فإنّ لواحقها ستظل محفوفةً بالضباب الفنّي أيضاً فيما سيتكشّف بدوره مع متابعة القصة حتّى نهايتها كما سنرى.

إلاّ أنّ الصلة بين الانسراب و هدف الرحلة تظل على غموضها ، ممّا يتعيّن علينا أن نتجه إلى النصوص المفسّرة بغية تجليتها.

و مع ذلك ، فإنّ خطورة مثل هذه القصة الفنّية الممتعة ، تظل مرتبطة بما تتضمّنه القصة من ضبابية ممتعة ، بمقدور المتلقّي أن يتذوّق جماليتها ، و أن يستكنه أسرارها ، و يستخلص دلالاتها ولو على نحو مُجمل ، و هو دون أدنى شك يعود على المتلقّي بفائدة فنّية و فكرية لها أهميّتها في ميدان التذوّق.

* * *

إنّ المتلقّي بمقدوره أن يستخلص من القصة بأكملها ، أنّ موسى (عليه السلام) قد واجه العالِم في رحلته التي استهدف منها تلك المواجهة. و إلى أنّ الحوت كان بمثابة علامة لموقع المواجهة المذكورة. و إلى أنّ ذلك قد اقترن بظاهرة إعجازية هي:
انسراب الحوت في البحر ، بعد أن هيّأ الحوت زاداً لرحلة لا يعلم أمدها.

هذا الاستخلاص من الممكن أن يتمّ على النحو المذكور ، و من الممكن أن يتمّ على أشكال اُخرى يقترن فيها الحدث العادي مع الحدث المعجز ، و يقترن فيها الوضوح مع الضبابيّة ، مثلما تقترن فيها البيئة العادية مع البيئة الجميلة التي تمثّل الصخر ، و الحوت ، و الماء ، و البحر الذي ينسرب الحوتُ فيه ، و ما يواكب هذا الانسراب من تخيّل لما هو غير مألوف ... إلى آخره.

كلّ ذلك من الممكن أن يستخلصه المتلقّي ، كما قلنا.

بيد أن الرجوع إلى النصوص المفسّرة سيُلقي مزيداً من الإنارة على الاستخلاصات المذكورة ، ممّا تُثري عملية التذوّق الفنّي كما سنرى ذلك.

* * *

تحتلّ ظاهرة الحوت في قصة موسى و العالِم أهميّة فنّية في تأثيرها على رحلة موسى (عليه السلام) و في تطويرها للأحداث.

فلو عُدنا إلى النصوص المفسّرة ، للحظنا أنّ الحوت كان بمثابة دليللموسى (عليه السلام) في رحلته نحو مجمع البحرين بحيث يدلّه على العالِم الذي استهدفته رحلة موسى (عليه السلام).

بيد أنّ هذه النصوص لم تسرد لنا تفاصيل المهمّة التي اُوكلت إلى الحوت بقدر ما يمكننا أن نستخلص بعضها في الأجزاء اللاحقة من القصة.

إنّ المهم ـ و نحن في القسم الثاني من القصة ـ أن نلحظ مع نموّ القصة وجود بطلين وحوت و رحلة ، و أنّ الرحلة قد تمّت بوصول البطلين موسى (عليه السلام) و فتاه إلى مجمع البحرين.

لكنّ الذي حدث هو: أنّ البطلين قد نسيا حوتَهما ، و إلى أنّ الحوت قد اتخذ سبيله في البحر سَرَباً.

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ الحوت وثب في البحر ، و إنّه ترك أثراً في انسرابه متمثّلا في جمود ذلك.

و مع متابعتنا للقسم الثالث من القصة تبدأ الأحداث بالتكشّف ، و نبدأ بمواجهة تفصيلات جديدة عن مهمّة الحوت و صلتها برحلة موسى (عليه السلام).

فلقد جاوز موسى (عليه السلام) و فتاهُ مجمعَ البحرين ، الموقع الذي يستهدفه موسى (عليه السلام) و أحسّ عندها بالجوع و التعب:

﴿فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً

فأجابه الفتى عندئذ:

﴿أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ

﴿وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ

﴿وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً

إنّ إجابة الفتى تكشف لنا عن أنّ البطلين قد وصلا إلى موقع ما ، عند الصخرة.
و إلى أنـّهما قد نسيا الحوت هناك ، و إلى أنـّه قد وثبَ إلى البحر بنحو عجيب. 
و عندها يخاطب موسى (عليه السلام) فتاه:

﴿ذلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً

هذه الإجابة توضّح لنا أنّ موسى (عليه السلام) كان مستهدفاً في رحلته ذلك الموقع عند الصخرة ، و إلى أنّ ثمة صلة بين الموقع المذكور و بين انسراب الحوت في البحر ، و إلى أنّ الانسراب هو العلامة التي ينبغي أن يقف عندها في تحقيق هدفه من الرحلة ، و لذلك رجع موسى و فتاه إلى نفس الموقع الذي انسرب الحوت منه ، بعد أن جاوزاه.

* * *

بهذا القسم من القصة ينتهي شطرُها الأوّل ، أو لنقل: ستنتهي مقدمات الهدف الذي شُدّت الرحلة من أجله.

ثمّ يجيء شطرها الثاني و قد التقى فيه موسى (عليه السلام) العالِم. و تمّت بينهما محاورات سنقف عندها ، مصحوبة بأحداث مدهشة نُدرك من خلالها جميعاً هدفَ الرحلة التي قام بها موسى (عليه السلام).

إنّ ما نُعنى به الآن ، هو أن نقف مع الشطر الأوّل من القصة ، لنتعرّف على بِنائها الفنّي و شخوصها و بيئتها و أفكارها ، ثمّ نتجه إلى شطرها الآخر بعدئذ.

و لعلّ معرفة الأفكار في القصة تظلّ متّسمة بأهمية كبيرة مادامت الرحلةُ أساساً قائمة على بلوغ هدف فكري لموسى (عليه السلام) ، آن لنا أن نتحدّث عنه قبل أن نتجه إلى خصائص الشكل الفنّي للقصة.

تقول النصوص المفسّرة: إنّ السماء عندما منحت موسى (عليه السلام) عطاءات كثيرة ، بدءً من ظواهر الإعجاز المتمثّلة في: العصا ، و اليد ، و فلق البحر. مروراً بظواهر:
الطوفان و الدم و الجراد و الضفادع و القمّل و نحوها ، ممّا عوقب به قوم موسى (عليه السلام) نتيجةً لتمرّدهم عليه ، و انتهاءً بقضية تكليمه و نزول الألواح عليه تلك الألواح التي كُتب فيها:

﴿مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء

عندها دَاخَلَ موسى (عليه السلام) ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ شيءٌ من الزهو أو العُجب ، حيث حاور نفسَه قائلا بما مؤدّاه:

«لم يخلق اللّه أحداً أعلمَ منّي»

و نتيجة لهذا الإحساس أرادت السماء أن تطلِعَه على حقيقة الأمر ، فأوحت إلى جبرئيل أن يتدارك موسى (عليه السلام) و أن يُعلِمَه بأنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة رجلا هو أعلمُ من موسى (عليه السلام) ، فليذهب إليه و ليتعلّم منه.

و عندها أحسّ موسى (عليه السلام) ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ بخطأ إحساسه المذكور و دخله الرعبُ من ذلك ، و أخبر وصيّه يوشع بن نون بالأمر ، و عزما على القيام بالرحلة نحو مجمع البحرين للإفادة من العالِم الذي أشارت السماء إليه.

إذن هدف الرحلة و من ثَمّ هدف القصة أساساً هو ، تقرير حقيقة مؤدّاها أنّ الزهو العلمي مثلا ينبغي ألاّ يداخل أيـّة شخصيّة عبادية ، بل ينبغي أن تتحسّس الشخصيّة ـ أيـّاً كانت ـ بمشاعر الذلّ داخل الذات.

و هذا في حالة انسياقنا مع النصوص المفسّرة الذاهبة إلى أنّ موسى (عليه السلام) قد داخله الزهو المذكور.

أمّا في حالة انسياقنا مع عملية التذوق الفنّي الخالص ، فإنّه يُمكننا بعيداً عن نصوص التفسير أن نستخلص حقيقة ذات خطورة ، هي: أنّ السماء وفقاً لحكمتها تمنح بعض الشخصيات العبادية عطاءات خاصة ، قد لا تمنحها للبعض الآخر.
سواء أكانت هذه الشخصيات متماثلةً في الوظيفة الاجتماعية التي رسمتها السماء لهم ، أم كانت متفاوتة ، كأن يكون بعضُها على مستوى النبوّة ، و الآخرُ غائباً عن أنظار الناس لا يعرفه أحدٌ منهم.

و هذه الحقيقة الفنّية التي تنطق بها حوادث القصة نفسها ، عِبْر ملاحظتنا لموسى في الشطر الثاني من القصة كما سنرى ، أنـّه كان يُنكر على العالِم قتلَه لأحد الأشخاص ، و خرقه للسفينة ، و ابتناءه للجدار ... هذه الحقيقة قد أشارت إليها بعض النصوص المفسّرة أيضاً في ذهابها إلى أنّ موسى (عليه السلام) عندما التقى العالِم و طلب أن يتبعه ليتعلّم منه ، أجابه العالِمُ حينئذ بما مؤدّاه:

«أنـّك يا موسى قد وُكلتَ بعلم لا اُطيقُه ، و وكلتُ بعلم لا تطيقه»

و هذا يعني أنّ السماء تمنح هذه الشخصية أو تلك ، عطاءات خاصةً لا تمنحها لآخر ، وفقاً لحكمة يتطلبها الموقف.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ استخلاص الحقيقة الفنّية المذكورة مشفوعةً بالنصوص المفسّرة ، فضلا عن الحقيقة التي ذكرتها النصوصُ الذاهبةُ إلى تفسير سبب الرحلة نحو العالِم ، متمثّلا في الزهو العلمي ... كلّ ذلك من الممكن أن يُشكل أفكار القصة و هدفَها الفنّي ، بحيث تُوظَّفُ عناصرُ القصة ، من شخصيات ، و أحداث ، و مواقف ، و بيئات ، لإنارة الهدف المذكور ، و تجلية أبعاده.

و الآن لِنرَ كيف وُظِّفت العناصر الفنّيةُ المذكورة في صياغة الأفكار التي طرحتها القصة؟

و نبدأ بالحديث عن أبطال القصة:

في قصة موسى و العالِم نواجه شخصيتي موسى (عليه السلام) و فتاه.

أمّا الفتى فقد سبق الوقوف عند ملامحه عابراً.

و نحن الآن حينما نحاول إلقاء الإنارة على هذه الشخصية مفصلا ، فالنصُّ القَصَصِي قد أبهَمَ ملامحها تماماً ، مكتفياً من ذلك من حيث التعريف بها ، بإطلاق سمة الفتى عليها.

إنّ الرجوع إلى النصوص المفسّرة يدلّنا على أنّ الفتى هو: يوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام).

و السؤال هو: ما هو الدور الثانوي لهذه الشخصية في القصة؟

ممّا لا شك فيه أنّ لهذه الشخصية دوراً فنّياً كبيراً في الاُقصوصة. و من حيث البدء فإنّ القيام برحلة مجهولة المدى يتطلّب وجود صاحب يمسح الوحشة ـ على الأقل ـ عن موسى (عليه السلام).

و هذا هو أوّل مسوغ لوجود هذه الشخصية في الاُقصوصة.

ثانياً: أنّ وجود الصاحب من أجل خدمة المُسافر يفرض وجود دور له في الاُقصوصة ، و بخاصة أنّ الاُقصوصة رسمت له دوراً محدّداً هو: تهيئة الزاد.

ثالثاً: أنّ مجرّد كون الفتى وصيّاً لموسى (عليه السلام) ، يتطلّب أنّ يصطحبه في رحلة علمية عبادية هادفة ، لأنّ ذلك في الصميم من متطلّبات الوصاية.

و من أجل ذلك نجد أنّ النصوص المفسّرة تومئ إلى هذه الدلالة حينما يُقرّر بعضها أنّ موسى (عليه السلام) قال لوصيّه غداة عزمه على السفر بما مؤدّاه:

«يا يوشع! لقد ابتُليت ، فلنصنع لنا زاداً»

و بالرغم من أنّ هذا القول يحوم على دلالة الخدمة ، أي صنع الزاد ، إلاّ أنـّه يتضمّن أيضاً دلالةً اُخرى هي قوله: قد ابتليت. فالابتلاء هنا يعني أنّ موسى (عليه السلام)قد أطلع وصيّه على المهمّة العبادية التي اُوكلت إليه ، ممّا يتعيّن أن يقف عليها يوشع مادامت مرتبطة بشؤون العمل العبادي و ما يواكبه من سلوك ينبغي أن يتحلّى به أبطال يضطلعون بمهمّة الخلافة.

و عندما يصطحب موسى (عليه السلام) فتاه ، حينئذ يكون الوصي قد أفاد من التجربةالتي ستقدّمها الرحلةُ لموسى (عليه السلام).

إذن ثمة مسوّغات متنوّعة تجعل لشخصية الفتى أكثر من دور قصصي في الاُقصوصة.

* * *

إنّ أهم دور ثانوي لشخصية الفتى في الاُقصوصة ممّا لم نُشر إليه ، هو الدور الفنّي الذي هيّأه النص للفتى من حيث تأثيره على حركة القصة: مواقف و أحداثاً.

إنّ حركة القصة قد تأثرت أساساً بسلوك الفتى ممّا شكّلت انعطافاً فنّياً ملحوظاً في الرحلة.

و ملاحظة هذا الجانب في الاُقصوصة له أهميته القصوى في تذوّق الصياغة الجمالية لها.

فمن الواضح أنّ موسى (عليه السلام) عندما اعتزم الرحلة ، إنّما وضع في الاعتبار مكاناً محدّداً، هو «مجمع البحرين» بصريح النص القصصي.

كما أنّ النصوص المفسّرة رسمت علامة لموسى (عليه السلام) هي انسراب الحوت إلى البحر ، ممّا يدلّه على مكان العالِم الذي شدّ الرحيل من أجله.

و نحنُ قد لحظنا أنّ موسى (عليه السلام) و فتاه ، قد تجاوزا ذلك المكان الذي قد اعتزما أن يصلا إليه ، و حسب النصوص المفسّرة أنّهما وصلا إلى صخرة في أحد الأمكنة ، حيث استراحا عندها ، و حيث غسل الفتى الحوتَ و وضعه هناك.

ثمّ تابع موسى (عليه السلام) و فتاه رحلتهما ، لكنهما نسيا الحوت عند الموضع المذكور.

و لذلك عندما أحسّ موسى (عليه السلام) بالجوع ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ طالب فتاه بتهيئة الطعام ، لكنّ الفتى تذكّر أنّ الحوت قد بقي في المكان الذي استراحا عنده ، و تذكّر أنـّه قد انسرب الحوت من يده.

و عندها قال موسى (عليه السلام) لفتاه: لِنعُدْ إلى حيث استرحنا ، فإنّه هو المكان الذي نتوخّاه.

إذن عملية النسيان و التذكّر تركا في حركة القصة انعطافاً كبيراً بالنسبة إلى بلوغ الهدف لدى موسى (عليه السلام).

و هذا الانعطاف في حركة القصة قد تأثر بسلوك الفتى كما رأينا. إذ أنّ الفتى هو الذي ذكّر موسى (عليه السلام) بالمكان الذي جاوزاه ، ممّا جعله يعود إلى حيث المكان الذي استراحا عنده.

و ليس التذكّر الذي أسهم في حركة القصة هو الذي اضطلع به الفتى فحسب ، بل إنّ عملية مشاهدته لانسراب الحوت قد ساهم في الحركة المذكورة أيضاً ، مادام الانسراب هو المَعْلَم الذي سيدلّ موسى (عليه السلام) على العالِم.

و للمرّة الجديدة ، ينبغي ألاّ نغفل عن هذا الدور الفنّي الذي فرض وجود الفتى في صياغة الاُقصوصة ، ممّا يجعلنا ـ عبر عملية التذوّق الجمالي ـ في زخم إمتاع كبير للصياغة القصصية المذكورة ، في رسمها لأدوار البطل الثانوي: الفتى.

* * *

و حين نتجاوز شخصية الفتى إلى الأبطال الآخرين في القصة ، نجد أنّ موسىو العالِم يحتلاّن مساحة كبيرة و رئيسة في القصة.

و بما أنّنا لانزال مع الشطر الأوّل من القصة ، أي مع الرحلة فقط ، فسنؤجّل الحديث عنهما إلى حيث وقوفنا على الشطر الآخر من القصة ، و نعني به مواجهة موسى (عليه السلام) للعالِم ، و ما واكبَها من أحداث و مواقف.

أمّا في نطاق الرحلة و ما يواكبها من أبطال ، فإنّ ظاهرة الحوت من الممكن أن نعدّها من جانب عنصراً شخصيّاً ، كما يمكن أن نعدّها عنصراً بيئيّاً من جانب آخر.

و المسوّغ الفنّي يعدّ الحوت شخصية ، كأيّ بطل آخر يتحرّك من خلال الحياةالتي تدبّ فيه ، هو عودته حيّاً و انسرابه إلى البحر.

و لكن بما أنّ الحوت لم يتحرّك من خلال علاقة متبادلة مع الأبطال الآخرين ، فحينئذ من الممكن أن نعدّه عنصراً جامداً ممّا يدخل في نطاق البيئة التي تخصص لها حقلا آخر من المعالجة.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ هذا التأرجح بين إمكانات الحوت شخصياً و إمكاناته بيئيّاً ... هذا التأرجح في تصوّرنا الفنّي يُعدّ واحداً من جماليّات هذه الاُقصوصة المُدهِشة ، المُمتِعة ، المُعجِزة ...

فالحوت تحرّك كما يتحرّك أيّ كائن حيواني ، منسرباً إلى البحر على نحو ما سنتحدّث عنه لاحقاً.

كما أنّه احتفظ بعنصر السكون الذي يغلّف الحيوانَ المُذكّى.

لكنّه بين الحركة و السكون إتخذ مظهراً مصحوباً بمشاعر الدهشة و الانبهار حيال وجوده في القصة.

من هنا سنفرد له حديثاً خاصاً يمتزج فيه عنصر الأبطال بعنصر البيئة و بخاصة أنّ وجوده في الاُقصوصة يشكّل المنعطف الرئيس فيها: العلامة الوحيدة في رحلة موسى (عليه السلام) نحو العالِم.

قلنا: إنّ ظاهرة الحوت في قصة موسى (عليه السلام) مع العالِم تحتل حركةً حيّةً في الاُقصوصة.

و بغضّ النظر عن كونها ظاهرة تتصل بشخصيّة حيوانية ساكنة ، و انقلابها إلى شخصية حيوانية متحركة ، بغضّ النظر عن ذلك فإنّ وجودها في القصة يُشكّل عنصراً له أهميته الموضوعيةُ و الفنّية الكبيرة ، نظراً لمساهمته في تغيير مجرى الأحداث ، بل في تحديد المنطلق إلى الرحلة أساساً.

و الآن ، لِنتابع تفصيلات هذا العنصر من خلال النص ، و التفسير ، و التذوّق الفنّي الصرف.

إنّ النص القصصي لم يسرد لنا عن الحوت إلاّ ظاهرة النسيان الذي غلّف الفتى عندما ذكّره موسى (عليه السلام) بالطعام و إلاّ كونه قد انسرب في البحر ، و إلاّ كونه قد اتخذ سبيله في البحر عجباً.

أمّا نصوص التفسير فتسرد لنا تفصيلات متنوّعة قد يتوافق بعضها مع الآخر ، و قد لا يتوافق ، لكنها جميعاً تحمل دلالات واضحة الاستخلاص حيناً ، و دلالات يصعب الركون إلى استخلاص بعضها حيناً آخر.

بيد أنّ الملاحَظ ، أنّ الصمت يظل واضحاً حيال تفسير الخطوة البادئة في مهمّة الحوت. أمّا مهمّة الحوت في مراحلها الأخيرة فواضحة كما قلنا.

نصوص التفسير تذكر لنا أنّ موسى (عليه السلام) قد اُلهِمَ بأن يتزوّد بحوت يدلّه على العالِم الذي شُدَّ الرحيل من أجله.

و خارجاً عن هذه الإشارة لا نظفر بتفصيلات عن الحوت إلاّ في قضية انسرابه إلى البحر.

* * *

و السؤال هو: هل أنّ التزوّد بالحوت كان يحمل مهمّة مزدوجة هي: كونه زاداً من جانب ، و كونه مَعْلَماً يرشد موسى (عليه السلام) إلى العالِم من جانب آخر؟

إنّ الاجابة على هذا السؤال من الصعب أن تتسم باليقين إذا افترضنا أنّ الطعام و الإرشاد لايمكن أن يتحققا في آن واحد. فإذا كان الحوت قد اُعدّ للطعام ، فحينئذ ينتفي وجودُهُ المُرشد إلى الطريق ، لأنّه قد ازدُرِدَ أساساً.

أمّا إذا كان الحوت معدّاً إلى الإرشاد و لا علاقة له بالطعام ، فإنّ التداعي الذهني الذي أوضحته القصة يظلّ بلا دلالة ، ذلك أنّ القصة أوضحت أنّ موسى (عليه السلام)طالبَ بالطعام ، ... و أجابه يوشع الفتى بأنّه قد نسي الحوت و هذا يعني بما لا لبسَ فيه أنّ التداعي الذهني لدى الفتى يرتبط بالطعام ، أي يكون الحوت هو الطعام الذي طالب به موسى (عليه السلام) عندما أحسّ بالجوع.

إذن يتعيّن أن يكون الحوت قد اُعدّ للطعام.

و ممّا يُعزّز هذا الذهاب ، أنّ بعض النصوص المفسّرة تذكر لنا أنّ الحوت كان مشويّاً ، ممّا تتعيّن مفروضية كونه زاداً.

و مع هذه المفروضية يُثار السؤال على نحو آخر:

هل أنّ موسى (عليه السلام) قد اُلهم بنحو مُجمل بأن يتزوّد بحوت ، و إلى أ نّه ـ بشكل أو بآخر ـ سيدلّه على الطريق؟ و بخاصّة أنّ بعض النصوص تشير إلى أنّ الصخرة هي التي ستكون الدليل إلى الهدف.

هذا الاحتمال غير بعيد دون أدنى شك ، مادامت بعض النصوص تشير إليه.

و قد يرد احتمال آخر هو: أنّ موسى (عليه السلام) نفسه قد أُمِرَ بأن يصوغ طلبه إلى فتاه بالنحو المتقدّم ، و هو على إحاطة بتفصيلات لم يدركها يوشع.

كلّ ذلك من الممكن أن نستخلصه من المهمّة المزدوجة لظاهرة الحوت ، لكننا في نهاية المطاف نظل في عَطَش فنّيٍّ ، لمعرفة التفصيلات المشفوعة بالاطمئنان لهذا الاستخلاص أو ذاك.

و هذا العَطَش بذاته رواء فنّي تثرى من خلاله أحاسيسُنا بعمليات الاستخلاص و الاستنتاج و التخيّل و المحاكمة و سائر العمليات العقلية العُليا ، فيما لا يمكنها أن تغنى و تثرى و تنمو إلاّ إذا سمحنا لها بممارسة الكشف الذاتي في تفسير الظواهر و استخلاص دلالاتها. هذا فضلا عمّا تنطوي العملياتُ المذكورةُ عليه من إمتاع جماليٍّ صرف ، كما هو واضح.

* * *

و لنتابع سائر التفصيلات المتصلة بظاهرة الحوت.

ترسمُ النصوص المفسّرة ملامح خارجية للحوت ، من حيث مقدّمات الرحلة.

فهي تصف الحوت حيناً بأنـّه كان مملّحاً.

و تُرسمه حيناً بأنـّه كان طريّاً.

و ترسمه حيناً ثالثاً بأنـّه كان مشويّاً.

و ترسمه أخيراً بأنه قد وضع في مكتل ، أي الأداة المصنوعة من الخوص و نحوه ممّا يُحمل الطعام فيه.

هذه الملامح الخارجية للحوت و مكانه ، لم يسردها النصُّ القصصي ، ممّا يعني أنّها لا تشكّل ضرورة فنّيةً من حيث البناء العضوي للاُقصوصة. إذ أ نّه من الواضح أنّ القرآن الكريم حينما يرسم لنا ملمحاً خارجياً ، فإنّ رسمه لهذا الملمح لابدّ أن يرتبط بدلالة داخلية ، أي أن تكون هناك صلة بين الخارج و الداخل، فإذا أهمل الرسم الخارجي فهذا يعني أنّ الرسم المذكور لا ضرورة فنّية له.

لكننا خارجاً عن ذلك كلّه ، يمكننا أن نستخلص بعض الدلالات المتصلة بالرسم الخارجي الذي ذكرته النصوص المفسّرة ، و بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ بعض التفصيلات التي يهملها القرآن الكريم ، إنّما يتركها لخبراتنا الخاصة في استكشافها.

و مهما كان فإنّه من المحتمل أن تكون الأوصاف الخارجية المذكورة على صلة بحفظ الحوت أو تطييبه و نحوهما ممّا هو مألوف في هذا الصدد.

* * *

هذا كلّه فيما يتصل بمقدمات الرحلة و صِلتها بالحوت.

أمّا فيما يتصل بالرحلة ذاتها ، فإنّ ظواهر الدهشة و الطرافة و الإعجاز تظلّ مواكبةً لحركة الحوت طوال الرحلة الممتعة في التذوّق الفنّي ، أو الرحلة الشاقة في تصوّرنا العبادي و الفنّي في آن واحد.

إنّ أوّل خطوة لافتة للانتباه في ظاهرة الحوت خلال الرحلة ، تتمثّل في وصول موسى (عليه السلام) و فتاه إلى مجمع البحرين. و تعاملهما مع الحوت في الموقع المذكور.

النصوص المفسّرة تقدّم لنا تفصيلات قد يختلف بعضها عن الآخر في هذا الصدد.

بعضها يذهب إلى أنّ موسى (عليه السلام) و فتاه عندما وصلا إلى مجمع البحرين استراحا عند صخرة على الساحل و عندها أخرج الفتى الحوت و غسله بالماء و وضعه على الصخرة المذكورة ، ثمّ تابعا مسيرهما بعد أن نسي الفتى الحوتَ هناك.

بعضها الآخر يقول: إنّ الفتى غسل الحوت عند عين هناك ، لكنّ العين أو الينبوع المذكور يتّسم بكونه حاملا لخصيصة الإحياء ، و يُسمى: عين الحياة.
و لذلك انفلت الحوت من يد الفتى بمجرّد غسله ، فنسيه بعد ذلك و تابعا رحلتهما.

و هناك نصوص مفسّرة ثالثة تذهب إلى أنّ قطرة من الماء قطرت في المكتل فاضطرب الحوت ، و انسرب إلى البحر.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ ما يعنينا من ذلك كلّه ، أن نتابع أوّلَ حركة حيوية تواكب الحوتَ في رحلة موسى (عليه السلام) و فتاه ، و أن نتبيّن الملامح الجمالية و الفكرية للحركة المذكورة.

* * *

تظلّ حركة الحوت في قصة موسى (عليه السلام) و العالِم متميزة بخصيصتين من الرسم ، هما: الجميل و المعجز.

و يتمثل كلٌّ من الجميل و المعجز في انسرابه إلى البحر على نحو ما رسمته القصة في موقعين ، أحدهما:

﴿فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً

و الآخر:

﴿وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً

و حين نتوكّأ على النصوص المفسّرة نجدها تقدّم تفصيلات بالغة الإثارة عن الجميل و المعجز .

فالنصوص ترسم كلاّ منهما في حركتين:

الاُولى: حركة الإحياء.

الثانية: حركة الانسراب.

أمّا حركة الإحياء فقد قدّمتها النصوص في ثلاثة أنماط:

1 ـ إحياء الحوت بنحو مُبهم ، بحيث لم يخضع للمشاهدة إلاّ بعد رجوع موسى (عليه السلام)و فتاه إلى مجمع بينهما ، و اتّباعهما أثَرَ الحوت ، حيث اكتفت النصوص برسم عملية غسل الحوت و نسيانه عند الصخرة دون أن تتحدّث عن كيفية الإحياء.

2 ـ إحياؤه داخل المكتل ، و ذلك بأن قطرت من الساحل الذي وقفا عنده أو من وضوء الفتى ، قطرة داخل المكتل فاضطرب الحوت و انسربَ إلى البحر.

3 ـ إحياؤه من خلال عملية الغسل ، و ذلك عندما غسله الفتى عند عين هناك ، فانفلت الحوت من يده بعد أن مسّه الماء.

و يُلاحَظ أنّ الجميل و المعجز عبر عملية الإحياء المذكورة يتمثّلان في اضطرابِ الحوت و حركتهِ و وثوبه ، بما يصاحب ذلك عنصر الدهشة أو المفاجأةالتي تغلّف المُشاهِد و هو: يوشع ، أو تغلّف المُتلقّي و هو على جهل تام بأسرار الموقف ، بخاصّة أن النصّ القصصي نفسه لم يسرد تفصيلات عن ذلك.

و قد رسمت النصوصُ ـ مضافاً إلى عملية الإحياء ـ مصادر العملية المذكورة متمثّلةً في ما أسمته بــ : عين الحياة ، حيث أكدت خصيصة متميّزة للعين المذكورة ، و هي تضمّنها عنصراً إحيائياً سحب أثره على الحوت في العملية المذكورة.

* * *

هذا فيما يتصل بحركة الإحياء.

أمّا فيما يتصل بحركة الانسراب ، فإنّ الجميل و المدهش أو المعجز يتمثّل ـ كما سبق التلميح ـ في سمتين رسمهما النص القرآني ذاته سَرَباً و عجَباً.

و هاتان السمتان تفصّلهما نصوص التفسير على النحو الآتي:

إنّ الحوت كان يضرب الماء بذنبه و يشق طريقه في البحر ، و قد تركت هذه العملية آثاراً من خلال ضرب الماء بالذَنَب تتفاوت نصوص التفسير في رسمها:

فبعضها يذهب إلى أنّ الماء كان يجمد على الأثر.

و بعضها يذهب إلى أنّه كان يمسك عن الجريان.

و بعضها يذهب إلى أنّه أصبح مثل الطاق أو مثل الكوّة.

و بعضها يكتفي برسم الماء بأنّه موسوم بمَعلَم هو: الأثر الذي تركته حركة الحوت دون أن ترسم هذه النصوص تفصيلات الأثر المذكور.

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ أهمية رسم الأثر لا تقف عند نطاق ما هو جميلٌو مُدهش ، بل تتجاوزهما إلى أهمية المبنى العضوي للقصة و تواشج الصلة بين أجزائها ، بما يُصاحب ذلك من تنمية و تطوير لأحداثها.

إنّ رسم الأثر له صلته العضوية الكبيرة بانعطاف الأحداث نفسها ، ذلك أنّ رجوع موسى (عليه السلام) و فتاه إلى الصخرة التي استراحا عندها ، مرتبطٌ ـ كما تذكر النصوص المفسّرة ـ بأن يقص أثر الحوت. و هذا يعني أنّ الرسم الخارجي لظاهرة الانسراب ليست مجرّد رسم لإبراز جمالية البيئة التي تحرّك الحوتُ من خلالها ، و ليست مجرّد تبيين لما هو معجز فحسب ، بل يُضاف إلى ذلك و هذا هو موضع تشدّدنا في هذا الجزء من المعالجة أنّ الرسم الخارجي المذكور مرتبطٌ بتطوير الأحداث اللاحقة ، الأحداث التي صيغت القصة من أجلها بغية العثور على العالِم ، و من ثمّ كانت الرحلةُ أساساً قد استهدفت ذلك.

إنّ المتلقّي مُطالَبٌ من جديد بأن يمارس عملية التذوّق الفنّي للقصة من خلال ملاحظته لهذه الظاهرة الفنّية ، ظاهرة التواشج العضوي بين رسم خارجي لبعض ملامح البيئة الأثر الذي تركه الحوت ، و بين صلة هذا الأثَر بمعالم الدرب الذي سيسلكه موسى (عليه السلام) في الوصول إلى العالِم.

خارجاً عن المبنى العضوي لرسم ظاهرة الأثر الذي تركه الحوت في انسرابه ، فإنّ الجميل و المعجز في عملية الانسراب يتمثلان في جمود الماء ، أو في انحساره ، أو في كُواه.

المدهش في البيئة المائية المذكورة هو: أنّ الانسراب تميّز بما هو خارجٌ عن قوانين الحركة الطبيعية.

و أمّا الجميل : فإنّ مجرّد ممارسة التخيّل للرائي أو ما تُسمّيه لغةُ القصص بــ : المشهد أو المنظر ، كاف بتحسيسنا ضخامة الإمتاع الجمالي للمرائي المذكورة:

جمود الماء في خطٍّ متعرّج أو مستقيم وسط أمواج البحر.

تشكّله في هيئة كُوّة ، أو طاق وسط الأمواج المذكورة.

انحساره أساساً على خطٍّ متعرّج أو مستقيم وسط تلك الأمواج.

هذه المَرائي أو المناظِر تظلّ حافلةً بالإثارة و بالدهشة و بالانبهار ، و من ثمّ بالإمتاع الجمالي الضخم الذي يتزايد بقدر تزايد العملية التخيّلية للمرأى.

* * *

و بعامّة ، فإنّ ظاهرة الحوت قد احتلّت في قصة موسى (عليه السلام) و العالِم أهمية فنّية كبيرة بما انطوت عليه من حركة داخل القصة: بدءً من حيث كونها زاداً للرحلة ، مروراً بكونها قد اقترنت بنسيان الفتى لها ، و انتهاءً بانسرابها داخل البحر ، و صلة اُولئك جميعاً بهدف الرحلة التي كان لا مناص لها من التزوّد بالحوت ، و صلة نسيانه بالهدف المذكور ، ثمّ صلة العودة إلى مجمع البحرين بذلك ، فضلا عن صلة الانسراب بذلك و فضلا عمّا انطوت الظاهرةُ عليه من ملامح جمالية و اعجازية وقفنا عليها مفصّلا.

و مع انسراب الحوت في البحر ينتهي الشطر الأوّل من قصة موسى مع العالِم و يبدأ شطرها الآخر في التقاء موسى (عليه السلام) العالِمَ فيما كانت ظاهرة الحوت موظفةً لوصول البطل إلى هدفه.

و الآن إلى الشطر الثاني من الاُقصوصة.

نتّجه إلى الشطر الثاني من قصة موسى (عليه السلام) و العالِم بعد أن انتهينا من شطرها الأوّل الذي شكّل مقدّمةً لالتقاء العالِم ، و نعني بذلك الرحلة التي شُدّت من أجل اللقاء المذكور.

لقد كان القسم الأوّل من الاُقصوصة يحفل بأكثر من بطل ، و حدَث ، و بيئة ، و موقف. بدأ ينحسر ، أو ينتهي دوره مع الشطر الثاني من القصة.

فالبطل: يوشع أو الفتى الذي صاحب موسى (عليه السلام) في رحلته العلمية ، قد انتهى دوره في القصة مع مجرّد اللقاء بين موسى و العالِم بعد أن شكّل عنصراً مهمّاً في ترتيب اللقاء المذكور.

و الحوت قد انتهت مهمّته التي كانت دليلا أو علامة لترتيب اللقاء المذكور.

كما أنّ بيئة البحر و ما صاحبها من رسم الجميل و المُدهش قد انتهت وظيفتها التي كانت في الواقع مقدّمةً لكلّ ما هو مدهش و معجزٌ من الأحداث و المواقف اللاحقة التي ستواجه موسى (عليه السلام) مع العالِم.

كلُّ العناصر المتقدّمة ، من أبطال و أحداث و بيئات سوف لن نجد لها إسهاماً في الشطر الجديد من القصة ، مادامت قد مهّدت لهذا القسم فنّياً على النحو الذي لحظناه مفصّلا.

و هذا يعني أنّ القسم الجديد من القصة سيحوم على لقاء موسى (عليه السلام) مع العالِم ، فحسب.

و لنقف إذن مع هذا القسم من القصة.

* * *

بعد أن رجع موسى (عليه السلام) مع فتاه إلى حيث استراحا عند الصخرة ، تمّ اللقاء بينه و بين العالِم.

أمّا كيفيّة اللقاء ذاته فإنّ النصّ ساكتٌ عن ذلك. و طبيعي ليس من المهم ـ فنّياً ـ أن تُرسَم التفصيلات حول اللقاء المذكور مادام الهدف هو اللقاء نفسه و ليس كيفيّته.

بيد أنّ نصوص التفسير تسرد لنا بعض التفصيلات التي تلقي شيئاً من الإنارة على مقدّمة اللقاء ، نظراً لصلة ذلك ببعض التساؤلات التي يُثيرها لقاء موسى (عليه السلام) بالعالِم ، و منها مثلا طبيعة الفارق العلمي أو الشخصي بين موسى (عليه السلام) و شخصيّة مجهولة اجتماعياً ، بحيث يفيد منها موسى (عليه السلام) و هو يمارس من حيث الوظيفة الاجتماعية أعلى منصب عبادي هو: النبوّة و الرسالة.

إنّ النصوص المفسّرة تُلقي إنارة على هذا الجانب حينما تنقل لنا أنّ العالِم قال لموسى:

«وُكِلتُ بعلم لا تُطيقُه و وُكِلتَ بعلم لا اُطيقه»

و هذا يعني أنّ موسى لا يظلّ في الحالات كلّها مفضولا على زميله ، و لا زميله مفضولا عليه ، بقدر ما يعني أنّ كلاّ منهما قد اُوكلت له مهمّةٌ مختلفة عن الآخر.

على أنّ بعض النصوص المفسّرة بالرغم من ذلك تصرّح بوضوح بأنّ موسى و إن تبع العالِم إلاّ أنـّه أعلم منه من نحو ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام):

«كان موسى أعلم مِن الذي تبعه»

المهم أنّ الذي نستخلصه ممّا تقدّم ، أنّ لقاء موسى (عليه السلام) بالعالِم تمّ نتيجةً لإحساس خاص خامَر موسى (عليه السلام) في تقديره لــ ذاته ، فيما أرادت السماء أن تطلعه على الحقيقة الذاهبة من أنّ التقدير للذات ينبغي ألاّ يصاحبه شعور بالفوقية أيّاً كان الشعور.

* * *

و الآن و قد تمّ اللقاء بينهما ، ما الذي رسمته القصة في هذه النطاق؟

إنّ القصة تضمّنت ثلاثة أحداث هي: خَرقُ العالِم للسفينة ، و قتلُه لأحد الغلمان ، و ابتناؤه للجدار.

كما تضمّنت جملةً من المواقف حائمةً على سلوك كُلّ من البطلين حيال الآخر.

لكننا قبل ذلك ينبغي أن نتساءل من جديد:

ما الذي يجعل من البطلين و كأنّهما يعايشان صراعاً في سلوكهما حيال الآخر؟

و يتمثّل هذا الصراع في توجيه العالِم خطاباً إلى موسى (عليه السلام) على هذا النحو:

﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً

و أجابه موسى (عليه السلام):

﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً

ثمّ في تأكيد العالِم لموسى من جديد:

﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْء حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً

ثمّ اعتراض موسى (عليه السلام) على العالِم و إنكاره لكلّ مواقفه ، و تأكيد العالِم من جديد على موسى (عليه السلام) بأنّه لن يستطيع صبراً ... إلى آخره.

كلّ ذلك يجسّد صراعاً بين البطلين لم ينتهِ إلاّ مع الحَدثِ الثالث الذي عقّب العالِمُ عليه و على سابقيه بنحو أنهى الصراعَ بينه و بين موسى (عليه السلام).

إنّ الصراع يفرضه ـ كما هو واضح ـ نمطُ الشخصية لكلّ من البطلين.

فالعالِم ـ و تقول النصوصُ المفسّرة: إنـّه الخضر (عليه السلام) ـ و أ نـّه نبيّ بدوره قد أودعت فيه السماء نمطاً من المعرفة ، و نمطاً من الحياة ، و نمطاً من السلوك تسردها لنا نصوص التفسير بنحو يتعيّن من خلاله أن يمارس سلوكه الوظيفي على شكله المعجز الذي اختارته السماء للشخصية المذكورة.

و موسى (عليه السلام) بدوره مادام نبيَّ زمانهِ لا مناص من رفضه لأيّ سلوك يجده غير مؤتلف ـ ظاهراً ـ مع الحقائق التي يحيط بها علماً ، ممّا يجعله مناهضاً له متمثّلا ذلك في نقده الذي وجّهه إلى الخضر (عليه السلام).

و هذا يعني أنّ كلاّ منهما مضطرٌّ إلى أن يحيا صراعاً مع الآخر ، بالرغم من أنّ موسى (عليه السلام) قد طُولب بأن يتبعه في المعرفة.

و مهما يكن ، فإنّنا نبدأ الآن بمحاولة التعرّف على البناء الفنّي للوقائع الثلاث و ما رافقها من السلوك لدى البطلين ، و صلة اُولئك بهدف القصة الرئيسي.

لكننا قبل ذلك ينبغي أن نلفت انتباه المتلقّي من جديد إلى أنّ إبهام أو تنكير العالِم ـ من حيث البعد الفنّي ـ يظلّ موسوماً بأهمية كبيرة في غمار هذا اللقاء العلمي أو المعرفي بين البطلين ، سواءٌ أكان هذا الإبهام يتصل باستجابة موسى (عليه السلام) حياله ، أو باستجابتنا ـ نحن المتلقين ـ حياله.

إنّه الإبهام الفنّي الذي يتساوق مع هدف القصة الذاهب إلى ضرورة التقدير السلبي لــ الذات ، و إلى أنّ المعرفة توزّعها السماء وفقاً لمتطلّبات الحكمة التي تعلنها سمةً عند بعض الشخوص ، و تخفيها حتّى عن الشخصيات المنتقاة فضلا عن العاديين من البشر.

يبدأ لقاء موسى و الخضر (عليهما السلام) بسؤال موسى:

﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟

فيجيبه الخضر (عليه السلام):

﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً

﴿وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً

و واضح من الحوار المتقدّم بينهما أنّ موسى (عليه السلام) يعتزم الإفادة من الخضر (عليه السلام) ، و أنّ الخضر (عليه السلام) مطمئنٌ إلى أنّ موسى لن يستطيع أن يصبر على ما يشاهده من ممارساته.

و يُلاحَظ بأنّ العالِم أوضح لموسى (عليه السلام) سبب عدم اصطباره متمثّلا ذلك في عدم إحاطته علماً بأسرار الممارسات التي سيُقدم العالِمُ عليها.

و هنا مع أنّ موسى (عليه السلام) قد اطمأنّ إلى أن المصاحبة ستمضي دون أن تعترضها أيّة صعوبة من خلال إجابته الآتية التي عقّب بها على إجابة العالِم:

﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً

مع ذلك كلّه فإنّ العالم يواصل تأكيداته واحداً تلو الآخر فيما يبدو أنـّه مطمئن إلى أنّ موسى (عليه السلام) سوف لن يستطيع معه صبراً و لذلك أجابه للمرة الثانية أو الثالثة:

﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْء حَتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً

و طبيعيّاً فيما يتصل بالمتلقّي يستطيع أن يستخلص من الحوارات المتقدّمة أنّ المصاحبة بين موسى و العالِم ستواجه بعض الصعوبات و إلى أن موسى (عليه السلام) سوف لن يكف عن الاعتراض مادام الحوار قد أرهصَ فنّياً بهذا.

و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نُدرك الدلالة الفنّية لهذه الفقرة:

﴿وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً

فهذه الفقرة تحسمُ كلّ شيء ، لأنّها ربطت بين عدم المعرفة بالأسرار و بين الاعتراض ، ممّا يتحتّم ـ عبر المنطق العلمي ـ أن يُثار الاعتراض حيال أيّة ممارسة لا تتوافق مع مبادئ السماء ، أو مبادئ الأرض التي تُعورف عليها ، فخرقُ سفينة تقلّ ركّاباً أبرياء لا يتساوق مع مبادئ السماء التي تطالب بالمساعدة بدلا من إلحاق الأذى بالآخرين. و أمّا قتل النفس عمداً بلا مسوّغ فيشكّل قمّة المفارقة لمبادئ السماء حتّى أنّ بعض النصوص المفسّرة ترسم لنا طريقة استجابة موسى (عليه السلام) لحادثة القتل من أنّه جلد العالِم بالأرض ، إنكاراً للمفارقة المذكورة.

و أيّاً كان ، فإنّ ظاهرة الاعتراض أو عدم الصبر تظلّ من حيث البناء الهندسي للقصة أمراً يتوقّعه قارئ القصة ، أو لِنقُل وفقَ لغة الأدب القصصي: إنّ عنصر التنبّؤ بالأحداث اللاحقة سيظل قويّاً دون أدنى شك.

* * *

و هنا بالرغم من أنّ التنبّؤ يظل محتفظاً بفاعليته المذكورة ، إلاّ أنّ استخلاص نتائج مضادّة للتنبّؤ المذكور من الممكن أيضاً أن تُثار عند المُتلقي ، مادام الأمر متصلا بتأكيد موسى (عليه السلام) على أنـّه سيصبر على ما يُشاهده و بقناعته بأنّ السماء أرسلته ليتعلّم رُشداً من العالِم.

هذا التوازن بين قناعة العالِم من جانب ، و قناعة موسى (عليه السلام) من جانب ثان ، ثمّ التأرجح بين إمكانات التنبّؤ المتضاربة من جانب ثالث ـ فيما يتصل بالمتلقي ـ ترشح بقيم جمالية و فكريّة ينبغي ألاّ نمرّ بها عابراً.

إنّنا حيال ذلك نواجه عالَماً يموج باستجابات متوازنة ، و متضاربة ، و متصارعة في آن واحد.

و هذا العالَم القصصي الموشّحُ بالاستجابات المذكورة يزيد من الثراء الفنّي للقصة ، حينما نعثر على بطلين:

الأوّل مطمئن تماماً إلى أن البطل الآخر سوف لن يصبر على أسرار كونية خافية عليه.

و البطل الآخر مطمئن إلى أنّه صابر على ذلك.

كما أنّ كلاّ من البطلين مطمئن إلى أنّ الإفادة العلمية ـ في نهاية المطاف ـ ستتحقق دون أدنى شك ، مادام الأمر متعلقاً بإصدار أمر من السماء يعيه كلٌّ منهما.

فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ استجابة المتلقّي ستأخذ بدورها طابع التضارب و الاطمئنان في آن واحد أيضاً ، من حيث عدم إحاطته بطبيعة السلوك الذي سيمارسه البطل ، حينئذ نُدرك طبيعة الثراء الفنّي للقصة في تموّجاتها بهذا الزخم المتضارب و المتوازن من الأحاسيس أو الاستجابات.

* * *

خارجاً عمّا تقدم ، يعنينا من متابعتنا للقصة ، ليس موقف موسى (عليه السلام) من العالِم في الوقائع الثلاث التي واجهها ، فهذا الموقف واضحٌ تماماً حينما نجد أن موسى (عليه السلام) قد اتّخذ النقد أو الاعتراض خطاً ثابتاً في المواقف الثلاثة بأكملها ...

إنّما يعنينا أن نُشدّد على ظاهرتين هما: نموّ شخصية موسى (عليه السلام) ، و استخلاص الأفكار الكامنة وراء القصة. أمّا الأفكار فقد تحدّدت سابقاً.

و أمّا نموّ الشخصية ، فنعني بها ما يقابل ـ في لغة الأدب القصصي ـ بــ انبساط الشخصية. فهذه الأخيرة تعني أنّ الشخصية تحتفظ بخطّ سلوكي عام ، أو فكري ، أو أي شريحة من السلوك طوال القصة ، مقابلا للشخصية النامية التي تبدأ في القصة بنحو مغاير لنهايتها في القصة.

و شخصيّة موسى (عليه السلام) تنتسب إلى هذا النمط الذي ينمو مع القصة.

فلقد بدأ موسى (عليه السلام) إذا قدّر لنا أن ننساق مع النصوص المفسّرة القائلة بأنّ موسى حاوَرَ نفسه ذات يوم ، بأنّ السماء لم تخلق أعلَم منه في زمانه ، بدأ موسى (عليه السلام) بهذا النسج من التقدير لذاته علميّاً ، و انتهى إلى تقدير مغاير لتقديره الأوّل عن الذات العلمية له.

و خلال كلٍّ من البداية و النهاية ، تمرّ شخصيّة موسى (عليه السلام) بمنعطفات متنامية جديرة بالانتباه نظراً لصلتها بطبيعة الاستجابة المعرفية لدى الكائن الآدمي.

و يمكننا ملاحظة هذا التنامي في خطواته الاستجابية الآتية مع العالِم:

1 ـ طلب موسى (عليه السلام) من العالِم أن يعلّمه رشداً.

و هذه هي الخطوة الاُولى.

2 ـ أوضح العالِم أنـّه لن يستطيع صبراً على ذلك ، موضحاً السبب من أنّه لم يحط خبراً بما سيواجه.

3 ـ أجاب موسى (عليه السلام) بأنّه سيصبر و لن يعصي له أمراً.

و هذه الإجابة تأكيدٌ على الخطوة الاستجابية الاُولى.

4 ـ اعترض موسى (عليه السلام) على سلوك العالِم في خرقه للسفينة.

و هذه الخطوة نموّ مضاد لخطوته الاُولى التي أكّد معها اصطباره على ما يرى.

5 ـ اعترض ثانية على قتل الغلام.

و هذه الخطوة تأكيد للنموّ السابق.

6 ـ اعترض ثالثة على ابتناء الجدار.

و هي خطوة مؤكّدة للنموّ السابق من جديد ...

و مع هذه الخطوات كان ثمة نموّ نحو الخطوة الاُولى ، و نعني بها: استعداده للصبر على ما يرى متمثلا في قوله للعالِم بعد الاعتراض الأوّل:

﴿لا تُؤاخِذْنِي

و في قوله بعد الاعتراض الثاني:

﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْء بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي

إنّ مرور شخصية موسى (عليه السلام) بمنعطفات متنوّعة من النموّ ، أي:

استعداده لأن يتعلم من العالِم ، ثمّ اعتراضه على خرق السفينة ، ثمّ استدراكه «لاتؤاخذني».

ثمّ اعتراضه ـ بالرغم من الاستدراك السابق ـ على قتل الغلام ، ثمّ استدراكه من جديد «لا تصاحبني» ... هذه المنعطفات من النموّ فضلا عن النموّ العام الذي بدأت القصة به نظرة خاصةً من التقدير للذات ، و انتهت به نظرة مغايرة للتقدير السابق ...
تدلّنا على أنّ المنعطفات المذكورة تظل حقيقة حيّة في حقل الاستجابة مادام الكائن الآدمي ـ أيّاً كان ـ يتحرّك من خلال جهازه الثقافي الذي لا يمكن أن يتجاوز تُخومَه ، نَظَراً للخصيصة الموضوعية التي تطبع الجهاز المذكور.

فقتل النفس مثلا ، أو خرق سفينة مثلا ، لا يمكن للجهاز العبادي الذي تمتلكه الشخصية أن تتقبّله ما لم يقترن بتفسير عبادي آخر يسوّغ العمل المذكور.

من هنا لم تتم القناعةُ بمسوّغات الأعمال الثلاث إلاّ بعد أن أوضحها العالِم لموسى (عليه السلام)في نهاية المطاف.

و يُلاحَظ من حيث الرسم الفنّي لملامح الشخصيّة أنّ النص تَركَ المتلقّي حائماً على أكثر من استخلاص في تفسير النموّ لدى شخصية موسى (عليه السلام).

و نحن إذا وقفنا بعيداً عن إنارة النصوص المفسّرة يمكننا أن نستخلص أنّ موسى (عليه السلام)قد نسي العهد الذي أعطاه للعالِم بعدم الاعتراض ، و ذلك بصريح العبارة القصصية:

﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ

مضافاً إلى أنّه ارهاق للطاقة الثقافية التي لا تتحمّل مواجهة المفارقة لحين توضيحها فيما بعد ، و ذلك بصريح العبارة القصصية:

﴿لا تُرْهِقْنِي ...

* * *

و قد فسرّ بعضُهم بأنّ النسيان المذكور ، لا يعني النسيان بدلالته اللغوية المعروفة بقدر ما يعني ترك العهد ، نظراً لضخامة المفارقة التي واجهَهَا. غير أنّ هذا الاستخلاص يتّسق مع العبارة القصصية الثانية: ﴿لا تُرْهِقْنِي ، و ليس مع العبارة التي سبقتها: ﴿لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ.

و نحن إذا أدركنا أنّ القصة القرآنية بعامّة تتميّز بالانتقاء اللغوي ، و بالاقتصاد اللغوي ، نستبعد حينئذ أن تكون العبارتان بدلالة واحدة ، بل لا مناص من أن تكونا بدلالتين متغايرتين.

و من الممكن أن يكون الأمر كذلك ، إذا افترضنا أنّ كلاّ من العبارتين تأكيدٌ أو توضيحٌ للاُخرى في حالة ما إذا ارتكن التفسير إلى نصّ موثوق به عن آل البيت (عليهم السلام) ...

و لكن ـ أيّاً كان الأمر ـ فإنّ المتلقّي من الممكن أن يستخدم ذائقته الفنّية ، فيستخلص مثلا: أنّ موسى (عليه السلام) من الممكن أن يكون قد توقّع من مصاحبته للعالِم أن يمدّه بالمعرفة في مجالات اُخرى عبر المصاحبة ، لم يحِن وقتُها بعدُ ، و أنّ مواجهته لخرق السفينة لم تكن إلاّ حَدَثاً لا علاقة له بالمعرفة التي ينتظرها من العالِم.

غير أنّ هذا الاستخلاص يظل بمنأىً عن الحقيقة حين نُدرك بأنّ العالِم قد نبّه موسى (عليه السلام) و ألفت ذاكرته إلى العهد الذي أخذه عليه ، فيما يستتلي ، ألاّ يوجّه إليه اعتراضاً آخر في قتل الغلام و هذا ما يقتادنا إلى استخلاص آخر، هو أنّ ضخامة المفارقة أنسته العهد و ليس أنّها نابعة من افتراض كونها حَدَثاً طارئاً لا علاقة له بمعرفة ينتظرها فيما بعد.

و أمّا إذا انسقنا مع بعض المفسرين الذين فسّروا النسيان بدلالة اُخرى ، فإنّ الاستخلاص ، يعني أنّ ضخامة المفارقة نفسها فرضت على موسى (عليه السلام) أن يعترّض بدلا من أن يلتزم بالعهد.

و في الحالتين فإنّ الأمر يظل متصلا بما سبق أن أوضحناه من أنّ الجهاز الثقافي للشخصية يحتجزها من أن تتجاوز تخوم الجهاز المذكور.

* * *

و في ضوء الحقيقة المتقدمة فإنّ بعض الأفكار التي يمكننا أن نستخلصها من القصة هو: أنّ الكائن الآدمي مسيّجٌ بحدود معيّنة من المعرفة لا يمكن تجاوزها.

و يترتّب على ذلك مبنىً فكريٌّ آخر من أفكار القصة هو: أنّ التقدير للذات ينبغي ألاّ يحوم على المطلق ، بل لا مناص من التحفّظ حيال أيّ تقدير تنسجه الشخصية لــ الذات.

و قد تحدّد هذا بوضوح في وجود شخصية غائبة عن المجتمع الإنساني ، هي:
العالِم فيما سبّب إلغاء أيّ تقدير مستقىً من الواقع ، و اقتياده إلى ضرورة أن ننسج تقديراً سلبياً عن الذات بدلا من التقدير الإيجابي.

هذا إلى أنّ ثمة أفكاراً اُخرى تضمنتها القصةُ فيما تتصل ببناء القصص الأربع في سورة «الكهف» ، متمثلة بخاصّة في الاستجابة الآدمية حيال زينة الحياة الدنيا حيث أوضحنا في حينه صلة العالِم بالاستجابة المذكورة ، و إلى أنّها نمط آخر يضاف إلى الأنماط التي جسّد بعضُها شخصيةً تملّكت الأرض مشرقاً و مغرباً ، و ثانية تملّكت جنّتين منها فحسب ، و ثالثة هربت منها تماماً مع ملاحظة أنّ كلاّ من الشخوص المذكورين جسّد إمّا استجابة سلبية مثل صاحب الجنّتين ، أو ايجابية مثل ذي القرنين ، و هكذا.

* * *

و بعامّة ، فإنّ سورة «الكهف» تضمّنت ـ كما لحظنا ـ أربع قصص تواشجت فيما بينها برابط فكري مهّدت له مقدمةُ السورة التي تحدّثت عن زينة الحياة الدنيا ، و إلى أنّها ـ في نهاية المطاف ـ أرض جرداء ، و إلى أنّ الكائن الآدمي وُجدَ على الأرض بغية الإختبار.

و فعلا ، جاءت القصص الأربع لتُجسّد هذا المفهوم ، و لكن في أبعاده المتنوّعة التي رسم بعضُها إبادةَ الزينة حقاً ، كما هي نهاية بُستانَي الشخصية التي فشلت في الإختبار ، مثلما رسمت فشل الشخصية المذكورة في عملية الإختبار التي خُلِقَ الإنسانُ من أجلها. و رسمت ثالثاً نجاح الإختبار لدى شخصيّات ذات موقع اجتماعي رائد كذي القرنين ، مقابلا لشخصية عادية مثل صاحب الجنّتين.
و رسمت رابعاً نماذج لشخصيات هربت حتّى من التقدير الاجتماعي الذي يشكّل أحد مظاهر زينة الحياة مثل: أصحاب الكهف ، و العالِم.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page