• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة مريم : قصة مولد عيسى(عليه السلام)

 في دراستنا لقصة آل عمران وقفنا مفصّلا على اُقصوصة أي قصة الانجاب المعجز. و في حينه أوضحنا أنّ اُقصوصة مريم وردت في سياق قصص اُخرى وُظّفت لهدف معيّن ، و لذلك لم تُسرد من قصة مريم إلاّ بعض المواقف التي تتلاءم مع الهدف المذكور.

هنا في سورة مريم نواجه قصة مفصّلة مكتنزة بأكثر من حدَث و موقف. فقد خُصّصت لها سورةٌ تحمل عنوان مريم. و مجرّد كونها تستقل في سورة ، يعني أنّ هذه الاُقصوصة لها أهميّتها دون أدنى شك و يعني ـ من ثَمّ ـ أنّ التفصيلات في هذه الاُقصوصة ستساهم في الإفصاح عن الأهمية المذكورة.

و الآن لنتحدث عن الشكل الفنّي لهذه القصة أولا:

لقد بدأت الاُقصوصة وفق تسلسلها الزمني الموضوعي ، أي بدأت من زمن محدّد هو: العزلة عن الآدميين ، ثمّ حَدثُ المخاضِ الذي فاجأها و ولادتُها عيسى (عليه السلام).

و لنقرأ النص القصصي:

﴿وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا

﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا

﴿قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا

﴿قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا

﴿قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا

﴿قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ

﴿وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا

﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا

﴿فَأَجاءَهَا الْـمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ

﴿قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا

﴿فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

﴿وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا

﴿فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً

﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا

﴿يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا

﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا

﴿قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ ...

* * *

لقد بدأت الاُقصوصة من موقف هو: العزلة. و انتهت بحدَث هو: محادثة عيسى طفلا قد وُلِد لتوّه ، و قد تخلّل ذلك ثلاثُ حوادث و ثلاثُ مواقف.

أمّا الحوادث الثلاثُ فهي: مجيء جبرئيل ، و النخلة ، و الولادة.

و أمّا المواقف الثلاثة فهي: إنكارها لجبرئيل ، و تمنّيها أن تكون نسياً منسياً ، و دفاعها عن الوليد الشرعي.

و لا يغب عن بالنا موقفٌ زائغ سلَكه الآخرون و هو: اتهامُهم مريم بالسوء.

هذا كلّه من حيث بناء القصةِ و محتوياتها.

و أمّا من حيث الشخوص و البيئة ، فإنّ أبطال القصة يشكّلون أنماطاً أربعة:
ثلاثة يجسّدون بطلا فردياً ، هم: مريم ، جبرئيل ، عيسى (عليه السلام) ، أمّا الرابع: فيجسّد بطلا جمعياً هو: الآخرون.

و أمّا البيئة فهي: المحراب الذي تعبّدت فيه. و النخلة التي أطعَمَتها الرُّطبَ الجنيّ ...

أمّا الشكل القصصي بعامّة ، فيعتمد الحوارَ غالباً ، يتخلّله سردٌ يصل بين أجزاء القصة.

و لنقف على تفصيلات البطل ، و الحدَثَ ، و الموقف ، و البيئة ، و الشكل الفني للقصة ، بادئين أوّلا بــ : أبطال الاُقصوصة:

أبطالُ الاُقصوصة ثلاثةٌ ، منهم فرديّون ، هُم: مريم و جبرئيل و عيسى ، كما سبق التلميح إلى ذلك. يُضاف إليهم بطلٌ جمعيٌ ، و هم: الآدميون.

و يلاحظ ـ فنّياً ـ أنّ الأبطال الفرديين جميعاً ينتسبون إلى هويّة متميّزة تفصلهم عن البشر العاديين. فأحد الأبطال و هو جبرئيل ، ينتسب إلى الملائكة و ليس إلى جنس البشر.

و أمّا عيسى (عليه السلام) فهو نبيٌّ يتعامل مع المُعجز من الظواهر في حين يتعامل الناس مع الظواهر العادية من الحياة.

و أمّا مريم فتتعامل بدورها مع المُعجز ، متمثلا بخاصّة في ولادتها عيسى (عليه السلام) بدون فحل ...

هنا ينبغي أن نؤكّد ـ فنّياً ـ أنّ انتقاء هؤلاء الأبطال بسماتهم الإعجازية أو المتفرّدة ، إنّما ينطوي على أهمية فكريّة يستهدفها النصُّ القصصي ، بحيث تتساوق مع طبيعة الحدث المعجز نفسِهِ ، ألا و هو: الولادة من غير فحل.

فمثل هذه الولادة تتطلّب بطلا غير عادي مثل جبرئيل ...

و تستتلي ولادة بطل غير عادي مثل عيسى (عليه السلام).

و تتطلّب بطلا غير عادي مثل مريم التي وُلِدت بالنذر ، و اصطفاها اللّه على العالمين ، و أطعمها الرزق من حيث لا يُحتسب ، و اسقط عليها الرطبَ من جذع يابس ، و سقاها ماءً من نهر أجراه لها.

إنّ كلّ هذه السمات المعجزة لهؤلاء الأبطال ، إنّما صيغت لتُفصِحَ عن تلاؤمها مع طبيعة الحدَثَ المعجز الولادة من جانب ، و لتُفصح عن أهمية عطاء اللّه من جانب آخر.

لقد كرّست مريمُ حياتَها للعبادة و التعامل مع اللّه ، و كان آخر سلسلة من نشاطها العبادي ـ بالنسبة إلى هذه الاُقصوصة ـ انفرادها عن الأهل و اتخاذها مكاناً منعزلا عن الآدميين ، حيث انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً.

و كان من الطبيعي من خلال تعامل اللّه مع صفوة الآدميين ، أن يهبهم عطاءً غير مُحتسب ، و أن يكون هذا العطاء مقترناً بالتعامل غير العادي ، بحيثُ يظل جبرئيل واحداً من أطراف التعامل ، و عيسى (عليه السلام) واحداً من مُعطيات التعامل المذكور.

إذن ، جبرئيل و مريم و عيسى إنّما صيغوا أبطالا فرديين لهم تميّزهم عن الآخرين ، لأنّهم في هذه الاُقصوصة قد واكبوا حَدَثاً معجزاً ، على العكس من البطل الجمعي في الاُقصوصة و نعني به: الآخرين ، الذين كانوا يسلكون سلوكاً عادياً حينما تعاملوا مع مريم ، وفق المنطق العادي للأحداث ، دون أن يحيوا حياة الصفوة من الآدميين.

بيئةُ القصة:

البيئة التي تتحركُ أحداثُ القصةِ من خلالها ، هي: المحرابُ و النخلة.

و أدنى تأمّل لهذه البيئة يدلّنا على ما تزخر به من دلالات فنيّة و فكرية ، تظلّ متساوقةً مع سائر عناصر الحكاية.

و أبرز معالم البيئة في هذه الحكاية هو التناسق المعماري بين طَرفَيها:
المحراب و النخلة من حيث دلالات كلّ منهما.

فالمحراب ، أو المكان المهجور ، أو المكان الشرقي يجسّد مكاناً أبرزُ ما فيه هو: العزلة عن الآخرين و الابتعاد عنهم.

بيد أنّ هذا المكان يحفل بإمكانات معطاء ، لا تُقاس بالامكانات التي يفرزها المكانُ العادي.

فالمكان العاديُّ قد يحقق للشخصيّة قدراً من الإشباع لكلٍّ من الدافِعَين:
الانتماء الاجتماعي و التقدير الاجتماعي ، لكنّه لا يُقاس بضخامة الإشباع الذي تحقّقه العزلة في المحراب . إنّها ـ أي العزلة ـ تعوّض الشخصية عن انتمائها إلى الآخرين ، انتماءً إلى اللّه سبحانه و تعالى.

و تعوّضها عن التقدير و الحبّ اللذين يمنحها الآخرون ، بتقدير يمنحه اللّه سبحانه و تعالى.

فالآخرون ـ أيّاً كانوا ـ يظلّ تقديرُهم و حبّهم محدوداً بقدر محدودية الإنسان نفسه من حيث قدراته المحدودة في العطاء.

و هذا على العكس من السماء التي لا حدّ لعطائها.

إنّ البشر العاديين هم الذين يحسّون بالحاجة إلى الانتماء إلى مجتمعاتهم.

أمّا الصفوة البشرية فهي التي تنطفئ لديها مثل هذه الحاجة ، حيث يعوّضونها بالحاجة إلى الانتماء إلى اللّه.

و الأمر ذاته ، من حيث الحاجة إلى الحبّ أو التقدير:

فالعاديون من البشر يتطلّعون إلى كلمة تقدير أو خلجة حبّ من بَشَر مثلهم.

أمّا الصفوة من البشر فتتطلّع إلى اللّه ، حيث تنشد التقدير من اللّه ، و تنشد الحبّ من اللّه.

و كم هو الفرق بين بشر يملّ من الإلحاح عليه بحكم محدوديته ، و بين السماء التي لا تملّ من إلحاح المُلحّين عليها بحكم عدم محدوديتها.

من هنا تُحقّقُ العزلةُ عن الآخرين و الاتجاه نحو اللّه إشباعاً للشخصية لا حدود له ، من خلال أحد رموزه و هو: المحراب ، أو المكان المهجور.

إذن المحراب أو المكان المهجور من حيث دلالاته العبادية يمثّل وعاءً يحتشد بالعطاء و الامتلاء ، على العكس من دلالته الاجتماعية التي تمثّل العزلة و الفراغ.

* * *

و حين نتجه إلى النخلة أو إلى جذعها الذي يمثّل بدوره شيئاً مهجوراً بالقياس إلى النخل المُثمر . أقول: حين نتجه إلى جذع النخلة نجده محكوماً بالطابع ذاته ، من حيث خضوعه إلى ما هو مهجورٌ أو بعيدٌ أو ميؤوسٌ من معطياتِه.

فالعاديون من البشر يرون في الجذع المهجور ـ و هم مُحقّون في ذلك بحكم قوانين السماء في صياغة الطبيعة ـ عدم امكانيته في الإثمار ، بيد أنّ قوانين السماء ذاتها تُثمر مثل هذا الجذع ، لتجعله يتساقط بالرُّطب الجنيّ ...

و يهمّنا من هذه الدلالة أن نُشير أوّلا إلى التوازن الهندسي أو الفني بين بيئتي المحراب و الجذع ، من حيث أنّ كلاّ منهما يمثّل ابتعاداً و عزلةً و انسلاخاً عن عالمه المألوف ، لكنه في الواقع يتجه إلى عالم ممتلئ ، مُكتنز ، محتشد ، متفجّر بعطاء لا يقاس بالعطاء الذي تحققه حركةُ الإنسان و النبات.

ثانياً: يهمّنا من الدلالة التي ينطوي عليها مكان مهجورٌ و جذعٌ مهجور ، أن نشير أيضاً إلى الرابطة السببية ، و هي رابطة فنّية كما هو واضح في حقل الأدب القصصي ، هذه الرابطة السببية تتمثّل في ما يُسمى بــ : النموّ لحوادث القصة ، حيث تؤدّي الأسباب إلى نتائج ، و حيث يُفضي السابق إلى ما هو لاحقٌ به ...

فالمكان المهجور ، أو القطع عمّا في أيدي الآخرين يُفضي إلى عطاء ثر أشدّ ضخامةً ، بل لَيتُمُّ ذلك فوق ما تحتسبه الشخصية ما لم يُدر ببالها من عطاء متوقّع ، ألا و هو الإثمار بالرطب الجني من جذع مهجور لا فائدة منه.

إذن الانسلاخ من عالَم الآخرين و الاتجاه إلى عالم اللّه يتسبّب أو يُفضي إلى تحقيق إشباع غير متوقّع ، إشباع لا يألفه الواقع الذي يحياه الآخرون ... إشباع مليء بسعة السماء ذاتها ، و هي سعةٌ لا حدود لها ...

* * *

هنا لا يغب عن بالنا ـ و نحن نتحدّثُ عن البيئة التي اكتنفت قصة مريم ـ أن نشير أيضاً إلى بعض التفصيلات الاُخرى لهذه البيئة.

فالنصوص المفسّرة تشير إلى أنّ السماء أجرت لمريم نهراً تشرب منه في ذلك المكان القصي المهجور ...

و الآية الكريمة ذاتُها تشير إلى عملية الشرب: ﴿فَكُلِي وَ اشْرَبِي ، كما تُشير إلى النهر: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا.

و مع مثل هذه الدلالة فإنّ التوازن الفني بين بيئتي: المكان المهجور و الجذع ، ثمّ عملية النموّ الفنّي المتمثلة في الإثمار من جذع لا يُثمر عادة ، هذا النمو يأخذ أقصى معطياته حينما ينتهي الأمر إلى تفجير النهر من أرض لا ماء فيها.

هذا ، إلى أنّ تفصيلات اُخرى واكبت هذه البيئة التي اكتنفت مريم ، حيث تحدّد الطرائق المعجزة التي تمّ من خلالها إثمار النخل و تفجير النهر. من نحو ذهاب النصوص المفسّرة إلى صعود مريم نحو أكمة ، و رؤيتها جذع نخلة نخرة يابسة هناك ، و إلى أنّ الفصل كان شتاءً و ليس صيفاً ، و إلى خروج الرطب دُفعةً واحدة و ليس وفق مراحل نموّه ، و إلى أنّ الإثمار قد تمّ من خلال ضرب الجذع بالقدَم.
و عندها أورقَ و أثمر و تساقَط.

و فيما يتصل بالنهر ، ... تذهب النصوص إلى أنّ عيسى (عليه السلام) نفسه قد ضرب برجله ، فتدفّق النهر ...

على أيـّة حال ، كلّ هذه التفصيلات و ما تقدّمها تظل مفصحةً عن بيئة معجزة تتناسب مع الشخصيات المعجزة ذاتها ، مثلما تتناسب مع طبيعة النشاط العبادي لمريم ... فضلا عمّا تنطوي عليه من مرأىً جمالي صرف من حيث مباهج الطبيعة التي فجرتها السماء: جذعاً يورق و يُثمر و يتساقط رطباً ، و أرضاً ينسربُ النهر فيها.

* * *

و الآن لقد لحظنا أنّ البيئة التي تحرّكت فيها قصةُ مريم ، قد اتّسمت بما هو مُدهشٌ و معجزٌ و جميلٌ و رهيب ، متمثلةً في بيئة جغرافية تتصل بالنخلة و رُطبها ، و بالنهر ، و بالمكان الشرقي ، و القصي ...

و الآن حين نتابع سائر العناصر التي واكبت هذه البيئة من أحداث و شخوص يمكننا ملاحظة نفس الطابع المتّسم بالدهشة و الرهبة و الجمال و الإعجاز ...

فمنذ أن اتخذت حجاباً بينها و بين أهلها لئلاّ يروها ، منذ ذلك بدأت أوّل حادثة رهيبة كسرت ذلك الحجاب ، و أدخلت الرُعب في أعماقها:

إنّها صورة آدميٍّ يقتحم المكان الذي تتعبّد فيه ، لم تعهده ، و لم تتوقّعه البتة ...
لقد انكرته إنكاراً شديداً ممّا جعلها تتعوّذ منه بقولها (عليها السلام) ، مخاطبةً إيّاه:

﴿إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً

هذه المفاجأة التي أرعبت مريم ، قد أعقبتها مباشرة مفاجأة اُخرى:

و هي حينما تلقّت جواباً من ذلك المَلَكِ الذي اتخذ صورة آدمية ، و الجواب هو:

﴿إِنَّما أَ نَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً

إذن الصورةُ الآدميةُ، هي مجرّدُ تمثّل في كيان فيزيقي ، إنّها الروح: جبرئيل ...

ثمّ جاءت المفاجأة الثالثة و هي: التبشير بُغلام تُنجبُه ، ممّا أدهشها أيضاً و جعلها تتساءل:

﴿أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ...

ثمّ جاءت المفاجأة الرابعة و هي جواب جبرئيل لها مؤكداً هذه البشارة ، ناقلا لها جواب السماء:

﴿قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ

إذن حيال هذه المفاجأة الرابعة يبدأ الضباب بالتكشّف ، ... و تبدأ الاُمور تتضح بجلاء ، مفصحةً عن السرّ الفنّي وراء هذا الحدَثَ المعجز ...

و أوّل هذه الأسرار: أنّ السماء قادرةٌ على أن تصنع أيّ شيء ... و الآخر: هو أنّ القضيّة تتصل بتقديم دليل معجز ، هو ولادة عيسى (عليه السلام) من غير فحل ، ليكون ـ فيما بعد ـ من خلال هذه الولادة حُجّةً على الناس في اتّباعه و الإيمان برسالته ...

* * *

بيد أنّ مريم (عليها السلام) بالرغم من إيمانها العميق بهذه البشارة ... لا تزال تحسب للناس حسابَهم ، ... و لا يزال الخجلُ يلفّها ، لقناعتها بأنّ الآدميين من الصعب عليهم أن يهضموا مثل هذا الحدَثَ المعجز ، و لذلك انفردت في مكان قصي حياءً من الآخرين ، و خشيةً من الإتّهام.

و قد بلغ بها التخوّف قمّته ، حينما واجهها المخاضُ فعلا ، و عندها هتفت جازعةً:

﴿يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا

إنّ هذا الهتافَ الجازعَ الذي تمنّى الموت ، يُفصح ـ فنيّاً ـ من خلال عنصر الحوار القصصي أنّ الحوار يضطلع فنيّاً بالكشف عن حقائق تتصل بمشاعر الناس ، و هي مشاعرٌ لم يسردها النص و لم ينقل تفاصيلها حتّى في عملية حوار فعلي فيما بينهم ، أو فيما بينها و بينهم ، إلاّ في خاتمة القصة.

و السرّ في ذلك من الوجهة الفنية ، أنّ النص يعتزم الكشف عن مشاعر مريم ذاتها ، و معرفتها سلفاً بما ستكون عليه استجابةُ الناس حيال هذا الحدَث المعجز ، و ذلك قبل أن تَحدُثَ أيةُ استجابة فعليّة من الناس.

و هذا ما أوضحته النصوصُ المفسّرة حينما ذهبت إلى أنّ مريم ـ نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ كانت على وعي تماماً بطبيعة قومها الذين لم تعهد فيهم شخصاً رشيداً ينزهها من السوء.

و بالفعل فإنّ خاتمة القصة قد حققت هذه النبوءة ، أي التخوّف من الاتهام ، فنقلت لنا هذا السيل من التُهم ، من نحو قولهم:

﴿لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا

و قولهم:

﴿ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء

و قولهم:

﴿ما كانَتْ أُمُّكِ ...

إذن من الوجهة الفنية كان هتافُ مريم يُمهّد لمواقف لاحقة في القصة تتصل بمشاعر الناس ، مثلما كان في الآن ذاته يكشف عن حقيقة وعيها بهذه المشاعر ، و عدم تحمّلها لأمثلة ذلك الاتّهام ...

* * *

على أيّة حال يعنينا الآن أن نتابع ما هو مدهشٌ و معجزٌ من البيئة التي تحرّكت قصةُ مريم من خلالها.

لقد كانت أوّل حادثة رهيبة تفاجىء مريم ـ و هي في عزلتها عن الآخرين ـ هي الروح: جبرئيل.

ثمّ كان من أمر البشارة ما كان.

و يجيء الحدث الرهيبُ المدهشُ الآخر ، متمثلا في عملية الحمل ذاتها.

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ جبرئيل نفخ في جيب المِدرعَة ، فكمل الوَلدُ من ساعته أو خلال تسع ساعات.

ثمّ حانت ساعة المخاض.

و كان من أمر النخلة و ثمارها ، و النهر ، أو الشرب منه ما كان.

لقد حَدَثَت مفاجأة مدهشةٌ جديدة ...

هذه المفاجأة المدهشة ـ من حيث البُعد الفني ـ جاءت جواباً وقتياً يهدّئ من جزع مريم عبر هتافها المرير:

﴿يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا ...

لقد جاء الجواب حدثاً مدهشاً معجزاً بدوره ، لعلّه يمسح آثار الاستجابة المريرة لديها.

فقد هتف عيسى (عليه السلام) نفسه ـ و بعضُ النصوص تذهب إلى أنّ جبرئيل ـ راسماً لها طرائق الإفادة من البيئة التي جزعت منها مريم ، مهدّئاً من جَزعِها ، قائلا:

﴿أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ...

ثمّ جاءت المفاجأةُ أخيراً ، و هي أشدّ دهشة و بَهَراً من المفاجات السابقة ، ألا و هي محادثةُ عيسى (عليه السلام) نفسِه ـ و قد وُلد لتوّه ـ ، قائلا:

﴿إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا

حيث تنتهي القصةُ بهذه المحادثة المدهشة.

و كانت هذه المحادثة ـ من حيث البعد الفنّي أيضاً ـ جواباً لكلّ الاتهامات التي بدأت تتوالى فعلا على مريم.

و سكت النصُّ بعد هذه المحادثة المعجزة عن رسم استجابة الناس مفصحاً بهذا الصمت عن صمت الناس و هم يواجهون حدثاً معجزاً لا يملكون حياله أيّ اتهام رخيص بعد مشاهدتهم لمعجز مذهل مدهش.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page