قَالَ اللّه تعالى:
﴿وَاذْكُرْ فـِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولا نَبِيّاً﴾
﴿وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الاَْ يْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾
﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾
هذه الاُقصوصة هي الاُقصوصة السادسة من الأقاصيص التي استُهلّت بها سورة «مريم».
لقد كان مفهومات الرحمة التي أغدقها اللّه على زكريا و مريم و ابنيهما ، ثمّ قضية الإنجاب للذرّيّة الطيّبة ، فضلا عن تأكيد سمات خاصة من نحو الرضى و التقى و المباركة و العناية من قبل السماء بهذه الشخصيات و ذرّيتها ... هذه المفهومات نجد انعكاساتها على قصة موسى و ما يليها من الحكايات التي تنظم سورة مريم ، ممّا يفصح ذلك كلّه عن إحكام العمارة الفنّية للسورة فيما نُعنى بإبرازها في هذه الدراسة.
لقد وَسَم النص شخصية موسى بطابع الإخلاص:
﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً﴾
كما وسمه بكونه قد نُودِيَ من جانبِ الطور:
﴿وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الاَْ يْمَنِ﴾
و وسمه بأنّه قد قُرّب إلى اللّه من خلال مناجاته و تكلّمه:
﴿وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾
هذه السمات ـ كما أشرنا ـ تظل مرتبطة لما لحظناه من السمات التي خلعها النص على شخصيات زكريا و مريم و ابنيهما ، كما أنّ الاُقصوصة ختمت ذلك بقولها:
﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً﴾
إنّ هذه الخاتمة تظلّ أيضاً في مقدّمة الرسم الذي طبع الأقاصيص المشار إليها ...
حيث وهب اللّه يحيى لزكريّا.
﴿ ... فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ... إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام اسْمُهُ يَحْيى﴾
و حيث وهب عيسى لمريم
﴿أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً﴾
و حيث وهب لإبراهيم إسحاق و يعقوب
﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾
إنّ هؤلاء الذين وهبهم اللّه لزكريا و مريم و إبراهيم تطبعهم سمة النبوّة كلّ ما في الأمر أنّ الأبطال السابقين يحيى ، عيسى ، إسحاق و يعقوب يجسّدون النبوّة من حيث الانتساب ، بينما يمثل هارون سمة الاُخوّة.
﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ...﴾
و من البيّن أنّ جمالية البناء الهندسي لأيّ نص لا يقف عند الخطوط المتماثلة ، بل يتجاوزه إلى خطوط التضاد أو التقابل أو التباين ، لكن من خلال الوحدة التي تنتظم الخطوط ، أو من خلال ما يسمى بخطوط التباين من خلال التماثل ، و التماثل من خلال التباين.
هنا في قصة موسى نلحظ التباين في قضية ما وهبه اللّه لموسى و هو الأخ ، أي هارون مقابل الولد بالنسبة لغيره من شخوص القصص.
و نلحظ التماثل و هو ما وهبه اللّه لموسى من خلال التباين بين الأخ و الولد ، و هذا هو ما نقصده من المصطلح الفني المذكور: مصطلح التباين من خلال التماثل ، و التماثل من خلال التباين ... و هو عنصر له أهميته في كلّ الأشكال الأدبية ، قصة كانت أم غيرها.
إنّ أهمية ذلك تتمثّل في أنّ المسوّغ لتقديم قصة جديدة أو شخصية جديدة ، هو طرح فكرة جديدة مضافاً لأفكار اُخرى تضمّنتها القصص أو الشخصيات السابقة ... و هذا هو ما يجسّد أهمية التباين.
أخيراً لابدّ أن يكون تقديم شخصية جديدة مثل موسى في سياق شخصيات إبراهيم و عيسى و يحيى و مريم و زكريا مقروناً بطرح جديد و هو الشخصية التي تؤازره في تبليغ رسالة السماء هارون من حيث كونه أخاً ، و هذا مفهوم التباين بين كونه أخاً من جانب و مؤازراً لموسى في تبليغ الرسالة من جانب آخر.
و أمّا ما يفرض مفهوم التماثل ، فهو ضرورة إخضاع السورة أو قصصها إلى فكرة عامّة يستهدفها النص حتّى تترك تأثيرها في المتلقّي ، و إلاّ ينتفي مفهوم الهدف الذي تحوم السورة أو القصة عليه.
من هناك جاء التماثل بين مفهومات الرحمة و الهبة و الإخلاص منسحباً على كلّ الشخصيات ، لا فارق في ذلك بين زكريا أو عيسى أو موسى أو غيرهم ...
إذاً يظلّ المفهوم الفنّي الذاهب إلى فاعلية التماثل بين الظواهر من خلال تباين موضوعاتها ، أو تباين الظواهر من خلال تماثل موضوعاتها ... يظل هذا المفهوم الفني مطبوعاً بفاعلية لها أهميتها في ميدان التأثير على المتلقّي و تحقيق الغرض الفكري الذي تستهدفه القصة أو السورة ، فضلا عن أنّ ذلك كلّه يشيع لدى المتلقّي إحساساً بجمالية الأداء مادام الإحساس بالجمال يمثّل واحداً من الدوافع البشرية ، كما هو واضح.
إذاً ، أمكننا أن نلحظ مدى إحكام البناء العماري للعنصر القصصي في النص سواء أكان ذلك في نطاق القصة الواحدة أو جميعاً ، ثمّ صلة ذلك بالفكرة التي تحوم عليها السورة .