• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة طه : العصا

 قلنا : إنّ النص القصصي قد أبرَزَ من بيئة القصة عنصر العصا . و أبرز بعضاً من وظائفها متمثلةً في التوكُّؤ عليها ، و في خَبطِ ورقِ الشجر بِها لِترعاه غنمُه . ثمّ أبهَمَ وظائفها الاُخرى مكتفياً من ذلك ، بقوله ـ على لسان موسى (عليه السلام) ـ :

﴿وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ اُخْرى

و يحسن بنا الآن أن نتعرّف على هذا العنصر البيئي و ما يواكبه من الأسرار الفنّية وراء عمليات الاختزال و الإبهام و التفصيل للعصا .

* * *

إنّ أوّل تفصيل ذكرته القصةُ عن العصا ، هو أنّها كانت وسيلةً يعتمد عليها في رحلته المجهولة . و لقد أبهَمَ النصُّ أهدافَ هذه الرحلة التي قام بها موسى (عليه السلام) .

و بيّنٌ من خلال البداية القصصية التي تحدّثنا عنها سابقاً ، أنّ النص كان في صدد التمهيد لإبراز قضيّة النهوض برسالة السماء ، و ليس في صدد الحديث عن حياة موسى السابقة ، إلاّ بما له صلة بأفكار القصة لاحقاً .

و من هنا يَنتفي المُسوّغ للحديث عن الرحلة من حيث بداياتها ، حيث ينحصر المسوّغ في تحديد بعض معطياتها التي تحدّثنا عنها متمثّلةً في البحث عن النار بغية التدفئة لزوجته التي داهمها الطلق ، و بغية الإفادة منها في تحديد معالم الطريق .

و حيث قد انتفى المسوّغُ لِذِكر الرحلة التي قام بها موسى إلاّ في نطاقها المحدّد المذكور . . . حينئذ ينتفي المسوّغ لتفصيلاتها و تبقى الحاجةُ من ثمّ إلى رموز فنّية تتحدّث عن وجود رحلة فحسب ، و ليس عن تفصيلات لهذه الرحلة .

من هنا جاءت العصا لِتُشير من خلال رموزها الفنّية إلى مستويات هذه الرحلة ، حيث نستكشف فنّياً أنّ هذه الرحلة طويلة المدى ، بدليل أنّ موسى (عليه السلام) يحتاج من خلالها إلى عصا يتوكّأ عليها في مشيه لمسافة طويلة ، و إلاّ لانتفت الحاجةُ إليها في المسافات القصيرة عادة .

و ممّا يدعم ذلك أيضاً ، هو أنّ الوظيفة الثانية للعصا تكشف عن طول الرحلة و استمراريتها . فالوظيفة الثانيةُ للعصا تتمثّل في أنّها قد استخدمت للهشّ بها على الغنم : يخبط بها ورق الشجر لترعاه الغنم .

و هذا يعني أنّ موسى (عليه السلام) قد صحب الغنم .

و اصطحاب الغنم لا يتحقّق إلاّ في رحلة طويلة ذات استمرار .

مضافاً إلى ذلك فإنّ الوظيفة الثالثة التي أبهَمَها النصّ ، تكشف بدورها عن طول الرحلة و استمراريتها .

فقد قال النص ـ على لسان موسى ـ عن الوظيفة الثالثة للعصا :

﴿وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ اُخْرى

فلقد أبهَمَ النصّ هذه المآرب الاُخرى للعصا ، لكن التفسير المأثور أوضح جانباً من هذه الحاجات ، حيث نَقَلَ لنا أنّ موسى كان يحمل عليها زاده .

و واضحٌ أيضاً أنّ حمل الزاد لا يتحقق إلاّ لمُسافر . و أشارت التفاسير إلى بعض الظواهر الإعجازية التي رافقت العصا حتّى قبل هبوط الرسالة على موسى ، حيث ذكرت أنّ موسى كان يضرب بها الأرض فيخرج منها ما يأكله ، و يركّزها فيخرج منها ما يشربه .

و أضافت النصوصُ المفسّرةُ إلى ذلك ، إلى أ نّه كان يحارب بها السباع ، و يستضيء بها في الليل ، و يحني بها رؤوس الشجر ، بل و كانت تحدّثه و تؤنسه في الدرب .

كلّ هذه الوظائف للعصا تنمّ عن أنّ الرحلة كانت استمراريةً تمتدّ في الليالي والأيام .

* * *

البُعد الآخر لهذه الرحلة ـ فيما نستكشفها من الرموز الفنّية للعصا ـ هو أنّ الرحلة كانت في الصحارى و الغابات الصحراوية ، حيث أنّ مطاردة السباع ، و رعي الأغنام ، و تفجير العيون ، و استخراجَ الأكل ، لا يتمّ عادة إلاّ في الصحارى و غاباتها .

* * *

ممّا يمكن أن نستخلصه فنّياً ـ من العصا و وظائفها و طبيعة شكلها و ما واكب ذلك ـ من خلال النصوص المفسّرة ، أنّ العصا من حيث أصلها هي من آس الجنّة ، أخرجها آدمٌ (عليه السلام) و توارثَها الأنبياء إلى أن بلغت شُعيباً (عليه السلام) فدفعها إلى موسى .

و من حيث شكلها تقول النصوص المفسّرة : إنّ طولها كان عشرة أذرع .

و أيّا كان الأمر ، فإنّ العصا بكلّ رموزها الفنّية تمثّل من حيث المصدر و الوظيفة شريحةً من عنصر البيئة الجمالية التي رسمتها القصة .

و قد واكب ذلك ، أنّ رسم العصا قد اقترن بنمطين من الرسم ، أحدهما : رسمها بملمح مألوف من حيث كونها مجرّد عصا يتوكّأ عليها ، و يُهشّ بها على الغنم ، و يحارب بها السباع . . . إلى آخره .

و الآخر : رسمُها بملمح مُعجز ، من حيث أصلها : آس الجنّة ، و من حيث مصدرها : توارثها الأنبياء ، و من حيث وظيفتها : تفجير المياه ، و استنبات الأكل ، و إحناء رؤوس الشجر .

بيد أنّ هذا الملمح المعجز لم يرسمه النصّ ، بل تكفّلت النصوص المفسّرة بتوضيحه .

و هذا على العكس من الملمح المعجز الذي سيواكب رسالة موسى ، حيث يترافق رسم المعجز مع رسم الرسالة .

لقد كانت العصا عصا موسى (عليه السلام) ـ فيما لحظنا ـ ذات وظائف متنوّعة ، بعضها
يتّصف بما هو مألوفٌ و عادي ، و بعضها يتّصف بما هو مُدهش و معجز .

فالتوكّؤ عليها ، و الهشّ بها على الغنم ، و مطاردة السباع بها . . . إلى آخره ، تمثّل ما هو مألوف و عادي .

أمّا تفجير المياه بها ، و استخراج الأكل و إحناء الشجر ، . . . إلى آخره ، فتمثّل ما هو مُدهشٌ و معجز .

بيد أنّ ما هو مدهشٌ و معجزٌ من العصا ، إنّما يأخذ فاعليّته الأشدّ دهشةً و اعجازاً مع زمان الرسالة بدءً من لحظات التكليم تكليم السماء لموسى ، مروراً بقضيّة موسى مع السحرة ، و انتهاءً بالأزمنة اللاحقة لنبوّة موسى(عليه السلام) .

و يعنينا الآن من ذلك ، أن نتحدّث عن فاعلية العصا في لحظات التكليم ، و هي تمثّل المرحلة الثانية من الفعاليات .

يقول النص القصصي ـ بعد أن سألت السماءُ موسى عمّا في يمينه ، و بعد أن أجابها بأنّها عصاه التي يتوكّأ عليها ، و يهشّ بها على الغنم ، و أنّ له فيها مآرب اُخرى ـ يقول النص بعد ذلك مطالباً موسى بأن يُلقيها في تلك اللحظات لحظات التكليم :

﴿قالَ : أَلْقِها يا مُوسى

﴿فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى

و طبيعيّاً فإنّ ما هو مدهشٌ و معجزٌ حقاً يأخذ فاعليته الشديدة عندما يُفاجَأُ موسى بما لم يدُر في حسبانه ، و هو انقلاب العصا إلى حيّة تسعى . حيث أنّ عنصر المفاجأة يسهم في تصعيد الدهشة و الانبهار . أمّا إذا ألِفَتِ الشخصيةُ ملاحظةَ المعجز ، فحينئذ يضمر حجم الاستجابة لديها ، و تعوّض عنصر التخوّف أو الدهشة المقرونة بالتوجّس بعنصر آخر ، هو الدهشة المقرونة بما هو عميقٌ و متغلغل من إيمان الشخصية بقدرات السماء التي لا حدود لتصوّرها .

من هنا لم يتكرّر عنصر التوجس و التخوّف لدى موسى ، عندما انقلبت عصاه إلى حيّة تسعى ، بل تلقف ما صنعه السحرة . . . لم يتكرّر لديه هذا التوجّس و التخوّف بسبب من اُلفته للظاهرة المعجزة و تَغلغُلِ إيمانِه بقدرات السماء ، حيث يتحقق ذلك من خلال التأمّل المستأني ، و ليس من خلال المفاجأة التي تتطلّب بعض الوقت ، لحين تحقق فاعليتها .

و هذا ما لحظناه فعلا في طبيعة استجابة موسى عندما فوجئ بانقلاب العصا حيةً تسعى .

فالنصوص المفسّرة تقصّ لنا بأنّ موسى (عليه السلام) قد حانت منه نظرةٌ فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، و يمرّ بالصخرة مثل الخلِفة - أي الحامل ـ من الإبل فيلقمها ، و تطعن أنيابه في أصل الشجرة فتجتثّها ، و عيناه تتوقّدان ناراً .

و حيال مثل هذا المرأى المفاجئ ، نجد موسى و قد ولّى مدبراً و لم يُعقّب ، لكنه بعد لحظات عندما ضمر عنصر المفاجأةُ و سمح الوقتُ له باستعادة توازنه الداخلي . . . عندها تذكّر أنـّه حيال السماء التي لا حدود لقدراتها العظيمة . . .
و عندها ذكَرَ اللّه فوقف استحياءً منه .

و مع ذلك فإنّ الخوف الشديد لا يزال يلازمه من المرأى المدهش المُعجز . . .

فالسماء ـ و هي تحيط بكلّ شيء علماً ـ قدّرت مبلغَ الاستجابة الخائفة لدى موسى ، فشجّعته ـ تبعاً لذلك ـ مطالبةً إيّاه بعدم الخوف ، مُطمئنّةً إيّاه بأنّ السماء ستعيد الحيّة إلى حالتها الاُولى : العصا .

﴿قالَ : خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الأُولى

و تقول النصوص المفسّرة : إنّ موسى (عليه السلام) كانت عليه مدرعة من صوف قد خلّها بخلال . فلما أمره سبحانه بأخذها ، أدلى طرف المدرعة على يده . فقال : ما لك يا موسى ؟ أرأيتَ لو أذن اللّه بما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً ؟

و عندها أقرّ موسى بضعفه .

ثمّ كشفَ عن يده و وضعها في فم الثعبان ، فإذا هي في ذات الموضع الذي كان يتوكّأ ـ من خلاله ـ على عصاه .

إنّ هذا النمط من الاستجابة يكشف لنا عن طبيعة الخوف الإنساني بعامّة ، و إلى أ نّه استجابة طبيعيةٌ جداً .

بيد أنَّ السماء أرجعت كلّ شيء إلى مكانه عندما أفهمت موسى (عليه السلام) أنّها مالكةٌ لناصية الاُمور كلّها ، و إلى أنّها لو لم تتدخّل في الأمر لما كانت المدرعةُ تغني عن موسى أيّ شيء .

* * *

و بعامّة ، ستأخذ العصا بعد هذه الواقعة مرحلة جديدة من الفعالية ، حيث يطالب النصُّ القصصي مُوسى بأن يذهب إلى فرعون و يحتجّ عليه بأدلّة عقلية و تجريبية ، و منها تجربة العصا ذاتها ، فضلا عن تجربة اليد البيضاء .

و كما نعرف جميعاً فإنّ العصا لعبت دوراً كبيراً في الانقلاب الفكري لدى السحرة أنفسهم و هم طرف المخاصمة في هذا الموقف ، حيث اُلقي السحرةُ ساجدين .

من هنا نفهم القيمة الفنّية لرسم ظاهرة العصا التي امتدّت بوظائفها منذ الوهلة التي تسلّمها موسى من شعيب ، و حتى اللحظة التي أحدثت الانقلاب الفكريَّ العظيم لدى السحرة . . . ممتدّةً بوظائفها إلى أزمنة لاحقة من حياة موسى .

* * *

وإذ ننتقلُ من رسم البيئة في قصة موسى (عليه السلام) إلى رسم الموقف فيها ، نجد أنّ القصة في فصلها الأوّل الذي مُهِّدَ لَه بقضية البحث عن النار ، و استهلّه بقضية التكليم . . . هذا الفصل قد استهلّه بموقف هو : اصطفاء موسى للنهوض بالرسالة .

و يلاحظ أنّ الدلالة العبادية في هذا الموقف قد صاحبَها التشدّدُ على إبراز معاني القداسة و الصفاء و الطهر و التوجّه النقيّ نحو السماء .

فأوّل ما طالب النصُّ به ، هو خلع النعل ، و من ثمَّ الإشارة إلى قداسة الوادي الذي يضمّ موسى (عليه السلام) .

﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً

ثُمّ تلا ذلك المُطالبة بالعبادة و ممارسة الصلاة ، من خلال التشدّد على أحد مستوياتها المتمثلة في إقامتها أيَّ وقت تَذَكّرها فيه .

ثمّ تَبِع ذلك الإشارة إلى موعد الساعة و إخفاء الموعد عن الآخرين ، و كونها موعداً لثواب الأعمال و عقابها .

و حين نتابع هذا الموقف نجد أنّ جواب موسى للسماء ، قد صاحبته أيضاً أمثلةُ تلك الدلالات العبادية ، فموسى (عليه السلام) عندما طلب من السماء أن تعينه في النهوض
بالرسالة ، علّل هذا الطلب بقوله :

﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً

فالتسبيح و الذكر يشكّلان دلالات عبادية توازن المطالبة بذكر اللّه من خلال الصلاة وسواها من الممارسات التي تحمل دلالة الطهر و القداسة و التوجّه نحو السماء .

* * *

و نتابع هذا الفصلَ القصصي ، فنجد أنّ الموقف فيه قد تضمّن طلب الدعم من السماء للنهوض بالرسالة ، ليس من خلال نتائجها العبادية فحسب ، بل من خلال وسائلها التي تتطلّبها طبيعةُ الموقف السياسي الذي يواجه به طاغية العصر ، فرعون .

﴿قالَ : رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي

﴿وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي

﴿وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي

﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي

إنّ هذا الحوارَ حوارَ موسى مع السماء يتضمّن جملةً من مُلابسات الموقف ، بما يتطلّبه من إعداد نفسي و ماديّ لمواجهة العدوّ ، مسبوقاً بالدعم أساساً .

فقد طلب موسى أوّلا ، أن تمنحه السماء قدرةَ الصبر على الشدائد و تيسير المُهمّة :

﴿اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي

تلا ذلك طلبُه من السماء أن تزيح عنه عُقدة اللسان ، مادام الموقف يتطلّب مهارة كلاميّة ، بُغية إيصال الحقائق إلى العدو بوجهها الأكمل :

﴿وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي

تلا ذلك طلبُه من السماء ، أن ترسل معه أخاه هارون ، ليُساعده في تحقيق المُهمّة .

أكثر من ذلك طلب موسى من السماء ، أن تجعل من هارون ليس مجرّد وزير يستعين به في تحمل المسؤولية ، بل طلب من السماء أن تُحمّل هارون مسؤولية النبوّة ذاتها . لأنّ تحميله مسؤولية النبوّة يجعله أشدّ حرصاً على تحقيق المُهمّة الخلافية :

﴿أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي

و إزاء هذا الطلب حقّقت السماء لموسى اُمنيتَه ، قائلةً له :

﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى

و لسوف نرى أنّ تحقيق الطلب لموسى يرتبط ليس بما يتطلّبه الموقف من الإعداد النفسي و المادي فحسب ، بل بمواقف سابقة و لاحقة تُلقي بعضَ الإنارة على هذا الجانب .

أمّا المواقف اللاحقة ، فستتمخّض عن طبيعة التعامل الذي سيواجه هارون عندما يخلّفه موسى على القوم عشيّة ذهابه إلى الميقات على النحو الذي سنفصّله .

و أمّا المواقف السابقة ، فتتصل بطبيعة العقدة اللسانية لدى موسى ، حيث يرتبط طلب إزالة هذه العقدة بتعامل فرعون مع موسى في طفولته .

فالنصوص المفسّرةُ تروي لنا : إنّ فرعون عندما أوتيَ موسى إليه ـ بعد حادثة إلقائه في اليم ـ أراد قتله عندما عبث موسى بلحية فرعون ، و عندها تدخّلت آسية بنت مُزاحم في الأمر موضحةً لزوجها فرعون أنّ صنيعَ موسى بفرعون إنّما هو ناجمٌ من كونه طفلا غير مميّز .

و لكي تُثبت آسيةُ هذه الحقيقةَ لفرعون ، أتت إليه بجمرة و درّة ، فهمّ موسى بتناول الدرّة لولا أن تدخّل جبرئيل فصرف يدَه نحو الجمرة ، فتناولها و وضعها في فمه فاحترق لسانُه و تسبّب ذلك في تشكّل العقدة لديه .

و المهمّ أنّ هذه الواقعة الطفولية قد شكّلت جانباً من العطاءات التي ستذكّر السماءُ موسى بها ـ في سلسلة العطاءات التي تسردها هذه القصةُ وسواها ـ فيما أنقذت موسى من القتل ، بعد أن أنقذته من الغرق في اليم غداة اُلقي في التابوت .

و خارجاً عن هذا الموقف ، فإنّ طلبَ إزاحة العقدة اللسانية يظلّ مرتبطاً بمواجهة فرعون الذي كان وراء تسبيب العقدة المذكورة . حتى كأنّ النص القصصي ـ من الواجهة الفنّية ـ ينقلنا إلى إجراء مُوازنة :

بين الذهاب إلى فرعون ، و قد كبُر موسى ، و اضطلع بأكبر مهمّة .

و بين التخلّص من فرعون و هو طفلٌ .

حيث تطلّ النتيجةُ نصراً على فرعون في الطفولة و في الكبر ، فضلا عن أنّ إزالة العقدة اللسانية سيقترن بظاهرة كان فرعونُ نفسُه قد أحدثها ، و هو أمرٌ يتطلّب إزاحةَ تلك العقدة مادامت المواجهة الجديدة مع فرعون نفسه ، حتّى كأنّ النص القصصي ينقلنا من جديد إلى إجراء مقارنة بين مواجهة لفرعون و قد أصبح موسى فصيحَ اللسان ، و بين تذكّر لحادثة كان فرعونُ وراء إزالة الفصاحة عنه .

و مثل هذه الموازنةُ لها أهمّيتها الفنّية في حقل البناء القصصي ، كما هو واضح .

* * *

لقد بدأت قصةُ موسى بواقعة البحث عن النار ، حيث تمثّل هذه الواقعة آخر مرحلة من حياته الاُولى : حياة ما قبل النبوّة .

و في حينه أوضحنا السببَ الفنّي وراء هذه البداية ، و قلنا : إنّ القصة حينما تبدأ من مرحلة زمنية معينة دون أن تأخذ تسلسلها الموضوعي في الزمان ، فلأنّ سياق الأفكار التي يستهدفها النصُّ القرآني هو الذي يفرض تقطيع الزمان و اختيار المرحلة الملائمة .

و الآن نجد أنّ النص القصصي يرتدّ بنا إلى الوراء بعد أن بدأ بالقصة من حادثة البحث عن النار ، و بعد أن تابعها بمراحل الزمان الموضوعي حيث سردَ لنا بعد حادثة البحث عن النار ، سردَ حادثةَ التكليم في الواد المقدّس على النحو الذي فصّلنا الحديث عنه .

و لقد لحظنا أنّ قضية التكليم قد وقفَ بها النص عند ظاهرة العصا واليد ، و مطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، و جواب موسى بطلب إلى السماء بأن تزيح عقدة لسانه ، و بأن ترسل معه أخاه هارون ، ثمّ إجابة السماء لِطلبه .

هنا قَطعَ النصُ سلسلةَ الأحداث ، فبدلا من أن يسردَ لنا ذهاب موسى و هارون إلى فرعون ، . . . بدلا من ذلك . . . عاد بنا إلى الأيام الاُولى من حياة موسى ، . . .
عادَ بِنا إلى طفولة موسى ، فشبابه ، فمكوثه في مدين ، فمجيئه إلى الوادّ المقدس .
أي عادَ بنا النصّ إلى نفس النقطة التي بدأت القصةُ بها ، بحيث وَصَلَ بين مراحل حياته الاُولى التي بدأت بحادثة إلقائه في اليم ، و خُتمت بحادثة بحثه عن النار .
ثمّ واصَلَ بعد ذلك تكملةَ ما قَطعَه من السرد المتصل بقضية ذهاب موسى إلى فرعون .

إنّ هذا البناءَ القصصي الذي يقوم على تقطيع الزمن وفق مراحله النفسية و ليس وفق تسلسلة الموضوعي ، ينبغي ألاّ نمرّ عليه عابراً ، بل يتعيّن الوقوفُ عنده و النظر مليّاً إلى أسراره الفنّية .

ينبغي أن نفهم السببَ الفنّي الكامن وراء مثل هذا التقطيع للزمان ، و العود إلى وصل أجزائه بعضها بالآخر . فقد كان من الممكن مثلا ـ كما سنرى في قصة لاحقة ـ أن تبدأ القصةُ بحياة موسى وفق مراحلها المتسلسلة ، كأن تبدأ بحادثة إلقائه في التابوت ، ثمّ رجوعه إلى اُمّه ، ثمّ قتله للنفس ، ثمّ مكوثه في أهل مدين ، ثمّ بحثه عن النار . . . و بهذه ، تنتهي سلسلة حياته الاُولى .

و كان من الممكن أيضاً أن يواصل النصُّ سردَ حياته الجديدة ، بأن يبدأ من حادثة التكليم ، ثمّ ذهاب موسى إلى فرعون . . . إلى آخره .

أقول : كان من الممكن أن يسرد النص هذه القصة وفق مراحلها المتسلسلة التي ذكرناها ، حيث سيتمّ مثلُ هذا السرد في قصة لاحقه . لكننا نتساءل من جديد عن السرّ الفنّي الكامن وراء قَطْعِ سلسلة الزمن ، بحيث يبدأ النص بحادثة البحث عن النار و يصلها بحادثة التكليم و المطالبة بالذهاب إلى فرعون . ثمّ يقطع السرد عند هذه النقطة و يعود إلى المراحل الاُولى من حياة موسى ـ بعد أن كان قد بدأها باُخريات حياته الاُولى ـ ثمّ يعود من جديد إلى متابعةِ ما قَطَعه من السرد المتصل بالذهاب إلى فرعون ؟

* * *

إنّ جانباً من الأسرار الفنّية وراء هذا التقطيع للزمن ، و وصله من جديد ، قد أوضحناه عند حديثنا عن واقعة البحث عن النار ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه .

هنا ، عندما يقطع النصُّ سلسلةَ الأحداث و يرتدّ بنا إلى المراحل الاُولى من حياة موسى ، . . . يُمكننا أن نستخلص الدلالة الفنّية وراء ذلك ، متمثلةً في جملة ما تتمثّل به أنّ قطع سلسلة الحدَث جاءَ عند المرحلة التي طلب بها موسى (عليه السلام) من السماء أن تُعينَه على النهوض بالمُهمّة التي أوكلتها السماءُ إليه ، حيث أجابته السماء إلى طلبه ، قائلةُ له :

﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى

و لقد رَبَطْنا في حينه بين عقدة اللسان لدى موسى ، وصلة ذلك بحياته الاُولى ، و تدخّل السماء لإنقاذه من فرعون و هو طفل غير مُميّز .

هنا يستثمر النصّ هذا التذكّرَ لعقدة اللسان ، عبر تحقّق العطاء الفعلي الذي اغدقته السماءُ على موسى ، حيث حقّقت طلبه بإرسال هارون ، و إزالة العقدة اللسانية ، رابطةً بين هذا العطاء الفعليّ الذي يُداعي إلى الذهن ذكريات العطاءات السابقة ، حيث استدعاه ـ في جملة ما استدعاه ـ تذكّر العقدة اللسانية وصِلتها بإمكان القتل لو لم تتدخّل السماء فتصرف يدَ موسى عن الدرّة .

إنّ استثمار هذا التداعي الذهني ، إنّما يتمّ من خلال العطاء الفعلي الذي اغدقته السماء على موسى ، متمثّلا في إجابتها لطلبه بإرسال هارون ، و إزالة العقدة اللسانية لديه ، و هو أمرٌ ـ كما قلنا ـ يُداعي الذهنَ إلى العطاء السابق المرتبط بالإنقاذ من القتل و هو طفلٌ غير مميّز .

و من هنا يستثمر النصُّ هذا العطاء المرتبط بحادثة الطفولة ، . . . يستثمره بتذكير عطاءات مماثلة تمّت منذ عهد الطفولة أيضاً ، حتّى امتدّت إلى مراحل الشباب ، . . . و حتّى امتدّت إلى المرحلة الجديدة : مرحلة النبوّة .

و الآن ، كيف تمّ السرد القصصي لهذا التذكير بعطاءات السماء من خلال المرحلة السابقة على النبوّة ؟

لقد بدأ العود إلى المرحلة الاُولى من حياة موسى ـ في هذه القصة ـ على النحو الآتي :

﴿وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى

﴿إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى

﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ

﴿فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ

﴿وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي

﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ

﴿فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ

﴿وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً

﴿فَـلَبِثْتَ سِــنِيـنَ فِـي أَهْـلِ مَـدْيَنَ

﴿ثُـمَّ جِئْتَ عَلى قَدَر يا مُوسـى

و واضحٌ أنّ النص حينما عادَ بنا إلى الحياة الاُولى لموسى ، ربطها بعد ذلك مباشرة بالنقطة التي قطع سلسلة السرد من خلالها ، حيث عاد من جديد إلى حادثة التكليم الذي تمثّلها الفقرة الأخيرة :

﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَر يا مُوسى

و نحن بعد أن أوضحنا السرّ الفنّي وراء تقطيع الحَدَث و وصلِه على النحو المذكور ، يجدر بنا أن نقفَ عند هذه المرحلة و ملاحظة تفصيلات الحَدَث فيها .

* * *

لقد سردَ لنا النصّ المرحلةَ المبكّرةَ من حياة موسى بنحو من التفصيل ، ثمّ سرد مراحله الراشدة عابراً ، و فصّلها في قصة لاحقة نقف عندها إن شاء اللّه .

و تتمثّل هذه المرحلة المبكّرة في التذكير بعطاء السماء ، و تدخّلها لإنقاذ موسى منذ اللحظة التي وُلِدَ فيها .

و من البيّن أنّ التذكير بأوّل لَحظات الحياة ينطوي على أهمّية فنّية بالغة المدى إذا أخذنا بنظر الاعتبار ـ ما سبق أن ذكرناه ـ من أنّ النص إنّما ارتدّ بالحدث إلى الزمن السابق ، فلأنّه في صدد التذكير بنِعَمِ السماء على موسى . و التذكير بهذه النعم منذ لحظات الولادة يعني تحسيس الشخصيّة بضخامة العطاء ، و استمراريته ، و عدم انقطاعه منذ اللحظة التي يدبّ فيها على الأرض .

و المهم أنّ هذا العطاء الذي استُهلَّ مع ولادة موسى يتمثّل في عملية الإنقاذ من القتل . فالنصوص المفسّرةُ تذكر لنا أنّ فرعون طاغية عصره ، كان قد قرّر قتل بني إسرائيل و هم أطفال . ثمّ قرّر أن يكون ذلك في سنة ، و رَفْعُ القتل في سنة .

فوُلِدَ موسى في السنة التي يُقتَل فيها الأطفال ، فانقذته السماء من عملية القتل من خلال الإيحاء إلى اُمّه ـ يقظةً أو حُلماً ـ بأن تصنع تابوتاً و تضع فيه موسى و تلقيه في نهر النيل ، حيث يقتاده الموجُ في نهاية المطاف إلى الساحل . و فعلا هيّأت الاُمّ هذا التابوت ، و جعلت فيه قطناً ، و وضعت وليدَها فيه ، و قذفته في النيل .

و تقول النصوص المفسّرة : إنّ التابوت قد اتّجه إلى فرع يتّصل ببستان عائد إلى فرعون . و كان فرعون و قتئذ جالساً هناك مع امرأته آسية بنت مُزاحم . فلمح التابوت ، و أمَرَ بإخراجه . و ما أن فتح التابوت حتّى شاهد طفلا من أحسن الناس وجهاً ، فأحبّه فرعون و أمر باحضار النساء اللواتي كنّ حول داره لكي يرضعنه ، بيد أنّ موسى ، الطفلَ الذي كان يبكي بحثاً عن اللبن ، قد امتنع عن تناول اللبن من أيّة واحدة منهنّ .

و كانت اُخت موسى واقفةً هناك ، حيث أمرتها اُمّها في اللحظة التي اُلقي فيها موسى في النيل أن تتبعه و تراقبَ التابوت . و نتيجةً لمُتابعتها المذكورة استقرّ بها المطاف عند دار فرعون .

و عندما امتنع الطفل عن تناول اللبن ، قالت اُخته حينئذ :

﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ

فوافقوا على ذلك و جيء باُمّه فعلا ، فتناولَ اللبن . . .

و بهذا اللقاء تمّ عودة الطفل إلى الاُمّ :

﴿فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ : كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ

* * *

و هكذا يسرد لنا النصّ تفصيلات هذه الواقعة مُذكّراً موسى بعطاء السماء عليه و على اُمّه ، إذ أنقذته من القتل و أقرّت عيون والدته به .

بعد هذا التذكير يُتابعُ النصّ تذكير موسى بعطاءات اُخرى ، و منها : إنقاذُه من تبعات القتل الذي تمَّ على يديه ، حيث قَتَلَ أحدَ الأقباط ، فأنجاه اللّه من إلقاء القبض عليه حتّى استقرّ به المطاف في مدين .

و يختم النصُّ هذا التذكير بالنِعَم . . . يختمه بوصلِ شرائح القصة بعضها بالآخر ، حيث تُجري السماءُ حواراً مع موسى على هذا النحو :

﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَر يا مُوسى

و واضح أنّ النص بهذا الحوار قد اتجه إلى النقطة التي قَطَعَ فيها سلسلةَ الحَدَث ، و نعني به حادثة التكليم . فقد قَطَعَ النص كما لحظنا سابقاً سلسلة الحَدَث المتصل بالتكليم و المطالبة بالذهاب إلى فرعون . . . قَطَعَها بتذكير موسى بنِعَم السماء عليه .
و ارتدّ بذلك إلى مراحل حياته التي أنتهت إلى حادثة التكليم .

و ها هو النص من جديد يعود إلى حيث قَطَعَ سلسلة الحَدَث ، ليُتابعَ السردَ وفق تسلسله الزمني الذي يبدأ بمطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون ، حيث نواجه تفصيلات جديدة في هذا الموقف .

* * *

لحظنا كيف أنّ قصة موسى (عليه السلام) بدأت من وسط الأحداث ، ثمّ ارتدّت إلى البداية ، ثمّ اتّصلت من جديد بوسط الأحداث ، حيث تجسّدت في مطالبة موسى بالذهاب إلى فرعون .

و لحظنا أيضاً أنّ موسى (عليه السلام) طلب من السماء أن تعينه على ذلك من خلال إزالة العقدة من لسانه ، و مؤازرة أخيه هارون ، حيث أجابته السماء إلى طلبه .

هنا يواصل النصّ القصصي مطالبةَ السماء من جديد بالذهاب إلى فرعون .

و موسى بدوره يطلب من السماء من جديد ، أن تعينه على ذلك مُبدياً تخوّفَه من فرعون و بطشه .

ثمّ تُجيبه السماء من جديد راسمةً له طريقة التعامل مع فرعون ، مؤكّدة له أنّها في عونِ موسى و أخيه في مُهمّتهما العباديّة .

و لنقرأ نصوص هذا الموقف :

﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي

﴿اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى

﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى

﴿قالا : رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى

﴿قالَ : لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى

﴿فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ

﴿وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَة مِنْ رَبِّكَ

﴿وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى

و يُلاحظ في هذا الموقف أنّ موسى (عليه السلام) لا يزال مُبدياً تخوّفه من طاغية عصره فرعون بالرغم من أنّ السماء أجابته إلى طلبه الأوّل ، حينما توجّه إلى السماء بإزالة العقدة من لسانه ، بإرسال أخيه هارون لمؤازرته .

و من قبلُ كان قد تخوّف من مرأى الثُعبان أيضاً .

و ها هو للمرّة الثالثة يُبدي تخوّفه من فرعون بالرغم من أنّ السماء تطالبه بألاّ يني في مهمّته .

و لكن مثل هذا التخوّف يبدو و كأنّه دافعٌ غريزي ـ كما سبقت الإشارة ـ مادام الأمر متصلا ببداية الاضطلاع بالمسؤولية ، و بخاصّة أنّ النص القصصي نفسه قد أضفى على الموقف ما يُحسّس الشخصية بمناخ الخوف ، من نحو تكراره بأنّ فرعون قد طغى مثلا .

بل إنّ إشارة النصّ إلى مخاطبة فرعون باللغة اللّينة يحسّس موسى بأنّه حيال مهمّة محفوفة بالأخطار ، حيث سيواجه طاغيةً من الصعب أن يخضع لليونة القول .

و فعلا فإنّ الأحداث اللاحقة ستكشف عن أنّ فرعون لن يتّبع الهُدى الذي رُسِمَ له . و بأنّه سوف يطغى أشدّ فأشدّ . . .

على أيّة حال ، يظلّ عنصر التخوّف في هذا الموقف ، هو سمةٌ ملحوظةٌ يرسمها النص في القصة .

* * *

يبدأ الفصل الجديد من قصة موسى بمواجهة فرعون على النحو الآتي ، حيث يحذف النص واقعة الذهاب إلى فرعون . كما يحذف طريقة المواجهة التي بدأها موسى مع فرعون . بل نجده يسرد لنا جواب فرعون :

﴿قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى

﴿قالَ : ربُّنا الذي اعطى كُلَّ شَيء خَلْقَه ، ثُمّ هدى

﴿قالَ : فَما بالُ الْقُرُونِ الأُْولى ؟

﴿قالَ : عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتاب لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى

إنّ النص القصصي بحذفه طريقة المواجهة ، إنّما يحقق نمطاً من الاقتصاد في السرد تفرضه طبيعةُ المواجهة التي تتطلب إعادة لما سبقَ أن أوضحه الحوار بين السماء و موسى ، فيما طالبت السماءُ موسى أن يتعامل مع فرعون بلُغة ليّنة و أن يطالبه ببني إسرائيل .

هذه المطالبة لم يُعدها النصُّ القصصي تحقيقاً للاقتصاد في السرد أوّلا ، و لأنّ المواجهة الليّنة لا تخضع لطريقة خاصة ، بل تخضع لطبيعة الموقف و ما يفرضه من لُغة تتناسب مع تركيبة الشخص ، و هو أمرٌ مادام لم يتحدّد في صيغة خاصة ، فحينئذ يجيء حذفُه ضرورة فنّية كما هو بيّن .

المهمّ أنّ النص بدأ برسمِ جواب فرعون ، ثمّ استمرار الحوار بين طَرَفي المواجهة التي تلخّصت في التعريف بمُبدع الكون ، و تقديره للظواهر ، و مجازاته للسلوك .

و قد قطع النصّ الحوارَ بين موسى و فرعون ، . . . و أتمّ التعريفَ بمبدع الكون
و عطاءاته على هذا النحو:

﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً

﴿وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَبات شَتّى

﴿كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيات لأُولِي النُّهى

﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى

ثمّ ختم النصّ هذا الفصلَ القصصي بالتعقيب الآتي ، مُلخّصاً نتيجة الحوار بينه و بين موسى و هارون:

﴿وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى

و بهذا التعقيب يحقق النصُّ مهمةً فنّيةً مزدوجة:

إحداها: تحديد موقف فرعون من الأدلّة الفكرية التي قدّمها موسى في حواره مع فرعون .

و الاُخرى: التنبّؤ بالموقف ذاته في مجالات لاحقة .

حيث سيكذّبُ فرعونُ و سيأبى و يمارس العناد رفض الحقائق التي واجَهَها .

و المهمّ أنّ التنبّؤ بموقف فرعون لاحقاً ، إنّما سيتحقق من خلال أدلّة عمليّة يقدّمها موسى بعد أن قدّم أدلّته الفكرية في هذا الصدد ، و حيث يجيء الدليل العَملي من نقطة التحرّش التي بدأها فرعون نفسه ، فيما اتّهم موسى بأنّه ساحر ، و حينما تحدّاه بأنّه سيجيئه بسحر مثله .

لقد مهّد النصُّ القصصي للأحداث اللاحقة من خلال التعقيب القائل عن فرعون:

﴿وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى

و ها هو النصّ يقدّم نموذجاً للتكذيب ، متمثلا في حادثة السحرة التي مَنحَها النصّ شيئاً من التفصيل ، بدأها أولا بتحدّي فرعون لموسى:

﴿قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْر مِثْلِهِ

و مع هذا التحدّي تبدأ القصةُ بتقديم تفصيلات جديدة عن البيئة التي ستتحرك من خلالها حادثةُ السحرة .

فلقد طالبَ فرعونُ أوّلا بأن يتمّ موعدٌ بين الطرفين لا يتخلّف عنه أحد ، و أن يكون المكان مستويَ المسافة على الطرفين . قال فرعون مخاطباً موسى:

﴿فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً

و أجابه موسى (عليه السلام) إلى طلبه و اقترح أن يتمّ ذلك في يوم قد اعتاد الناس أن يحتفلوا به و تزيّن أسواقُهم فيه ، كما اقترح أن تكون ساعة الاستعراض عند الضحى . قال موسى مجيباً فرعون:

﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى

و من الواضح أنّ كلاّ من موسى و فرعون ، قد حرص على تحديد الزمان و المكان اللذين يتمّ التحدّي فيهما . إلاّ أنّ الفارق بين فرعون و موسى ، أنّ فرعون كان التوجّسُ و الحذَرُ و القلقُ خلفَ اقتراحه ، حيث يُريد أن يتمّ الأمر لصالحه بأيّ ثَمن كان . حتّى أنّه وضعَ احتمال الخسارة في حسبانه .

كلّ ذلك يمكننا أن نستخلصه من خلال نمط الاقتراح الذي قدّمه .

فقد طالبَ بضرب موعد بينهما ، مجرد موعد ، دون أن يحدّد اليوم أو الساعة ، بل طالبَ بأن يكون المكانُ مستوياً على الفريقين فحسب .

و هذا الاقتراح الثاني ، يكشف لنا عن مبلغ القلق و الحذَرَ اللذين يسيطران على نفسيّة فرعون . فمطالبتُه باستواء المكان يعني أ نّه يتوجّس خيفة من فشل جماعته الذين أعدّهم لهذه المهمّة ، و انتصار موسى .

و هذا على العكس تماماً من موسى .

فموسى حدّد الزمانَ على نحو مضادّ تماماً للإبهام الذي تعمّده فرعون .

فقد طالب موسى بأن يتمَّ الموعدُ في يوم لا يكاد يبقى فيه أحدٌ في بيته ، بل يخرج الناس كلّهم إلى الشوارع و الأسواق .

و من هذا الاقتراح نستكشف مدى اليقين و الاطمئنان بنتائج المبارزة لدى موسى . على الضدّ تماماً من مدى القلق و الشك لدى فرعون .

أكثر من ذلك ، فإنّ موسى طالب بأن تكون ساعة البدء بالاستعراض عند الضحى ، و هي ساعة لا يكاد يتخلّف عن الحضور فيها أيّ أحد قد اعتاد مثلا ألاّ يخرج مبكّراً .

و هذا يعني أنّ موسى كان على مزيد من اليقين و الاطمئنان بنتائج المعركة .

إذن ينبغي من خلال هذه المقارنة بين شخصيتي موسى و فرعون ، أن نستكشف الفارقَ بين شخصية قلقة ، خائفة ، مشكّكة بقُدراتها و إمكاناتها ، و بين شخصية مطمئنة ، موقنة بإمكاناتها التي تستمدّها من اليقين بالسماء .

و هذا كلّه من حيث البُعد الفكري للموقف ، و أمّا من حيث البُعد الفنّي فإنّ القصة بهذا الرسم للموقف إنّما ترسم التنبّؤ بالنتائج التي سيسفر الموقفُ عنها ، أي أنّها من الناحية الفنّية ستهيّئ لأذهاننا حساباً خاصاً للموقف ، ألا و هو أنّ النصر سيكون حليف موسى ، مادام نمطُ اقتراحِه يفصح عن قوّة اليقين و الاطمئنان و الثقة لديه .

و فعلا عندما نتابع حادثة السحرة ، نجد أنّ النصر كان حليف موسى . و أنّ الهزيمة كانت لدى فرعون بنحو يتوافق و مدى حجم الشك و الخوف لديه .

أكثر من ذلك سيواجهُنا النص بمفاجآت لم تدُر في حسبان المتلقّي .

و نقصد بذلك انقلاب السحرة أنفسهم ، حيث أنّ القوى التي كان يعتمدها فرعون في صراعه مع موسى (عليه السلام) لم تخسر المعركة فحسب ، بل انقلبت على فرعون نفسِه ، و هو أمرٌ أشدّ إيلاماً للذات من الهزيمة التي مُني بها فرعون .

و هنا ينبغي ألاّ تفوتنا الإشارة إلى ظاهرة الخوف لدى موسى نفسه .

ففي حادثة السحرة عندما اُلقيت عصي القوم و حبالُهم خُيّل إلى موسى أنّها ثعابين تسعى .

﴿فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى

﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى

﴿قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَْعْلى . . .

و الفارق بين خوف موسى (عليه السلام) و خوف فرعون ، إنّ فرعون لم يؤمن بقضيته أساساً . على العكس من موسى فيما كان الخوف من وراء إيمانه بقضيته .

و هذا الفارق الكبير بينهما يفسّر لنا خوف موسى من تأثير فرعون على الجمهور و حذره من عدم تحقيق الرسالة التي نهضَ بها .

بيد أنّ السماء وهي تجسّد الدعمَ الحيّ للمؤمنين بها أزاحت عنصر الخوف من موسى و شجّعته على المضي في مهمّته ، حيث كانت النتيجة فعلا لصالحه على الضدّ تماماً من فرعون ، حيث كانت الهزيمة و انقلاب السَحَرة عليه أمراً يستدرّ الرثاء و الاشفاق .

وبهذا ننتهي من الحديث عن قصة موسى ، وكان بودّنا أن نتحدّث عن قصة آدم(عليه السلام)لولا أنّنا آثرنا عدم إطالة الدراسة لكلّ قصص القرآن الكريم ، ما خلا البعض منها .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page