• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الأنبياء : قصَّة تهشيم الأصنام

 قلنا: إنّ قصة إبراهيم (عليه السلام) أو تهشيم الأصنام تتميّز عن سائر قصص السورة
بكونها ذات تفصيلات و طول و عناصر حوارية مثيرة ممّا تجعل لها أهمية خاصة .

إذن لنتحدث عنها ، فنقول:

تبدأ قصةُ إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنبياء على النحو الآتي:

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ

إنّ هذه المُقدّمة القصصيّة تُشدّد على إبراز ظاهرة الرُشد الذي يَسِمُ شخصيةَ إبراهيم (عليه السلام) ممّا يعني من حيث البناء العماري للاُقصوصة أنّ محتوياتها ستُصاغ وفاقاً لمنطق المعرفة الحقّة التي يتعامل إبراهيمُ من خلالها مع أحداث القصة و مواقفها و شخوصها .

و بالفعل فإنّ أوّل موقف تصوغه القصةُ في هذا الصدد إنّما يتصل:

بطريقة اللغة التي واجَهَ بها إبراهيم أباه و قومَه العاكفين على عبادة التماثيل .

و بطريقة السلوك الذي مارَسَه حيال التماثيل المذكورة .

و بطريقة المناقشة المنطقية التي أتمّها معهم ، و هي جميعاً لغةً و سلوكاً و محاجّةً تُفصح عن الرشد الذي يسم شخصيته (عليه السلام) .

و الآن لِنتقدّم إلى تفصيلات المواقف و الأحداث التي بدأها القسمُ الأوّل من القصة بالحوار الآتي:

﴿إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ

﴿مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟

و في البدء يحسن بنا أن نلفت انتباه المتلقّي إلى أنّ اُقصوصة إبراهيم ستحوم بأكملها على قضية التماثيل و ما يرافقها من أحداث و مواقفَ و شخوص ، دون أن تتجاوزها إلى قضايا اُخرى .

و هذا يعني أنّ الاُقصوصة من حيث الشكل و المضمون تتميّز ببناء هندسي خاص قائم على وحدة الموضوع من جانب ، و على صياغة الأحداث و المواقف و الشخوص التي تصبّ في الوحدة الموضوعية المذكورة ، وفق خطوط تتنامى و تتلاحم بنحو بالِغ الإثارة فنّياً و فكرياً من جانب آخر .

و واضحٌ أنّ هذا النحوَ من الصياغة القصصية يتميّز عن منحىً صياغي آخر تتوفّر القصةُ القرآنيةُ الكريمةُ عليه ، حينما تُحقّقه من خلال الوحدة الفكرية التي تعني أنّ موضوعات مختلفةٌ تطرحها القصةُ أمام المتلقّي ، لكنها تصب في رافد فكريّ يوحّد بين الموضوعات المختلفة .

المهمّ أنّ النصَّ القرآنيّ الكريم يسلك طرائق شتّى في صياغة الأقاصيص ، ينطوي كلٌّ منها على إمتاع جمالي و فكريٍّ بالغ الإثارة . و منها هذا المنحى القائم على وحدة الموضوع في قصة إبراهيم ، قبال المنحى القائم على وحدة الفكر في أقاصيص اُخرى عن إبراهيم نفسه ، أو عن الأبطال الآخرين .

* * *

و الآن لِنتابع القسم الأوّل من هذه الاُقصوصة التي تحوم على موضوع واحد هو: التماثيل ، و استجابة إبراهيم (عليه السلام) حيالها ، فيما تجسّدت أولا في استجابته الثائرة على أبيه و قومه ، مخاطباً إيّاهم:

﴿مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟

إنّ المتلقّي يظلّ في بداية الأمر مُتردّداً في استخلاص نوع الاستجابة الصادرة عن إبراهيم (عليه السلام) حيال هذه الأصنام .

هل هي استجابةٌ غاضبةٌ ؟ أم هي استجابةٌ ساخرة ؟ أم هي مزيجٌ منهما ؟

لا شك أنّ أيّة استجابة من الأشكال الثلاثة تنطوي على دلالة ممتعة فنّياً و فكرياً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ صياغة الأحداث و المواقف ، إنّما تتلوّن وفقاً لنمط الاستجابة الصادرة نه (عليه السلام) ، وصِلة ذلك من حيث المبنى الجمالي بالمقدمة القصصية التي شدّدت على سمة الرشد في شخصية إبراهيم (عليه السلام) .

إنّ أحداث القصة و مواقفها ستكشف في البعض منها عن أنّ استجابته (عليه السلام)كانت غاضبةً مثلما كانت ساخرة أيضاً في البعض آخر منها ، ممّا نتوقع حيناً من أن تكون الاستجابة مزيجاً من الغضب و السخرية ، أو غضباً في بعض المواقف ، و سخريةً في الآخر منها ، . . . أو أنّنا أساساً لا نملك يقيناً حاسماً على تحديد ذلك .

المهمّ ، في الحالات كلّها يظلّ هذا النمطُ من الصياغة الفنّية لاستجابة إبراهيم حيال التماثيل و انطوائها ـ من جانب ـ على نمطين من الاستجابة: الغاضبةِ و الساخرةِ ، . . . ثمّ تردّدنا في معرفة ما إذا كانت السخرية و الغضب سلوكين يمتزجان بعضاً بالآخر في كلّ المواقف و الأحداث ، أم ينفصلان في موقف دون آخر مثلا . . .

أقول: هذا النمط من الصياغة الفنّية لاستجابة إبراهيم (عليه السلام) لم يكن مجرّد ظاهرة جمالية تستثير أحاسيسنا في نطاق محدود أو عابر بقدر ما ينطوي الأمر على خطورة فنّية و فكرية ، تدلّنا على طرائق السلوك التي ينبغي أن نختطّها في التعامل مع الظواهر التي تواجهنا ، بحيث تترك فاعليّةً لها قيمتُها في ميدان التعامل .

* * *

و الآن فإنّ أوّل استجابة صادرة عن إبراهيم (عليه السلام) حيال التماثيل ، لا تكشف لنا عن نمط الاستجابة ، بل يظلّ الأمر ملفّعاً بغموض فني ، تبدأ الأحداث اللاحقة بتبيين ذلك فيما بعد .

و لكن قبل أن نبيّن ذلك ينبغي أن نتابع جواب قومه حيال السؤال الذي وجّهه إلى أبيه و قومه ، بقوله

﴿مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟

لقد أجابه القوم بما يلي:

﴿قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ

و هنا ، أجابهم إبراهيم (عليه السلام) مباشرة:

﴿قَالَ: لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلاَل مُبِين

ثمّ أجابه القومُ ، أيضاً:

﴿قَالُوا: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ

و عندها أجابهم مباشرة:

﴿قَالَ: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الذي فَطَرَهُنَّ

﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ

إلى هنا فإنّ هذه السلسلة من الحوارات المتبادلة بين إبراهيم و قومه ، تدع المتلقّي متردداً في تحديد ما إذا كان ابراهيمُ غاضباً في مواجهته للقوم ، أم ساخراً ، أم غاضباً و ساخراً في آن واحد ؟

ممّا لا شك فيه ، أنّ القوم بصفتهم مجموعةً من الأغبياء و الحمقى قدّموا إجابات مثيرة للسخرية ، حينما قدّموا أوّلا إجابة تدلّ على تخلّفهم الفكري من أنّهم وجدوا آباءَهم عَبَدةَ تماثيل ، فاقتفوا آثارَهم ، . . . و حينما قدّموا ثانياً إجابةً تدلّ على حماقتهم في التساؤل الذي مزجوه بالسخرية في قولهم:

﴿أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ

إنّ تقديم مثل هذه الاستجابة الحمقاء ، قد تستدعي نمطاً من الاستجابة التي يُواجهُهُم إبراهيمُ بها ، بحيث تتناسب مع الموقف ، ممّا يعني أنّ ابراهيم (عليه السلام) سيمارس سلوكاً ساخراً حيالهم فيما بعد .

و هذا ما سنراه فعلا في مواقف لاحقة من القصة ، مع ملاحظة أنّ الغضبَ للّه قد غلّف سلوكَ إبراهيم أيضاً بنحو بالغ الشدّة ، على نحو ما سنوضّحه لاحقاً .

* * *

يتضمّن القسمُ الأوّل من قصة إبراهيم (عليه السلام) ، موقعاً يحوم على مناقشة أبيه قومه في عبادتهم للتماثيل .

و يُلاحَظ أنّ إبراهيم (عليه السلام) وجّه خطاباً مشتركاً لأبيه و قومه ، دون أن يُفرد لأبيه خطاباً خاصاً ، أو منفصلا عن الخطاب الذي وجّهه للقوم ، بل تمّ توجيه الخطاب على النحو الآتي:

﴿إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟

و السؤال هو: لماذا جاء ذِكرُ الأب في سياق الخطاب الموجّه للقوم من حيث المبنى الفنّي للحوار ؟

إنّ إفراد الأب في هذا الصدد ينطوي على سمة فنّية ، هي التشدّد على ما يُسمّى بدافع البنوّة نحو الأب ، أو القربى نحو العمّ ، بصفة أنّ آزر هو عمّه و ليس أباه ، و المهمّ هو لفت الانتباه إلى أنّ العاطفة النَسَبيّة مع أنّها موضع أهمية كبيرة في نطاق العلاقات، لكنها في نطاق التعامل مع السماء ينبغي ألاّ تحتجز الفرد من إلغاء العاطفة المذكورة ، بل ينبغي الإتجاه إلى السماء فحسب و الالتزام بمبادئها .

و هناك سمةٌ فنّيةٌ ثانية وراء إفراد الأب في سياق الخطاب الموجّه للقوم .
فالمُلاحَظ أنّ إبراهيم تسلّم جواباً من قومه على هذا النحو:

﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ

فهذا الجواب يتضمّن دلالةً واضحةً إلى أنّ الأبناء قد وجدوا آباءَهم عاكفين على الأصنام ، أي أنّهم مقلّدون و مُحاكون لآبائهم ، دون أن يمارسوا عمليّة تفكير في هذا الموقف .

و هذا يعني أنّ الوعي أو الرشد غائبٌ عن أذهانهم تماماً .

إنّ ما نودّ من لفت الانتباه إليه ، هو أنّ القصة قد استخدمت طريقةً فنّيةً غير مباشرة ، أي: طريقةً قائمةً على فسح المجال للقارئ أو السامع أن يستكشف بنفسه بعض الدلالات المهمّة التي يستهدفها النص من وراء هذا الحوار الفنّي ، دون أن توضّحها القصةُ ذاتُها .

الدلالة التي تستهدفها القصةُ ، هي أنّ إبراهيم (عليه السلام) قد ترك تقليد الآباء في عبادتهم للأصنام ، بدليل أ نّه وجّه اعتراضاً لأبيه .

و لا يغب عن بالنا ، أنّ القصة في مقدّمتها قد وسَمَت إبراهيم بصفة الرُشد ، فقالت:

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ

ثمّ تقدّمت الآن بطريقة فنّية غير مباشرة بتوضيح هذه الصفة ، حيث أبانت من خلال الاعتراض الذي وجّهه إبراهيم (عليه السلام) إلى أبيه و قومه على عبادتهم للتماثيل ، . . . و من خلال الإجابة التي تقدّم بها القوم من أنّهم وجدوا آباءهم عابدين للتماثيل ، و أنّهم مقلّدون لآبائهم في هذا الموقف . . . أبانت من خلال ذلك كلّه أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يكن مقلّداً لأبيه و قومه ، بل كان رشيداً متّصفاً بسمة الرّشدالتي تعني عدم انغلاق الفكر ، أو سذاجته .

إذن هناك دلالتان فنيّتان يستوحيهما القارئ أو السامع من الإجابة التي تقدّم بها القوم:

﴿قَالُوا: وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ

الدلالة الاُولى: أنّ إبراهيم (عليه السلام) لم يقلّد آباءه ، بدليل أنـّه وجّه اعتراضاً لهم .

الدلالة الثانية: أن إبراهيم (عليه السلام) موسومٌ بسمة الرُشد ، طالما لم يقتصّ أفكار الآباء ، بل اتّسم بــ «الرشد» الذي جعلته مقدّمةُ القصة سمةً أو طابعاً لشخصية إبراهيم (عليه السلام)الذي ستحوم كلّ أحداث القصة على مصاديق الرشد الذي تتّسم به شخصيتُه (عليه السلام) .

* * *

و الآن لِنتابع مواقف القصة من خلال الحوار المتبادَل بين إبراهيم و قومه ، بعد أن أوضحنا كلاّ من البناء العضوي للحوار ، وصلته بمقدّمة القصة .

لقد خاطبهم إبراهيم أوّلا:

﴿مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ

فأجابوه:

﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ

ثمّ ردّ عليهم:

﴿لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلاَل مُبِين

و هذا الردّ يعكس بُعداً آخر من طابع الرُشد الذي يتّسم به إبراهيم (عليه السلام) ، حيث أوضح بأنّ المقلَّد و المقلِّد في ضلال مبين ، بصفة أنّ المقلَّد و هم الآباء لم يصدروا عن فكر صائب رشيد في عبادتهم للتماثيل طالما يعبدون ما لا ينفعهم شيئاً و لا يضرّهم ، . . . و طالما يعبدون ما لا يملك حتّى فاعلية النطق .

و أمّا المقلِّد و هم الأبناء فيتّسمون بنفس الطابع الضالّ ماداموا مجرّد مقلّدين لم ينتبهوا إلى حقيقة الموقف الذي سار الآباءُ عليه .

طبيعيّاً لم تتحدّث القصة القرآنيةُ بنحو مباشر عن هذه التفصيلات ، بل إنّ هذه التفصيلات المتصلة بعبادة ما «لاينطق» ، و ما «لا ينفع شيئاً أو يضرّ» . . . هذه التفصيلات سنجدها في تضاعيف القصة عبر أحداث و مواقف لاحقة ، . . . بيد أنّ القارئ أو السامع يكتشف بنفسه أصداء هذه الدلالات عندما يتابع القصة . . . مثلما يكتشف القيمة الفنّية لمثل هذا المنحى من صياغة الحوار الذي يقدّم جواباً مُجملا مثل :

﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ في ضَلاَل مُبِين

ثمّ يفصّل و يوضّح ما هو مجملٌ في الأجزاء اللاحقة من القصة مُحقّقاً بذلك إمتاعاً جمالياً للمُتلقّي عندما يواجه مثل هذه العمارة الفنّية التي خضعت القصةُ لها .

* * *

و الآن بعد أن ألمح إبراهيم (عليه السلام) إلى القوم بأنّهم و آباؤهم في ضلال مبين ، . . .
ماذا كانت الإجابةُ من قِبَلِهم ؟

﴿قَالُوا: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ

إنّ ممّا يثير السخرية ، أن تجيء الإجابة باهتةً ساذجةً تتوافق و نمطَ العقلية أو الثقافة التي تغلّف هؤلاء القوم .

فما داموا مقلِّدين بلا إعمال للفكر ، . . . حينئذ نتوقع أن يُخيَّلَ إليهم أنّ إبراهيم كان لاعباً هازلا في اعتراضه على عبادة الأصنام ، لأنّ مثل هذا الاعتراض يزلزل اُسس التقليد الذي طُبعت أذهانُهم عليه .

و مع ذلك فإنّ إبراهيم تبعاً لسمة الرُشد الذي طبع شخصيته ، أجابهم بمايلي:

﴿قَالَ: بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الذي فَطَرَهُنَّ

﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ

إنّ الفقرة الأخيرة: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) تؤكّد من جديد سمة الرشد الذي طبع شخصيّته . . . مثلما تؤكّد يقينه التامّ بالقضيّة التي يتحرك من خلالها ، ثائراً على قومه .

و بالفعل تبدأ ثورتُه على الواقع الفاسد متمثلة أوّلا في قَسَم لفظي:

﴿وَتَاللّهِ ، لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ

ثمّ في ممارسة عمليّة ، ثانياً:

﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ، إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ

إنّ أحداث القصة تبدأ فيما يسمى بــ : التأزّم في لغة الأدب القصصي ، تبدأ من القَسَم الذي أعلنه أو أضمَره حسب بعض النصوص المفسّرة ، بأن يكيد أصنامَهم ، و تبلغ ذروتَها أو تأزّمها في تهشيمه فعلا للأصنام ، و في جعلها قِطَعاً قطعاً ، أو حُطاماً .

و الآن فإنّ القِسْمَ الثاني من القصة يبدأ مع قَسَم إبراهيم بأن يكيد الأصنام ، و مع تحطيمه الفعلي للأصنام بأكملها عدا الصنم الكبير منها .

و لكن ينبغي أن نتعرّف على تفصيلات هذا الحَدثَ الخَطير ، بدءً من القسَمَ ، مروراً بتهشيمه للأصنام ، و انتهاءً بتركه كبير الأصنام .

ثُمّ تعليل ذلك كلّه فنياً و فكريّاً ، و صلته بمقدّمة القصة و قسمِها الأوّل .

يبدأ القسمُ الثاني من قصة إبراهيم (عليه السلام) في سورة الأنبياء بحادثة تهشيمه للأصنام .

و قد سبق حادثة التهشيم ، قَسَمٌ باللّه بأن يكيد الأصنام .

إنّ هذه الحادثة تنطوي ـ بوضوح ـ على دلالة فكرية تتصل بشجاعة إبراهيم (عليه السلام) ، و بثقته باللّه ، و بتحسيس الآخرين أنّ التعامل مع اللّه ينبغي ألاّ يَعُوقه الخوف من أيّ ظالم مهما عَتا و تجبّر ، و مهما بلغت قوته .

و مثلما أشارت بعض النصوص المفسّرة عن أهل البيت (عليهم السلام) بما مؤدّاه: من أنّ إبراهيم (عليه السلام) بلغت شجاعته الذروة ، حين كان وحده يقف قبال الآلاف من عبدة الأصنام ، . . . و حتّى من الزاوية النفسية الخالصة ، فإنّ الوحشة لم تُداخل الخوفَ حينما كانت وحدة إبراهيم حتى من أبيه: عمّه الذي لم يحتج إلى عاطفته .

إذن مثل هذه الشجاعة المستمدّة من الركون إلى اللّه ، تظلّ أمراً لافتاً للانتباه ، . . . و بخاصّة أنّها ـ أي الشجاعة المذكورة ـ سيُصاحبها يقينٌ مماثلٌ كما سنرى في القسم الثالث من القصة ، عبر حادثة إلقاء إبراهيم في النار ، . . . يقينٌ برعاية اللّه في المواقف كلّها على تنوّع مستوياتها ، سواء أكان ذلك متصلا بمجابهة أعداد ضخمة من الطواغيت ، أم كان متصلا بمجابهة نار تحرق الجسد بطبيعتها .

المهم أنّ وضوح مثل هذه الدلالة الفكرية ، يظلّ متصلا بسمة الرشد التي وسَمَ اللّه بها إبراهيم (عليه السلام) ، فيما تفصح هذه السمة عن مدى الوعي الذي غلّف إبراهيم (عليه السلام) في ثقته بالسماء ، و معرفته بقدراتها غير المحدودة ، حيث أمدّته بشجاعة بالغة المدى في ممارسته تحطيم الأصنام وحده قبال الآلاف ، و في يقينه بالسماء في حادثة إلقائه في النار على نحو ما سنتحدّث عنه لاحقاً .

* * *

و حين نتجه إلى واقعة تهشيمه للأصنام ، نلحظ أنّ النصوص المفسّرة تُقدّم تفصيلات قد اختزلها النص القصصي ، فيما لا حاجة إلى سردها فنّياً ، مادام الأمر يتّصل بابراز دلالة خاصة ، هي عملية تحطيم الأصنام و ما يرافقها من شجاعة ، ثمّ ما يرافقها من دلالات اُخرى تظلّ في الصميم من اهتمامات إبراهيم (عليه السلام)و حرصِه على إبرازها أمام الوثنيّين ، بغية كشف السذاجة و الغفلة التي تطبع عقولهم .

على أنّ حادثة تحطيم الأصنام قد رافَقَها موقفٌ و حادثٌ آخر ، ينبغي الوقوف عندهما مليّاً ، مادمنا أمام نصٍّ قرآني عظيم لا يرسم موقفاً أو حَدَثاً جانبياً ، إلاّ إذا انطوى على دلالة فنّية كبيرة أو دلالة نفسيّة متصلتين بالبناء الهندسي للقصة .

أمّا الموقف ، فهو قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ، قبل أن يَقْدِم على كسر الأصنام .

و أمّا الحادثة فهي: إبقاؤُه كبير الأصنام سالماً ، دون أن يحطّمه .

لا شك أنّ كلاّ من الموقف و الحادثة ، يرتبطان عضوياً أحدهما بالآخر . مثلما يرتبطان بمواقف سابقة في القصة ، كما يرتبطان بمواقف لاحقة في القصة أيضاً .

و يمكننا ملاحظة هذا الإحكام الهندسي و جماليته الفائقة في القصة ، حين نشرع بتوضيح كلٍّ من ملابسات الموقف و الحادثة: موقف كيده للأصنام ، و حادثة إبقائه كبير الأصنام .

أمّا الموقف ، فتقول النصوص المفسّرة عنه: إنّه ممارسة لفظية وجّهها لِعَبدَة التماثيل من أ نّه سيكيد لها بنحو أو بآخر .

و ظاهرُ النص القصصي الكريم يسندُ مثل هذه الممارسة اللفظية الموجّهة إلى القوم ، و بخاصة أنّها قد اقترنت بِقَسَمِهِ باللّه من أ نّه سيكيد الأصنام ، ممّا يعني أنّ القَسَم موجّهٌ لاُولئك الذين سخروا منه حينما تساءلوا: أجادٌ أم هازلٌ أنت يا إبراهيم في اعتراضك على تماثيلنا ؟

بيد أنّ بعض النصوص المفسّرة ، تذهب إلى أنّ إبراهيم قد أسرّ ذلك على قومه ، و لم يوجّه خطابه إلاّ إلى واحد من القوم فحسب .

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ المهمّ هو أنّ إبراهيم كان في صدد القيام بكيد محدّد سيعكس أثره من الزاوية الفنّية على مواقف لاحقة من القصة ، كما سنرى .

* * *

كان إبراهيم غاضباً للّه عبر رؤيته غفلة القوم و عكوفهم على التماثيل . و كان ـ فيما يبدو ـ ساخراً من اُولئك أيضاً عندما مزج الغضب بالسخرية ، قائلا: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .

و تبعاً لذلك قرّر إبراهيم أن يعمل كيداً بالنسبة إلى الأصنام حتّى يعرّفهم حقيقة ما هم عليه من الضلال المبين .

و فعلا أقسم باللّه أوّلا:

﴿لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ

و بدأ بتنفيذ العملية ذات يوم ، مستثمراً فرصة أحد الأعياد عند القوم و خروجهم من مساكنهم ، و ها هو يحمل فأساً في يده و يبدأ ـ في ثقة الفارس الشجاع الذي لا تضاهيه شجاعة ـ بتكسير الأصنام واحداً بعد آخر ، غير مُبال بالنتائج المترتبة على هذا العمل الخطير ، مادام واثقاً أنـّه يكسّر مجموعة أصنام لا تضرّ و لا تنفع ، . . . لا تعي و لا تنطق . . . و ما دام واثقاً أ نّه حيال قوم غافلين ، منعزلين عن السماء . . . و مادام واثقاً ـ و هذا هو مكمن الخطورة ـ أ نّه يستمدّ فاعليّـته من السماء التي لا تكفّ لحظةً عن إمداده بالقوة ، . . . بالمعطيات . . . بالإنقاذ .

و فعلا ، تَمّ كُلّ شيء .

لكنه أبقى صنماً واحداً هو: كبير الأصنام ، فيما تقول النصوص المفسّرة: إنّ إبراهيم (عليه السلام)أبقاه و قد علّق الفأس في عنقه دون أن يهشّمه . و كان موقعه في مقدّمة الأصنام .

ثمّ عاد القومُ من تجوالهم في يوم العيد .

لكنهم فُوجئوا بما لم يدر في حُسبانهم .

لقد وجدوا تماثيلهم مهشمةً جميعاً ، خلا التمثال الكبير ، . . . التمثال المُعلم الذي وُضِعَ الفأسُ في عنقه .

مثل هذه الحادثة لم تمرّ على القوم دون مبالاة ، بل إنّها ستحدث لديهم ردّ فعل له دلالته في أذهانهم دون أدنى شك .

و طبيعيّاً أن يتساءلوا ـ بادئ ذي بدء ـ عن هوية الفاعل ، عن الشخصيّة التي تجرّأت على القيام بمثل هذه العمليّة .

لقد تساءلوا بمرارة ساذجة ، قائلين:

﴿مَن فَعلَ هذا بآلهتنا

و يبدو أنّ البعض منهم كان على وعي و تذكّر بأنّ إبراهيم كان مُعارضاً ، منتقداً تماثيلهم و عكوفهم عليها ، . . . أو على الأقلّ قد سمع البعضُ منهم أنّ إبراهيم (عليه السلام) أقسم ذات يوم بأن يكيد أصنامهم .

و لذلك أجاب البعضُ منهم على سؤال البعض منهم ، قائلين:

﴿سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ

إذن عرف القوم أنّ البطل هو إبراهيم (عليه السلام) .

إلى هنا ، فإنّ الأحداث و المواقف تمضي على نحوها المذكور .

و لكن هناك إجابة خاصة أعدّها إبراهيم لمواجهة الموقف ، و قبلَ ذلك هناك أسرارٌ و سماتٌ و خصائص فنّية ينبغي أن نقف عندها حيال صياغة القصة بنحوها المذكور .

عندما هَشّم إبراهيمُ (عليه السلام) تماثيلَ القوم ، و تعرّفوا على شخصيّـته بدأت الأحداثُ و المواقفُ تأخذ منعطفاً خطيراً في هيكل القصة .

فالقوم ـ و هم مشدودون إلى أصنامهم ـ لا يُعقل أن يقفوا حيال البطل إبراهيم موقف المتفرّج ، أو حتّى موقف المُعاتِب الذي لا يُثير ضجيجاً قبل إقدامه على الجريمة ، جريمة إلقائه في محرقة خاصة .

و لذلك اقترحوا ما يلي:

﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ

و فعلا جيء بالبطل إلى مشهد يغصّ بالناس . . . و وجّهوا إليه هذا السؤال:

﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ؟

و أجابهم إبراهيم (عليه السلام) على الفور ، إجابةً ذكيّةً أعدّ لها إعداداً خاصاً من قبل ، حينما أقسم باللّه أنـّه ليكيدنّ أصنامهم لقد أجابهم ساخراً و أنّها لَسخريةُ الحقّ من الباطل ، أجابهم قائلا:

﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ

بهذه الإجابة تتكشّف أبنيةُ القصة و خطوطها الهندسية في ترابط بعضها بالآخر ، و في إنارة أحدها للآخر . . .

فالقارئ أو السامع سيُدرك على الفور بعض السمات الفنّية وراء هيكل القصة .

إنّه ، أي القارئ أو السامع سيُدرك على الفور أنّ إبراهيم (عليه السلام) عندما قال ذات يوم:

﴿تَاللّهِ لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ

فإنّه لم يقُل هذا عَبثاً ، بل إنّ القصة قدّمت مثلَ هذا الكلام ، ليُشكّل تمهيداً لــ فعل لاحق تكشفه تضاعيف القصة فيما بعد .

و هل هناك كيدٌ أشدّ وقعاً على النفوس من أن يقوم إبراهيم بتحطيم الأصنام ، ثمّ يقول للقوم: إسألوهم عن الفاعل إن كانوا ينطقون .

أليس من حقّ إبراهيم (عليه السلام) من الزاوية الفنّية في صياغة القصة ، أن يناقش القوم في البداية قائلا:

﴿مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ التي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ

ثمّ بعد أن يستمع إلى إجابتهم الهزيلة:

﴿وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ

ثمّ بعد إجابتهم الساخرة:

﴿أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ

أليس من حقّ إبراهيم ـ بعد تسلّمه مثل هذه الإجابات التي تحيا في غفلة من العقل ـ أن يواجههم بكيد يتناسب مع الغفلة العقلية التي يحيونها ، غفلة العكوف على أصنام لا تعي و لا تنطق ؟

إنّ من حقّه أن يفعل ذلك ، و أن يقدّم لهم إجابةً ساخرة كلّ السخرية ، داعية الإشفاق كلّ الإشفاق عليهم ، قائلا لهم:

﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ

و هذا كلّه فيما يتصل بالموقف الساخر .

* * *

أمّا ما يتصل فنّياً بحادثة إبقاء الصنم الكبير سالماً دون أن يناله التحطيم ، فإنّ الأمر يبدو واضحاً تماماً من حيث الموقع الهندسي لهذه الحادثة بهيكل القصة .

فلقد أبقى إبراهيم (عليه السلام) . . . أبقى صنماً كبيراً في مقدّمة الأصنام ، بُغية أن يكون لهذا الحادث دلالة فنّية من حيث بناء القصة و دلالة فكرية من حيث سلوك إبراهيم ، هذه الدلالة هي: أنّ تحطيم الأصنام من الممكن أن يقترن في أذهان هؤلاء الحمقى ، بأنّها قد أصبحت في حكم العَدَم ، و إلى أنّ بقاء واحد منها حيّاً من الممكن أن يسعفَهم بالإجابة على أسئلتهم ، بل يمكن الذهاب ـ بنحو أو بآخر من أنحاء الاستخلاص الفنّي ـ أنّ إبقاء الصنم الكبير سيحسم الاُمور تماماً ، عندما يعي القوم ـ ولو للحظة ـ أنّ الصنم الكبير لا يملك قابليةً على النطق أبداً . . . و في هذا كفايةٌ لتحسيس القوم بواقع الغفلة التي يحيونها .

و لكن السؤال: هل أنّ القوم اتّعظوا بهذه الحادثة أم لا ؟

إنّ القصة ذاتها تجيب على هذا السؤال .

إذن فلنتابع الموقف . . .

* * *

تقول القصةُ ساردة ردّ الفعل الذي أحدثته إجابةُ إبراهيم (عليه السلام) لدى القوم ، بعد أن قال لهم:﴿فَاسْألُوهُمْ ـ أي الأصنام ـ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ.

﴿فَرَجَعُوا إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ

﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ

لقد اُفحمَ القومُ تماماً ، حينما تنبّهوا إلى حقيقة الأمر ، و أدركوا أنّ الصنم لا يملك قابلية على النطق .

و عندها اضطروا إلى مواجهة الحقيقة ، و تيقّنوها في أعماقهم تماماً للدرجة التي خاطب بعضهم بعضاً ، فقالوا:

﴿إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ

أكثر من ذلك ، لقد تملّكهم الخجلُ تماماً للدرجة التي طأطأوا من خلالها رؤوسهم ، مضطرّين إلى الإقرار بحجّة إبراهيم (عليه السلام) حيث خاطبوه:

﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ

إنّ مثل هذا الإقرار يُعدّ نصراً ضخماً دون أدنى شك في ميدان الفكر قد أعدّ له إبراهيم إعداداً ذكيّاً حتّى انتهى به إلى هذا المطاف .

و لذلك تحدّث إبراهيم (عليه السلام) ـ بعد هذه الواقعة ـ بلُغة المنتصر و ليس بلغةِ مَن يُحاول إقناع القوم ، قائلا لهم:

﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ

﴿اُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

و واضحٌ أنّ هذا التعقيب جاء مناسباً للموقف الجديد ، مادام الأمرُ فيما يتصل بالمنغلقين ذهنياً لا يحقّق فاعليته المنشودَة المتمثلة في عبادة ما لا ينفع شيئاً و لا يضرّ ، إلاّ بعد تقديم ممارسة تحطيم الأصنام ، و إبقاء الكبير منها ، و مطالبة القوم بتوجيه السؤال إلى الصنم في التعرّف على هويّة الفاعل .

* * *

بهذا الموقف الذي أعقب حادثة تكسير الأصنام و إبقاء الكبير منها ، و إقرار القوم بغفلتهم ، و ظلمِهم . . . ينتهي القسم الثاني من قصة إبراهيم .

ثمّ يواجهنا القسمُ الثالثُ منها ، و هو القسم الذي تُختتم به القصة .

و قبل أن نتعرّف على المواقف و الأحداث التي يتضمّنها هذا القسمُ من القصة ، يواجهنا السؤالُ الآتي:

إذا كان إبراهيم (عليه السلام) قد حقّق انتصاراً ملحوظاً في حادثة تحطيم الأصنام ، و انتزعَ من القوم إقراراً بخطأ ما هُم عليه ، فهل إنّ ذلك يعني أنّ القوم قد رجعوا إلى رشدهم ، و تركوا فعلا عبادة التماثيل ؟ أم إنّ البعض منهم فحسب ، قد اهتدى إلى الحقيقة و بقي الآخرون على ضلالهم ؟

إنّ القسم الأخير من القصة يجيب على هذا السؤال مع مُلاحظة أنّ الحمقى من الصعب أن يستسلموا للواقع . و تبعاً لذلك نتوقّع من عَبَدةِ التماثيل و سائر الذين يحيون في غفلة من اللّه ألاّ يكفّوا عن إيقاع الأذى بكلّ الشخوص الخيّرة التي تدعوهم إلى عبادة اللّه .

بيد أنّهم غافلون أيضاً عن أنّ السماء لن تدعَ عبادَها المخلصين في قبضة من يكيدون لهم ، بل تتدخّل لإنقاذهم على نحو ما سنلحظه في تعامل القوم مع إبراهيم (عليه السلام) ، و إنقاذ السماء لهذه الشخصية المصطفاة بنحو من المعجز المذهل كما ستوضّحه القصةُ .

يبدأ القسمُ الأخير من قصة إبراهيم (عليه السلام) ، بحادثة إلقائه في النار .

فبالرغم من أنّ إبراهيم (عليه السلام) قد أفحم القوم و جعلهم يخاطب بعضهم بعضاً بأنّهم ظالمون في عكوفهم على التماثيل ، و بالرغم من أنّهم نُكسوا على رؤوسهم خجلا من الخطاب الذي وجّهه إبراهيم (عليه السلام) إليهم بقوله:

﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ

و بالرغم من أنهم أقرّوا أمام إبراهيم (عليه السلام)بقولهم عن هذه الأصنام:

﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ

بالرغم من ذلك كلّه ، فإنّ القوم أبوا إلاّ أن يلحقوا الأذى بإبراهيم (عليه السلام) مادام قد تجرّأ على تهشيم أصنامهم .

لقد اقترحوا في غوغائية تدعو إلى الإشفاق ، و في هياج الرُعاع الذين ألغوا حتى المسكة الصغيرة من التفكير اقترحوا ما يلي:

﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ

إلى هنا فإنّ أحداث القصة تبدأ بالتأزّم و تبلغ ذروتها من ذلك . فالقضية تتصل بتدبير جريمة كان من الممكن أن تتمّ بنحو آخر ، كالقتل مثلا و هو الاُسلوب الاعتيادي في العقاب ، لكنهم يقترحون نمطاً آخر ، . . . إنّه الإحراق في النار . . .

لقد خُيّل إليهم أنّ إحراق إبراهيم (عليه السلام) في النار يضع حدّاً لأىّ تصرّف حيال أوثانهم التي عكفوا عليها . . . فلعلّه ـ أي الإحراق ـ نظراً لتميّزه بإثارة لافتة للإنتباه مثلا ، أو نظراً لتساوقه مع طبيعة أعماقهم التي طبعتها القسوة ، . . . و هي قسوة تبحث ـ دون أدنى شك ـ عن اُسلوب مطبوع بنفس الانغلاقِ الذهني الذي قادَهم إلى عبادة ما لا ينطق و لا يعي ، بحيث يحقق مثل هذا الاُسلوب من الانتقام مزيداً من التلذّذ بتعذيب الآخرين ، و هو تلذّذ يطبع الشخصيات الساديّة التي نُزعت الرحمةُ منها تماماً .

المهمّ أنّ الوحش الكامن في أعماق هؤلاء القوم ، بدأ يتلذّذ فعلا بمشهد الإحراق الذي تصفه النصوص المفسّرةُ على نحو يبتعث الإثارة حقّاً .

* * *

تقول النصوص المفسّرة: إنّ القوم بدأوا بجمع الحطب من هنا و هناك .

أكثر من ذلك . . . بدأوا يتسابقون في بذل الأموال لتهيئة الحطب .

و إنّه لمرأىً مثيرٌ حقّاً ، حينما نجد أنّ نزعة التلذّذ بالتعذيب تستاقهم كالخراف إلى البحث عن الحطب بأيّة وسيلة كانت ، تلهّفاً إلى مشهد الإحراق الذي سيصعّد من تلذّذهم بتعذيب إبراهيم (عليه السلام) .

و تبلغ نزعة التلذّذ بالتعذيب ذروتَها عند كبير خِرافِهم نمرود ، حيث بُنيَ له بناءٌ خاصّ لينظر إلى إبراهيم (عليه السلام) كيف تأخذه النار .

حتى آزر أب إبراهيم أو عمّه ـ كما تقول بعض النصوص المفسّرة ـ كان في موقف المتلذّذ بتعذيبه ، مستغلا هذه الواقعة في ثنْيه عن سلوكه الثائر على مهزلة عبادة الأصنام ، ممارساً حيالَه بعض أنماط التعذيب البدني .

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ مشهد الإحراق بدأ في مرحلته العمليّة ، لكنّ البطل إبراهيم لا يلوي على شيء ، لقد ضجّت الأرضُ و السماء من هول الجريمة . . . و لسانُ حالها يقول: ليس على ظهر الأرض أحدٌ يعبد اللّه غير إبراهيم . . . فهل ستحرقه النار ؟

حتّى أنّ جبرئيل ـ تقول بعض النصوص المفسّرة ـ قال لإبراهيم: هل لك إليّ من حاجة ؟ بيد أنّ البطل أجابه بلُغةِ الواثقِ باللّه ، . . . بلُغةِ غير الآبه بالدنيا و ما فيها ، . . . أجابه بهذه اللغة العظيمة: «أمّا إليك فلا !! و أمّا إلى ربّ العالمين ، فنعم» .

هذه الإجابة تحسم كلّ شيء ، . . . إنّها تُلغي كلّ القوى ، . . . تتّجه إلى القوة الوحيدة . . . اللّه . . .

و فعلا ، . . . كانت السماءُ عند حُسنِ ظنّ إبراهيم (عليه السلام) .

* * *

إنّ بلوغ القصة ذروة تأزّمها سيظلّ عند حدث الإحراق كما هو واضح . مثلما سيظل عند تفصيلاته التي سكت النصُّ القصصي عنها تماماً ، تاركاً ذلك لنصوص التفسير التي اكتفت بالتفصيلات التي قدّمناها . أو لنَقُل: تاركاً ذلك للقارئ أو السامع الذي سيستخلص بوضوح أنّ عملية الإحراق قد تحقّقت فعلا ، لكنه لم يتعرّف بعدُ على نتائجها .

و ها هي الواقعةُ ، عند بلوغها ذروة التأزّم ، تعقبها ـ حسب لغة الأدب القصصي ـ لحظةُ الإنارة التي ستحسم كلّ شيء و تضع خاتمةً للقصة .

إنّها خاتمة تقوم على عنصر المفاجأة المذهلة ، . . . إنّها: المفاجأة الآتية:

﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ

إنّ هذه الحادثة المُذهلة التي ختمَ النصُّ بها قصةُ إبراهيم (عليه السلام) تبعث الاثارة و الدهشة التي ما بعدها من دهشة ، لكنها ـ في منطق السماء التي لا حدودَ لرعايتها ، . . . لا حدودَ لمعطياتها التي تغدقها على عبادها المصطفين الذين يخلصون في عبادتهم للسماء ـ هذه الدهشة ستأخذ طابعَ الوضوح في ذهن القارئ أو السامع .

ألسنا نتوقّع أن تكون السماء عند حسن ظنّ إبراهيم (عليه السلام) ؟ . . . ذلك ما نتوقّعه كلّ التوقع!!

* * *

و لنتابع هذه الخاتمة القصصية:

﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُوني بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ

هذه البيئة القصصية للنار منطويةٌ كما هو واضح على عنصري البرد و السلام . . .

النصُّ القصصي ساكتٌ عن التفصيلات .

المهمّ أ نّه في صدد تبيين المعجز ، و كفى .

بيد أنّ النصوص المفسّرة تسرد التفصيلات:

و منها: أنّ الحرارة تبدّلت برداً ، و هذا ما يُصرّح النص القصصيّ به بوضوح .

و منها: أنّ البيئة تحوّلت إلى روضة خضراء .

و منها: أنّ قميصاً و بساطاً قد اُنزلا إليه . . .

و المهمّ أنّ النجاة غلّفت حياة البطل ، و كفى بهذه عظةً و دلالة .

و المهمّ أيضاً أنّ القارئ أو السامع ، له أن يدقّق في مُلابسات الموقف ، و أن يستخلص ما عسى أن يكون ردّ الفعل لدى الطغاة الخراف الذين جمعوا قواهم في حَطَب و هم يتطلّعون في قمة تلذّذهم بتعذيب البطل إلى تحقيق اللذة المُنكرة ، لكنهم يُفاجؤون بالنار و قد تحوّلت برداً و سلاماً!!

لقد بهت الذين كفروا حينما لَطَمهُم البطلُ بقوله:

﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ

و الآن يواجههم البطل بهذا الحادث المُعجز المذهل ، فما عسى أن يكون ردّ الفعل حيال ذلك ؟

كان أبسط ردّ فعل لكبير خرافهم نمرود أن طرد آزر عنه ، كما تقول بعض النصوص المفسّرة . . .

لكننا ما عسى أن نتوقّع من الاستجابة العامّة لديهم ؟

إنّ أبسط ذلك ، يمكننا أن نتوقعه متمثّلا في خفوت و انطفاء كلّ تلك الآمال المتوحشة التي صعّدتها نزعةُ التلذّذ بتعذيب الآخرين ، ثمّ وقوعهم باهتين ، يلفّهم دوارُ الهزيمة ، الخذلان ، و الضياع ، و التمزّق . . .

و لعلّ تعقيب السماء على الحادثة المذكورة ، بقولها:

﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الاَْخْسَرِينَ

لعلّ هذه الفقرة التي خُتمت القصةُ بها تحسم كلّ شيء ، و ترسم لنا مبلغ الهزيمة التي لحقت بهؤلاء القوم .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page