هذه الحكاية تجسّد حادثةً مفردة بسيطة ، حسب المصطلح القصصي ، كما تحوم على موقف مُفرد بسيط قد ترتّب على الحادثة المذكورة .
أمّا الحادثة فهي: جيش سليمان الذي زحفَ على واد النمل .
يقول النص القصصي:
﴿وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الإِْنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾
﴿حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ الَّنمْلِ . . .﴾
هذه هي الحادثة ، و هي كما قلنا بسيطةٌ مفردة تتمثل في جيش مجهّز زاحف ، قد مرّ خلال زحفه على واد النمل .
و لقد أبْهَمَ النصُّ تفصيلات هذه الحادثة ، فلم يذكر لنا أسبابَ الزحف ، كما لم يذكر لنا الجهةَ التي يستهدفها الجيشُ من وراء زحفه . . . و إنّما اكتفى من التفصيلات بوصف قوى الجيش فحسب من حيث تشكيلتُه ، فيما بيّنَ لنا أ نّه قد تشكّل من أصناف متنوعةً هي: الجنّ و الإنسُ و الطير .
كما اكتفى من التفصيلات بوصف سمة واحدة من تحرّكاته ، هي أنّ قوى الجيش قد انتظمت بنحو يردّ أوّلُهم على آخرهم ، بحيث تُدفع المؤخّرةُ و تُوقَف المقدّمة ، بغية الحفاظ على تجمّعه من خلال تلاحُقِ وحداته . و هذا ما عبّر عنه النصُّ القصصي بقوله:
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾
و نتساءل الآن عن السرّ الفنّي الكامن وراء إبهام النص لتفصيلات الحادثة ، من حيث اختزاله لسبب الزحف ، و الجهة التي يقصدها .
و نتساءل أيضاً عن السرّ الفنّي الكامن وراء تفصيله لتشكيلة الجيش أوّلا ، و لانتظام وحَداتهِ ثانياً ، و مروره على وادِ النمل ، ثالثاً .
و لكنّ الإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي ألاّ نعزلها عن التمهيد أو المقدّمة القصصية التي تصدّرت قصة سليمان (عليه السلام) ، و حيث قالت المُقدّمة على لسان سليمان (عليه السلام):
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾
﴿وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْء﴾
﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾
هذا التمهيد القصصي يفسّر لنا كلّ الأسرار الفنّية وراء عمليات الاختزال أو التفصيل للحادثة .
فكلّ ما يُلقي الضوء على لغة التفاهم بين سليمان و الأبطال من غير الجنس البشري سيجد له تفصيلا ، و ما عداه سيُختزل . و هكذا كلّ ما يُلقي الضوء على ما وهبته السماء لسليمان﴿وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْء﴾ سيجدُ له تفصيلا ، و ما عداه سيُختزل . و الأمر نفسه فيما يتصل بالشكر على هذه النِعَم .
لقد اقتصر النصُّ القصصي في حكاية النمل على وصف تشكيلة الجيش: جيش سليمان و انتظام وحدَاته . و اختزل كلّ تفصيل يتّصل بسبب تحركاته و الجهة التي يقصدها .
و السرّ في ذلك ـ من حيث البُعد الفنّي ـ أنّ النص في صدد سرد النِعَمِ التي وهبتها السماء لسليمان ، و تسخيرها كلّ القوى البشرية و غير البشرية لسليمان (عليه السلام) يدلّنا على هذا التمهيدُ الذي أشار إلى أنّ سليمان (عليه السلام) :
﴿قد اُوتيَ من كلّ شيء﴾
و طبيعيّاً أن يكون تشدُّد النص قائماً على إبراز هذا الجانب . و لذلك أبرز النصُّ في حكاية النمل هذا الجانب ، و سرد لنا تفصيلات الجيش الذي (اُوتيَ من كلّ شيء) بحيث تشكّل من كلّ الأصناف من جنٍّ و إنس و طير .
فالمألوف عادة أنّ الجيوش تتألف من قوى بشرية فحسب ، إلاّ في نطاق خاص يتصل بالمعجز و ما تستهدفه السماء من التعريف بتدخّلها في المعارك لصالح عبيدها المؤمنين ، كما نعرف ذلك على سبيل المثال في المعارك الاسلامية التي حاربت الملائكةُ فيها إلى جانب القوى البشرية المؤمنة ، مع ملاحظة أنّ هذا التدخّل لم يتمّ إلاّ من وراء حجاب .
و خارجاً عن ذلك ، فإنّ تشكيلة الجيوش تظلّ منحصرة في القوى البشرية .
هنا في حكاية النمل نجد أن تشكيلة الجيش قد أخذت طابعاً غير مألوف ، هو:
اشتراك الجنّ و الطير إلى جانب القوى البشرية .
و هذا يعني أنّ سليمان (عليه السلام) ﴿قَدْ اُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَىْء﴾ كما صرّحت المقدمةُ القصصيةُ بذلك .
و من هنا يجيء التشدّدُ و التركيز من حيث البُعد الفنّي على إبراز التفصيلات التي تتصل بهذا الجانب ، و هو: الإيتاء من كلّ شيء ، و يُختزل ما عداه من التفصيلات التي تتصل بسبب الزحف و الجهة التي يقصدها ، لأنّ النص ليس في صدد سرد أسباب الزحف و هدفه ، و إنّما في صدد توضيح القوى التي سخّرتها السماء لسليمان (عليه السلام) .
و بهذا ينسجم التمهيدُ القصصي مع تفصيلات حادثة الزحف و اختزالاتها .
* * *
و الأمر نفسه فيما يتصل بانتظام الجيش في وحداته المتماسكة ، حيث شدّد النص على إبراز هذا الجانب أيضاً .
و السرُّ ـ فنّياً ـ من الوضوح بمكان كبير وراء هذا التشدّد .
* * *
فالجيش المؤلّف من قوىً متنوعةً: بشر ، جنٍّ ، طير ، لا مناص من تنسيق وَحَدَاته بنحو يُحافظ من خلاله على تماسك الجيش . و هو أمرٌ شدّد النصُّ عليه ، حتّى يُحيط المتلقّي علماً بمساندة السماء لسليمان في جيشه الذي يتطلّب لغة خاصة من التفاهم بين أصناف لا تجمعها وحدة اللغة و لا التعامل المطلق أساساً .
فالجنُّ له لغته الخاصة ، و سلوكه الخاص ، و الطيرُ أيضاً له لغتُه الخاصة و سلوكه المتميّز ، و البشر أيضاً له لغته و سلوكه . أمّا أن يُجمَعَ هؤلاء في تشكيلة متماسكة متفاهمة متعاونة ، فأمرٌ يدعو إلى الدهشة و العجب . و هو أمرٌ يحرص النصُّ القصصي على إبرازه حتّى يجسّد فنّياً ذلك الجانبَ الذي شدّد عليه و نعني به: أنّ سليمان ﴿قَدْ اُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَىْء﴾
إذن قد اتّضح السرّ الفنّي وراء السرد القصصي لبعض التفصيلات في حكاية النمل ، و اختزاله لغيرها من تفصيلات الحادثة .
و لكننا خارجاً عن الأسرار الفنّية وراء عمليات التفصيل و الاختزال ، يمكننا أن نستعين بالتفسيرات المأثورة في سردها لتفصيلات قد اختزلها النص أو أبهمها للأسباب التي ذكرناها قبل قليل .
فالنصوص المفسّرةُ تسرد لنا ـ مثلا ـ تفصيلات متنوعةً عن طبيعة التعامل بين هذه القوى الثلاث: الإنس ، الجنّ، الطير . فسليمان حينما يعتزم سفراً من الأسفار ، كان يجمع ـ كما تقول النصوص المفسّرة ـ جنودَه من الطوائف المتنوّعة على بساط تحمله الريح . و هذه الواسطة كما هو بيّنٌ تختصر كلّ الصعوبات التي تواجه الزاحفُ مثلا .
و تضيف هذه النصوص ، إلى أنّ معسكر سليمان (عليه السلام) قد انتظمته مساحةُ مائة فرسخ ، قد توزّع في أربعة أماكن بالتساوي ، بحيث خُصص واحدٌ للإنس ، و ثان للجنّ ، و ثالث للوحش ، و رابع للطير .
و هناك تفصيلات اُخرى نقف عليها في حينه ، عندما نتحدّث عن البيئة التي تحركت القصةُ فيها .
و لكن ما يعنينا الآن ، هو أن نعيد التأكيد على توضيح الأسرار الفنّية وراء سرد النص القصصي لبعض التفصيلات ، و إبهامه أو اختزاله لغيرها من التفصيلات . . .
و هو أمرٌ تحدّثنا به ، فيما قلنا: إنّ النص يُشدّد على ما هو مذكورٌ في المقدّمة أو التمهيد القصصي و يدع ما سواه ، بُغية أن يبلورَ لدى المتلقّي الهدفَ الفكري وراء القصّ ، . . . و بغية أن يتحقق التلاحمُ الفنّي بين أجزاء القصة ، بحيث يكون كلُّ جزء منها متصلا بالجزء الآخر . و بمثل هذا التلاحم يُحقّق النصُّ إمتاعاً فكرياً و جمالياً للمُتلقّي .
* * *
قلنا: إنّ حكاية النمل تشتمل على حادثة مفردة بسيطة هي جيش سليمان (عليه السلام) المجهّز ، الزاحف . . . و قلنا أيضاً: إنّها تشتمل على موقِف مفرد بسيط . . . و قد تحدّثنا مفصّلا عن الحادثة ، وصِلتها فنّياً بالمقدّمة القصصية التي أشارت إلى أنّ سليمان (عليه السلام) ﴿قَدْ اُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَىْء﴾ و موقع عمليات التفصيل و الاختزال من المقدّمة القصصية المذكورة .
أمّا الآن فنتجه إلى الموقف المفرد البسيط في هذه الحكاية ، لنرى موقعها الفنّي من القصة .
إنّ الموقف يتمثّل في طبيعة الاستجابة الصادرة من النملة عندما مرّ سليمان (عليه السلام)على واد النمل . ثمّ في استجابة سليمان (عليه السلام) لهذا الموقف .
لقد مرّ سليمان (عليه السلام) على واد النمل .
أمّا لماذا مرّ سليمان (عليه السلام) على الواد المذكور ؟ فهذا أمرٌ قد أبهمه النصُّ أيضاً ، و اكتفى السردُ بذكر موقف النملة من زحف الجيش ، و موقف سليمان (عليه السلام) من ذلك .
هنا نكرّر أنّ النص يستهدف إنارة موقف محدّد قد ذكرته المقدّمة القصصية عندما أشارت إلى أنّ سليمان قد اُوتي كلّ شيء و إلى أنّه عُلّم منطق الطير ، و إلى أنّ هذا فضلٌ أو عطاء وهبته السماء لسليمان (عليه السلام) .
و ممّا لا شك فيه أنّ إدراك منطق النمل ، يظلّ متصلا بتلك المقدّمة التي قالت بتعلّم منطق الطير .
و بالرغم من أنّ التعلّم المذكور سيلقي بإنارته الكبيرة على حكاية الهدهد ، و هي الحكاية الثانية من حكايات سليمان . . . بالرغم من ذلك ، فإنّ الإنارة تُلقي بظلالها على حكاية النمل أيضاً مادام الجنس غير البشري يمثّل عنصراً مشتركاً في عملية التفاهم اللغوي .
يُضاف إلى ذلك ، أنّ سليمان (عليه السلام) قد عقّب على موقف النملة التي حذّرت رفيقاتها من تحطيم سليمان (عليه السلام) للنمل و أمرت بدخولها إلى مساكنها . . . قد عقّب سليمان (عليه السلام)على ذلك بقوله:
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ . . .﴾
و ممّا لا شك فيه ، أنّ هذا الشكر للسماء له صلته بالمقدّمة القصصية التي ألمحت إلى الفضل المبين من السماء لسليمان (عليه السلام) .
إذن الموقف الذي تضمّنته حكاية النمل ، يظلّ من حيث التفصيل أو الاختزال على علاقة فنّية بالتمهيد القصصي ، تماماً كما لحظنا ذلك في حادثة زحف الجيش و تشكيلته و تماسك وَحَدَاته المنتظمة .
* * *
و خارجاً عن البناء الفنّي المذكور لكلّ من الحادثة و الموقف اللذين تضمّنتهما حكايةُ النمل ، فإنّ متابعتنا لملابسات الموقف تكشف عن مزيد من الإمتاع الفنّي و الفكري لهذا الموقف ، و بخاصة إذا انسقنا مع التفصيلات التي ذكرتها نصوص التفسير .
إنّ المرور على الوادي نفسه ، يظلّ حادثةً ممتعةً فنّياً ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ النص في صدد تعريف المتلقّي بأنّ سليمان (عليه السلام) قد عُلّم منطق كلّ شيء .
و في تصورنا أنّ انتقاء النمل دون غيره من الدواب على الأرض ، يفصح عن إمتاع له قيمته ، إذا أدركنا أنّ هذا الحيوان قد اُنتقيَ و هو بحجمه الصغير جداً ، لكي تتعمّق قناعةُ المُتلقّي بأنّ تعلّم منطق كلّ شيء ، قد استغرق حتّى منطق النمل . هذا فضلا عن أنّ النمل نفسه ـ فيما يحدّثنا علُم النفس الحيواني ـ له سلوكُه المتميّز ، المُدهش ، المثير في تحرّكاته ، و إدراكه ، و التقاطه للطعام ، و بناء مساكنه و ما إلى ذلك .
المهمّ أنّ انتقاء النمل نفسه ، يظلّ مصحوباً بإمتاع يتحسّسه المتلقّي دون أدنى شك .
كما أنّ الاستجابةَ التي صدرت منه تفصح عن قيمة فكرية تلفت انتباه المتلقّي أيضاً .
فمن المعروف أنّ الحيوانات تفترق عن الآدميين في استجابتها للدوافع الحيويّة الموروثة بنحو أشدّ من استجابتها للدوافع النفسيّة .
و لعلّ أبرز دوافعها الحيوية ـ كما لاحظ ذلك المعنيّون بعلم النفس الحيواني ـ هي دوافع الطعام و الجنس و الدفاع .
و قد أبرز النصُّ القصصي الدافعَ الأخير لدى النمل و نعني به: غريزة الدفاع ، متمثّلا في تحذير النملة رفيقاتها من الهلاك . كما أبرز في الآن ذاته عنصراً نفسيّاً لدى الحيوان ، هو: عاطفته الجمعيّة ، . . . متمثلةً في تحذير النمل بأجمعه ، و ليس في عاطفة فردية تخص الذات وحدها .
و ممّا لا شك فيه أنّ إبراز مثل هذه العناصر ، فضلا عمّا يصاحبه من إمتاع جمالي و نفسي ، من حيث كونه يُشبع الدافعَ إلى الاستطلاع ، فإنّه ينطوي أيضاً على قيم فكرية تتصل بغريزة الدفاع عن الذات ، و بأهمية التعاطف بين النوع .
* * *
و قبل أن نغادر حكاية النمل إلى الحكاية الثانية في قصة سليمان (عليه السلام) ، نودّ أن نلفت انتباه المُتلقّي إلى ظاهرة فنّية قد استوقفت بعض المفسرين ، حينما ألمح إلى أنّ جنود سليمان كانوا ركباناً و مشاة ، لا أنّ الريح كانت تحملهم ، لأنّ السمةَ الأخيرة لا تستتلي الحذر من الجنود ما داموا في الجوّ .
و في تصوّرنا أنّ النصّ لم يكن في صدد تحديد الجوّ أو الأرض ، بقدر ما هو في صدد الحديث عن تنويع القوى و انتظامها ، مع أنّ طبيعة القوى المشتركة في الجيش من جنٍّ و طير تتطلب تحرّكاً في الجوّ و في الأرض ، . . . هذا إلى أنّ بعض النصوص المفسّرة أشارت إلى المساحة التي انتظمت معسكر سليمان (عليه السلام) ، . . .
و لابد أن تكون هذه المساحةُ أرضيةً و ليست جوّية .
و مع أنّ بعض أنماط النمل يطير بجناحين أيضاً ، ممّا يعزّز إمكان التحذير ، . . . إلاّ أنّ الذهاب إلى تحرّكات الجنود جوّاً و أرضاً ، يظلّ أقرب إلى طبيعة الحادثة من التحرّك في الأرض فحسب ، سواء أكان التحرّك دائمياً أم مؤقّتاً يتراوح بين الأرض و الجو من حين لحين .