قلنا: إنّ قصة سليمان يمكن شطرها إلى قصتين متداخلتين: إحداهما ترتبط فيها شخصية سليمان (عليه السلام) بالنمل و سائر الطير ، و الاُخرى بتعاملها مع شخصية بلقيس .
كانت الحكاية الاُولى في قصة سليمان (عليه السلام) هي حكاية النمل ، و قد أوضحنا في
حينه تداخل هذه الحكاية مع الحكاية الجديدة التي نعتزم الآن الحديث عنها ، و نعني بها حكاية بلقيس ، أو حكاية الهدهد الذي كان السببَ وراء اكتشاف هذه الشخصية النسوية .
و لا حاجة بنا إلى توضيح البناء الفنّي لهذه الاُقصوصة من حيث صلتها بالمقدّمة أو التمهيد القصصي الذي تصدّر قصة سليمان (عليه السلام) ، ما دمنا نتذكّر جيّداً أنّ ذلك التمهيد قد طَرَحَ ثلاثة مفاهيم هي: تعلُّم منطق الطير ، و إيتاء سليمان من كلّ شيء ، و الإلماح إلى نِعَمِ السماء على سليمان: إنّ هذا لهو الفضل المبين .
هذه المفهوماتُ الثلاثة قد بيّنا صلتَها بحكاية النمل . و أمّا صلتها بحكاية الهدهد فمن الوضوح بمكان كبير .
فتعلّمُ منطق الطير له علاقته الكبيرة بفهم الهدهد الذي دلّ سليمان (عليه السلام) على بلقيس . و إيتاء سليمان من كلّ شيء ، ثمّ الإقرار بهذا الفضل سيُحدّثنا سليمانُ نفسهُ بذلك ، حيث يعقّب بقوله: ﴿هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي . . .﴾ ، عندما يستقرّ عرشُ بلقيس عند سليمان (عليه السلام) .
إنّ الجديد الذي ينبغي أن نقف عنده الآن، هو بناء هذه الاُقصوصة من حيث معماريتُها الداخلية و خطوطها المتنوّعة التي قام عليها هيكلُ الاُقصوصة .
و لكن قبل ذلك يتعيّن علينا أن نشير إلى أنّ هذه الحكاية تفترق عن سابقتها من حيث كِبَرُ حجمها ، و تنوّع المواقف و الأبطال فيها ، و اشتمالها على ما فيه المزيد من الدهشة ، و الطرافة ، و الإثارة ، و الإعجاز .
* * *
تبدأ الاُقصوصةُ على النحو الآتي:
﴿وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ﴾
﴿ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ﴾
﴿لأَُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لأََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطان مُبِين﴾
هذه البداية تُشبه البدايةَ التي لحظناها في حكاية النمل ، من حيث أنّ النص قد أبْهَمَ السبَبَ الكامن وراء عملية التفقّد فحسب مع الاستجابة الغاضبة لدى سليمان (عليه السلام) .
و ما قلناه هناك ، نقوله هنا من أنّ عملية اختزال السبب وراء التفقّد ليست مستهدفةً لدى النصّ بقدر ما يستهدفُ النصّ إبراز الحادثةِ ذاتها ، ثمّ الموقف الذي استجاب له سليمان (عليه السلام) ثانياً . و ذلك لأسباب فكريّة أوضحناها في حينه .
غير أنّ المتلقّي بمقدوره أن يستخلص من أنّ سبب تفقّد الطير قد يعود إلى طبيعة تحرّكات سليمان الذي سخّرت السماء له: الجنّ و الإنسَ و الطيرَ ، و كلَّ شيء ، و إلى أنّ ظاهرة الأسفار تشكّل طابعاً مميّزاً لتحرّكات سليمان ، بخاصة أنّ حكاية النمل التي صاحبها زحفُ الجنود قد غلّفتها ظاهرةُ السفر كما لحظنا .
على أنّ النصوص المفسّرة قد أوضحت هذا الطابع حينما ألمحت إلى أنّ سبب تفقّدِ سليمان للطير عائدٌ إلى أ نّه احتاج إلى الهدهد ليدلّه على الماء في سَفَره .
و قد رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ عبر تعقيبه على هذا الجانب ـ :
«إنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض»
و هذا يعني أنّ عملية التفقّد لها سِماتُها الجماليةُ و الموضوعيةُ التي تفتح أمام المُتلقّي آفاقاً جديدة من التذوّق الفنّي للنص و استثمار قيمه الفكرية .
المهمّ أنّ سليمان (عليه السلام) يبدأ بتفقّد الطير الذي سخّرته السماء لهذه الشخصية .
و يبدأ بتفقّد الهدهد بالذات ، مادام الموقفُ يتطلّب هذا النمطَ من الطيور .
لكنّ المُتلقّي يتساءل من جديد: لماذا أبهمَ النصُّ هذه الخصيصة التي يتميّز الهدهدُ بها ؟
و من جديد نُجيب: إنّ هدف الحكاية هو إبراز عملية التسخير و ليس خصائص البطل الذي سخّرته السماء . مضافاً إلى ذلك أنّ السماء تعتزم لفت الإنتباه إلى أنّها ـ أي السماء ـ قد أتاحت لسليمان من عمليات التسخير ما لم يحلم بها سليمان (عليه السلام) نفسه . فلسوف نرى في الجزء الآتي من الاُقصوصة أنّ الهدهد الذي تفقّده سليمان و هدّده بالعذاب أو الذبح . . . هذا الهدهد قد سخرته السماء لسليمان (عليه السلام)ـ من دون علمه ـ ليقوم بمهمّة ضخمة يتطلّع إليها سليمانُ كلَّ التطلّع ، ألا و هي عثوره على مدينة سبأ و ملكتها بلقيس .
و من الواضح ـ من حيث البُعد الفنّي لهذه الحادثة ـ أنّ النص عندما أبهمَ مهمّة الهدهد ، إنّما جَعَلَنا ـ نحن المتلقّين ـ نُدرك القيمة الكبيرة لعطاء السماء ، بحيث أنّها لم تسخّر لسليمان كلّ القوى فحسب ، بل إنّها سخّرت له ما لم يُفكّر هو بتسخيره .
و هذا الهدف الفكري يشدّد النصُّ عليه كلّ التشدّد ، مادام النص أساساً قد وظّف القصّة بأكملها ـ و بشطريها: حكاية النمل و حكاية الطير ـ لهذا الهدف كما لحظنا .
و يضاف إلى ذلك كلّه أيضاً ، أنّ النص بإبهامه حادثَة السفر و خصيصة الطائر ، إنّما ترَكَ للمُتلقّي بأن يستخدم ذائقته الفنّية في اكتشاف الدلالة و استخلاص الظواهر حتّى يحقّق بذلك قدراً أكبر من الإمتاع الجمالي .
لقد بدأت حكايةُ الهدهد بتفقّد سليمان (عليه السلام) لهذا الطائر ، حيث أوضحنا خصائص هذه البداية القصصية .
و الآن لنُتابع عملية التفقّد المذكورة ، و ما سحبته من الاستجابة لدى سليمان (عليه السلام) .
لقد تساءل سليمان أوّلا:
﴿ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ؟﴾
ثمّ تساءل:
﴿أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ؟﴾
ثمّ توعّده ـ ثالثاً ـ فقال:
﴿لأَُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً﴾
ثمّ توعّده بنحو أشدّ حينما هدّده بالذبح ، عندما قال:
﴿أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ﴾
ثمّ استدرك ذلك ، فقال:
﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطان مُبِين﴾
إنّ هذه الاستجابة لدى سليمان (عليه السلام) مرّت بمراحل خمس من الاستجابة ،
متراوحةً بين الاستجابة المتفقّدة ، و المتوعّدة ، و المستدركة .
و الآن ، ماذا نستخلص من هذه المراحل المستجبية لدى سليمان (عليه السلام) ؟
وصِلة ذلك بشخصيته ؟
ثمّ صِلة ذلك بمهمّة التسخير التي هيّأتها السماء لسليمان (عليه السلام) ؟
وصِلة ذلك أخيراً بالهيكل الهندسي للاُقصوصة ؟ .
* * *
ممّا لا شك فيه ، أنّ سليمان (عليه السلام) كان على صواب تامّ في كلّ مراحل الاستجابة التي اجتازها .
بيد أنّ عمليّة التهديد التي صدرت منه ، من الممكن أن تُثير تساؤلَ المتلقّي في هذا الصدد .
لكننا نُجيب: إنّ السماء ـ و هي تسرد لنا قصص الصفوة من عبادها ـ تدلّنا من حين لآخر إلى أنّ هذه الشخصيات المصطفاة لا تصوغها السماء إلاّ في نطاق محدّد بحيث لا تُطلعها كلَّ ملامح الغيب ، بل تخفي عليها بعض الملامح و تُبرز بعضاً آخر ، لحكمة يتطلّبها الموقف .
و حينئذ من الطبيعي أن تكون استجابةُ البطل محدّدة بقدر حجم الغيب الذي أطلعته السماءُ عليه .
و من هنا قلنا: إنّ استجابة سليمان (عليه السلام) في مراحلها الخمس المذكورة قد اتّسمت بالسويّة بما في ذلك سمة التوعّد .
و يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح ، إذا تابعنا هذه المراحل من الاستجابة:
1 ـ الاستجابة الاُولى:
و تتمثّل في عملية
﴿وتفقّد الطير﴾
و هذه العملية لها مسوّغاتها الطبيعية دون أدنى شك . فما دام سليمان في صدد السفر ، و في صدد معرفة الأرض التي يقطعها فيما يتصل بالماء و معرفة مكانه من الأرض لأسباب تتطلّبها تحركاتُه التي عهدتها السماءُ إليه .
2 ـ الاستجابة الثانية:
و تتمثّل في قوله:
﴿أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ﴾
و واضح أنّ هذا التساؤل له مسوّغاته أيضاً .
فما دامت السماء قد أمرت الطير بأن يخدم سليمان ، حينئذ من حقّ سليمان أن يتساءل عن سبب غيابه و تمرّده على الطاعة .
3 ـ 4 ـ الاستجابة الثالثة و الرابعة:
و تتمثّلان في قوله:
﴿لاُعذّبنه عذاباً شديداً﴾
و في قوله:
﴿أو لاَذْبَحَنَّهُ﴾
و بيّنٌ أيضاً أنّ هذا التهديد يترتّب على تصوّر سليمان (عليه السلام) بأنّ الطائر قد تمرّد على أوامر السماء . و من يتمرّد على مثل هذه الأوامر يستحقّ العقاب دون أدنى شك .
أمّا تراوح الاستجابة المهدّدة بين العذاب و القتل ، فواضحٌ أيضاً من حيث طبيعة التركيب الآدمي في الاستجابة . فالشخصية عندما تلحظ مفارقةً من المفارقات عند الآخرين ، حينئذ تبدأ باستجابة تتوعّد على ذلك بحسب حجم المفارقة و انعكاسها على شخصية المستجيب ، فقد تبدأ باستجابة غاضبة إلى حدٍّ ما ، ثمّ يتضاعف إحساسُها بعِظمِ المفارقة فتستجيب بنحو أشدّ . . . و هذا ما طَبَع سلوكَ سليمان عندما غضبَ إلى حدٍّ ما فتوعّد بالعذاب ، ثمّ تضاعف إحساسه بعِظمِ المفارقة لدى الطائر ، فتوعّده بالذبح .
5 ـ الاستجابة الخامسة:
و تتمثّل في قوله:
﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطان مُبِين﴾
و ممّا لا ريب فيه أنّ هذه الاستجابة تلخّص لنا موضوعية سليمان (عليه السلام) في موقفه من الطائر ، فهو في زحمة غضبه على تمرّد الطائر ، لم يخرجه هذا الغضب من الحقّ ، بل ترك لتأمّلاته الموضوعية بشقِّ طريقها إلى الأمام ، حيث احتمل أن يكون للطائر عذرٌ مقبول في تخلّفه عن الركب ، و لذلك استدرك سليمان (عليه السلام) ، و قال:
«أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطان مُبِين»
وهذا الاستدراك من حيث معمارية القصة له أهميتهُ الفنّيةُ الكبيرة في صياغة النص القصصي الذي نحن في صدده . فقد جعله النصُّ آخر مراحل الاستجابة لدى سليمان . ثمّ جعل الاستدراك مُبهماً بحيث لا يستطيع المتلقّي أن يحكم الصالح أحد الطرفين . فقد يكون للطائر عذره فعلا ، وقد لا يكون له العذر .
بيد أنّه في الآن ذاته عندما يجعل النصُّ هذه النهاية مفتوحةً ، حينئذ فإنّ الأجزاء اللاحقة من القصة هي التي تتكفّل بتقديم الجواب .
وفعلا سنلحظ أنّ هذه الاستجابة الأخيرة ـ أي استدراك سليمان ـ ومطالبته بتقديم العذر من قِبَل الطائر سيُلقي بإنارته على الجزء اللاحق من القصة ، بحيث سيتبيّن للمتلقّي بأنّ الطائر كان معذوراً كلّ العذر في غيابه .
لقد بدأت حكايةُ الطائر بتفقّد سليمان(عليه السلام) وتوعّده للهدهد ، ثمّ استدراكه هذا التوعّد بقوله: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطان مُبِين﴾ .
و بهذا الاستدراك ينتهي القسم الأوّل من الاُقصوصة ، و يبدأ قسمُها الآخر .
و مثلما قلنا: فإنّ القسم الأوّل من الاُقصوصة علّق تنفيذ التهديد على تقديم عذر يُبيّنه الطائر لسليمان .
و ها هو الطائر يتقدّم فعلا بعذر مشروع ، لا أ نّه يُقنع سليمان فحسب ، بل إنّه يدخل في الصميم من تطلّعات سليمان و آماله التي يصبو إلى تحقيقها .
و ها نحن نلحظ أنّ الطائر قد تقدّم بنبأ خطير كلّ الخطورة ، على هذا النحو الذي يسرده النصّ:
﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد﴾
﴿فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ . . .﴾
إنّ الطائر يتقدّم إلى سليمان (عليه السلام) بنبأ لم يعلن عنه مباشرة ، بل جعله مسبوقاً بأنّه ينطوي على إحاطة بشيء لم يُحط حتّى سليمان (عليه السلام) به .
و واضح أنّ مثل هذا التمهيد للنبأ و تحسيس سليمان بأنّه نفسُه لم يُحط علماً بالنبأ . . . هذا النحو من الإخبار له أهميته الفنّية في الإجابة على موقف سليمان ، بحيث يتوافق و التهديد الذي صدر منه ، أي أنّ الإجابة ستنصبّ ماء على اللهيب الذي أفرزه الغضب .
و قبل أن نتابع تفصيلات النبأ الذي قدّمه الطائر ، لا مناص لنا من تذكير المتلقّي بالأهمية الفنّية أيضاً لهذه الظاهرة ظاهرة إحاطة الطائر علماً لم يُحط به حتى سليمان ، حيث سبق أن أوضحنا أنّ هذه الظاهرة تنطوي ـ فضلا عمّا تقدّم ـ على تحسيسنا بعِظَمِ العطاء الذي منحته السماءُ لسليمان ، بحيث تدفّقت عليه بنحو لم يحتسبه ، فمادامت السماء قد سخّرت له كلُّ شيء . إذن فلتسخّر له ما لم يخطر بباله ، لتُسخّر له الطائر الذي تطوّع بمهمّة لم يكلّف سليمانُ بها الطائر . . .