• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة النمل : حكايةُ بلقيس

 هذه الحكايةُ بدأت على هذا النحو الذي ينقله الطائرُ لنا:

قال الطائر ، مخاطباً سليمان:

﴿وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَأ بِنَبَأ يَقِين

﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء

﴿وَلَــها عَــرْشٌ عَــظِيمٌ

﴿وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ

﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ

إنّ البطل الذي ستحوم عليه أحداث الاُقصوصة و مواقفُها هو: بلقيسُ التي أبهَمَ النصُّ اسمَها ، و فصّل مُلكها و عقيدَتها .

هذه الملكةُ تُقيم في مدينة سَبَأ و قد اُوتيت من كلّ شيء .

هنا ينبغي أن نلتفت إلى أحد الخُطوط الهندسية لبناء الاُقصوصة . فقد سبق للنص أن أخبرنا أنّ سليمان (عليه السلام) قد اُوتي من كلّ شيء . . . و ها هو الطائر يُخبرنا أنّ بلقيس قد اُوتيت من كلّ شيء . . .

تُرى ، هل إنّ الأشياء التي اُوتيَ بها سليمانُ هي ذاتها التي اُوتيت بلقيس بها ؟

إنّ الأشياء التي تملّكها سليمان قد سخّرتها السماء بنحو معجز . . . في حين أنّ الأشياء التي تملّكتها بلقيس يسمها طابعُ الاُلفة . . . و هذا الفارقُ بينهما سيُستخلَصُ بوضوح ما بعده وضوحٌ . إ نّه عمليّة تذكير للمُتلقّي بقيمة الشخصيّة التي تتعامل مع السماء ، و افتراقها عن الشخصية التي تتعامل مع الأرض .

إنّ سليمان (عليه السلام) يتعامل مع اللّه فيُؤتى من كلّ شيء .

و بلقيس تتعامل مع الأرض فتُوتى من كلّ شيء أيضاً . و لكن كم هو الفارق بين الشيء الذي اُتيحَ لسليمان (عليه السلام) ، و الشيء الذي اُتيحَ لبلقيس ؟

* * *

على أيّة حال ، أنّ الطائر رَسَمَ لسليمان (عليه السلام) شخصيةَ بلقيس من أنّها ملكةٌ قد اُوتيت من كلّ شيء و شدّد على وصف العرش الذي تملكه قائلا عنه: إنّه عرش عظيم .

و هذا من حيث السمةُ الخارجية للبيئة التي تتحرّك الملكةُ فيها .

أمّا من حيث السمةُ الداخلية ، فقد غلّفتها أحطّ السمات ، ألا و هي: عبادة الشمس .

إذن لا قيمةَ ألبتة لهذا المُلك الذي يُجسّد حياة عابرة ، ما دامت غير مرتبطة بالتعامل مع اللّه .

و الطائر نفسه قد أدرك تفاهة هذا الملك . . . مثلما أدرك مدى المفارقة التي تنطوي عليها عقيدةُ الملكة ، و مدى الضلال الذي غلّفها و قومَها . . .

لقد أدرك الطائر هذه المفارقات الضخمة ، مستنكراً إيّاها كلّ الاستنكار . . .
حيث نسَبَ سلوكَ الملكة و قومَها إلى الشيطان ، فقال:

﴿وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ

و أوضح أنّه سلوك مجانبٌ للحقيقة ، لسبيل الحقّ ، فقال:

﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ

و أوضح أنّه سلوك لا يهتدي إلى الحقّ ، فقال:

﴿فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ

إنّ ما يهمّنا التعقيب عليه الآن ، هو أنّ النص قد أوكلَ مهمّة التعريف بشخصية الملكة و قومها ـ من حيث ضلالهم ـ أوكل ذلك إلى شخصية اُخرى هي الطائر دون أن يتدخّل النص بهذه المهمّة مباشرة ، و دون أن يجعل مهمّة التعريف لشخصية آدمية . . .

و الدلالة الفنّية لمثل هذا التعريف واضحةٌ تماماً ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ إدراك حتّى الشخصية الحيوانية لمفارقة السلوك غير المرتبط بالسماء ، إنّما يكشف عن مدى التخلّف الذهني لدى هؤلاء الذين لم يعوا الحقيقة . مضافاً إلى ذلك أنّ إجراء الحقّ على لسان أحد الأبطال ، أشدّ تأثيراً في حالات خاصة من المباشرة .

* * *

عندما أخبَر الطائرُ سليمانَ (عليه السلام) بنبأ ملكة سبأ و ما هي عليه و قومُها من الضلال . . . عندها خاطبَ سليمان (عليه السلام) الطائرَ ، قائلا:

﴿سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ

و إلى هنا لا تزال قصة الملكة بلقيس محفوفة بعنصر التشكيك بالنسبة إلى سليمان (عليه السلام)و موقفه من الطائر الذي تفقّده ، و طالبه بإقامة الدليل على صحّة دعواه في غيابه عن جند سليمان (عليه السلام) .

أمّا و قد قدّم الطائرُ عُذرَهُ في الغياب ، فحينئذ لا يزال سليمان متحفّظاً في تصديقه لهذه الدعوى .

و تبعاً لذلك يقدّم سليمانُ للطائر اقتراحاً يستكشف من خلاله صحّةَ الأنباء التي زوّده الطائرُ بها .

و الاقتراح الذي قدّمه سليمان (عليه السلام) ، يمثّله الحوارُ الآتي ، حيث خاطب سليمانُ الطائر ، بقوله:

﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ

هنا ينبغي أن نقف على الأسرار الفنّية لهذا الحوار ، و ما انطوى عليه من وظائف في عملية تطوير الأحداث و في استثارة عنصر التشويق و المماطلة في استكشاف ما أبهمه النص .

فالملاحَظ أنّ اقتراح سليمان محفوفٌ بضبابيّة كثيفة لا يكاد يبيّن للمُتلقّي أيّ خطٍّ محدَّد فيها . فالمُتلقّي يتساءل: تُرى ما هو محتوى الكتاب الذي أرسله سليمانُ بوساطة الطائر ؟ هل أنّ الكتاب له علاقة بسلوك الطائر من حيث كونه كاذباً أو صادقاً في دعواه ؟ و إذا كان الأمرُ كذلك ، فما هو ياترى مضمون الكتاب ، و بأيّة لغة صيغت فقراتُه ؟

و ممّا لا شك فيه ، أنّ المتلقّي على حقّ في تساؤله المذكور ، لأنّ النص القصصي نفسه وضعه في هذا الموقف المتساءل ، لسبب واضح كلّ الوضوح ، و هو أنّ سليمان (عليه السلام)خاطب الطائر بقوله: ﴿سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ... و هذا يعني أن مضمون الكتاب سيحوم على استكشاف السلوك الصادق أو الكاذب لدى الطائر .

و توقّعات المتلقّي ـ تبعاً لما تقدّم ـ ستحوم على جملة من الافتراضات ، منها:
أنّ الكتاب موجّه إلى الملكة و قومها ، و إلى أنّه يتضمّن أسئلةً ما تتطلّب مجرّد إجابة عليها ، حيث يكشف الجواب عن وجود مثل هذه الدعوى التي ادّعاها الطائر . . . غير أنّ الغموض يظلّ يلفّ الموقف بالنسبة إلى مضمون الكتاب و ليس مجرّد إرساله .

و على أيّة حال ، فإنّ النص بهذه الصياغة من الحوار حقّق جملةً من الاستجابات الفنّية في عملية التذوّق القصصي:

منها: حمل المتلقّي على المساهمة في عملية الاستكشاف بنفسه .

و منها: تفجير عنصر المماطلة و التشويق في أعماقه لمتابعة مصير الطائر و دعواه في عملية الصدق و الكذب ، و في عملية التعرّف على الأحداث نفسها .

و منها: تحقيق عنصر الاقتصاد اللغوي في عملية القصّ الذي تتطلّبه طبيعةُ الاُقصوصة ، من حيث كونها تعتمد التركيز و اختزال التفصيلات .

* * *

على أيّة حال ، أنّ النص القصصي سرعانَ ما يحيط المتلقّي بمحتويات الكتاب و لكن من خلال حوار آخر و ليس من خلال السرد القصصي .

و هذا الحوار الجديد يُجريه النص على لسان الملكة بلقيس . . .

من خلال حوار يقوم بينها و بين مستشاريها على النحو الآتي:

﴿قالت: يا أَيُّهَا الْمَلاَُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ

﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ

﴿قالَتْ يا أَيُّهَا الْـمَلأَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ

إنّ هذا الحوار حافلٌ بدوره بأسرار فنّية بالغة الخطورة في عملية الاستكشاف لطبيعة الأحداث التي أبهَمها الحوارُ السابق: خطاب سليمان . و في عملية استكشاف محتوياته التي تشوّق المتلقّي إلى معرفتها .

فقد عرف المتلقّي أنّ الكتاب يتّصل بمهمّة الرسالة التي اضطلع سليمانُ بحملها إلى الآدميين ، ألا و هي: الدعوة إلى الإقرار بوحدانية اللّه .

كما عرف المُتلقّي أنّ مسألة صدق الطائر أو كذبه قد تُجووِزت إلى حقيقة ما أخبر به الطائر ، أي أدركَ تماماً صدقَ الطائر ، و تجاوزها إلى معرفة طبيعة الاستجابة التي صدرت عن بلقيس .

و بيّنٌ أنّ النصّ قد استغنى عن إقحام هذه التفصيلات في كتاب سليمان ، أو في صياغة سرد يتضمّنها ، ليس في تحقيق عملية التركيز القصصي فحسب ، بل في عملية تحقيق عنصر المماطلة و التشويق ، و في عملية استكشاف المتلقّي بنفسه ملابسات الموقف و تفصيلاته .

و الحقّ أنّ المتلقّي مدعوٌّ من جديد إلى تأمّل هذين الحوارين: كتاب سليمان و تشاوُر بلقيس مع قومها ، . . مدعوٌّ إلى تأمّلهما بدقة ، لاستكشاف ما ينطويان عليه من أسرار فنّية في عملية لهما لجملة من الوظائف التي تتطلب أكثر من سرد و أكثر من حوار و أكثر من تعقيب بغية إنارة الموقف ، لكن النص أنار كلّ تلكم المواقف و الأحداث بحوارين تطوّرت الأحداث من خلالهما ، و استُكشِفت دعوى الطائر من خلالهما ، و استكشف مضمون الكتاب ، و موقف بلقيس من خلالهما .

عندما تسلّمت بلقيس ملكةُ سبأ كتابَ سليمان (عليه السلام) جمعت مستشاريها وأخبَرتهم بذلك:

﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ

﴿وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ

ثمّ طلبت منهم أن يتّخذوا قراراً في هذا الصدد:

﴿قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلاَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتّى تَشْهَدُونِ

و يُلاحظ هنا: أنّ الملكة لم تتسرّع في رفض الدعوة أو تقبّلها ، و إنّما طلبت المشورة من القوم .

و يُلاحظ ثانياً: أنّ مستشاريها أنفسهم لم يجرأوا على الرفض المباشر ، بل قالوا:

﴿نَحْنُ أُولُوا قُوَّة وَ أُولُوا بَأْس شَدِيد وَ الأَْمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ

و يلاحظ ثالثاً: أنّ الملكة في ردّها على القوم لم تجرأ أيضاً على الرفض ، بل التجأت إلى عملية اختبار قبل أن تتخذ قراراً حاسماً ، و لذلك قالت:

﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ

﴿وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمـُرْسَلُونَ

إنّ ما يهمّنا الآن ، هو أن نشير إلى أنّ عملية التردّد تفرضها طبيعةُ الكتاب الذي أرسله سليمان (عليه السلام) و طبيعةُ الموقف الذي تصاحبه مُلابسات يبدو أنّها على صلة بالتعرّف المسبق على شخصية سليمان .

أمّا الكتاب ، فبغضّ النظر عن الاستجابة التي يمكن أن تصدر حياله عند القوم ، فإنّ تصديره بسمة الرحمن الرحيم ، كاف في التحسيس بأنّ الدعوة إلى وحدانية اللّه تقترن بما هو في صالح الآدميين ، لأنّه مصحوب بسمة الرحمة التي يتطلّع إليها البشر في كلّ أنماط سلوكهم .

و من هنا ، فإنّ أيّ ردّ على الكتاب لابدّ أن يتّسم بالتحفّظ في عمليّة الرفض ، إذا كان صاحبُ الردّ قد غلّفه سلوك متمرّد كعبادة الشمس و نحوها .

مضافاً إلى ذلك ، فإنّ لغة التهديد التي طبعت الكتابَ قد غُلّفت بغلالة لا تصاحبها القسوةُ أو العنفُ الذي يلجأ إليه الأرضيون عادة .

هذا إلى أنّ الكتاب يتحدّث بلغة العارف بأعماق النفوس و أمراضها ، حيث طالبهم سليمان بعدم العلوّ و ركوب الرأس .

ثمّ طالَبهم ـ و هذه سمةٌ رابعة ـ بلغة الواثق بالانتصار «و أتوني مسلمين» .

لهذه الأسباب مجتمعةً ، لابدّ ـ في تصوّرنا ـ أن تتحفّظ الشخصيّة المتمرّدة في الرفض ، لأنّها حيال حقائق تفرض واقعها على الشخصية .

و هذا ما حدَث فعلا في استجابة الملكة و مستشاريها ، و مع أنّ مستشاريها قد لمـّحوا لها باستعراض قوّتهم ، إلاّ أنّه في الواقع تلميحٌ مفتعلٌ مصحوب بالتردّد ، لأنّه لو لم يكن مصحوباً بالتردّد المذكور ، لما تركوا الأمر في نهاية المطاف لرأي الملكة ، بل لزيّنوا لها الرفض .

و هذا كلّه من حيث محتوى الكتاب .

و أمّا من حيث الموقف و ملابساته ، فإنّ النصوص المأثورة في التفسير تذكر لنا أنّ الملكة كانت مسبوقةً بالتعرّف على شخصية سليمان ، حيث سمعت بأنّه ممّن يملك الجنّ و الإنس و الطير . . .

و مع مثل هذا التعرّف ، فإنّ التردّد في الرفض ، لابدّ أن يسم سلوك الملكة و قومها ، ما داموا أمام شخصية قد سُخّرت لها القوى ما لم تُسخّر لسواها .

* * *

و الآن و قد تعرّفنا على البُعد النفسي لهذه الواقعة و ما رافقتها من الاستجابة لدى الملكة و قومها ، يحسن بنا أن نتعرّف على البُعد الفنّي لها .

لقد قدّمت الملكةُ بلقيس اختباراً متمثّلا في إرسالها هديّة إلى سليمان تصانعه بها على مُلكها .

و قبل ذلك قالت لمستشاريها:

﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً

و هذا القول و ما تبعه من الاقتراح بإرسال الهديّة إلى سليمان ، سنجد له صدىً في الجزء اللاحق من الاُقصوصة ، حيث سيُقدّم سليمان (عليه السلام) بدوره عملية اختبار من جانبه متمثّلا في تنكيره لعرشها على نحو ما سنتحدّث عنه لاحقاً . فيما يحقّق النصُّ القصصي بهذا الاختبار توازناً هندسياً في بناء الاُقصوصة .

بيد أنّ ما نعتزم التلميح إليه الآن في هذا الجزء من الاُقصوصة ، هو تحديد اختبارها و مدى الفارق بينه و بين الاختبار الذي سيقدّمه سليمانُ (عليه السلام) جواباً على ذلك .

لكننا قبل كلّ شيء ينبغي أن نتعرّف على دوافع اقتراحها المتقدّم .

إنّ النص القصصي أبهَمَ إلى حدٍّ ما دوافع هذه العملية ، بحيث يمكننا أن نتساءل:
هل إنّ جوابها لمستشاريها من أنّ الملوك سيُبيدون المدينة التي يحتلّونها ، و يُذلّون أشرافَها ، هل إنّ هذا الجواب مفتعلٌ أم إنّه عفويّ يعبّر عن ردّ فعل طبيعي لدى الملكة ؟

إنّ المتلقّي من الممكن أن يستخلص من الجواب المذكور ، أنّ هذا الجواب مفتعلٌ تستهدف الملكةُ من ورائه أن تُحيط قومَها علماً بأنّ سليمان على حقّ ، لكنها لاتستطيع تمرير هذه الحقيقة بجواب مباشر ، و لذلك تتقدّم بالاختبار مفصحةً بهذا عن تحذيرهم من سليمان ، و موحيةً إليهم بضرورة الاستسلام .

و يمكن للمتلقّي أيضاً أن يستخلص خلافَ هذا ، بأن يرى إلى هذا الجواب ردّ فعل طبيعي لخبراتها عن الملوك و سلوكهم في عمليات الفتح .

و واضحٌ أنّ كلاّ من هذين الاستخلاصين مفتوحٌ للمتلقّي ، و سيظل كذلك حتى بعد تَعرُّفه على جواب سليمان (عليه السلام) ، كما سنرى .

لقد أرسلت ملكةُ سبأ بهديّة إلى سليمان (عليه السلام) . . .

و هذه الهديّة تحتلّ من بناء القصة موقعاً جمالياً و فكريّاً لا ينبغي أن نقف عليه عابراً دون التعرّف على خصائص موقعه المذكور .

و أهمية هذه الهدية تتمثل في انطوائها على جواب لتساؤلات المتلقّي ، فيما قلنا إنّه من الممكن أن يستخلص من سلوك الملكة مجرّد افتعال أو عفوية . فضلا عن إنّنا لابدّ أن نتساءل أيضاً خارجاً عن الاستخلاص المذكور ، تُرى ما هي أبعاد هذه الهدية التي تبدو وكأنّها تحمل فاعلية سحرية ـ في تصوّر الملكة ـ بحيث تستطيع أن تكشف عن حقائق السلوك الإنساني ، و تبيّن الفارقية بين سلوك مرتبط بالأرض و سلوك مرتبط بالسماء ؟

و إذا كان الفارق بين السلوكين ، من الممكن أن نتبيّنه بوضوح من خلال طريقة الفتح ، بحيث نستكشف ـ كما قالت الملكة ـ من أنّ السلوك مرتبط بالأرض في حالة ما إذا أفسد الملوكُ دارَ الفتح و أهانوا أشرافَها ، و من أنّ السلوك مرتبطٌ بالسماء إذا كان الأمرُ خلاف ذلك . . .

أقول: إذا كان من الممكن تبيين الفارقية من خلال السلوكين المذكورين واضحاً في الأذهان ، فهل إنّ إرسال هديّة ما ، بمقدورها أن تكشف عن الفارقية بين السلوكين أيضاً ؟

إنّ الجواب على هذا السؤال ، هو الذي يحملنا على أن نتعرّف على نمط الهدية و موقعها الجمالي و الفكري من الاُقصوصة نظراً للأهمية الكبيرة التي تعلّقها الملكةُ على هذا الاختبار ، و ملاحظة ما إذا كانت الملكةُ صائبةً في تصوّرها للموقف أم لا .

* * *

إنّ الاحتمالات التي يمكن أن يستخلصها المتلقّي في محاولته التعرّف على نمط الهديّة ، تتمثل في جملة من الاحتمالات ، منها:

1 ـ أن تكون الهديّة ذات قيمة ماليّة كبيرة ، بحيث تحمل الملوك على تقبّلها مادامت عائدة بفائدة اقتصادية ضخمة لهم ، أو لشعوبهم .

2 ـ أن تكون الهديّة إفصاحاً عن نوع من المساومة بحيث تحقق إنجازاً نفسيّاً له قيمته لدى ملوك الأرض ، سواء أكان هذا الإنجازُ النفسي مرتبطاً بكِبَر حجم الهديّة أو لمجرّد كونه هديّة تُعورف على أنّ تقديمَها يظلّ نوعاً من الاعتراف أو التقاليد ، يكون لها ـ عادة ـ موضع تقدير لدى الملوك .

3 ـ أن تكون الهديّةُ مصحوبةً بنمط من الإختبار ، أي: لم تكن مجرّد عيّنة ماديّة تُقدّم إلى الملوك ، بل يصحبها نوعٌ من التوصية ، بحيث يكون التعامل مع هذه التوصية ، كاشفاً عن معرفة ما إذا كان سليمان (عليه السلام) شخصية أرضيّة تُماثل الآخرين في سلوكها المألوف ، أو ما إذا كان سليمان (عليه السلام) شخصية أرسلتها السماء فعلا إلى الآدميين ، أي إذا كان نبيّاً .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ الاحتمالين الأوّلين لا يمكنهما أن يكشفا تماماً عن الفارقية بين ملوك الأرض و بين الأنبياء ، لبداهة أنّ بعض ملوك الأرض من الممكن أن يتعاملوا في عمليات الفتح وفق سلوك غير متّسم بالعنف و إهانة الأشراف ، و من الممكن أيضاً أن لا يساوموا في أفكارهم بحيث يبيعونها لقاء هديّة تُقدّم إليهم .

و حينئذ فإنّ الاحتمال الثالث فحسب ، هو الذي يستطيع أن يكشف الفارقية بين ملوك الأرض و الأنبياء ، و نعني به الاحتمال الذاهب إلى أنّ الهديّة كانت مصحوبةً بنمط من التوصية ، بحيث يُفصح التعامل معها عن كون الشخصية عاديةً ، أم أنّها شخصية تتعامل مع الوحي ، . . . مع الإعجاز . . .

و هذا الاحتمال هو الذي اضطلعت النصوصُ المفسّرةُ بتحديد أبعاده فعلا .

* * *

إنّ النصوص المفسّرة لم تتفق على تحديد نمط الهديّة ، لكنها اتفقت على أنّها قد صُحبت بتوصية ذات اختبار لإمكانيات سليمان (عليه السلام) وصِلة ذلك بسلوك النبوّة أو عدمه .

فهناك من النصوص ما يذهب إلى أنّ الهديّة كانت عبارة عن حقّة فيها جوهرة ضخمة أوصت الملكةُ رسولَها أن يقول لسليمان (عليه السلام): اُثقب الجوهرة بلا حديد أو نار .

و يضيف هذا النص: أنّ سليمان (عليه السلام) أمر بعض جنوده من الديدان ، فتناول خيطاً بفمه فثقب الجوهرة ، و أخرج الخيط من جانبها الآخر .

و هناك نصوص متنوّعة ، يذهب بعضها إلى أنّ الهديّة كانت: وصفاء و وصائف ، اُلبسوا لباساً واحداً ، و أوصت الملكةُ بالتمييز بين الذكور و الاُناث ، مضافاً إلى الحقّة أيضاً . . .

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ سليمان (عليه السلام) بتسخيره للجنود من جنٍّ و إنس و طير ، سيكون بمقدوره أن يتجاوز هذا الاختبار بدون صعوبة ، كما حدثتنا النصوصُ المفسّرةُ بذلك . حيث قدّمت أجوبة الاختبارات بتفصيلات متنوّعة في هذا الصدد لا يعنينا أن نذكرها بقدر ما يعنينا التلميح إلى أنّ نجاح سليمان في الاختبار لا يحتاج إلى التعقيب ما دامت القصة منذ بدايتها تحوم على إبراز البُعد المعجز في سلوك سليمان .

هذا إلى أنّ بعض النصوص المفسّرة أضافت إلى عملية الاختبار وصفاً للبيئة التي هيّأها سليمان (عليه السلام) قبل استلامه الهديّة ، و هي بيئة إعجازية رهيبة من حيث حَشْدُ الجنود و ترصيع الأرض بالمجوهرات ، فيما استهدف سليمان من ذلك تحسيس الرسول مُسبقاً بحقيقة الأمر .

* * *

نتّجه الآن إلى مقطع جديد من اُقصوصة بلقيس ، حيث يبدأ هذا الجزء من الاُقصوصة مع ردّ الفعل الذي سيحدثه جواب بلقيس على رسالة سليمان .

لقد تقدّمت بلقيس بهدية إلى سليمان بغية اختباره و معرفة ما إذا كان منتسباً إلى السماء في سلوكه أو ما إذا كان منتسباً إلى الأرض ، على نحو ما فصّلنا الحديث عنه .

و الآن ، ما هو ردّ الفعل على عملية الاختبار المذكورة ؟

قال سليمان (عليه السلام) لرسول الملكة بلقيس:

﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمال فَما آتانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ

﴿ارْجِـعْ إِلَيْـهِمْ فَلَـنَأْتِيَـنَّهُمْ بِجُـنُود لا قِـبَلَ لَـهُمْ بِها

﴿وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ

إنّ هذا الردّ من الفعل يُجيبنا على الأسئلة التي سبق أن طرحَها المُتلقّي مُتمثّلة في جملة من الاحتمالات ، حيث قوّينا الاحتمال الذاهب إلى أنّ الهديّة لابدّ أن تكون مصحوبة بتوصية ما ، لاختبار سليمان .

و مع أنّ جواب سليمان لا يكاد يشفّ عن عملية الاختبار ، إلاّ أنّ النصوص المفسّرة ـ كما سبق القول ـ قد عزّزت الاحتمال المذكور ، فضلا عن أنّ طبيعة النبوّة تعزّز مثل هذا الاحتمال الذي لابدّ أن يقوم على تمييز الفارقية بين ملك عادي ينتسب إلى الأرض ، و بين نبيّ يتلقّى تعليماته من السماء .

و في تصوّرنا أنّ النص القصصي في تضبيبه لهذا الجانب و إبرازه الجانب المادّي من الهدية ، إنّما وظّف هذا العنصر من أجل حقيقة فنّية تتمثّل في إجابة القوم بِلُغتهم و أفكارهم و سلوكهم الأرضي الذي اعتادوا عليه .

أمّا الجانب الاختباري فلا ضرورة فنّية لإبرازه مادامت الأحداثُ اللاحقة من القصة ستكشف عن ظواهر إعجازية لم تدر ببال الدنيا كلّها ، حيث ستتلاشى قيمة الاختبار أمام ضخامة المعجز الذي ستشاهده بلقيس ، و نعني بذلك ، المعجز الذي سيأتي بعرش بلقيس إلى مقرّ سليمان في لحظات معدودة من الزمن .

و إذن إبراز الجانب المادي من الهدية و اختزال جانبها الاختباري ، قد انطوى على خصيصة فنّية في عملية التذوّق للنص القصصي .

* * *

و الآن ما هي تفصيلات ردّ الفعل المذكور ، أي: إبراز الجانب المادي ، و كيف تعامل سليمان مع القوم و رسولهم ؟

إنّ النصوص المفسّرة تنهض بتقديم بعض التفصيلات التي تشكّل قبل الجواب الرسمي جواباً غير مباشر للقوم .

إنّ الجواب الرسمي و الجواب المباشر على رسول بلقيس ، هو قول سليمان:

﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمال ؟ فَما آتانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ

هذا هو بعض ردّ الفعل الرسمي و المباشر .

و لكن سليمان (عليه السلام) قبل هذا الردّ عمد إلى ردّ غير مباشر ، لتحسيس القوم بضخامة المال الذي يتملّكه ، قبال ضآلة المال الذي تمتلكه بلقيس .

فالنصوص المفسّرة تذكر لنا على سبيل المثال النص الآتي:

فأمر سليمانُ الجنّ أن يضربوا لبِنات الذهب و لبِنات الفضة ، ففعلوا .

ثمّ أمَرَهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى بضع فراسخ ميداناً واحداً بلِبنات الذهب و الفضة . و أن يجعلوا حول الميدان حائطاً ، شُرفُه من الذهب و الفضة ، ففعلوا .

ثمّ قال للجنّ: عليّ بأولادكم ، فاجتمع خلقٌ كثير ، فأقامهم على يمين الميدان و يساره .

ثمّ قَعَد سليمان في مجلسه على سريره ، و وُضِعَ له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ، و مثلها عن يساره ، و أمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفاً فراسخ . و أمَرَ الإنسَ فاصطفّوا فراسخ . و أمَرَ الوحشَ و السباعَ و الهوامَ و الطير ، فاصطفّوا فراسخ عن يمينه و يساره . فلمّا دنا القوم من الميدان و نظروا إلى ملك سليمان تقاصرت إليه أنفسُهم و رموا بما معهم من الهدايا .

إنّ هذا النص التفسيري يلخّص لنا كلّ شيء ، يلخّص لنا ردّ سليمان غير الرسمي على القوم الكافرين . إذ أنـّه من الواضح ، أنّ مثل هذا الردّ ينطوي على حقيقة نفسيّة بالغة الأهمية . فالموكب الرهيب ، و المُدهش ، و المُعجز ، و المُرعب ، و المُثير . . . هذا الموكب الذي يفترش مساحات واسعةً من لِبنات المال الضخم:
الذهب و الفضة ، . . . ثمّ هذا الموكب الذي يصطفُّ مساحات واسعة من الجنّ و الإنس و الطير و الوحش و السباع و الهوام فيه ، ثمّ انتظام اُولئك في صفوف و خطوط و ميادين منتظمة غاية الانتظام . . . كلّ ذلك كاف في تحسيس القوم ، ليس بتحقير الهدية التي حملوها من الملكة فحسب ، بل بإدخال الرعب المدمّر في نفوسهم .

و المهمّ بعد ذلك كلّه ، أنّ هذا الردّ غير المباشر قد أردفه سليمان بردّ رسمي مباشر هو قوله:

﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمال فَما آتانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ

و هنا ينبغي أن ننتبه إلى المهمة الفنّية لهذا الردّ الرسمي وصِلته بالردّ غير المباشر ، من جديد .

فسليمان (عليه السلام) عندما يخاطب القومَ بأنّ ما آتاه اللّه خيرٌ ممّا آتاهم ، لابدّ أن يقدّم إلى القوم دليلا ماديّاً على أنّ ما آتاه اللّه خيرٌ ممّا آتاهم . . . و كم يكون هذا الدليلُ المادي ذا قيمة عندما يلحظه القوم بأنفسهم قبل أن يتسلّموا ردّاً رسمياً بذلك!

إذن القيمة الفنّية للردّ الرسمي وصِلتها بالردّ غير المباشر ، قد اتضحت تماماً في هذه الجزئية من القصة .

و أخيراً كم تكون القيمةُ النفسيّةُ كبيرة لهذا الردّ الرسمي ، حينما يخاطبهم سليمان بقوله:

﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ

فبهذا الختام في ردّه يكون قد وجّه لطمةً كبيرة لهم من خلال تزهيده و تحقيره لهديّتهم ، . . . من خلال كشفه لنفوسهم المتهافتة التي تفرح بما هو زهيد و حقيرٌ و تافهٌ من المتاع الدنيوي .

لقد كان ردُّ سليمان لهديّة بلقيس ، و تتويجه بتلك الفقرة العاصفة التي حسّس فيها رسول الملكة بتفاهة هديّتها ، و إلى أنّ الأرضيّين هم الذين يفرحون بأمثال تلك الهديّة . . .

بعد هذا الردّ الذي سبقه ردٌّ غير مباشر في عملية العرض العسكري و المالي . . .
بعد اُولئك جميعاً تهيّأ سليمان (عليه السلام) للزحف على القوم ، مؤكداً ذلك من خلال قراره الآتي:

﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُود لا قِبَلَ لَهُمْ بِها

﴿وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ

هنا يتساءل المتلقّي: تُرى ، أنّ سليمان (عليه السلام) لم يتسلّم بعد ردّاً رسمياً أو غير رسمي على إرجاعه لهديّة القوم . فما هو الدافع إلى قراره العسكري في الزحف عليهم ؟

إنّ النص القصصي قد أبْهَم هذا الجانب و لم يسرد لنا فيما إذا كانت الملكة قد اقتنعت بنبوّة سليمان (عليه السلام) أم إنّها متردّدة ، أم رافضة .

لا شك أنّ المتلقّي مادام قد أدرك أنّ بلقيس قد تقدّمت بعملية اختبار ، حينئذ فإنّ نتائج الاختبار أوضحت لها بما لا لُبس فيه أنّ سليمان قد اُوتيَ من القوّة ما لم يُؤت سواه في هذا الصدد ، و إلى أنّ ذلك فوق الحسبان و التخيّل . و بخاصة أنّ رسولها لابدّ أن أخبرها بالعرض العسكري و المالي الذي شاهده عياناً .

و تبعاً لذلك فإنّ احتمال يقينها بصدق الدعوة التي وجّهها إليها ، يظلّ قويّاً لا تردّد فيه . و هذا يعني أنّها ستأتي إليه مسلمةً طائعة ، ما دام سليمانُ في كتابه قد خاطب القوم:

﴿أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ

و بالفعل فإنّ الجزء اللاحق من القصة يدلّنا على أنّ القوم سيأتونه طائعين مسلمين .

يقول النص القصصي ـ على لسان سليمان (عليه السلام) ـ :

﴿يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ؟

و هذا يعني أنّ سليمان (عليه السلام) قد اُحيط علماً بأنّ ردّ الفعل على جوابه للملكة ،
سيكون إيجابياً ، و إلى أنّ القوم سيأتونه طائعين مسلمين .

لكنّ المتلقّي يتساءل من جديد: إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا قرّر أوّلا أن يتّجه بالزحف عليهم ، و لماذا قرّر أن يأتوه بعرش بلقيس قبل أن يأتيه القومُ طائعين ، مسلمين ؟

* * *

إنّ المبنى الفنّي للقصة حينما يتأدّى بهذا النحو ، فلأنّه يُثير لدى المتلقّي تذوّقاً جمالياً يدعه يتحسّس بخطورة هذا الأداء الفنّي لعملية القص ، بعد أن يكون قد قطع أكثر من رحلة في عملية التأمّل و الاستخلاص و الكشف .

فالقصة سرعان ما تلفت انتباهنا إلى أنّ القوم سيستسلمون .

لم تقل القصة هذا مباشرة . . .

لم تقله على لسانهم من خلال الحوار . . .

و لم تقله من خلال السرد . . .

و إنّما قالته على لسان سليمان (عليه السلام) حينما قال:

﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ

و عندها استخلص المتلقّي أنّ القوم قد استسلموا .

و لكن مع ذلك كلّه لا يزال المتلقّي يلفّه الغموض حول الأسباب التي حملت سليمان على اتخاذ قراره العسكري في الزحف ، ما دام قد اُحيط علماً بأنّ القوم سيأتونه طائعين .

إنّ هذا النمط من الغموض ، مقابلا للغموض الذي سرعان ما اكتشفه المتلقّي . . .
يظلّ خصيصة فنّية لا يُدركها بوضوح إلاّ مَنْ خَبُرَ أسرار الاستجابة الفنّية و طرائقها . فالنص بدأ واضحاً في عملية ردّ سليمان على القوم ، و اتّجه إلى الغموض التامّ في عملية التهديد العسكري ، و اتّجه إلى غموض نسبي في عملية الكشف عن استسلام القوم . . .

هذه المستويات من الوضوح و الغموض و التراوح بينهما ، يظلّ على صلة بطرائق التوصيل الفنّي إلى الآخرين .

و المهم أنّ الاستخلاص و الكشف و خضوعهما لأكثر من احتمال ، يظلّ واحداً من المعطيات التي تصاحب تذوّق أيّ نصّ فنّي له خطورته .

و تبعاً لذلك فإنّ المتلقّي قبال ما تقدّم لايزال يقطع دروباً مختلفة في عملية استخلاصه و كشفه للأحداث و تفسيرها ، و في مقدّمتها تساؤله عن السبب الذي حمل سليمان على اتخاذ قراره العسكري في الزحف . ثمّ تساؤله عن السبب الذي حمل سليمان أن يطالب بإتيان عرش بلقيس قبل أن يأتيه القومُ طائعين ، مسلمين .

من الممكن أن يكون اتخاذ القرار العسكري المذكور ـ في تصوّر المتلقّي ـ حواراً توجّه به سليمان (عليه السلام) إلى رسول بلقيس كردّ فعل على الهديّة . و هذا الاحتمال سيكون صائباً في حالة ما إذا افترضنا أنّ سليمان قد اُحيط علماً فيما بعد ، بأنّ القوم سيأتونه طائعين و إلى أنّ القرار المذكور قد اتّخذ قبل أن يحاط سليمان علماً بذلك . و سيكون هذا الاحتمال صائباً أيضاً إذا افترضنا بأنّ سليمان (عليه السلام) قد تعمّد اتخاذ القرار المذكور و توصيله عن طريق رسول الملكة ، ليحمل القوم على الاستسلام . و فعلا فإنّ القوم عندما اُخبروا بواقع القضيّة من خلال الاختبار ، و العرض العسكري ، و التهديد أخيراً ، حينئذ فإنّ الاحتمال
سيكون قوياً في استسلام القوم على النحو الذي أخبرنا سليمان نفسه بذلك عبر مطالبته بعرش بلقيس .

لكن المطالبة بالعرش قبل أن تأتي بلقيس مستسلمةً ، هذه المطالبة ذاتها تظلّ محفوفة بغموض و ضبابيّة لدى المتلقّي .

و إذا كانت الضبابية التي غلّفت الظواهر السابقة قد أماط المتلقّي بعض الستار عنها ، فإنّ وقوفه على الظاهرة الأخيرة ، و نعني بها سبب المطالبة بالعرش قبل أن تأتي بلقيس . . . هذه الظاهرة لاتزال محفوفة بشيء من الغموض الفنّي المُمتع .

و قبل أن نتحدّث عن تصوّرنا الفنّي الخاص لهذه الظاهرة ، لا مناص من الإشارة إلى استخلاص المفسّرين في هذا الصدد ، حيث ذهب بعضهم إلى أنّ سليمان أراد أن يتملّك العرش قبل استسلام بلقيس ، حيث يُحرم عليه بعد الاستسلام .

و ذهب آخر إلى أنّ تسلّمه العرش سيكون دليلا إعجازياً آخر يعزّز إيمان بلقيس بنبوّة سليمان (عليه السلام) .

و ذهب ثالث إلى أنّ القضية قضية اختبار لعقل الملكة ، و هكذا .

يُخيّل إليّ أنّ السبب الذي دعا سليمان (عليه السلام) إلى أن يطالبَ بعرش بلقيس قبل أن تأتيه طائعة مسلمة يعود إلى أكثر من مسوّغ نفسي و فنّي :

منها: أنّ سليمان من الممكن أن يكون قد استهدف تعميق قناعتها و يقينها بالسماء حتّى تستكمل معالم إيمانها الجديد ، و تمسح كلّ آثار العقيدة السابقة ، فهي عندما سُتفاجأ بمثل هذا المعجز الذي يفوق سائر ما سمعت به ، ستتعمق دون أدنى شك قناعتها بالاتجاه الجديد .

و ممّا يعزّز هذا الذهاب أنّ الأجزاء اللاحقة من القصة ، أي التفصيلات التي ستُرافق تنكير العرش ـ كما سنرى ـ تصبّ في هذا المنحى ، و كلّها نماذج من المعجز الذي حرص سليمان على إظهاره أمام بلقيس .

* * *

و منها: أي من المسوّغات الفكرية التي دعت سليمان (عليه السلام) إلى المطالبة بعرش بلقيس قبل أن تأتيه مسلمة ، هو: تحسيس الملكة بأنّ التعامل مع اللّه من شأنه أن يُتيح للشخصية إمكانات لم تحلم بها ، إلى الحدّ الذي يفوق التصوّر ، بحيث تسخّر السماءُ كلّ شيء لعبيدها الطائعين .

و ممّا لا شك فيه أنّ تحسيس الملكة بهذه الظاهرة سيكون له أثر أشدّ من الأثر الذي ينسحب على شخصية عادية لم تحيَ حياة الملوك و السلطة و امتيازاتها المتنوّعة . فما دامت بلقيس قد خُبرت مثل هذه الحياة و امتيازاتها . . . حينئذ عندما تشاهد تفاهة امتيازاتها الأرضية قبال خطورة الامتيازات التي تهبها السماءُ لعبيدها المؤمنين ، حينئذ سيكون لهذا التحسيس أثره المتميّز ، و فاعليته المتميّزة لدى الشخصيات الأرضية التي خبرت حياة لم يخبرها العاديون .

و منها: أي من المسوّغات التي دعت سليمان إلى المطالبة بالعرش قبل أن تجيء بلقيس مسلمة ، . . . من هذه المسوّغات: مسوغٌ فنّيٌ عائدٌ إلى البناء الهندسي للقصة .

فهذه القصة و هي تحفل بأبنية ممتعة ، متنوعة الأشكال كما لحظنا ، تواجهنا الآن بنمط آخر من عمليات التوازن أو التوازي أو التقابل الهندسي بين المواقف و الأحداث ، ممّا تضفي على النص معماريةً جميلة نتذوقها بكلّ خطوطها بوضوح .

و من جملة هذه العمليات القائمة على التوازي أو التوازن أو التقابل الهندسي بين المواقف و الأحداث ، هو هذا التقابل بين صنيع الملكة و صنيع سليمان .

فالملكة قامت بعملية اختبار كما لحظنا ، حيث أرسلت مع الهدية رسولا تختبر من خلاله مدى قدرة سليمان (عليه السلام) على التعامل مع تلك الحقّة التي كانت الجوهرةُ في داخلها ، فيما طولب سليمان بإخراجها من الحقّة .

و ها هو سليمان (عليه السلام) يقابل ذلك الاختبار الذي اجتازه بسهولة عندما أمر إحدى الديدان بانجاز المهمة المذكورة . . .

و ها هو سليمان (عليه السلام) يقابل ذلك الاختبار الذي اجتازه بنجاح ، . . . يقابله باختبار مذهل ، مُدهش ، يُصعق العقل حينما يفاجئ بلقيس بعرشها و هو ماثلٌ بين يديه ، و يختبرها بذلك الصرح الذي حسبته لُجّةً ، كما سنرى تفصيلاته لاحقاً .

إذن من حيث البناء المعماري للقصة ، يمكننا أن نلحظ بوضوح جمالية هذا البناء القائم على عملية التوازن أو التوازي أو التقابل الهندسي بين المواقف و الأحداث ، ممّا يفسّر لنا واحداً من الأسرار الفنّية الكامنة وراء مطالبة سليمان بعرش بلقيس قبل أن تأتيه مسلمةً ، طائعة . مضافاً إلى الأسرار الفكرية و النفسية التي سبق أن أوضحناها قبل قليل .

* * *

و الآن بعد أن أوضحنا طبيعة الأسرار الفنّية وراء المطالبة بعرش بلقيس . . .
يحسن بنا أن نتابع تفصيلات هذه المطالبة ، و كيف تجسّدت واقعةً صاحبتها وقائع مُثيرة تحوم بأكملها على ما هو معجزٌ و طريفٌ و مدهشٌ ، إتساقاً مع مبنى القصة القائم بأكمله على ما هو معجزٌ و طريفٌ و مدهشٌ .

إذن فلنتابع التفصيلات .

يقول النصُ القصصي ـ بعد مطالبة سليمان بإتيان العرش و تساؤله عمّن سيقوم بهذه المهمّة ـ :

﴿قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ:

﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ

﴿وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ

﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ:

﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ . . .

إنّ هذا الموقف الذي نقله النصُّ القصصيّ إلينا يحفل ببُعد جديد من الإثارة الفنّية في طبيعة ما ينطوي عليه من إجابات مُذهلة ، مُصعقة ، تطير بالألباب .

فنحن الآن أمام إجابتين ، أو أمام شخصيتين ، تقول اُولاهما: إنّها مستعدّة بأن تقلع عرش بلقيس من مدينة سبأ و تنقله إلى مقرّ سليمان في مدّة هي: قبل أن يقوم سليمان من مجلسه الذي يتشاور فيه مع القوم .

و هذه المدّة قد تكون دقائق ، و قد تكون ساعات محدودة لا تتجاوز في الحالين الزمنَ الذي تستغرقه جلسةٌ قد اعتادها سليمان ، إلى نصف النهار .

أمّا الثانية: أي الإجابة أو الشخصية الاُخرى ، فقد تطوّعت بانجاز المهمة المذكورة بمدة أقل من الشخصية الاُولى ، حيث قالت أنّها مستعدة لأن تقلع عرش بلقيس و تنقله إلى سليمان بأقلّ من طرفة عين ، أي في مدة قد لا تتجاوز الثانية أو الثانيتين أو الثلاث ثوان . . .

من الممكن أن نتساءل عن السرّ الفنّي الكامن وراء مطالبة سليمان (عليه السلام) بعرش بلقيس ، من حيث عدم تكليفه شخصية محدّدةً من جنوده ، بل تَركَ ذلك إلى اختيارهم . ثمّ ماذا يمكن للمتلقّي أن يستخلصه من وراء تقديم عَرضين:

أحدهما يُبدي استعداداً لجلب العرش خلال ساعات .

و الآخر يبدي استعداداً لجلبه خلال ثوان!

المُلاحَظ ـ إجابةً عن السؤال الأوّل ـ أنّ سليمان لم يتّخذ قراراً محدّداً في تعامله مع الجنود التي سخّرتها السماء له . ففي قضية الهُدهُد وجد سليمان (عليه السلام) أ نّه بحاجة إلى مَن يدلّه على الماء في أعماق الأرض ، و اتجه مباشرة إلى الهدهد ليكلّفه بهذه المهمّة ، فيما لم يعثر عليه على نحو ما تقدّم الحديث عنه .

و هنا في قضية جلب عرش بلقيس لم يتّجه إلى جنديٍّ خاص ، بل ترك ذلك لاختيارات الجنود أنفسهم .

طبيعيّاً قد يستخلص المتلقّي أنّ القضية متيسّرة لدى الجنود المُخاطَبين على اختلاف أجناسهم من بشر و جنّ و طير .

و قد يستخلص أنّ مثل هذا النمط من المطالبة يكشف عن مدى تسخير السماء الجنود لسليمان ، بحيث تجعلهم يتبارون في السبق إلى تنفيذ أوامره . يستوي في ذلك أن يكون التنفيذ نتيجة تكليف إجباري مباشر ، كما هو الحال في قضية الطائر الهُدهد ، أو نتيجة تكليف اختياري ، كما هو الحال في قضية جلب العرش .

و من الواضح أنّ مثل هذا الاستخلاص يكشف عن بُعد جديد من معمارية القصة التي تقدّم في كلّ جزء من أجزاءها بناءً هندسياً جديداً في هذا الصدد .

فالقصة تشدّد على قضية التسخير بكلّ مستوياتها . . .

و قد لحظنا جانباً من التسخير يتمثّل في حشد كلّ الأجناس من طير و إنس و جنّ . . .

و لحظنا جانباً يتمثّل في اقتدار سليمان على تسخيرهم في كلّ شيء . . .

و نلحظ الآن جانباً يتمثّل في تنويع الأساليب التي يستخدمها في التسخير ، و سهولة الإجابة إلى طلبه و إلى أنّ السماء ـ و هذا مبدأ عام ـ تقف وراء ذلك حتّى و إن كان الأمرُ خافياً على سليمان في بعض جوانبه .

و إذا كان النصُّ القصصي في قضية الطائر قد سخّر لسليمان ما كان خافياً عليه . . . فإنّه في القضية الجديدة ـ جلبِ عرش بلقيس ـ يسخّر نمطاً آخر يتصل بتحقيق أشدّ الرغبات إلحاحاً عليه .

فالنصوص المفسّرة تذكر لنا أنّ سليمان عندما رغبَ بجلب العرش قبل إتيان بلقيس طائعةً مسلمة ، كانت رغبتهُ ملحّةً في الإسراع بجلب العرش . و هنا تأتي الإجابة أيضاً على السؤال الآخر الذي أثاره المتلقّي حول الاستفهام عن سبب تقديم عَرضين: أحدهما بمقدوره أن يحقّق المهمّة بسويعات ، و الآخر بثوان .

المهم أنّ سليمان (عليه السلام) عندما رغب بشدة أن يُسرع في الإتيان بالعرش ، فحينئذ كان من الطبيعي أن ينقل رغبتَه إلى الجنود كافةً ، لا أن يخصّصها لجندي محدّد ، كما هو الحال في قضية الطائر .

و من هنا عندما أعلن «عفريتٌ من الجنّ» عن استعداده لجلب العرش في سويعات ، قال له سليمان (عليه السلام) ـ حسب بعض النصوص المفسّرة ـ : اُريد أسرعَ من ذلك ، مفصحاً بهذا عن رغبته الملحّة في الاسراع بإتيان العرش .

و من هنا أيضاً جاء المسوّغ الفنّي و الفكري لأن تُبرز القصة عرضاً آخر يتقدّم به ﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ فيما أعلن عن استعداده بجلب العرش قبل أن يرتدّ الطرف ، أي في لحظات لا تتعدّى الثانية أو أكثر بقليل .

إذن المسوّغ الفنّي و الفكري بدأ يتّضح أمام المتلقّي في تساؤله عن السرّ الكامن وراء عدم تحديد سليمان للشخصية التي ستنهض بتحقيق المهمّة ، . . . و في تساؤله عن السرّ الكامن وراء مشاهدته لعرْضين متفاوتين يتقدّم بهما جنديّان من جنود سليمان (عليه السلام) .

* * *

و حين نتابع رسم الملامح الخاصة لهاتين الشخصيتين:

﴿عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ

و

﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ

نجد أنّ القصة تعرضهما بنحو بالغ المدى في الإثارة و الإمتاع .

فمن جانب نجد أنّ القصة بتقديمها لهاتين الشخصيتين ، تكون قد استكملت الأجناس الثلاثة من الجنود الذين ذكرتهم القصة في البداية ، أي أجناس: الطير و الجنّ و الإنس .

ففي قضية البحث عن الماء في أعماق الأرض ، أو في قضية الإخبار عن بلقيس ، كانت الطير ـ ممثّلةً في الهدهد ـ تجسيداً لأحد الأجناس الثلاثة . و في القضية التي نحن الآن في صددها يأتي الجنسان الآخران الإنس و الجنّ تجسيداً لهذا الموضوع .

فالنصوص المفسّرة تذكر لنا أنّ الشخصية التي عندها علمٌ من الكتاب هي آصف بن برخيا وزير سليمان ، و هي شخصية من الإنس ، و أمّا الشخصية الاُخرى فهي من الجنّ بصريح النص القصصي فيما وصفها بقوله: ﴿عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ .

إذن يكون النص القصصي بهذا التقديم للشخصيتين المذكورتين قد استكمل رسم الأجناس الثلاثة من الجنود الذين سخّرتهم السماء لسليمان ، حيث قالت القصة في البداية:

﴿وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الإِْنْسِ وَ الطَّيْرِ

و هذه الصلة بين بداية القصة و هذا الجزء الذي ندرسه الآن ، لها أهمّيتها الفنّية الكبيرة في الصياغة القصصية من حيث بنائها المعماري ، حيث تكشف لنا عن التماسك و التلاحم و الترابط بين فصول القصة ، و النماء العضوي لأجزائها ، على هذا النحو المُمتع الذي نلحظه و لحظناه في سلسلة الأبنية الهندسية ، التي ما أن نغادر واحداً منها حتى يُواجهنا بناء آخر يتداخل مع سابقه ، و حتّى يطلّ بنا في نهاية المطاف على هيكل متماسك يشعّ بجماليّاته من كلّ جانب .

و هذا كلّه من حيث صلة الشخصية من الإنس و الجنّ بالجنود الآخرين ، و هيكل القصة بعامّة .

و أمّا من حيث الملامح الخاصة بهما ، فإنّ القصة ترسمهما بنحو آخر من الرسم .

إنّ الشخصيّتين اللتين تطوّعتا لجلب عرش بلقيس ، قد رسمهما النصُّ القصصي كما لحظنا ، جنديّين من جنود سليمان (عليه السلام) يستطيعان بنحو معجز ـ مثل سائر الجنود الذين واجههم المتلقّي ـ أن ينفّذوا أوامر سليمان (عليه السلام) .

و مثلما لحظنا ، فإنّ الجندي الأوّل قد تطوّع بجلب العرش خلال ساعات ، . . .
بينما تطوّع الجندي الثاني بجلبه خلال ثوان .

و ممّا يُلفت الانتباه أنّ النص القصصي قد رسم ملامح البطل الأوّل بسمات ثلاث هي: كونه عفريتاً ، و كونه قوياً ، و كونه أميناً .

أمّا البطل الثاني ، فقد اكتفى بوصف داخلي لشخصيته، هو كونه يحمل علماً من الكتاب .

و ممّا يُلفت الانتباه أيضاً ، أنّ الجندي الأوّل قد نسبه النصُّ صريحاً إلى جنس الجنّ ، بينما أبهَمَ النصُّ شخصيّة البطل الثاني ، و لم يبيّن انتسابَه إلى أحد الأجناس .
مع ملاحظة أنّ البطل الثاني قد رسمه النصُّ شخصيّةً لها إمكاناتها التي لا تتوفّر لدى الآخر .

و الآن ما هي الخصائص الفنّية لأمثلة هذا الرسم لملامح البطلين المذكورين ؟

* * *

و نقف مع البطل الأوّل:

لقد خلع النص على هذا البطل سمة العفريت . و هو ماردٌ داهيةٌ بالقياس إلى سائر الجنّ .

ثمّ خلع عليه سمةَ القوّة و الأمانة . لكنّ هاتين السمتين أطلقهما البطلُ على نفسه .

و بمقدورنا في ضوء هذه الملامح و مستوياتها أن نستخلص ، أنّ إضفاء السمة الاُولى عفريت على البطل المذكور ، من الممكن أن تستهدف لفْتَ انتباه المتلقّي إلى خطورة العمل الذي تطوّع البطل لإنجازه .

فالقضيّة تتصل بنقل سرير بلقيس و ما يحتفّ به ، من مدينة نائية إلى مقر سليمان . و مثل هذا العمل يتطلب شخصيةً تتميّز بدهاء و قوّة و ما إليهما من السمات التي تتوافق ونوع العمل الذي تطوّع البطلُ له ، و قِصَرَ المدة التي حددها:
و هي ساعات معدودة .

و هذا فيما يتصل بالسمة التي خلعها النصُّ نفسُه على البطل .

غير أنّ البطل ذاته قد نَسَبَ لنفسه سمتين لم ينسبهما النص إليه ، و هما سمتا القوّة و الأمانة .

و يبدو أنّ البطل عندما يؤكّد لسليمان توفّر مثل هاتين السمتين لديه ، . . . إنّما يستهدف تأكيد قدرته على إنجاز المهمة المذكورة ، و سبق أن قلنا: إنّ النص حَرَص على إبراز معطيات السماء لسليمان من حيث التسخير بنحو يشكّل بطانَةَ القصة بأكملها .

* * *

و ها هو البطل يحرص على إبراز إمكاناته ، بغية حمل سليمان (عليه السلام) على إيكال المهمّة إليه .

و السمة الاُولى التي يمكن أن توفّر عنصر الإقناع بإمكان العملية و تحقيقها ، هي: القوّة على الإنجاز .

أمّا السمة الثانية ، فهي الأمانة . بيد أنّ هذه السمة يبدو أنّها ليست بذات علاقة بموضوع الإنجاز .

لكن المتلقّي ـ مستعيناً بنصوص التفسير ـ يبدأ بإدراك أنّ هذه السمة لها صلتها بالمحتويات المادية التي يتضمّنها السرير و ما يحتفّ به من ذَهَب و مجوهرات و نحوهما .

و السؤال هنا ، هل يمكننا أن نتصوّر إمكان أن يخون البطل مثلا ، حتّى يؤكّد وجود صفة الأمانة لديه ؟

ممّا لا شك فيه أنّ مثل هذا الاحتمال موجودٌ بالفعل ، مادام سليمان (عليه السلام) نفسه في قضية الهُدهد قد توقّع تمرّد الطائر مثلا ، بحيث هدّده بالعذاب و القتل . و مادام النص القرآني نفسه في نصوص اُخرى من القرآن الكريم ـ في غير سورة النمل ـ قد أشار إلى هذا الجانب ، و توعّد بأن يذيق أيّة شخصية من الجنّ عذاباً أليماً إذا حدّثت نفسَها بالتمرّد على أوامر سليمان (عليه السلام) .

و شأن الجنّ ـ في هذا الصدد ـ شأن الجنس البشري الذي قد تحدّثه نفسه بالتمرّد .

و المهم أنّ البطل قد أكّد سمة الأمانة مقترنةً بسمة القوّة ، ليحمل سليمان (عليه السلام) على الاقتناع بإيكال المهمّة إليه .

و المُلاحَظ من حيث البناء الهندسي للقصة أنّ النص في قضية الهدهد قد رسم عنصر التشكيك في أعماق سليمان من حيث تمرّد الطائر أو عدمه . هنا رسم النص عنصر التشكيك في أعماق من سليمان حيال شخصية «عفريت من الجنّ» من حيث قدرته على نقل العرش و من حيث أمانته أو خيانته .

لكنه في الحالين أنهى النصُّ هذه القضية إلى مصير إيجابي ، بحيث جَعَل الطائر مخلصاً في سلوكه ، و العفريت مخلصاً في ذلك أيضاً . و بهذا النحو من الانتهاء إلى المصائر الايجابية يكون النصُّ قد ألقى إنارة تامّة على قضية التسخير التي تشكّل بطانة القصة ، بحيث يحيط المتلقّي إحاطة كاملةً بأنّ معطيات السماء لا حدودَ لها في تسخيرها لسليمان (عليه السلام)كلّ شيء .

و من جديد ينبغي أن نشير إلى هذا البُعد الفنّي للقصة:

1 ـ من حيث التوازن أو التقابل الهندسي بين شخصيتي سليمان و الجنّ من حيث تشكيك كلّ منهما .

2 ـ و من حيث إلغاء هذا التشكيك و المضيّ بالأحداث و المواقف إلى مصائر إيجابية للأبطال جميعاً .

و الآن ، ماذا عن البطل الآخر ، أي: الذي عنده علمٌ من الكتاب ؟

كان البطلُ الأوّلُ شخصيةً من الجنّ .

أمّا البطل الآخر ، فقد أبهَمَ النصُّ ـ كما قلنا ـ جنسَه .

كان البطل الأوّل موسوماً بسمات ثلاث: خارجية و داخلية و عامّة .

أمّا البطل الآخر ، فثمة سمة واحدةٌ داخليةٌ هي التي تسمه: ﴿عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ.

الفارق الآخر بين البطلين: أنّ البطل الأوّل عفريتٌ من الجنّ قد حدّد قدراته بأنّها تمثّل إمكان أن يأتي بسرير بلقيس في ساعات ، قبل أن يقوم سليمان من مجلسه ، أمّا البطل الآخر الذي أبهمه النص ، فقد حدّد قدراته بأضخم من سابقه بكثير ، حيث حدّدها بأقلّ من ارتداد البصر .

تُرى من هو هذا البطل الذي قدّم عرضاً مذهلا عن قُدراته ؟

* * *

قلنا: إنّ النص القصصي أبهَم ملامح البطل الذي تطوّع لجلب العرش من حيث الجنس و الاسم ، و شدّد على ملمح داخلي لديه هو:

﴿الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ

و عندما نعود إلى النصوص المفسّرة نجد أنّ النصوص الموثوق بها تكاد تُجمع على أنّ البطل المذكور هو من الإنس ، و اسمُه آصف بن برخيا و شغلُهُ وزير سليمان (عليه السلام) .

و تقول النصوص المذكورة: إنّ السمة التي رسمتها القصةُ للبطل المذكور ، و نعني بها سمة ﴿عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ ، تتمثّل في معرفته بواحد من أحرف اللّه تعالى ، و إلى أ نّه تكلّم بهذا الاسم ، فطويت له الأرض و أتى بعرش بلقيس بأقلّ من ارتداد البصر ، كما وعدَ سليمان بذلك .

و المهمّ أنّ القصة برسمها لهذا الملمح ، تكون قد استكملت ـ من حيث البناء الفنّي ـ رسمها للقوى الثلاث التي أشارت المقدمةُ القصصية إليها عندما ألمحت إلى أنّ السماء سخّرت له جنوداً من الجنّ و الإنس و الطير .

فقد لحظنا كيف تمّ تسخير الطير متمثلا في الهدهد ، و تسخير الجنّ متمثلا في المارد ﴿عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ ، ثمّ تسخير الإنس متمثلا في آصف .

و المُلاحظ أنّ الشخصية الأخيرة و هي من الإنس ، قد قدّمها النصُّ القصصي متفوّقةً على جنسها الآخر: الجنّ . مُحسّساً إيّانا بذلك أنّ الكائن الآدمي عندما يخلص في صلته بالسماء تهبُه السماء ما لم تهب القوى الاُخرى .

و يكفينا أن نجد أنّ تسخير كلّ القوى إنّما تمّ لشخصيّة آدمية هي سليمان الذي يمثّل البطل الرئيس للقصة . فيما حامت الحوادث و المواقف حول شخصيّته ، . . .
و هي الشخصية التي اخلصت في تعاملها مع السماء ، و توّجته بهذه الفقرة التي عقّب بها النصُّ على إنجاز آصف لمهمّته ، و جلبه لعرش بلقيس قبل أن يرتدّ الطرف:

﴿فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا

أي لمّا رأى سليمانُ العرشَ مستقراً عنده ، قال:

﴿هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ

* * *

و مع استقرار عرش بلقيس عند سليمان ، تكون القصة قد أشرفت على النهاية .
و تكون مرحلة ما يُسمّى بالإنارة في المصطلح القصصي بعد بلوغ القصة تأزّمها في الأحداث ، قد أطلّت علينا متمثلةً في معرفة ما ستسفر عنه الأحداث في هذه المرحلة .

و الآن ، لنتابع هذه المرحلة:

﴿قالَ ]أي سُلَيْمان (عليه السلام)[:

﴿نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ

﴿فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ

﴿قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ

﴿وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنّا مُسْلِمِينَ

﴿وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْم كافِرِينَ

﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً

﴿وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها

﴿قالَ: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ

﴿قالَتْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

و بهذا الإسلام للّه تنتهي قصة سليمان (عليه السلام) على نحو ما حدّثنا النص القصصي بذلك .

و لا أرانا بحاجة إلى إعادة القول بأنّ هذا الاختبار متمثّلا في تنكير العرش ، يظلّ من حيث البناء الفنّي للقصة جواباً على الاختبار الذي سلكته بلقيس مع سليمان (عليه السلام)عندما أرسلت له رسولا تختبر من خلاله مدى صحّة النبوّة التي لمستها من كتاب سليمان (عليه السلام) .

و نحن خارجاً عن هذا المبنى الهندسي الذي يمثّل عنصر التوازن أو التوازي أو
التقابل ، . . . خارجاً عنه ، يحسن بنا أن نقف ولو عابراً على تفصيلات هذه البيئة التي رسمتها القصة ، حيث يتزاوج فيها عنصر الجمال مع عنصر الفكر ، أي جمال المرأى أو ما يُسمى بالمشهد مع الفكر الذي نستخلصه من الحادثة و ما يرافقها من المعجز و المدهش و الطريف .

* * *

إنّ المرأى يتمثّل في تغيير معالم عرش بلقيس ، حسب توصية سليمان .

و الهدف من ، ذلك هو اختبار عقل بلقيس كما صرّح سليمان (عليه السلام) بذلك .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ فُصوص السرير و جواهره قد نُزِعت منه ، أو غُيّرت أماكنُها أو ألوانُها .

و فعلا عندما جاءت بلقيس و سُئلت عن عرشها ، أبْهَمَ الأمر أمامها ، فقالت:

﴿كَا َنَّهُ هُوَ

ثمّ جاءت مرحلةٌ اُخرى من الاختبار لم تستطع اجتيازه بنجاح أيضاً ، و يتمثّل هذا الاختبار في أنّ سليمان أمر الشياطين ببناء صرح معيّن من القوارير و أجرى المياه تحته و جمع فيها الحيتان و الضفادع و غيرها من حيوانات الماء .

و عندما طُولبت بلقيس بدخول الصرح اشتبه الأمر عليها ، فحسبت الصرح لُجّةً ، فكشفت عن ساقيها . و عندها اُخبرت بحقيقة الأمر .

و ما أن أحاطت علماً بحقيقة الأمر حتّى هتفت قائلةً:

﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ

و هكذا تنتهي القصة بهذا المصير الرائع لبلقيس: مصير الإيمان بعد الكفر .

و هكذا أيضاً تنتهي القصةُ بعد أن تكون قدّمت اختباراً يوازَن به اختبارها لسليمان (عليه السلام) ، لكن مع الفارق العظيم بين سليمان (عليه السلام) و بلقيس ، بين سليمان (عليه السلام) الذي اجتاز الاختبار بنجاح ، و بين الاختبار الذي فشلت بلقيس في اجتيازه .

و هكذا أيضاً تنتهي القصة بعد أن تكون قد قدّمت سلسلة متلاحقة متماسكة من الأحداث و المواقف الحائمة على ظاهرة التسخير ، و موقع السماء من هذا التسخير ، و موقع الاخلاص في العبادة من ذلك كلّه .

أخيراً جاءت حكايتا النمل و بلقيس منصبّتين على هدف مركزي يتصل بعطاء الله تعالى لشخصية سليمان ، وبأهداف ثانوية أو فرعية ترتبط بعملية الإنارة للشخصية المذكورة ، ولكنها في الآن ذاته ـ تكشف عن خصوصيات متنوّعة مثل إحاطة طائر بمالم يُحط الشخصية الرئيسة به ، ومثل تنامي شخصية كافرة إلى مؤمنة ، . . . إلى آخره . كلّ ذلك بسبب عملية محورية هي التسخير المعجز بالنحو الذي لاحظناه .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page