• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة القصص : قصَّة حياة مُوسَى(عليه السلام)

 تمهيد

أشرنا إلى أنّ قصة موسى (عليه السلام) تُعدّ بمثابة رواية نظراً للحياة الطولية التي تناولها القصة بما يواكب ذلك من تفصيلات تتناسب مع حجم الرواية ، فضلا عن خضوعها لمبادئ قصصية ممتعة على نحو ما نتحدّث عنه الآن ، فنقول:

لاحظنا أنّ الحديثُ عن موسى (عليه السلام) كان منصبّاً على حياته في سورة «طه»
خلال النبوّة و بعدها .

أمّا حياته قبل النبوّة فلم تُسرد في سورة «طه» إلاّ عابراً ، حيث أشار النصُّ القصصي إلى بعض مقاطعها في سياق سرده لأحداث النبوّة و لواحقها .

هنا في سورة القصص ، يجيء السردُ عن موسى (عليه السلام) منصبّاً على حياته الاُولى حياة قبل النبوّة حيث يتمّ سردُها مفصّلا بنحو لا تتناوله أيـّةُ سورة سواها .

و إذا كُنّا قد لحظنا في سورة «طه» أنّ النص لم يُخضع الأحداثَ لتسلسلها الزمني ، بل قطَّعها وفقاً لسياقها النفسي ، بحيث بدأ بحادثة البحث عن النار و هي آخر حياته قبل النبوّة ثمّ ارتدّ إلى حادثة إلقائه في اليمّ و هي أوّل حياته . . .

أقول: إذا كان السياقُ في سورة «طه» قد استدعى مثل هذا التقطيع ، فإنّنا في سورة «القصص» نجد أنّ قصة موسى قد أخضعها النص لتسلسلها الزمني بدءً من حادثة التقاطه من اليمّ و انتهاءً بحادثة بحثه عن النار ، ثمّ واصَلَ النصّ سردَه لأحداث النبوّة و ما بعدها ، لكنه في سرده لأحداث النبوّة و ما بعدها عقّب النصّ على بعض الأحداث السابقة ، حيث أخضعها في هذا التعقيب ، لتسلسلها النفسي بدلا من التسلسل الزمني .

و على أيّة حال ، فإنّ هذا النحو من البناء القصصي سنلقي عليه مزيداً من الإضاءة عندما نبدأ الآن مع بداية القصة ذاتها .

* * *

بدأت القصةُ بمقدّمة على النحو الآتي:

﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ

و بعد هذه المقدّمة بدأت القصةُ بقضيّةِ فرعون و هامان و فسادهما في الأرض ، حيث استُهلّ السردُ بما يلي:

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً

﴿يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ

﴿إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ

﴿وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ

﴿وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ

﴿وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ

إنّ هذه المقدّمة القصصية تنطوي على جملة من حقائق الفنّ ، منها:

1 ـ إنّها تُلخّص محتويات القصة ، حيث يستكشف المُتلقّي أنّ القصة تحوم على صراع قائم بين الحقّ و الباطل: بين موسى و فرعون .

﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ . . .

2 ـ يستكشف المتلقّي نتائج الصراع بينهما ، و إلى أنّه سيكون لصالح موسى و المؤمنين .

﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا . . .

3 ـ تحدّد القصة مادة الباطل ، و إلى أ نّه ـ أساساً ـ قائمٌ على أنّ فرعون كان يُمارس العلوّ و التفرقة بين الطوائف و استضعاف الناس ، بحيث يذبح الرجال و يسبي الإناث ، لأسباب يستكشفها المتلقّي من مجموع القصّ:

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً . . .

4 ـ يستكشف المُتلقّي أنّ من بين الأسباب التي حملت فرعون على الإفساد في الأرض ، هو التشبّث بملكه و الخوف من زواله .

﴿وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ

هذه المبادئ الفنّية الأربعة ينبغي أن نضعها في الاعتبار بصفة أنـّها مبادئ تتضمّنها المقدمةُ القصصيّة ، بُغية أن تُحيط المتلقّي بأفكار القصة و أهدافها . و إلى أنّها تُسرد وفق تخطيط هندسي تجعل المُتلقّي في نهاية المطاف قد استمتع جمالياً ببناء القصة و طريقة صياغتها ، . . . فضلا عمّا تلقّفه منها من أفكار يستهدفها النص . . . و فضلا عمّا سيكتشفه بنفسه من خلال البناء الفنّي للقصة من أفكار و مواقف و أحداث لم تذكرها القصة .

* * *

بعد هذه المقدّمة الفنّية يبدأ الفصلُ الأوّل من القصة متمثّلا في حياة موسى (عليه السلام) من حيث نشأتُه و مراحلها المختلفة .

ثمّ تتابعُ فصول القصة حتّى تنتهي بالشطر الأوّل من حياة موسى حياة ما قبل النبوّة .

و بعدها تتابع حياته خلال النبوّة و ما بعدها .

و يهمّنا من ذلك أن نصل بين بداية القصة و مقدّمتها أوّلا ، ثمّ الصلة بين سائر مراحل القصة و بين مقدّمتها ثانياً .

و قبل ذلك كلّه ، ينبغي أن نضع في الاعتبار أنّ القصة شدّدت على الفترة الاُولى من حياة موسى (عليه السلام) فترة ما قبل النبوّة ، مع أنّ الصراع بين موسى (عليه السلام) و فرعون ، إنّما يأخذ نتائجه الحاسمة التي تضمّنتها المقدّمة القصصية ، مع الفترة الثانية فترة النبوّة ، أي فترة ذهابه إلى فرعون ، و إنهائه إلى الغرق في اليم .

يبدءُ الفصل الأوّل من قصة موسى (عليه السلام) مع ميلاده ذاته ، حيث اقترنت و لادتهُ مع قرار فرعون بقتل الأطفال . و سببُ هذا القرار الذي اتخذه فرعون ، هو إخبارُ بعض الكهنة فرعون بأنّ مولوداً سيُولد في بني إسرائيل يتمّ على يده زوال مُلك فرعون ، أو حسب نصّ مفسّر آخر أنّ فرعون ذاته رأى في منامه أنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس ، فأتت على بيوت مصر و أحرقت الأقباط و استبقت الإسرائيليين ، ففُسّر له بالتفسير ذاته .

و في ضوء هذا التأويل الذي قُدِّم إلى فرعون قرّر أن يقتل الأطفال الإسرائيليين ، و نفّذ قراره فعلا ، إلاّ أنـّه خشي أن يفنى الإسرائيليون جميعاً ، و عندها قرّر قتلهم بين عام و آخر .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ موسى (عليه السلام) قد وُلِدَ في العام الذي يُقتل الأطفال
فيه ، إلاّ أنّ السماء أنقذته على النحو الذي يسرده الآن الفصلُ الأوّل من القصة:

يبدأ الفصل الأوّل على هذا النحو:

﴿وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ

﴿فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ

﴿وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

و المُلاحَظ أنّ القصة لم تسرد لنا أيّ شيء عن فرعون و قراره بالقتل ، كما لم تسرد لنا ولادة موسى (عليه السلام) وصلتها بذلك ، بل اتجهت مباشرة إلى قضية الرضاعة و إلقائه في اليمّ في حالة الخوف من القتل .

بيد أنّ النصوص المفسّرة هي التي اضطلعت بتقديم هذه التفاصيل للأحداث .

و تضيف هذه النصوصُ المفسّرة: إنّ اُمّ موسى عندما حملت به لم يظهر عليها أثر الحمل . و لذلك لم تتعرّض القوابلُ اللاتي بعثهنّ فرعون لتفتيش النساء لم يتعرّضن لاُمّ موسى (عليه السلام) .

و فعلا وُلد موسى (عليه السلام) دون أن تشهد ولادته أيّةُ قابلة ، و تقول نصوص اُخرى:
إنّ القابلة شهدت ولادته ، لكنّها تستّرت على ذلك ، لأنّ اللّه ألقى محبته في قلبها .

و بقي ثلاثة أشهر يرتضع من لبن اُمّه ، لكنّها خافت عليه . فصنعت له تابوتاً ، أو اُرسل إليها التابوت و ألقته في اليمّ على نحو ما تَحدّثنا عنه في سورة «طه» .

المهمّ أنّ البداية القصصية عندما أشارت إلى عملية الرضاعة و إلقائه في اليمّ ، عقّبت على ذلك بقولها:

﴿لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي: إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

و هذا التعقيب له خطورتُه الفنّية من حيث التنبّؤ بنتائج الحَدثَ ، و كونه لصالح موسى و اُمّه .

أكثر من ذلك أنّ هذا التعقيب تنبّأ بمستقبل موسى (عليه السلام) و إلى أ نّه سيُصبح رسولا من اللّه إلى بني قومه .

و ممّا لا شك فيه أنّ هذا التنبّؤ له صلته من حيث البناء الفنّي بمقدّمة القصة التي قلنا في حينه ، أ نّها تضمّنت الكشف عن نتائج الصراع بين موسى (عليه السلام) و فرعون ، و إلى أ نّه في صالح موسى و المستضعفين بعامّة .

و من خصائص هذا البناء الفنّي ، أ نّه يكشف شيئاً فشيئاً عن تفصيلات جديدة ، تضمّنتها مقاطعُ القصة و فصولها ، حيث ينهض كلّ مقطع و كلّ فصل بقسم من التفصيلات حتّى تنتهي بمجموعها مع نهاية الحدث الذي تنبّأت المقدمةُ القصصية به في صياغتها المُـجملة .

* * *

و إذا كان المقطع الأوّل من القصة قد فصّل جانباً من التنبّؤ بالأحداث . فها هو المقطع الثاني يفصّل جانباً آخر منها ، هو: أنّ موسى و قد التقطه فرعون من اليمّ ، سيكون طرف الصراع الذي أنبأتنا المقدمةُ القصصيةُ به ، مقابلا لفرعونَ و هامانَ و جنودهما .

و لنقرأ المقطع القصصي:

﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ

إذن ، هذا الطفل الذي ألقته اُمّ موسى في اليمّ و خافت عليه من أن يقتله فرعونُ . . . هذا الطفل قد تسلّمه فرعون نفسُه ، و لكنّ فرعون لم يدرِ أنّ الطفل سيكون له عدواً ، . . . و سيكون نفس الطفل الذي قرّر من أجله فرعون أن يقتل الأطفال ، من أجل ألاّ يولد موسى (عليه السلام) ، . . . من أجل ألاّ يولد الطفل الذي سيصبح راشداً و سيكون زوال فرعون على يده . . .

نقول: لم يدر فرعون أ نّه قد التقط الطفل الذي سوف يقتل فرعون ، سوف يغرقه في اليمّ .

لم يدرِ أنّ اليمّ الذي أنقذ موسى (عليه السلام) ، سيغرق فرعون الذي أنقذ موسى من الغرق عندما كان التابوت يحمله و هو طفل . ثمّ انتهت النتيجة إلى أن يغرق فرعون نفسه لا موسى (عليه السلام) .

هذه النهاية القصصية لمصير فرعون ينبغي أن نضعها في الاعتبار من حيث التوازن الهندسي بين مصائر الأبطال و هو أمر نتحدّث عنه لاحقاً .

و لكن ما يهمّنا الآن ، هو أن نشدّد على هذا المقطع القصصي الذي تآزر مع سابقه ، على تقديم التفصيلات التي أجملتها المقدمةُ القصصيّة .

لقد أجملت المقدمةُ ، بأنّ السماء تُريد ما يلي:

﴿وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ

و ها هو المقطع الثاني من القصة يقرّر أنّ موسى (عليه السلام) قد التقطه آل فرعون:

﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ

في المقدّمة ، . . . قالت القصةُ: سنُري فرعون و هامان و جنودهما ما كانوا يحذرون .

و ها هي في وسط القصة تخبرنا بأنّ فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في تقديرهم للاُمور . . . فها هو موسى (عليه السلام) الذي التُقِطَ من اليمّ سيكون عدوّاً و حزناً لفرعون و هامان و جنودهما .

و لسوف تكون نهايتهم مع نهاية القصة على يد موسى (عليه السلام) .

إذن كم هو رائعٌ مثل هذا البناء الفنّي للقصة التي أشارت مقدّمتها إلى ما يحذره فرعون و هامان و جنودهُما . و وسطها أشار إلى ما سيقع فيه فرعون و هامان و جنودهما . و نهايتها ستشير إلى ما وقع فعلا ما كان يحذره فرعون و هامان و جنودهما .

* * *

بدأت قصةُ موسى (عليه السلام) ـ كما لحظنا ـ بإرضاعه ، فإلقائه في اليم ، فالتقاطِه من قِبَلِ آل فرعون .

أمّا الآن فيبدأ مقطعٌ جديدٌ من القصة يتمثّل في إرجاع موسى (عليه السلام) إلى اُمّه ، و هذا ما يسرده النص القصصي الآتي:

﴿وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِي وَ لَكَ

﴿لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ

﴿وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ

﴿لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

﴿وَ قالَتْ: لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ

﴿وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ

﴿فَقالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ

﴿فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ

﴿وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ

بهذا المقطع القصصيّ ينتهي الفصلُ الأوّلُ من قصة موسى (عليه السلام) .

و ممّا لا شك فيه ، أ نّه فصلٌ مثيرٌ حافلٌ بأسرار فنّية و فكرية يحسن بنا أن نتابعها بالتفصيل .

* * *

تقول النصوصُ المفسّرة: إنّ امرأة فرعون عندما فتحت التابوت و نظرت إلى موسى (عليه السلام) ألقى اللّه محبّته في قلبها . حتى أنّ فرعون عندما تساءل: كيف أخطأ الذبحُ هذا الغلام ؟ أجابته: إنّ هذا الوليد أكبر من سنة ، و إنّك أمرت بذبح الأطفال لهذه السنة ، فدعه يكن قرّة عين لي و لك . و في نصّ مفسّر آخر: إنّ أصحاب فرعون همّوا بقتله ، فمنعتهم ، و قالت لفرعون نفسَ العبارة .

و أيّاً كان الأمر فإنّ إنقاذ موسى من القتل ، يظلّ على صلة بمقدّمة القصة التي أرهصت بأنّ موسى (عليه السلام) سيكون هو المنتصر في صراعه مع فرعون . كما يظلّ على صلة بالمقطع الأسبق من القصة ، و هو المقطع الذي تحدّث بوضوح من أنّ السماء ستردّ موسى (عليه السلام) إلى اُمّه إذا ألقته في اليمّ و طالبت اُمّ موسى بألاّ تحزن على ذلك .

إلاّ أ نّنا نجد بالرغم من تطمين السماء لاُمّ موسى (عليه السلام) بألاّ تحزن ، . . . نجد أنّ اُمّ موسى (عليه السلام)قد داهمها الحزن إلى الدرجة التي قال عنها النصّ:

﴿وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ

﴿لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

بيد أنّ رعاية السماء التي واكبت موسى (عليه السلام) و اُمّه منذ لحظة الميلاد سرعان ما أعادت الاطمئنان إلى اُمّ موسى من جديد عندما أعادت إلى الاُمّ وليدَها .

و قد تمّت هذه الإعادة من خلال الحادثة الآتية ، . . . و هي: أنّ اُمّ موسى (عليه السلام) قالت لاُخته: تتبّعي أثر أخيك و تعرّفي على أخباره ، و فعلا ذهبت اُخت موسى (عليه السلام) تتبع أخاها حتّى بصرت به عند آل فرعون ، بنحو لم يشعر القومُ بذلك .

و تدخّلت رعايةُ السماء من جديد .

﴿وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ

﴿فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ السماء ألقت محبّة موسى (عليه السلام) حتّى في قلب فرعون نفسه ، بحيث طلب له المراضع ، لكنّ موسى (عليه السلام) لم يتقبّل لبن أيّة مرضعة و كانت اُخته حاضرة و عندها اقترحت عليهم أن تدلّهم على أهل بيت يكفلونه ، . . .
فعاد إلى اُمّه:

﴿فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ . . .

و هكذا عاد الوليد إلى الاُمّ و انتهت عملياتُ الخوف من الغرق ، و من القتل و من فرعون و قومه . . .

و هكذا بقي الطفل مع عائلته معافىً من كلّ سوء حتى أصبح راشداً .

و بهذا ينتهي شطرٌ من حياته . . .

و بهذا ينتهي فصلٌ من القصة ، ليبدأ فصلٌ جديد . . . ينتهي فصلٌ من القصة ، بانتهاء شطر من حياة موسى (عليه السلام) ، هي حياة الطفولة الحافلة بالأخطار المثيرة ، و بعناية السماء . . .

تنتهي هذه الحياة حياة الطفولة ، لتبدأ مرحلة اُخرى من حياته ، هي: حياة الرُشد .

فماذا عن هذه الحياة ؟

* * *

الحياةُ الجديدة حياةُ الرشد ، . . . أكسبها النصُّ القصصي بُعداً جديداً من الفعّالية لم تُتَحْ إلاّ للصفوة التي اختارتها السماء:

يقول النصُّ القصصي:

﴿وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ ذلك كان عند بلوغه الثامنة عشر ، و تقول النصوص المفسّرة الاُخرى: إنّ ذلك كان عند بلوغه الثالث و الثلاثين ، لكنه في الأربعين من العمر اُوتي الحكم و العلم ، تمهيداً للاضطلاع بمهمّة الرسالة عندما يحين موعدُها ، و هو موعدٌ تسردها القصة تفصيلاته لاحقاً .

على أ يّة حال ، الفصلُ الثاني من القصة يظلّ حائماً على المرحلة الثانية من حياة موسى (عليه السلام) مرحلة الرشد ، فيما يُشير إليها من خلال طابع الحكم و العلم اللذين آتتهما السماء موسى (عليه السلام) .

و القصة تكتفي من هذه المرحلة بالإشارة إلى الطابع الفكري المذكور لموسى (عليه السلام) .

لكنها في الفصل الثالث تنتقل القصةُ إلى سرد مرحلة ثالثة من حياة موسى (عليه السلام) .

فما هي معالم هذه المرحلة ؟

حين نتابع المراحل التي سردتها القصة عن حياة موسى (عليه السلام) تواجهنا منها مرحلة جديدة ، هي: مرحلة دخوله إلى المدينة على حين غفلة من أهلها:

﴿وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَة مِنْ أَهْلِها

﴿فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ

﴿فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ

﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ

﴿قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ

﴿قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي

﴿فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

﴿قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ

تقول النصوصُ المفسّرة: إنّ موسى (عليه السلام) كان خلال إقامته عند فرعون يتحدّث عن التوحيد و كان فرعون ينكر عليه ذلك ، حتى أ نّه همّ بقتل موسى (عليه السلام) .

و حيال هذا اضطُرّ موسى (عليه السلام) أن يهاجر إلى مكان آخر ، و تقول بعضُ النصوص المفسّرة: إنّ المدينة التي توجّه إليها موسى (عليه السلام) هي مدينة منف ، أو غيرها من مدن مصر .

و أيّاً كان فإنّ النص القصصي لم يحدّثنا عن المدينة التي دخلها ، و لا أسباب الدخول إليها ، بل اختزل ذلك و تركه للنصوص المفسّرة .

و المسوّغ الفنّي لهذا الاختزال يتمثّل في تصوّرنا في أنّ القصة هي في صدد تشدّدها على إبراز حادثة القتل و نتائجها ، لما تنطوي عليه من دلالات نتعرّض لها بعد قليل .

أمّا أسباب الدخول إلى المدينة ، فإنّ اختزالها يظلّ مرتبطاً بجملة من المسوّغات الفنّية ، منها: أنّ النص القصصي ترك استخلاص ذلك للمتلقّي حتّى يُساهم بنفسه في عملية الكشف الفنّي في تذوّق القصة و استشفاف جماليّاتها .

و ممّا لا شك فيه أنّ المتلقّي من الممكن أن يستخلص ـ و هو على وعي تام ـ بأنّ موسى (عليه السلام) الذي آتته السماءُ حكماً و علماً ، لابدّ أن يظلّ على غير وفاق مع فرعون ، ممّا يضطرّه إلى الدخول في صراع يستتبع أن يفارقه ، لينقذ نفسه من بطش فرعون ، و ليُتابع أداء وظيفته العبادية في حدود امكاناته المتاحة له فترتئذ .

المهمّ أنّ موسى (عليه السلام) قد غادر مكان إقامته و اتّجه إلى المدينة التي كانت مهيّأة لإقحامه في صراع جديد مع قوم فرعون . إنّه الصراع الناجم عن حادثة القتل .

فما هي تفصيلات هذه الحادثة ؟

* * *

النص القصصي يكتفي من رسم التفصيلات ، بهذا السرد:

﴿فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ

﴿فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ

إذن الحادثة التي كانت تنتظر موسى (عليه السلام) لإقحامه في صراع جديد مع قوم فرعون ، هي حادثة قتل لأحد الأقباط .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ النص القصصي قد أبْهَمَ هنا أيضاً سبب الاقتتال بين الرجلين . بيد أنّ المتلقّي يستخلص هنا بوضوح أنّ سبب الاقتتال لابدّ أن يكون بين الحقّ و الباطل ، بين رجل من شيعة موسى (عليه السلام) يؤمن بالسماء ، و بين رجل من قوم فرعون ممّن يدين بدينه . و إلاّ لم تكن أ يّةُ دلالة لأن يستجيب موسى (عليه السلام) لنداء الرجل الذي هو من شيعته ، ما لم يكن الصراع بين الرجلين هو صراع بين الحقّ و الباطل .

بيد أنّ ما يلفت الانتباه في هذه الحادثة ، هو نتائجها النفسية و العملية التي ترتّبت على الحادثة المذكورة .

فمن حيث النتائج النفسيّة نلحظ أنّ موسى (عليه السلام) قد ندم على عمله و نسبه إلى الشيطان ، و مثلُ هذا الندم يتنافى في الظاهر مع انتصاره للحقّ ، بل إنّه يتنافى بنحو أشدّ مع محاولته الثانية لقتل قبطي آخر بعد عملية الندم على قتل الأوّل ، كما سنرى لاحقاً .

و أمّا من حيث النتائج العملية ، فإنّ المهاجرة من المدينة إلى مكان آخر ـ كما سنرى ـ قد ترتّبت على حادثة القتل السابقة و اللاحقة .

و يعنينا الآن أن نقف على المضاعفات النفسية لحادثة القتل ، و تحديد دلالاتها الفنّية و الفكريّة في هذا الصدد .

إنّ النص القصصي أبهَمَ ذلك تماماً و أبرز لنا الحادثةَ و مضاعفاتها النفسية دون أن يُحدّد أسباب ذلك .

و من جديد نبادر إلى القول بأنّ اختزال ذلك عائدٌ إلى نقل المتلقّي لعمليات استكشاف جديدة يمارس من خلالها تذوّقه الفنّي للقصة ، ليتضخّم بذلك عنصر الإمتاع الجمالي و الفكري لديه .

إنّ المتلقّي سيمرّ بجملة من الاستخلاصات التي تضاعف من حيرته حيال هذا التضاد بين عملية القتل و الاستغفار .

و ممّا يزيد في هذه المضاعفات ، أنّ موسى (عليه السلام) لم يكتفِ من ذلك بأن ينسبَ
العمل إلى الشيطان ، فلو اكتفى بذلك لأمكننا أن نستخلص مثلا بأنّ القتل لم يكن اُسلوباً صائباً ، و هذا ما ذهب إليه أحدُ المفسرين عندما أوضح أنّ القتل لم يكن جائزاً في ذلك الحين ، لأنّ الحالة كانت حالة الكف عن القتال .

بيد أنّ الأمر تجاوز هذا المدى إلى أن يَنْسِبَ موسى (عليه السلام) إلى الجريمة عملية
الاستغاثة من الرجل .

قال موسى (عليه السلام) مخاطباً السماء:

﴿رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ

فهذه الفقرةُ من كلامه توحي بأنّ أحد طرفي القتال هو المجرم ، أي أنّ الأمر لايقف عند حدود القاتل ، بل امتدّ إلى حدود المستنصر نفسه ، أي: الذي استغاث بموسى (عليه السلام)لينصره على عدوّه .

تُرى ، كيف يتمّ التوفيقُ بين هذه الدلالات المتضادّة التي يمكن أن يستخلصها المُتلقّي ؟

حدّثنا الإمام الرضا (عليه السلام) عن التوفيق بين ما يستخلصه المتلقّي من أنّ موسى (عليه السلام) قد انتصر للحقّ في حادثة قتله لأحد الأقباط ، و بين استغفاره على العمل الذي قام
به .

لقد أوضح الإمام الرضا (عليه السلام) أنّ العمل الذي نسبه موسى إلى الشيطان ، ليس عمل موسى نفسه ، بل هو الاقتتال الذي جرى بين الرجلين .

و لكن إذا كان الاقتتالُ بين الرجلين عملا من الشيطان ، فهل إنّ الانتصار لرجل الحقّ ـ من حيث كونه مؤمناً باللّه ، لا من حيث كونه يمارس طريقة غير مشروعة في الانتصار للحقّ ـ يجسّد عملا غير مشروع أيضاً ؟

هنا ، يُجيب الإمام الرضا (عليه السلام) تعقيباً على قول موسى (عليه السلام):

﴿إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي

يُجيب بأنّ ظلم النفس و الاستغفار ناجمٌ من أنّ موسى (عليه السلام) وضع نفسه في غير موضعها بدخول هذه المدينة التي شهد فيها قتال الرجلين و أنّ مطالبته بالاستغفار ، هي المطالبة بأن يستره اللّه تعالى من أعدائه ، لئلاّ يظفروا به فيقتلوه .

و نتيجةً لذلك فإنّ قول موسى (عليه السلام):

﴿رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ

يعني: أنّ هذه القوة التي أنعم اللّه بها على موسى (عليه السلام) بحيث استطاع بوكزة منه أن يقضي على القبطي ، قد طالبَ بها موسى (عليه السلام)لكي تُستثمر في دروب الجهاد في سبيل اللّه .

* * *

على أيّة حال فإنّ حادثة القتل المذكورة تشكّل أوّل حركة تسردها القصة عبر حديثها عن المرحلة الثالثة من حياة موسى (عليه السلام) و هي: حياة المهاجرة .

بيد أنّ الأقدار هيّأت لموسى (عليه السلام) حادثةً جديدة ، ترتّبت عليها آثارٌ لها خطورتها الكبيرة في حياة موسى (عليه السلام) ، و ما تنتظره من تحرّكات نتحدّث عنها لاحقاً .

هذه الحادثةُ الجديدة ترتبط بسابقتها من حيث حَوَمانُها على محاولة قتل أيضاً . فموسى (عليه السلام) بعد أن مارس عملية القتل و ندم عليها و طلب الاستغفار ، عندها توارى عن المدينة تخلّصاً من تبعات العمل الذي قام به .

يقول النصُّ القصصي:

﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ . . .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ فرعون قد بلغه مقتلُ القبطي ، لكنّه لم يتعرّف على القاتل و عندها بعث جواسيسه لهذه المهمّة .

و في غمرة الخوف الذي كان يغلّف موسى (عليه السلام) من حادثة القتل ، ثمّ في غمرة بحث الجواسيس عنه . . . في غمرة هذا كلّه . . . كان الحدَثُ الجديد ينتظر موسى (عليه السلام) .

إنّه حدثٌ يتمثّل في اقتتال جديد بين صاحب موسى (عليه السلام) و بين قبطي آخر:

﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ

و لنتابع تفصيلات هذا الحدث:

﴿فَلَمّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما

﴿قالَ: يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ

﴿إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي الأَرْضِ

﴿وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ

ماذا يمكن أن نستخلص من هذا الحدَثَ ؟

من حيث الموقف ، فإنّ الرجل الذي هو من شيعة موسى (عليه السلام) يبدو أ نّه رجلٌ مقاتل ، فبالأمس قاتل أحد الأقباط حتّى قضى عليه بواسطة موسى (عليه السلام) ، و ها هو اليوم يقاتل رجلا آخر ، و تشاء الأقدار أن يتمّ هذا بمحضر موسى (عليه السلام) أيضاً . . .
و أن يطلب نجدتَه كما طلبها أمس أيضاً .

غير أنّ الموقف الآن يبدو و كأنّ بعض التغيير قد دَخَله ، فلم يستجب موسى (عليه السلام)  فوراً لطلب رفيقه كما فعل بالأمس ، و إنّما وبّخه قائلا له:

﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ

و معنى هذا التوبيخ: أنّ قتال الفراعنة في مثل هذه الظروف لم تسمح به السماءُ بعد .

و لكن بعد ذلك كلّه فإنّ موسى (عليه السلام) همّ بأن يبطش بالفرعونيّ المذكور انتصاراً لرفيقه الذي وبّخه على المقاتلة . ترى: لماذا يوبّخ موسى (عليه السلام) رفيقه ، ثمّ يحاول أن ينتصر له ؟

إنّ النصّ القصصي أبهَم السرّ في ذلك تمشّياً مع الإبهام الذي خلعه على جميع الأسباب المتصلة بالمقاتلة ، و النجدة ، و الاستغفار تاركاً للنصوص المفسّرة و للمتلقّي تحديد أو استخلاص ذلك ، لمسوّغات فنّية و فكريّة سبق توضيحُها .

و الآن ، و قد حاول موسى (عليه السلام) أن يبطشَ بالقبطيّ بعد أن وبّخ زميله على المقاتلة .

الآن ، يكفّ موسى عن البطش بعد أن هُدِّد بالعبارة الآتية:

﴿أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ

﴿إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً . . .

و نتساءل من جديد: لماذا صدرت عن موسى (عليه السلام) ثلاثةُ مواقف أحدها يضاد الآخَرَيْن ؟!

فلو كان طلبُ النجدة أمراً مشروعاً ، فلماذا يوبّخ صاحبَها ؟

و إذا كان أمراً غير مشروع ، فلماذا يحاول أن يبطشَ بالقبطي ؟

ثمّ إذا افترضنا أ نّه أمرٌ مشروع ، فلماذا يخضع للتهديد و يهرب من القبطي ؟

و إذا افترضنا أ نّه غير مشروع ، فلماذا ينتصر ـ من خلال المحاولة ـ لصاحبِه ؟

إنّ هذه الأسئلة تتخاطرُ على ذهن المُتلقّي و تلقي به إلى غيابات متنوعة لا شك أ نّها تثري ذهنه و تجعله في حركة فكريّة دائبة من عمليات الاستخلاص و المحاكمة و الاستدلال و استحضار خبراته المتنوعة عن فهم هذه الظاهرة .

و نحن في ضوء إجابة الإمام الرضا (عليه السلام) على الأسئلة التي سبقت هذا الحادث يُمكننا أن نستخلص بيُسر أسباب هذه المواقف التي تبدو و كأ نّها متضادة ، أو مضبّبة . . .

لكنّها سرعان ما تتّضح بأ نّها تتصل بالمناخ و بالطريقة التي يتمّ التعامل معها ، المناخ الذي لم يسمح بعد بمقاتلة الطغاة ، و ما يترتب على ذلك من الطريقة التي لا يسمحُ بها المناخُ السياسي المذكور .

و هذا كلّه إذا أخذنا بالتفسير الذي يذهب إلى أنّ التهديد صادرٌ من القبطي .

أمّا إذا أخذنا بالتفسير الذاهب إلى أنّه صادرٌ من الإسرائيلي ، فهذا يعني أنّ الإسرائيلي خُيّل إليه أنّه هو المقصود بالبطش من خلال توجيه التوبيخ إليه ، حيث دفع عنه الأذى المتُخيّل ، بهذا الموقف اللا إنساني و حينئذ يُضطرّ موسى (عليه السلام) إلى الهرب ، خوفاً من إلقاء القبض عليه .

و من هنا تُشير بعض النصوص المفسّرة إلى أنّ القبطي فهِمَ من محاورة موسى مع صاحبه ، أنـّه هو القاتل أمس ، ممّا جعله ينطلق إلى فرعون و يخبره بالقاتل .
و عندها طلب فرعون إلقاء القبض عليه .

* * *

في غمار البحث عن موسى (عليه السلام) لإلقاء القبض عليه من قِبَلِ جواسيس فرعون . . . تدخّلت السماءُ ـ من جديد ـ لِتُمطر موسى (عليه السلام) بمزيد من المعطيات . . .
فها هي السماء تُرسل إليه أحد المؤمنين الذين لم يُظهروا إيمانهم أمام الطغاة:

﴿وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى

﴿قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ

﴿فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ

﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ

﴿قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ

لقد أخبر هذا الرجلُ موسى (عليه السلام) بالمؤامرة التي حيكت ضدّه لقتله . و قد قطع مسافة كبيرة من أقصى المدينة و اختصرها من أقرب الطرق للوصول إلى موسى (عليه السلام)قبل أن يظفر الأعداء به .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ هذا الرجل كان خازناً لفرعون ، و قد وقف على المؤامرة ، فاتّجه لإنقاذه على النحو المتقدم .

* * *

و من جديد ، يترقّب موسى (عليه السلام) خائفاً . . .

فأمسِ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ .

و اليوم﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ .

أمس: أصبح خائفاً من أن يُعرف أ نّه هو القاتل .

و اليومَ: أصبح خائفاً من أن يُقبض عليه فيُقتل .

لكن السماء و هي تُظلّه برعايتها أنقذته من كلّ الأخطار ، فقطع مسافة ثلاثة أيّام ، و قيل: ثمانية أيام ، حتّى بلغ مدينةً جديدة هي مديَن .

و مع دخوله لهذه المدينة تبدأ مرحلةٌ جديدة من حياة موسى (عليه السلام) .

إنّها مرحلة الزواج ، و الإقامة فيها أجيراً لشُعيب ، لكنّه قبل هذه المرحلة تبتدره حادثةٌ لها خطورتها في هذه المرحلة ، بل تظلّ هي الحادثة التي لوّنت حياة موسى (عليه السلام)بهذه المرحلة: مرحلة الزواج ، و العمل أجيراً لشُعيب .

و الآن ما هي هذه الحادثة الخطيرة التي تسبّبت في صياغة مرحلة جديدة من حياة موسى (عليه السلام) ؟

* * *

هذه الحادثةُ هي حادثة المساعدة التي قدّمها موسى (عليه السلام) إلى امرأتين تبتغيان إسقاء غَنَمهما من ماء البئر ، لكنّ الزحام يمنعهما من ذلك .

و لنتقدم إلى تفصيلات هذه الحادثة ، من النصّ القصصي ذاته:

﴿وَ لَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ

﴿وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ

﴿وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ

﴿قالّ: ما خَطْبُكُما ؟

﴿قالَتا: لا نَسْقِي حَتّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ

﴿فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ

﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ

و قبل أن نواصل الحديث عن هذه التفصيلات التي سردها النصُّ القصصي يجدر بنا ملاحظة المقطع القصصي المتقدّم ، حيث تَصَدَّرَهُ دعاء خاص ، و اختُتِمَ بدعاء خاص .

أمّا الدعاء الذي تصدّر المقطع القصصي المذكور ، فهو: دعاؤه:

﴿عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ

و أمّا الدعاء الذي خُتِمَ به النصُّ القصصي ، فهو دعاؤه:

﴿رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ

إنّ البناء الفنّي لمثل هذا الدعاء الذي يسبق حادثة المساعدة ، و الدعاء الذي يلحقها ينبغي ألاّ نمرّ عليه عابراً دون ملاحظة الخصائص الفنّية التي ينطوي عليها .

فموسى (عليه السلام) عند توجّهه نحو مدين خرجَ و هو خائف يترقّب ، لايعرف معالم الطريق و لا الهدف الذي سيسلكه في هذا الصدد .

هنا توجّه نحو اللّه ، و طلب منه الهداية . . .

و كانت السماءُ عند حسن ظنّه . . .

و من جديد ، توجّه نحو السماء حينما عمل عملا خالصاً للّه ، بمساعدته تينك الفتاتين .

و عندما أنهى مساعدته توجّه نحو السماء بخطابه المعروف:

﴿إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ موسى (عليه السلام) عندما تولّى نحو الظلّ بعد مساعدته المذكورة للفتاتين كان الجوعُ قد أخذ مأخذه منه ، حتّى أنّ عليّاً (عليه السلام) اُثر عنه تعقيباً على موسى (عليه السلام) ـ إنّ موسى كليم اللّه حيث سقى لهما ثمّ تولّى إلى الظلّ ، فقال: ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير ـ : «و اللّه ، ما سأل اللّه إلاّ خبزاً يأكله ، لأنه يأكل بقلة الأرض و لقد رأوا خُضرة البقل في صفاق بطنه من هزاله» . . .

على أ يّة حال ، أنّ هذا الدعاء و ما سبقه يظلاّن على صلة بالعناية التي أظلّت بها السماءُ موسى من حيث تهيئتها لمرحلة جديدة من الاستقرار بعد زوال مصدر الخوف .

و من حيث ما تهيّؤه لأكبر ما تحمّله للصفوة من مسؤوليات الرسالة فيما بعد .

* * *

و لنعُد إلى الحادثة نفسها: حادثة الفتاتين و السقي .

ففي ضوء النص القصصيّ المتقدم و ما تواكبه من التفسيرات المأثورة نلحظ أن بيئة الحادثة التي تحرّكت من خلالها ، تتمثّل في مشاهدته مجموعةً من الرعاة يسقون مواشيهم الماء من البئر و شاهد فتاتين ـ من دون هؤلاء الرعاة ـ تحبسان غنمهما عن الورود إلى الماء .

و هنا اتّجه موسى (عليه السلام) نحو هاتين الفتاتين و سألهما عن السبب الذي يمنعهما من الورود . فأجابتا: إنّنا لا نسقي عند المزاحمة مع الناس حتّى ينصرف الرعاء ، و أنّ أبانا شيخ كبير لا يستطيع القيام بهذا العمل .

و انطلاقاً من دافع المساعدة لوجه اللّه ، تقدّم موسى (عليه السلام) إلى البئر ، و اتّفق مع أحد الرعاء على أن يستقي له دلواً ، و للرجل دلواً ، حتّى أتمّ عملية السقي .

و انتهت الحادثةُ بهذا النحو .

بعدها تولّى موسى (عليه السلام) إلى الظلّ هرباً من وطأة الحرّ .

ثمّ أحسّ بالجوع الشديد الذي تحدّثنا عنه .

و عندها انطلق بدعائه المعروف: إني لما أنزلت إليّ من خير فقير .

بعد أن اتّجه موسى (عليه السلام) إلى الظلّ من وطأة الحرّ . . . و بعد أن أحسّ بالجوع الشديد . . . و بعد أن هتف بدعائِه المعروف:

﴿إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ

عندها كان ينتظره حَدَث له أهميتُه في تاريخ الأفراد ، نظراً لاتصاله من جانب بأشدّ الدوافع الحيويّة إلحاحاً ، . . . و اتصاله باستمرارية النوع الإنساني من جانب آخر .

إنّه: حَدَثُ الزواج .

بيد أنّ حادثة الزواج لم تنتظره بنحو هادف مقصود من قِبَلِهِ ، بل جاءت متناسقةً مع تلك الأحداث التي رافقت حياته ، منذ أن هربَ من فرعون و بطشه .

فقد انتصر للرجل من شيعته دون أن يهدف لمثل هذا الانتصار ، و حاول في اليوم الثاني أن ينتصر لأحد طرفي المقاتلة أيضاً دون أن يهدف إلى ذلك أيضاً .

و هرب من المدينة دون أن يهدف جهةً معينة ، بل ساقه القَدَر إلى مَدين .

و دخل إلى مَدين دون أن يهدف إلى ممارسة سلوك معين ، بل ساقَه القدر إلى أن ينطلق لمساعدة فتاتين تذودان الماء . . .

و هكذا يواجه موسى (عليه السلام) سلسلةً من الوقائع لم يكن ليستهدفها بأعيانها . . .

لكنّ السماء كانت تُخطّط له جملةً من التجارب في عملية الاختبار الإنساني ، ليمارس موسى (عليه السلام) من خلالها نَمَط الاختيار الذي سيتّجه نحوه .

مُضافاً إلى ذلك فإنّ معطيات السماء كانت تتدفّق على موسى (عليه السلام) بنحو لافت للنظر بدءً من إنقاذه من فرعون في لحظة الميلاد إلى إنقاذه من الغرق ، إلى عودته إلى اُمّه ، إلى إنقاذه من فرعون و هو طفل يعبث بوجه فرعون ، إلى إنقاذه منه في قضية المهاجرة ، إلى إنقاذه منه في قضية قتله لأحد الأقباط ، إلى إنقاذه من المتاه و هو يتوجّه إلى مدين .

و ها هي السماء ترفده بعطاء جديد ، دون أن يبذل موسى (عليه السلام) أيَّ جهد لتحقيقه . . .

إنّه عطاء الزواج الذي سيقترن بعطاء آخر لم يبذل موسى (عليه السلام) أيّ جهد أيضاً لتحقيقه ، و نقصد به إيجاد عمل له يستحصل به الرزق .

و الآن لِنلحظ خطوات هذين العطاءَين: الزواج و العمل و كيفية تحقيقهما .

و لنقف عند الواقعة الاُولى: واقعة الزواج .

﴿فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياء

﴿قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا

بهذه الفقرة القصصية يبدأ الفصل الجديد من القصة ليسرد لنا وقائع و تفصيلات مثيرة تنتظر حياة موسى (عليه السلام) .

ففي زحمة الحرّ الذي تحسّسه موسى (عليه السلام) و هو يُنهي مساعدته لتينك الفتاتين ، و في زحمة الجوع الذي أضمر جسمه . . . في زحام هذا الإحساس بالحرّ و الجوع ، . . . وفي زحام الدعاء الذي توجّه به إلى السماء:

﴿إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِيرٌ

في زحام هذا كلّه جاءته إحدى الفتاتين ، لتخبره أنّ أباها يدعوه ليجزيه أجر العمل الذي قام به .

جاءته هذه الفتاة ، ليُنْتَشَل موسى (عليه السلام) من الحرّ و من الجوع ـ و لا يغب عن بالنا دُعاءه بالانتشال ـ . . . جاءته هذه الفتاة في هذا الوقت بذاته بنحو لم يكن متوقّعاً لا بالنسبة إلى موسى (عليه السلام) و لا بالنسبة لأبيها .

فالنصوص المفسّرة تذكر لنا أنّ بنتي شعيب رجعتا إلى أبيهما مبكّرتين في وقت لم تعتادا الرجوع فيه ، . . . و هذا ما جعل أباهما يتساءل عن السرّ في هذه العودة المبكّرة ، و عندها أخبرتاه بتفاصيل الواقعة .

و حيال هذه المبادرة الخيّرة بعث شعيبُ ابنته الكبيرة إلى موسى (عليه السلام) لمنحه أجراً على تلك المبادرة .

بيد أنّ موسى (عليه السلام) كما تقول النصوص المفسّرة كره هذا العَرض ، لأ نّه تقدّم بالمساعدة لوجه اللّه ، لا يبتغي جزاءً بذلك .

إلاّ أن موسى (عليه السلام) اضطُرّ إلى إجابة الطلب ، نظراً للخوف الذي واكبه ، و هو المهاجر ، الغريب ، الهارب من بطش الطغاة . مضافاً إلى ذلك فإنّه كان في أرض مُسبعة يخشى معها وحوش الحيوان .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ موسى (عليه السلام) عندما اضطُرّ إلى الذهاب مع الفتاة ، كانت الريحُ تضرب بثياب الفتاة ممّا جعله في حرج أخلاقي ، حيث اضطرّه إلى أن يعرض عنها حيناً ، و يغضّ الطرف حيناً آخر ، . . . حتّى انتهى الأمر إلى أن يأمرها بالمشي خلفه ، حتّى يتجنّب النظر إلى ما تكرهه السماء .

* * *

هنا ينبغي أن نلفت الانتباه إلى البُعد الفنّي لهذه الجزئية من الواقعة ، و لجزئية سبقتها ، و هي: مشي الفتاة على استحياء . . .

فالنصوص المفسّرة تذكر لنا أنّ الفتاة كانت من الخَفِراتِ اللواتي لا يُحسِنَّ المشي بين يدي الرجال ، و لا الكلام معهم .

و موسى (عليه السلام) بدوره كان لا يمارس سلوكاً لاترتضيه السماء . و النص القصصي و المفسّر حينما يسرد لنا هاتين الواقعتين في سياق واقعة عامّة ، هي الذهاب إلى شعيب ، إنّما يصوغ القصة وفق مبنىً هندسي يستهدف من خلاله طرح أفكار ضمنيّة داخل هيكل القصة ، بُغية أن نستثمر البُعد الأخلاقي في سلوكنا .

فقد لحظنا توازناً فنّياً بين طرفي الواقعة: موسى (عليه السلام) و الفتاة .

الفتاة: خَفِرة تمشي على استحياء ، و لا تتحدث مع الرجال إلاّ لضرورة .

و موسى (عليه السلام)رجلٌ ملتزمٌ حقاً بمبادئ السماء لا يمشي خلف المرأة و لايتلصّص بالنظر إليها .

إذن طَرَفا الواقعة: الرجل و المرأة ، كلاهما عنصر نظيف في سلوكهما الذي جَمَعتهُ واقعة الاصطحاب إلى شعيب .

و سنرى مُضافاً إلى ذلك أنّ هذا البُعد الأخلاقي الذي استهدفه النص و صاغه وفق مبنىً هندسي خاص خلال القصة ، . . . سنرى أ نّه يمتدّ إلى المواقف اللاحقة في القصة ، مُنمّياً بناءها العضوي ، رابطاً بين أجزائها المتماسكة فكرياً و جمالياً .

* * *

لقد صحب موسى (عليه السلام) الفتاةَ إلى دار أبيها ، كما لحظنا .

و لقد كان موسى (عليه السلام) جائعاً ، كما لحظنا أيضاً .

لكنه ما أن حطّ رحالَه في دار شعيب حتّى كان العشاء مهيّأً .

و مع أنّ موسى (عليه السلام) كان قد توجه إلى السماء «إني لما أنزلتَ إليّ من خير فقير» ،
و حيث كان الجوع قد أضمر جسمه . . .

مع ذلك كلّه ، عندما دعاه شعيب إلى تناول الطعام امتنع عن ذلك .

و لما سأله شعيب عن السبب . أجابه بما مؤدّاه: إنّني لا أريد أن أأخذ عوضاً من السقي ، . . . إنّا من أهل بيت لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملك الأرض ذهباً .

إلاّ أنّ شعيباً استطاع أن يقنع موسى (عليه السلام) و يحمله على تناول الطعام ، . . . عندما أوضح له أنّ الإطعام من عادته و عادة آبائه .

هنا ، لا يغب عن بالنا أن نشير إلى قضية الطعام وصلته ـ فنّياً ـ بدعاء موسى (عليه السلام) عندما تولّى إلى الظل و هو جائع .

و لايغب عن بالنا أيضاً ، صلة هذه السلسلة من الوقائع الأخلاقية بعضها بالآخر ، حينما تصوغها القصة أو النصّ المفسّر في تضاعيف الهيكل القصصي وفق منحىً فنّي خاص يستثمره المُتلقي ليفيد من الأفكار المطروحة داخل القصة . . .

و نحن حين نتابع هذه الحادثة ، سنظفر بمزيد من التلاحم بين أجزاء القصة و إلقاء بعضها الضوء على البعض الآخر ، بحيث تتنامى الأجزاء و يُفضي بعضها إلى الآخر ، و هكذا .

و الآن ماذا يواجهنا من هذا التلاحم الفنّي بين أجزاء القصة ؟

يواجهنا موقفان: أحدهما من قِبَلِ الأب ، و الآخر: مِن قِبَلِ إحدى ابنتيه .

أمّا الأب فقد خاطب موسى (عليه السلام) ـ بعد أن قصّ عليه حكاية لجوئه إلى مدين ـ
خاطب موسى (عليه السلام) قائلا:

﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ

و أمّا الفتاة ، فقد خاطبت أباها قائلة عن موسى (عليه السلام):

﴿يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ

* * *

إنّ موقف شعيب من موسى (عليه السلام) يُلقي إنارة على محور كان ممتدّاً مع امتداد حياة موسى (عليه السلام) في هذه المرحلة التي تحدّثنا القصة عنها ، و نعني بها: مرحلة الخوف الذي واكب موسى (عليه السلام) منذ أن قتل القبطيّ ، و هو خائف يترقّب . و منذ أن حاول ثانية أن يقتل قبطياً آخر ، فخرج خائفاً يترقّب متّجهاً نحو مدين و هو خائف يترقّب .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ قول شعيب لموسى (عليه السلام):

﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ

هذا القول ينطوي من حيث معمارية القصة على وظائف فنّية متنوّعة:

منها: أنّ الخوف الذي كان يواكب موسى (عليه السلام) ـ و هو خوف قد انسرب إلى عدّة أجزاء من القصة ـ قد وَجَد الإجابة عليه في هذا الجزء من القصة ، بحيث تكون الإجابةُ عليه في هذا الجزء إفصاحاً عن تلاحم الأجزاء بعضها بالآخر .

و منها أيضاً: أنّ الإجابة على الخوف الذي واكب موسى (عليه السلام) . . . قد حسمت الموقف ، و وضعت حدّاً لأحد عناصر الحَدَث ، بحيث يُفصح هذا الحسم عن أنّ موسى قد طوى مرحلةً لم يعد لها أثرٌ من الآن فصاعداً ، ألا و هي مرحلة الخوف التي انتهت بالاستقرار عند شعيب ، و بمواجهة الحياة الجديدة التي تنتظره ، و هي حياة الزواج و العمل و الاستقرار و الأمن ، بعد أن كان موسى (عليه السلام) يفتقدها جميعاً في مرحلته التي تحدّثنا عنها .

إذن كان لخطاب شعيب نحو موسى (عليه السلام): ﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ أكثر من وظيفة فنّية من حيث معمارية القصة و جماليتها . من حيث حسمها لمرحلة من حياة موسى (عليه السلام) ، و استقبالها لمرحلة جديدة .

هذا كلّه من حيث عضوية الموقف الذي رسمته القصةُ لدى شعيب .

و أمّا من حيث عضوية الموقف الذي رسمته القصةُ لدى ابنته ، فله حديثٌ آخر .

لقد قالت ابنةُ شعيب لأبيها:

﴿اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ

إنّ هذا الحوار الذي أجرته الفتاة مع أبيها يُلقي بإنارته على الأجزاء السابقة من القصة ، و على الأجزاء اللاحقة بها أيضاً .

إنّ الوظائف الفنّية لهذا الحوار متنوعةٌ ، طريفةٌ ، حيّةٌ حقاً .

فأوّلا: يتضمّن هذا الحوار دعوة إلى مرحلة من الاستقرار لموسى (عليه السلام) ، هي مرحلة العمل استأجره ، و بهذا يكون موسى (عليه السلام) قد ودّع مرحلة قديمة و اتجه إلى مرحلة جديدة .

ثانياً: أنّ عملية الاستئجار سترتبط بعملية الزواج التي سنتحدّث عنها في الجزء اللاحق من القصة و هذا يعني ـ من حيث عنصر الزمان ـ أنّ الحوار تضمّن لحظةَ المستقبل ، بالتهيئة لأكبر حَدَثين لهما خطورتهما في حياة الاستقرار و التوازن:
الزواج و العمل .

و أمّا من حيث اللحظة الحاضرة ، فإنّ الحوار قد استتلى ، أو لنقل: قد أفصح عن رغبة عاجلة من الممكن أن تكون قد خامرت ذهن الأب أو الفتاة فجّرتها هذه المناسبة التي أتاها لقاء الثلاثة .

و هذه هي الوظيفة الثالثة للحوار .

أمّا الوظيفة الرابعة للحوار فتتمثّل في عودتها بالزمن إلى الماضي بعد أن كانت الوظائف الثلاث تتضمّن الحاضر و المستقبل .

فالزمان المرتدّ إلى الماضي يتمثّل في سمتين أشارت الفتاةُ إليهما ، هما:

سمة القوّة و هي ملمحٌ خارجي للبطل .

و سمة الأمانة و هي ملمحٌ داخليٌ للبطل .

و السمتان المذكورتان لحظتهما الفتاة بوضوح في شخصية موسى (عليه السلام) عشيّة استقى من البئر ، . . . و عشية اصطحب الفتاة إلى دار أبيها .

تُرى كيف لحظت الفتاة هذين الملمحين للبطل: الخارجي و الداخلي ؟

ثمّ ما موقعهما من الملامح الاُخرى في شخصية موسى (عليه السلام) ممّا تقدم الحديث عنهما ؟ و ما موقعهما من الأحداث اللاحقة في القصة ؟

إنّ الملمحين اللذين لحظتهما الفتاة في شخصية موسى (عليه السلام): القويّ و الأمين . . .
سيكون لهما ـ مثلما قلنا ـ انعكاسٌ على الاستجابة التي تصدر عن الأب و الفتاة في قضيتي الزوج و العمل .

و كما قلنا أيضاً: فإنّهما يمثّلان انعكاساً لتجربة ماضية . هذه التجربة الماضية تساءل عنها شعيب ، و وجّه في ضوء ذلك سؤالا إلى الفتاة ، قائلا لها بما مؤدّاه: أمّا قوّته فقد عرفتها من خلال رفعه للحجر عن البئر ، و لكن كيف عرفتِ أمانته ؟

فأجابته الفتاة: إنّني عرفت أمانته من خلال سلوكه في الطريق إلى البيت ، حيث قال لي: تأخّري عني ، و دلّيني على الطريق ، فأنا من قوم لا ينظرون إلى أدبار النساء .

و من جديد نلفت الانتباه إلى قيمة هذين الملمحين: الداخلي الأمانةو الخارجي القوّة في شخصية موسى (عليه السلام) و موقعهما العضوي من حيث هيكل القصة .

فالنص يستثمر أكثر من بُعد أخلاقي ، و يخلّله بنحو غير مباشر في جزئيات القصة ، بُغية أن يترك تأثيراً فنّياً أشدّ على المتلقّي ، حينما يجد أنّ البُعد الأخلاقي قد صيغ بنحو غير مباشر في القصة .

فالأمانة جاءت ضمن سلسلة من الوقائع الأخلاقية التي سردها النص في تضاعيف القصة بدءً من عنصر المساعدة التي قدّمها إلى الفتاتين ، مروراً برفضه تناول حتّى الطعام و هو جائع جوعاً شديداً حتّى لا يستلم أجراً على ذلك ، و انتهاءً بعدم قيامه بأ يّة مفارقة اخلاقية و هو يصطحب فتاة بمفردها .

و هذه السلسلة من الأخلاقيات كما كرّرنا ينبغي ألاّ نهملها من حيث البُعد الفنّي عبر صياغتها في جزئيات القصة و ربطها البعض بالآخر .

* * *

أمّا سمة القوّة و هي الملمح الخارجي للبطل ، ففضلا عن أ نّها من الناحية الجمالية تُشبع عند المتلقّي الحاجة إلى الاستطلاع و التعرّف على جوانب البطل ، و فضلا عن أ نّها تعدّ من حيث الأساس سمةً لها قيمتُها في ميدان العمل و إنجازه ، و سمةً لها قيمتها في ميدان البطولة و القتال ، . . . فضلا عن ذلك كلّه فإنّ هذه السمة لم تُصغ منفصلةً عن السمة الأخلاقية .

فالبطولة بلا أخلاق لا تعني شيئاً ، كما هو واضح .

من هنا جاءت سمة القوّة متآزرة مع الأمانة رسماً للبطل في استقطابه لجوانب الشخصية المتكاملة ، و هو أمرٌ يضيف إلى جمالية القصة عنصراً آخر يزيد من تذوّقنا لها .

هذا إلى أنّ سمة القوّة و الأمانة ستضيفان من جديد عنصراً جديداً إلى المبنى الفنّي للقصة من حيث انعكاسهما على الحياة الجديدة لبطل القصة: حياة الزواج و العمل .

ففضلا عن أنّهما سيشجّعان على التقدّم إلى البطل بالزواج و ملحقاته ، . . . فإنّهما سيتركان أثراً على نوع العمل الذي سيواجه موسى (عليه السلام) و هو يُقبل على حياته الجديدة .

و يمكننا ملاحظة ذلك كلّه في هذا الاقتراح الجديد من قِبَل شُعيب ، و في مُلحقات هذا الاقتراح .

و الآن ما هو الاقتراح الذي قدّمه شعيب لموسى (عليه السلام) ؟

﴿قالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ

﴿عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ

﴿وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ

وأما موسى (عليه السلام) :

﴿قالَ: ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الأَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ

﴿وَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ

و هكذا تُطِلُّ مرحلة جديدة على حياة موسى (عليه السلام) حياة الزواج من حيث لا يحتسب ، و ينبغي ألاّ تغيب عن بالنا سلسلة العطاءات التي أجرتها السماء على موسى (عليه السلام) في زحام الوقائع التي واكبت حياته منذ الميلاد ، ثمّ تتويجها بهذا العطاء الجديد ، وصلة ذلك بأحد الأعصبة الفنّية التي تمدّ هيكل القصة: عصب العطاء المتدفّق .

المهم أنّ هذه الحياة الجديدة التي اقترنت بالزواج أوّلا ، ثمّ بإيجاد عمل و هذا معطىً آخر يُضاف إلى السلسلة المتقدّمة . . .

هذه الحياة التي بدأها موسى (عليه السلام) قد ربَطَها النص من جديد بأحد الأعصبة الفنّية التي تمدّ هيكل القصة ، و هو عصب الأخلاقية عند موسى (عليه السلام) ، تلك الأخلاقية التي فصّلنا الحديث عنها ، و منها: الأمانة ، و المساعدة ، و العمل للّه . . . أقول: لايزال النصُ يربط فنّياً بين جزئيات القصة ، مشدّداً من جديد على عصبها الأخلاقي ، حيث تقدّم لنا بمظهر أخلاقي جديد ، هو نمط التعامل عند موسى (عليه السلام)و عند شعيب أيضاً .

و لا يغب عن بالنا ، أنّ النص في موقع متقدّم من القصة وازَنَ بين موسى (عليه السلام)و ابنة شعيب و خضوعهما لأخلاقية عالية في السلوك .

هنا يوازن النص بين موسى (عليه السلام) و بين شعيب في هذه الجزئية من القصة ، و التوازن الهندسي في هذا الصدد واضحٌ لا يحتاج إلى تعقيب من حيث جمالية الهيكل القصصي .

و تتمثّل أخلاقيةُ شعيب في أنّ مطالبته باتمام العَشْر ، علّقها على محض الرغبة من قبل موسى (عليه السلام) ، كما تتمثّل في تأكيده القول الآتي:

﴿وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ

و أمّا أخلاقية موسى (عليه السلام) ، فتتمثّل في اُسلوب له معطياته النفسيّة الكبيرة في التعامل مع الآخرين و انعكاساتها على طبيعة الاستجابة التي ستتحدّد عند الآخرين ، و هم يواجهون هذا التعامل .

فموسى (عليه السلام) قال لشعيب في بادئ الأمر: «أيّما الأجلين قضيتُ ، فلا عدوان عليّ» .
و هذا يعني أ نّه لم يحدّد لشعيب فيما إذا يقضي ثماني سنين أو عشراً . و مبدأ الالتزام بالصدق يجسّد ذورة أخلاقية كما هو واضح .

و الذي حَدَث بعد ذلك ، أنّ موسى (عليه السلام) قضى أبعد الأجلين ، و هو عشر سنين .
و القيمةُ النفسيّةُ لهذا السلوك تتمثّل في أ نّه أبهم الأجلين ، و قضى أبعدهما ، أي أ نّه قدّم أكبر العطاءين حجماً .

و واضح أ نّك عندما تَعِدُ أحداً بعطاء ، ثمّ تقدّم له أقصى ما يحتسب و ليس أدناه ، فإنّك بمثل هذا السلوك تضخّم من الاستجابة المفرحة للشخص ، بعكس ما لو قدّمت أقلّ العطاءين .

و المهمّ أنّ هذه الأخلاقية تظلّ امتداداً للعصب الأخلاقي في القصة ، يُلقي بعضُه الإنارة على البعض الآخر .

و هكذا سائر الأعصبة الفنّية في القصة ، حيث لحظنا قيمة الحوار لابنة شعيب و انعكاسه على أزمنة الحدث: ماضياً و حاضراً و مستقبلا . و لحظنا مفردات السلوك عند موسى (عليه السلام) وصلتها جميعاً بماضي حياته و حاضرها و مستقبلها:

مثل عصب الخوف ، و انتهائه إلى الاطمئنان ، وعصب المساعدة: الانتصار للرجل ، و المساعدة للفتاتين . . .

وعصب المهاجرة: من فرعون ، إلى منوف ، إلى مَدين . . . إلى آخره .

و هكذا سائر الجزئيات التي تلاحمت في القصة و تنامت بشكل هندسي جميل بدأت منذ لحظة الميلاد ، و انتهت عند الحياة الزوجية وحياة العمل .

أخيراً ، لامناص من الإشارة إلى أنّ هذه القصة بشخوصها ومواقفهم ، وحوادثها وبيئاتها المتنوعة ، تظلّ في المقدّمة من قصص موسى الحافلة بما هو مثير وطريف ، فضلاً عن بنائها الفنّي الممتع بالنحو الذي لاحظناه .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page