و لنقرأ النص:
﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِين وَ شِمال﴾
﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ﴾
هكذا تبدأ اُقصوصة سبأ أو البلدة الطيّبة ، تبدأ برسم بيئة ذات صلة بأقوام اُتيحت لهم أرضٌ زراعيّة ملأى بالخصب و الثمر و الجمال .
و يُلاحَظ من هذه البداية القصصية أنّها تُشدّد على عطاء يزاوج بين الطعامو الجمال .
و واضحٌ أنّ هاتين الحاجتين تـتصلان بأشدّ الدوافع إلحاحاً عند الكائن الآدمي .
أمّا الحاجة إلى الطعام فلا تحتاج إلى تعقيب .
و أمّا الحسُّ الجمالي فإنّه واحدٌ من الحاجات الحيويّة التي تحقّق للكائن الآدمي توازُنَه الداخلي حينما يُتاح لها إشباعٌ ثرّ ، من نحو ما يحقّقه المرأى الطبيعي من ماء و شجر و ثمر و نحوه ، بما تنطوي عليه هذه المشاهد من خصائص جمالية و بما تنطوي عليه أشكالُ التناسق بين المَرَائي المذكورةِ من خصائص جمالية أيضاً .
إنّ إشباع تينك الحاجتين الحيويتين بما يستتليه من توازن داخلي للشخصيّة ، ينبغي أن لا نفصله عن العطاء الذي رسمته البدايةُ القصصيةُ ، مصحوباً بجملة من الظواهر ، هي: الشكر للّه ، و التذكر بأنه غافرٌ للذنوب ، فضلا عن التذكير بأنّ البيئةالمذكورة هي: «بلدةٌ طيّبة» .
و لنقرأ من جديد:
﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ﴾
و نكرّر من جديد بأنّ هدفنا من الاُقصوصة هو توضيح خصائصها الجمالية و الفكرية .
و إذا أدركنا أنّ الخصيصة الفكرية تتمثّل في عملية الشكر للسماء ، مصحوبة بتذكّر المغفرة أيضاً ، . . . أمكننا حينئذ أن نستجلي خصائص القيم الفنّية لهذه البداية في الاُقصوصة .
فبداية الرسم القصصي تتحدّث عن جنّتين ، أي مزرعتين عن يمين البلد و شماله . و مجرّد مواجهتنا لمثل هذا المرأى الطبيعي من الممكن أن يحدّد استجابتنا في البُعد الجمالي للمرأى أو المنظر المذكور ، و بخاصة أنّ الرسم حدّد اليمين و الشمال من البلدة التي تقع المزرعتان فيها . ممّا يعني أننا حيال مرأىً جميل يُشبع حاجتنا إلى ما هو متناسقٌ ، و حيٌّ من الظواهر .
بيد أنّ الرسم القصصي سرعان ما ينعطف بنا نحو قيم فكرية ، عندما يوجّه حواراً من السماء إلى القوم الذين تضمّهم هذه الأرضُ الجميلة ، بقوله:
﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ . . .﴾
إذن ثمة قيمة فنّية و قيمٌ فكرية تضمّنتها بدايةُ الاُقصوصة ، يتحتّم أن نوازن بينهما في عملية الرسم القصصي للبداية المذكورة .
* * *
إنّ أهمّ ما يمكن استخلاصه ـ فنّياً ـ في هذه البداية القصصية ، هو ملاحظة الجانب المتصل باشباع الحاجة الحيوية الطعام ، و ملاحظة الجانب المتصل باشباع الحاجة الحسيّة الجمال .
أمّا الحاجة الحيوية فإنّ فقرة كُلوا تفصح عنها بوضوح ، كما أنّ فقره عن يمين و شمال تفصح عن الحاجة الحسيّة ، في حين أنّ فقرة بلدة طيّبة تفصح عن الحاجتين معاً .
و المتلقّي مدعوٌّ لأن يتأمّل بدقة هذا البناء الهندسي لبداية الاُقصوصة ، ليس من خلال تضمّنها للبُعدين الحسي و الحيوي من الحاجات فحسب ، بل من خلال تنظيم البعدين المذكورين و توشيجهما في عملية الاستجابة أيضاً .
إنّ العبارة القصصية ﴿بلدةٌ طيّبة﴾ تواشجُ بين البُعدين المذكورين: الحسي و الحيوي: الجمال الطبيعي و الطعام ، إنّها تواشجُ بينهما بعد أن تفردهما أوّلا على حدة ، حيث توضّح أنّ المزرعتين عن يمين البلد و شماله البُعد الحسي ، و حيث توضح أنّهما حافلتان بالرزق ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾ . . . ثمّ تجمعها في عطاء واحد هو «بلدةٌ طيبة» ، حيث أنّ الطيب يشمل كلاّ من البُعدين المذكورين ، كما هو واضح .
و هذا كله من حيث المبنى الهندسي لصياغة العبارة القصصية .
بيد أنّ ما يعنينا ـ من ثمّ ـ هو صلة الجانب الفنّي بالجانب الفكري من الاُقصوصة .
ترى: كيف تمّ صياغة ذلك ؟
قلنا: إنّ البداية القصصية سرعان ما ربطت بين إشباع الحاجتين المذكورتين الرزق و الجمال ، و بين ظاهرة الشكر للّه ، كما أنّها ربطت ذلك بتذكير القوم بأنّ اللّه غفورٌأيضاً .
و السؤال هو:
ما الذي يمكننا أن نستخلصه من رسم ظاهرتي الشكر و الغفران في هذه البداية القصصية ؟
ممّا لا شك فيه أنّ الشكر من الممكن أن يتبيّنه المتلقّي بوضوح ، حينما يضع في الاعتبار أنّ السماء تطلب من القوم أن يقدّروا هذا العطاء الذي أغدقته السماءُ عليهم .
غير أنّ ظاهرة الغفران من الممكن أن يقف المتلقّي حيالها بنحو من الاستجابة الغامضة ، فيما يتساءل:
ما المقصود من الغفران ؟
هل إنّ القصّة ستتناول لاحقاً مصائر شخوص يشملهم الغفران ، ممّا يعني أنّهم مارسوا مفارقات أعقبها الندم بحيث تغفرها السماء في نهاية المطاف ؟
إنّ متابعة القصة حتّى نهايتها ، لاتفصح عن أنّ الندم قد غلّف شخوص القوم ، إلاّ إذا افترضنا أنّ البعض منهم قد ندم فعلا ، أو أنّه منذ البداية لم يقم بمفارقة ما ، فيما يترتّب على ذلك أن تظلّ المغفرة من نصيب هذا البعض .
و لعل بعض الفقرات القصصية التي سنواجهها لاحقاً ، تفصح عن ذلك بشكل أو بآخر .
لكن المتلقّي بالرغم من ذلك سيظل حيال استجابة فنّية موشحة بأكثر من استخلاص كما سنرى في مواجهته لظاهرة الغفران وصلتها بظاهرة الشكر ، ثمّ صلتهما الشكر و الغفران بأحداث القصة التي نبدأ بمتابعتها .
لقد رسم النصُّ في البداية القصصية لحكاية سبأ أو البلدة الطيّبة المعطى الزراعي و الجمالي لمدينة سبأ ، مرتبطاً بالشكر و بالغفران كما لحظنا .
و الآن فإنّ التفسير الفنّي لهذه البداية القصصية ، يعني أنّ كلاّ من الظواهر الأربع التي تضمنتها البداية ، لابدّ أن تتنامى و تتطوّر بحيث تعكس آثارها على الاجزاء اللاحقة من الاُقصوصة .
و الظواهر الأربع هي ـ كما لحظنا ـ : المعطى الزراعي ، و المعطى الجمالي للمدينة ، ثمّ صلتهما بظاهرة الشكر للّه على المُعطيين المذكورين ، و بظاهرة غفران السماء .
هذه الظواهر الأربع: الرزق ، الجمال ، الشكر ، الغفران ، هي الظواهر التي نتوقع ـ فنّياً ـ أن تتطوّر و تتنامى من خلال ما نواجهه من أحداث و مواقف في القصة .
و الآن ، ما هي الأحداث التي رسمها القسمُ الأوّل من الاُقصوصة ؟
بدأ القسم الأوّل من الاُقصوصة على النحو الآتي:
يقول النص عن أقوام سبأ:
﴿فَأَعْرَضُوا﴾
و هذا هو ردّ الفعل ، أو الاستجابة التي صدرت عن هؤلاء الأقوام حيال المعطى الذي أغدقته السماء عليهم . إنّهم أعرضوا عن ذلك المعطى و لم يشكروا السماء عليه .
إذن ظاهرة الشكر التي طرحتها البدايةُ القصصية عكست فاعليتها في القسم الأوّل من الاُقصوصة ، بحيث تجسّدت عملا سلبياً على العكس ممّا ينبغي أن يسلكه القوم حيال عطاءات السماء .
فالسماء طالبتهم بأن يشكروا اللّه على العطاءات المذكورة ، لكن القوم أعرضواعن ذلك بدلا من الشكر .
و الآن قد أعرض القومُ عن ذلك ، فماذا نتوقّع من السماء حيال الإعراض المذكور ؟
القسم الثاني من الاُقصوصة هو الذي يتكفّل ـ فنّياً ـ بالإجابة على السؤال المذكور .
* * *
يبدأ القسم الثاني من الاُقصوصة برسم الأحداث التي ترتّبت على إعراض القوم عن شكرهم للسماء .
و ها هو النصّ يرسم نتائج الإعراض المذكور:
﴿فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾
﴿ذَواتَيْ أُكُل خَمْط وَ أَثْل وَ شَيْء مِنْ سِدْر قَلِيل﴾
إنّها أحداث خطيرةٌ كلّ الخطورة دون أدنى شك .
فبعد أن كانت هذه المدينة الجمالية ـ كما يصفها النص القرآني و نصوص التفسير ـ ذات مزرعتين عن يمين البلد و شماله ، و بعد أن كانت المزرعتان تمطران بالرزق الضخم على نحو تسرده نصوص التفسير من أنّ المرأة مثلا عندما كانت تمشي و المكتل على رأسها ، فإنّ المكتل يمتلئ بالفواكه من غير أن تمسّ يدها شيئاً من ذلك .
و بعد أن كانت هذه المدينة سالمةً من أيّة آفة ، أو أذىً يمسّ شخوصها على نحو لم يدبّ فيها حتّى البعوض و الذباب و الهوام التي تواكب ـ عادة ـ المناطق الزراعية . و بعد أن كان التفافُ الشجر حولَها على نحو لم تمسّها الشمسُ ، . . . بعد أن كان ذلك كلّه ، إذا بالمزرعتين المذكورتين تتحوّلان إلى نمط آخر ، بعد أن يسبق ذلك حَدَثٌ خطيرٌ هو:
﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾
هذا الحدث توضّحه النصوصُ المفسّرة من أنّ أرض سبأ كان الماءُ يأتي إليها من أودية اليمن ، و كان ثمة جبلان يجتمع الماء عندهما ، . . . قد سُدّ ما بين الجبلين ، بحيث كانوا يبقونه عند الحاجة لسقي مزارعهم .
و تقول بعض النصوص المفسّرة: إنّ سليمان (عليه السلام) كان قد أجرى خليجاً و مجاري و ردماً من الصخر و الكلس ، . . فيما استُخدم للغرض الزراعي المذكور .
و المهم أنّ المعطيات المذكورة جميعاً ، قد اكتسحها حَدَثٌ خطير هو: أنّ الجرذ نقبت السدّ الذي لم يستطع الرجال قَلعَ صخوره ، ففاض الماءُ على المدينة حتّى خرّبها و اتلف مزارعها ، حتّى أنّهم هربوا من المدينة نتيجة للسيل المذكور .
و هذا هو الحدث الأوّل .
* * *
أمّا الحَدَث الثاني ، فقد اتجه إلى المزرعتين ذاتهما ، حيث بُدّلتا بمزرعتين ذواتي اُكُل خمط و أثل و شيء من سدر قليل .
و حين نتّجه إلى النصوص المفسّرة التي ترسم معالم هذا التغيّر ، نجد أنّ المعالم تُحسّس المتلقّي بالوحشة التي تغمر المرأى بعد ذلك الخصب و الغنى .
لقد بُدّل الثمرُ بالشوكِ ، و الإخضرارُ باليَبَسِ ، و القطافُ الثرُّ بشيء قليل من السدرِ فحسب .
و هكذا تغيّرت ملامح المدينة و المزرعة بعد ذلك العطاء الضخم الذي لحظناه .
اُولئك جميعاً تجيء نتيجة لعدم الشكر ، نتيجة لتكذيبهم رسل السماء .
إذن السيلُ العرمِ ، و إبدال الجنّتين يشكّلان حَدَثاً متطوّراً أو متنامياً من موقف سلبيٍّ صدر عن القوم حيال السماء: إنّه عدم الشكر الذي مهّدت له بداية الاُقصوصة ، حينما طالبت بأن يشكر القومُ السماء على معطياتها: معطى الطعام ، و معطى الجمال .
أمّا الطعام فقد بُدّل ، بل قد تلف إلاّ القليل من السدر الذي لا يغني . و أمّا الجمالفقد تحوّل إلى وحشة إلى خمْط و أثْل ، إلى شوك و يَبَس ، إلى مزرعة قاحلة .
* * *
و يجيء القسمُ الثالث من الاُقصوصة مؤكّداً من خلال عنصر التكرار أسباب التحوّل الجديد:
﴿ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا . . .﴾
و للمرّة الجديدة يؤكّد النص القصصي أنّ عدم الشكر أو الكفران بالنعم يجيء سبباً مباشراً لعملية التحوّل المذكورة .
و مع هذا التكرار يرسمُ النصُّ تفصيلات جديدة لم تتضمّنها البداية القصصية .
البداية القصصية لم تتحدّث كما لحظنا ، إلاّ عن الرزق بعامة ، و إلاّ عن الجمالالمتمثّل في البناء المعماري للمزرعتين .
أمّا التفصيل الجديد الذي ينهض به القسمُ الثالث من الاُقصوصة ، فإنّه يتناول أبعاداً اُخرى من المعطى المادي و الجمالي ، من المعطى الحيوي الطعام و المعطى الحسّي الجمال ، على النحو الآتي:
﴿وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً﴾
﴿وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيّاماً آمِنِينَ﴾
﴿فَقالُوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ﴾
﴿وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيات لِكُلِّ صَبّار شَكُور﴾
إنّ هذه التفصيلات الجديدة تتضمّن مبنىً هندسياً و فكرياً ينبغي أن نقف عنده مفصّلا و نصل بينه ومن ثمّ و بين الأحداث السابقة .
يقوم البناءُ الهندسي لاُقصوصة سبأ أو البلدة الطيّبة على شطرين من الحركة:
الأوّل منها: يتحدّث عن الجنّتين و موقعهما الجمالي و مصيرهما البائس نتيجة لعدم الشكر . و كانت حركة الاُقصوصة داخل سبأ ذاتها . و قد تقدّم الحديث عن ذلك مفصلا .
أمّا الشطر الثاني من الاُقصوصة فيتحدّث عن الحركة خارج سبأ:
﴿وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً﴾
كان الشطر الأوّل من الاُقصوصة يتحرّك ضمن أسوار المدينة ، بما تتضمّنها المدينة من مُعطيات .
أمّا الشطر الثاني فيعبر أسوار المدينة ، ليصل بينها و بين بلاد اُخرى ، متحدّثاً أيضاً عن المعطيات التي اغدقتها السماء على أقوام سبأ في أسفارهم و تجارتهم .
و قبل أن نتحدّث مفصلا عن هذا الشطر من الاُقصوصة ينبغي أن نلفت الانتباه إلى البناء الهندسي لها بعامّة ، بغية الوقوف على الأسرار الفنّية لانشطار الاُقصوصة داخل حركتين: المدينة و خارجها .
إنّ المتلقّي بمقدوره أن يثير أكثر من تساؤل عن السرّ الفنّي لهذا الرسم .
فالمُلاحظ أنّ الشطر الأوّل من الاُقصوصة رسَمَ المزرعتين و ما فيهما من النِعَم ، ثمّ رسم عدم الشكر على النعم المذكورة ، و ما استتلاه من إبادة النعم .
و الشطر الثاني من الاُقصوصة يتحدّث أيضاً عن النعم و كفران القوم بها ، و ما استتلاه من إبادة النعم .
و السؤال هو:
إنّ الاُقصوصة كان من الممكن أن تتحدّث عن النعم داخل سبأ و خارج أسوارها دُفعةً واحدة ، ثمّ تتحدّث عن إبادة النعم دفعة واحدة أيضاً مادام الأمر في الحالتين يتصل بالقوم أنفسهم ، و بالنِعَمِ عليهم ، و تمرّدهم على النِعَمِ المذكورة .
فلماذا شطرت ذلك قسمين ؟ بحيث تحدّثت مرتين عن النعم ، و مرتين عن الإبادة .
و بكلمة جديدة:
لماذا قطعت الاُقصوصةُ الحوادثَ و البيئات و المواقف ، ثمّ وصلت بينها ؟
لماذا أنهت الشطر الأوّل من الحوادث بإبادة الجنّتين ، و الشطر الآخر منها بإبادتهم ، أو بتمزيقهم ؟
إنّ الإجابة على السؤال المتقدّم تتضح تماماً حين نضع في الاعتبار أكثر من مسوّغ جمالي و فكري للتقطيع المذكور .
فأوّلا: أنّ طبيعة التحرّك داخلا و خارجاً يتطلّب شطره إلى شريحتين: فالمقيم أو الحاضر داخل المدينة متميّزٌ عن المُسافر خارج أسوارها .
و إذا كان المقيم عادة تتاح له إشباعات خاصة ، فإنّ المسافر قد لا يُتاح له ذلك .
إنّ الفارق كبيرٌ بين مقيم داخل مزرعتين محفوفتين بكلّ أنماط الإشباع ، و بين مسافر قد يواجه صحارى و منازلَ و متاعبَ تفرضها عملية السفر ، و تبعاً لوجود مثل هذه الفارقية بين المقيم و المسافر ، فإنّ شطر الحركة القصصية إلى قسمين ، يظلّ أمراً له مسوّغاته الهندسية و الفكرية .
ثانياً: بالرغم من وجود الفارقية بين المقيم و المسافر ، فإنّ الاُقصوصة في صدد تبيين النِعَم الضخمة على القوم ، . . . حتّى أنّ النِعَم كانت من التنوّع و الضخامة إلى الدرجة التي هيّأتها السماء حتّى للمسافر من هؤلاء القوم .
و من الواضح ، أنّ تبيين ضخامة النِعَم حتّى على المسافر الذي لا تتوفّر له عادة نِعَمُ الإقامة ، يتطلّب فرزها على حدة ، و تخصيص قسم لها يتواسق و خصوصية النعم التي هيّأتها السماء لهؤلاء القوم .
إذن خصوصية النِعم تناسقت مع خصوصية الشطر القصصي لها .
و هذا هو المسوّغ الثاني هندسياً و فكرياً لتقطيع الأحداث و البيئات و المواقف .
ثالثاً: يترتّب على ذلك أنّ المصائر الدنيوية التي لحقت هؤلاء القوم ستُفرز أيضاً ضمن شطرين يتناسبان مع سلوكهم من جانب ، و مع الفارقية التي تفرز المسافر عن المقيم من جانب ثان .
و يمكننا ملاحظة ذلك بوضوح حينما نجد أنّ المصير الدنيوي في الشطر الأوّل من القصة كان ناجماً ـ كما هو ظاهر نصوص التفسير ـ من تكذيبهم الرسل ، مضافاً إلى عدم شكرهم للمعطيات الحيوية و الجمالية التي تفرزها المزرعتان .
أمّا الشطر الآخر من القصة ـ كما سنرى ـ فإنّه ناجم عن الترف الذي طالب القوم باستبداله .
و بكلمة جديدة:
إنّ نِعَمِ المدينة لم يصاحبها شكرٌ على وجودها . أمّا نِعَمِ الأسفار فقد صاحبها اقتراحٌ باستبدالها و الفارق كبيرٌ بين الاستجابتين:
الاستجابة الاُولى: إقرار بالنعم دون أن يصحبها شكر .
الاستجابة الثانية: عدم الإقرار بها أساساً .
و مثل هذه الفارقية تتطلب فرز قسم قصصي لها كما هو واضح .
إذن للمرة الثالثة تتضح أمامنا جملة من المسوّغات الفنّية و الفكرية لشطر الاُقصوصة قسمين تتقطع الأحداث و البيئات و المواقف خلالهما ، و توصل بنحو فنّي ، يُشيع فضلا عن الإمتاع الجمالي إمتاعاً فكرياً قائماً على فرز مفردات السلوك الذي صدر عن القوم ، و مفردات النعم التي اُتيحت لهم ، و المصائر التي انتهوا إليها .
هذا ، و ينبغي ألاّ يغيب عن بالنا أنّ المصائر الدنيوية لهؤلاء القوم قد اُفرزت بدورها ، بحيث كان المصير الأوّل لهم هو: إبادة الجنّتين ، . . . بينما كان المصير الآخر ـ كما سنرى ـ هو تمزيقهم كلّ ممزّق .
و هذا يعني أنّ المصير الأوّل متميّزٌ عن المصير الثاني ، و هذا التميّز يفرض شطر الاُقصوصة هندسياً و فكرياً إلى قسميها اللذين تحدّثنا عنهما .
و بعامّة فإنّ المسوّغات الفنّية و الفكرية الأربعةَ المذكورة تفسّر لنا أهمية البناء الهندسي الذي قامت الاُقصوصة عليه .
إنّه بناءٌ عماريٌّ مُمتعٌ ، قد لا يعيه متذوّقٌ عاديٌ ، لكنه يتحسّسه دون أن يُدرك السرّ الفنّي وراء ذلك .
بيد أنّ الذي خَبُرَ تذوّق القصص ، أو الفنّ بعامّة بمقدوره أن يستخلص الدلالات الفنّية لهذا النمط من بناء القصة ، بما يواكب ذلك من إمتاع جمالي و إمتاع فكري قد استهدفته القصة وراء صياغتها بالنحو المذكور .
خلاصة الاُقصوصة
قلنا: إنّ سورة «سبأ» تتضمّن ثلاث حكايات أو أقاصيص هي: داود ، سليمان ، سبأ .
و قد انتهينا من قصة سبأ، أي قصة البلدة الطيّبة، فيما رأينا أنّها حامت على عطاء اللّه الذي أمدّ المدينة بالمزرعتين الجميلتين ، و بالمواصلات التي تربط بين المدينة و البلدان الاُخرى ، حيث كانوا يسيرون فيها ليالي و أيّاماً آمنين .
لكن القوم بطروا ، فلم يشكروا السماء على الرزق الذي أغدقتهم عليه ، و لم يقدّروا نعمة المواصلات بينهم و بين الشام ، حتّى طالبوا باستبدال الراحة تعباً . ثمّ جاءت الخاتمة إرسال السيل العرم عليهم و تمزيقهم جزاء لكفرانهم بالنعم المذكورة .