• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة سبأ : اُقصوصتا داود وسليمان (عليهما السلام)

 تمهيد

و حين نتّجه إلى الاُقصوصتين الاُخريين: داود و سليمان نجد أنّهما تحومان على عطاء اللّه أيضاً ، لكنهما من خلال طرح آخر ، أو بالاُحرى ليس من خلال الكفران بالنعم ، بل من خلال عملية منح العطاء ذاته بما ينطوي عليه من ضخامة تتجاوز المألوف و الاعتيادي من العطاء .

و بالرغم من أنّ العطاء الذي شمل مدينة سبأ يظلّ مطبوعاً بسمة غير المألوف و غير الاعتيادي بصفة أنّ المزرعتين و المواصلات بين المدينة سبأ و بين الشام ، يشكّلان عطاءً خاصاً متميّزاً لأهالي سبأ ، . . . إلاّ أنّ هذه السمة لا تتجاوز غير المألوف إلى ما هو معجزٌ ، بل تتجاوز غير المألوف إلى ما هو خاص و متميّز .

و المهمّ أنّ خصوصيّة العطاء و تميُّزه تظلّ منسحبةً من حيث البناء الهندسي للحكايات الثلاث على الحكايات جميعاً ، لكنها ـ أي الخصوصية ـ تتجاوز ذلك إلى حجم أكبر يتّسم بــ المعجز في اُقصوصتي داود و سليمان بنحو يتناسب مع خصوصية و تميّز البطلين: داود و سليمان من حيث سمة النبوّة التي تطبع البطلين المذكورين ، فيما تشكّل هذه الخصوصية بُعداً هندسياً آخر يُساهم في جمالية الأقاصيص من حيث البناء الفنّي لها .

على أ يّة حال فإنّ أوّل الأقاصيص التي بدأتها سورة «سبأ» ، هي اُقصوصة داود (عليه السلام) .

و هذه الاُقصوصة من حيث الحجم لا تتجاوز آيتين فحسب ، أمّا اُقصوصة سليمان فلم تتجاوز ثلاث آيات ، في حين كانت اُقصوصة سبأ أو البلدة الطيّبة خمس آيات ... وهذا يعني ـ كما أشرنا ـ أنّ الأقاصيص أو جميعاً تتّسم بحجم صغير يتساوق و مصطلح الحكاية ، كما أنّها تدرّجت من حيث تسلسلها: من الحجم الصغير إلى الأكبر منه ، مع ملاحظة أنّ خضوعها لحجم الاُقصوصة أو الحكاية من جانب و للتدرّج من جانب آخر يُساهم في إكسابها بناءً هندسياً له إمتاعُه الفنّي الكبير ، كما هو واضح .

 

حكاية داود (عليه السلام)

و يهمّنا الآن أن نبدأ بحكاية أو اُقصوصة داود التي لم تتجاوز آيتين سَرَدَهما النصُّ على النحو الآتي:

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً)

﴿يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ)

﴿وَ أَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ)

﴿أَنِ اعْمَلْ سابِغات وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ)

﴿وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

و يُلاحظ بوضوح أ نّ الحكاية تتضمّن حدثين أو أكثر ، تتّسم جميعاً بطابع المعجز .

و يُلاحظ ثانياً أنّ الحكاية تتحرّك في بيئة إنسانية ، و حيوانية ، و صناعية ، و طبيعية .

و يُلاحَظ ثالثاً أن البيئات الثلاث: الإنسانية ، و الحيوانية ، و الطبيعية ، قد اكتسبت طابعاً حركياً أو فلنقل: طابع الشخوص الذين يمارسون سلوكاً واعياً .و يُلاحظ رابعاً أنّ البيئات المذكورة أو الشخوص وُظّفت بأكملها لإلقاء الإنارة على بطل رئيسي واحد هو داود (عليه السلام) .

و لنبدأ بتوضيح هذه المَلاحِظِ الأربعة و الصياغة الفنّية لها .

* * *

من حيث الحدث ، فإنّ طابع الإعجاز يسم كلاّ من الجبال ، و الطير ، و الحديد .
فالحكاية تبدأ بطرح قضية العطاء الذي يُشكّل فكرة تتخلّل الحكايات الثلاث داود ، سليمان ، سبأ . إنّها ـ أي الحكاية ـ تحدّد بوضوح عطاء اللّه لداود (عليه السلام):

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً)

ثمّ تتقدّم بعَرْض مستويات العطاء المذكور بادئة بالحادث المُعجز و هو تسبيح الجبال ثمّ الطير .

﴿يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ)

و يُلاحظ من حيث لغةِ الحكاية أن عَرض العطاء لم يُصغ من خلال السرد ، بل من خلال الحوار:

﴿يا جِبالُ أَوِّبِي . . .)

و يُلاحَظ أيضاً أنّ الحوار قد صِيغَ اُحاديَّ الطَرَف ، و إلى أنّه خطابٌ وجّهته السماء
إلى الجبال ، أمرتها أن تسبّح مع داود .

و يعنينا الآن أن نوضّح الأسرار الفنّية لصياغة التسبيح حواراً بدلا من السرد فيما يتصل بالجبال . مثلما يعنينا أن نتعرّف على الطير من حيث صياغته حواراً أيضاً ، أو احتمال كونه سرداً ، ثمّ ما يواكب ذلك من دلالات فنّية لصياغة الموقف حواراً أو سرداً .

و من البيّن أنّ السماء لم تصغ فيما يتصل بالطير حواراً مماثلا للجبال ﴿يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ) ، بل عطفت و الطير على الجبال ، فيما يمكننا أن نستكشف إحتمالين فنيّين .

إنّه من الممكن ـ كما لاحظ بعضُ النُحاة ـ أن تكون الطير معطوفة على الجبال ، بحيث تصبح حواراً .

و من الممكن ـ كما لاحظ البعضُ أيضاً ـ أن تكون بمعنى سخّرنا ، فتكون سرداً .

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ الحوار فيما يتصل بظاهرة الجبل ينطوي على دلالة فنّية أشدّ فاعلية من السرد مادام الأمر متصلا ببيئة طبيعية هي الجبال ، فيما لم يُعهد منها الوعيُ فضلا عن النطق .

من هنا فإنّ أيّة صياغة لتسخيرها و جعلِها متجاوبةً مع داود (عليه السلام) ستأخذ فاعلية أشدّ حينما يُخلع عليها طابع الوعي و النطق ، مُقترنَين بخطاب موجّه إليها ، أي:
بحوارمن السماء يتّجه إلى الجبال .

و إذا أدركنا أنّ الفارق بين الطير و الجبل ، أنّ الأوّل منهما يحمل خصّيصتين لم يحملهما الآخر و نعني: الوعي و اللغة الحيوانيين ، أمكننا حينئذ أن نتبيّن سرّ الخطاب الموجّه إلى موجودات تفتقر إلى الوعي و اللغة بحيث يحملنا ذلك على استكشاف القيمةَ العظيمةَ لعطاء اللّه ، فيما بلغت الدرجة التي جعل من خلالها أن يعيَ الجبل ، و أن يُسبّح أو أن يرجّع التسبيحَ ، على الأقل من خلال نمط العناية الالهيّة التي وجّهت خطاباً مباشراً إلى الجبال بدلا من مجرّد تسخيرها بشكل غير مباشر ، . . . ممّا نستشف من خلاله أنّ العناية أو الفضل كان من الخطورة بنحو: خلَع اللّه على الجبال وعياً ، ثمّ أضاف إلى ذلك فضلا آخر ، هو أ نّه وجّه إليها خطاباً مباشراً للتدليل على درجة الاهتمام بالموقف الذي كان من الممكن أن يتمّ التسخير من خلاله بنحو غير مباشر .

إذن خطورة الحوار تتّضح تماماً من حيث الخصائص الفنّية التي تشكّل مسوّغاً لصياغته بهذا الشكل بدلا من مجرّد السرد .

* * *

لحظنا أنّ الإعجاز هو السمة التي رافقت قصة داود في قضيّة الجبال التي أمرها اللّه أن تسبّح مع داود .

و حين نتابع هذه السمة الإعجازية ، نجد أنّ النصوص المفسّرة تتراوح في عدّة استخلاصات تتصل بالدلالة التي انطوت عليها ظاهرة التأويب:

﴿يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ)

فهناك من الدلالات ما يُشير إلى التسبيح ، و هناك ما يُشير إلى دلالة الترجيع ، و هناك ما يُشير إلى دلالة المسير ، أي الجبال سُخّرت لتسير مع داود لإنجاز مُهمّاته المختلفة فيما يتصل بحفر الآبار و العيون و المعادن و الطُرق .

بيد أنّ التسبيح يظلّ أشدّ الدلالات المذكورة في هذا الصدد .

و المهم ، أنّ الدلالات بأكملها تبقى مطبوعة بسمة الإعجاز ، مع ملاحظة أنّ التسبيح أو ترجيعه وفقاً لبعض نصوص التفسير الذاهبة إلى أنّ داود عند قراءته الزبور في البراري ، إنّما كانت الجبال و الطير تسبّح معه ، ممّا نستكشف أنّ مثل هذه الدلالة ، أي التسبيح ليست مجرّد ظاهرة إعجازية فحسب ، بل تنطوي على دلالات اُخرى ، يستكشفها المتلقّي حينما يدقق في الفضل الذي منحته السماء لـ داود:

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً)

و في دلالة التسبيح الذي واكب داود فيما يتصل بنمطين من الكائنات: الجبال و الطير .

إنّ خلع الوعي على الجبال مضافاً إلى النطق ، . . . و خلع الدلالة الهادفة:
التسبيح على الطيور ، من الممكن أن يستثيرا لدى المتلقّي أكثر من دلالة فكرية يفيد منها في هذه الفقرة من السرد .

1 ـ فثمة حقيقة يستكشفها بوضوح حينما يحاط علماً بأنّ الكون بأكمله قد وُظّف لأداء المهمّة العبادية أو الخلافية بما في ذلك: الجماد و الحيوان .

2 ـ إنّ اللغة ـ غير البشرية ـ تظلّ حقيقةً لا مناقشة في صدورها عن كائنات لم نفقه لُغتها ، حتّى و إن كانت جماداً:

﴿وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)

كما هو صريح آية قرآنية كريمة في غير هذه السورة .

3 ـ إنّ تسبيح كائنات غير مألوفة لدى الاعتياديين من البشر و جعله ، أي التسبيح مفهوماً لدى كائن محدّد مثل شخصية داود ، يعني إكساب هذه الشخصية طابعاً متميّزاً خاصاً يتساوق و ظاهرة الفضل التي أشارت الآيةُ إليه في بدء الاُقصوصة يُضاف إلى ذلك أنّ تسبيح الجبال و الطير نفسه يدلّنا ليس على مجرّد الفضل الذي منحته السماء لداود فحسب من حيث كونه يفقه لغتها ، بل إنّ تجاوبها مع داود يدلّنا على خطورة التسخير: تسخير الكائنات الاُخرى للآدميين في حالة تأديتهم للمهمّة العبادية .

4 ـ إذا كانت الجبال و الطير متّسمة بالتجاوب مع رسالة السماء من خلال كائن آدمي ، فحري بالآدميين أنفسهم أن يتجاوبوا مع خليفة على الأرض يشاركونه الوعي و اللغة المماثلتين لوعي الخليفةِ و لغتهِ .

* * *

إنّ الدلالات الفكرية المذكورة يُعزّزها النص بظاهرة اُخرى تتصل ببيئة صناعية هي: صناعة الدرع .

و يُلاحظ من حيث البناء الفنّي للاُقصوصة أنّها قامت على فقرتين أو آيتين:
أوّلاهما تحدّثت عن التسبيح و ما واكبه ، و الاُخرى تحدّثت عن الصناعة .

و نحن ينبغي ألاّ نمرّ عابراً على هذه الخصّيصة المعمارية في الاُقصوصة ، حين نلحظ أنّ الآية الاُولى تتحدّث عن مهمة عبادية خطيرة تتصل بكلّ الكائنات:
إنساناً و حيواناً و جماداً ، . . . في حين تتحدّث الآية الاُخرى عن مجرّد عمل صناعي يتصل بالدرع . . .

لكننا بأدنى تأمّل ، يمكننا أن نُدرك السرّ الفنّي لشطر الاُقصوصة شطرين متوازنين يُخصّص أحدهما للتسبيح ، و الآخر للعمل اليدوي . . .

إنّ هذا يعني أنّ الاُقصوصة تستهدف لفت أنظارنا إلى خطورة العمل اليدوي و أهميته الكبيرة لدى السماء في زحمة المهمة العبادية التي ألقتها على الكائن الآدمي .

إنّ النصوص الإسلامية طالما تُشير أنّ العمل هو عزّ الرجل ، و إلى أنّ من يُعيل الآخرين أشدّ فاعلية من حيث معطى العمل العبادي من الممارس لعملية العبادة بمعناه الخاص ، . . . هذا فضلا عمّا ينطوي عليه العملُ من وأد للذات ، و دفع للنشاط ، و استثمار له من أجل استمرارية المهمّة الخلافية . . . و لعلّ النماذج المصطفاة من أنبياء و أئمة ، و ممارساتهم للأعمال اليدوية يفصح عن الحقيقة المذكورة بوضوح .

و المهم أنّنا حتّى بعيداً عن إنارة النصوص الإسلامية لهذا الجانب ، يمكننا أن نستخلص ـ فنّياً ـ هذه الحقيقة ، مادامت الاُقصوصةُ تخصّص شطراً مماثلا لشطر التسبيح في رسمها للمهمّة العبادية .

و مع ذلك فإنّ النصوص المفسّرة تحدّد لنا هذا الجانب المتصل بشخصية داود ، حينما أوضحت أنّ السماء أوحت لداود بأ نّه نعم العبد ، لكنّه يأكل من بيت المال .
و عندها بكى داود أربعين صباحاً فألان اللّه له الحديد ، و عمِلَ منه الدروع ، و أفاد منها في رزقه .

إنّ لفت انتباه داود إلى أ نّه يأكل من بيت المال يُشير إلى ما استخلصه المتلقّي ـ فنّياً ـ من خطورة العمل اليدوي و معطياته النفسية و العبادية ، . . . مضافاً إلى أنّ حرص السماء حتّى على إعطاء التفصيلات المتصلة بممارسة العمل الصناعي فيما خاطبت داودَ بقولها:

﴿وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ)

هذا الحرص على تفصيل العمل حتّى فيما يتصل بتنظيمه و تعديله يفصح عن خطورة العمل اليدوي و موقعه من الوظيفة العبادية بعامّة .

* * *

على أيّة حال تضمّنت اُقصوصة أو حكاية داود (عليه السلام) هدفاً فكرياً محدّداً هو الفضل أو النِعَم التي تغدقها السماء على الآدميين مثلما تضمّنت رسماً لبعض أنماط النعم المختلفة ، فيما أوضحت المقدمةُ (وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً) مفهوماً عاماً عن النعم ، ثمّ فصّلت بعضها فيما يتصل بداود .

و سيجيء أيضاً في اُقصوصة سليمان مثل هذا المفهوم للفضل و تفصيلات اُخرى .

كما سيجيء ـ مثلما رأينا ـ مثل هذا المفهوم فيما يتصل بسبأ . و كلّ ذلك يكشف عن البناء الهندسي للأقاصيص الثلاثة التي يجمع بينها هدفٌ موحّد و تفصيلات متنوّعة تلتم عند ذاك الهدف .

و لا يغب عن بالنا أنّ اُقصوصة داود (عليه السلام) قد ختمت بقوله تعالى:

﴿وَ اعْمَلُوا صالِحاً . . .)

حيث يجيء هذا الختام مرتبطاً بضرورة الشكر للنِعم المذكورة ، و انعكاس هذا الختام على هيكل الأقاصيص اللاحقة من سورة «سبأ» فيما وقفنا على قصة سبأ منها و عدم شكر السبئيين للنعم التي أغدقتها السماء عليهم ، نِعَمِ المزرعتين و المواصلات بين المدن على نحو ما تقدّم مفصلا .

 

 

قصَّة موت سُلَيمان (عليه السلام)

 

بالنسبة إلى اُقصوصة سليمان تظلّ الخطوط المشتركة بينها و بين سابقتها من الوضوح بمكان كما سنرى ، مضافاً إلى خطوط عامّة تتناسق مع الهدف الرئيس للأقاصيص ، و لكن من جانب آخل تظلّ السمة الاستقلالية لها متميّزة أيضاً .

إذن لنتحدّث عن الاُقصوصة المذكورة ، فنقول:

تتضمّن اُقصوصة سليمان (عليه السلام) في سورة «سبأ» رسماً لظواهر إعجازية على نحو ما لحظناه في اُقصوصة داود (عليه السلام) .

إنّها تُعدّ امتداداً للاُقصوصة السابقة من حيث الهدف الفكري لأقاصيص السورة بأكملها ، و من حيث رسمها لتفصيلات تحوم على الهدف المذكور ، لكنها في نطاق متميّز يختلف من اُقصوصة لاُخرى .

ففي اُقصوصة سبأ و هي ثالثة الأقاصيص من حيث التسلسل لحظنا أنّ الهدف كان حائماً على نِعَم السماء على السبئيين و مطالبتهم بالشكر ، لكنهم تمرّدوا على العطاءات المذكورة .

و في اُقصوصة داود لحظنا أنّ الهدف كان حائماً على الفضل أيضاً ، و مطالبة الآخرين بأن يعملوا صالحاً شكراً على نعم السماء .

و في اُقصوصة سليمان (عليه السلام) فيما نحن الآن في صددها يظلّ الرسمُ بدوره حائماً على النِعَم و المطالبة بالشكر عليها .

إذن الأقاصيص بأكملها تحوم على هدف واحد و مطالبة واحدة ، لكنها تتمايز فيما بينها بالتفصيل في رسم النعم و بالاستجابة التي يختلف فيها قومٌ عن آخرين حيال النعم .

و لكن ، لنقرأ أوّلا نصوص الاُقصوصة ، لنصلَ بعدَها بينها و بين الاُقصوصتين سبأ و داود:

﴿وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ)

﴿وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)

﴿وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ)

﴿وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)

﴿يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ)

﴿وَ جِفان كَالْجَوابِ وَ قُدُور راسِيات)

﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

﴿فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الأَرْضِ)

﴿تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ)

﴿ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)

تبدأ الاُقصوصةُ كما لحظنا برسم الفضل الذي أغدقته السماء على سليمان بعد داود .

لقد كانت الجبالُ و الطيرُ ظاهرتين إعجازيتين سخّرتهما السماءُ لداود .

و كانت الظاهرة الثالثة ، هي إلانَة الحديد لداود (عليه السلام) بصفته ـ أي الحديد ـ مادة لعمل صناعي .

و حين نتّجه لسليمان (عليه السلام) نجد أيضاً تسخير السماء ظاهرتين اعجازيتين هما:
الريح ، و الجنّ . و نجد أيضاً ظاهرة ثالثة تشكّل مظهراً لعمل صناعي بدوره هو:
عمل المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور .

إذن في الاُقصوصتين داود و سليمان نلحظ مبنىً هندسيّاً بالغ الجمال و الإثارة من حيث وحدة الظاهرة الإعجازية و مفرداتها ، من حيث توازن هذه المفردات و تماثُلها عدداً و شكلا .

ففي كلّ اُقصوصة ظاهرتان تنتسبان إلى المعجز:

أوّلا: في اُقصوصة داود جبالٌ و طير . و في اُقصوصة سليمان (عليه السلام) ريحٌ و جنّ .

ثانياً: في اُقصوصة داود (عليه السلام) ، تسخير للظاهرتين المذكورتين . و في اُقصوصة سليمان (عليه السلام)تسخيرٌ لهما أيضاً .

ثالثاً: في اُقصوصة داود نمطان من القوى المسخّرة: جماد و حيوان .

في اُقصوصة سليمان نمطان أيضاً من القوى المسخّرة: جمادٌ أيضاً و قوة اُخرى هي: الجنّ فيما كانت القوّة الاُخرى هي الطير في اُقصوصة داود .

رابعاً: القوّتان المسخّرتان في الاُقصوصتين تمتلك إحداهما وعياً ـ حسب الإدراك المألوف للوعي من حيث الاستجابة البشرية العادية ـ هما الطير في اُقصوصة داود ، و الجنّ في اُقصوصة سليمان (عليه السلام) ، و تفتقد الاُخرى الوعي و هما:
الجبال في قصة داود (عليه السلام) و الريح في قصة سليمان (عليه السلام) .

خامساً: الاُقصوصتان تنطويان على ظاهرة ثالثة هي: ممارسة عمل صناعي صناعة الدروع في اُقصوصة داود و صناعة المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور في اُقصوصة سليمان .

سادساً: الاُقصوصتان ترسمان شخصيّات تنتسب إلى النبوّة داود و سليمان .

هذه الخصائصُ الجمالية الستّ ، تضاف إليها خصائصُ جماليةُ اُخرى عندما نتابع تفصيلات القصة .

لكن ، حسبنا أن نُشير إلى هذه السمات الفنّية ، بالغة الدهشة و الإثارة و الجمال من حيث البناء الهندسي المُتقن الذي يُقابل و يُوازن و يُوازي و يماثل بين خطوط الرسم على النسق الهندسي المذكور ، فيما ينبغي أن نقفَ عنده مليّاً ، بُغية أن نتذوّق جمالية البناء المُحكم للاُقصوصتين ، وصلة إحداهما بالاُخرى فكرياً و فنّياً على النحو الذي لحظناه .

* * *

و الآن حين ندع الإمتاع الفنّي الكبير الذي لحظناه في الاُقصوصتين ، و نتّجه إلى اُقصوصة سليمان بمفردها بغضّ النظر عن صلتها باُقصوصة داود ـ و لنا عودةٌ إلى التواشج الفنّي بينهما لاحقاً ـ ، أقول: حين نتّجه إلى اُقصوصة سليمان و نتابع الأجزاء اللاحقة منها ، حينئذ نلحظ أنّ الاُقصوصةُ تُنهي حياة سليمان بعد أن ترسم نهايةً خاصةً لحياته التي سبقتها تلك التفصيلات المدهشة عن الريح و أسفارها و عن الجنّ و أعمالهم .

هذه الحياة المدهشة ترسمها الاُقصوصة عبر خاتمة مدهشة أيضاً تتفاوت النصوص المفسّرة في تفصيلاتها كما سنرى ، كما أنّها تصل بين هذه الخاتمة و بين استجابة إحدى القوى المسخّرة لسليمان (عليه السلام) و نعني بها: الجنّ حيال الخاتمة المذكورة .

و لا يغب عن بالنا أيضاً أنّ الاُقصوصة تطرح خلال رسمها للفضل أو النِعَم التي أغدقتها السماء على سليمان (عليه السلام) ، . . . ترسم لنا هذه الفقرة:

﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

فيما ينبغي أن نقف أيضاً عند هذه الفقرة لنصلَ ـ من جديد ـ بينها و بين اُقصوصة داود (عليه السلام) من جانب ، و بينها و بين اُقصوصة سبأ من جانب ثان ، و بين الأقاصيص الثلاث من جانب ثالث .

كلّ ذلك ينبغي أن نقف عنده من حيث الخصائص الفنّية و الفكرية لاُقصوصة سليمان (عليه السلام) وحدها ، ثمّ صلتها بالأقاصيص الاُخرى .

لكننا قبل ذلك ينبغي أن نشير إلى أنّ الهدف الفكري العام ، يظلّ في الأقاصيص هو رسم الفضل أو النعم .

ثمّ تجيء المطالبة بــ الشكر رسماً آخر في هذه الأقاصيص .

و أخيراً يجيء رسم الاستجابة لهذا الشكر متنوعاً ، فيما يجعلها في ثالثة الأقاصيص ـ أي قصة سبأ ـ استجابةً سلبيةً هي كفران السبئيين بـ النعم ، بينما يطالب بها فحسب في قصة سليمان . . . مع ملاحظة أنّ النص اكتفى بفقرة (اعْمَلُوا صالِحاً) في اُقصوصة داود (عليه السلام) . كلّ ذلك يظلّ متصلا بالبناء الهندسي للأقاصيص كما سنرى ، بعد أن لحظنا جانباً من البناء الهندسي لها فيما يتصل بقصتي داود و سليمان .

* * *

تبدأ قصة سليمان كما أشرنا برسم ظاهرتين معجزتين سخّرتهما السماء لسليمان:

﴿وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ)

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ هذا التسخير يتمثّل في قطع سليمان (عليه السلام) مسافة شهر بنصف نهار غدوّاً و مسيرة شهر بالنصف الآخر من النهار رواحاً من دمشق لإصفهان ، و منها إلى كابل .

و ينبغي ألاّ نمرّ عابراً على عملية التسخير هذه جمالياً و فكرياً . فالقضية تتصل برحلة و بزمان و مكان تشيع لدى المتأمّل إمتاعاً نفسياً كبيراً من حيث تصوّره لحركة الريح و طريقة حملها لسليمان و جنوده ، و طبيعة ركوبه في الجوّ ، و ما يواكب هذه الطبيعة من تكيّف خاص لا يمكننا أن نتخيّله بأدواتنا الفكرية الحديثة بما تملكه من معلومات عن عملية التكيّف . كلّ ذلك يُشيع إمتاعاً كبيراً حينما ينسج كلٌّ منّا لتصوراته شكلا أو آخر بحسب خبراتنا المختلفة من متلقّ لمتلقّ سواه ، . . . و هكذا .

و مع أنّنا سنتحدّث عن طبيعة ركوب الريح في حقل آخر من هذه الدراسة عندما يفرض السياقُ ذلك ، إلاّ أنّنا هنا حسبنا أن نشير ـ وفقاً لمنطق النص القصصي نفسه ـ حينما يكتفي بعملية التسخير للريح ، دون أن نفصّل في ذلك ، . . .
أن نشير إلى التصوّر المُجمل لهذه العملية مادام النصُّ القصصي قد أجمل ذلك أيضاً . . . متمثّلا في مجرّد التخيّل للركوب في الجوّ من خلال واسطة نقلية هي:
الريح ، عبر مسافة زمنية تساوي نسبة واحد إلى ستين ، أي: تختصر الشهرين بيوم واحد فحسب ، و هذا يعني أن تخيّلاتنا الجمالية ينبغي أن نحصرها في رسم الذهن لنمط السرعة الزمنية التي تقطعها الريح ، و هو رسمٌ يفجّر لدى الذهن إمتاعاً و دهشةً في آن واحد ، حينما ينحسر الذهن عن تصوّر مُحدّد تجربيّاً . . . و هذا بمفرده كاف في إثراء الذهن و إمتاعه .

* * *

التسخير الثاني فيما هيّأته السماء لسليمان (عليه السلام) هو:

﴿وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ)

و هذا يعني أنّ السماء أسالت له عين النحاس: الصفر ، لأغراض نسجَ النصُّ صمتاً حيالها .

غير أنّ تهيئتها بهذا النحو ـ و تقول النصوص المفسّرة: إنّ الصفر سال ثلاثة أيام مثل المياه ـ يعني أنّها تماثل ما لحظناه في قصة داود (عليه السلام) من إلانَة الحديد ، مع ملاحظة أنّ الصمت حيال النحاس قبال الحديد الذي أشار النص إلى معطياته الصناعية المحددة في عمل الدروع ، يظلّ مماثلا للصمت الذي نسجه النص حول الريح مكتفياً بمعطاها العام دون الدخول في التفاصيل .

و في الحالين يبدو أنّ الهدف فنّياً ، هو التشدّد في التفصيلات على جانب دون آخر حسب ما يستدعيه السياق في أقاصيص سليمان (عليه السلام) حيث صيغت في أكثر من سورة و أكثر من سياق وقفنا على بعضها ، و سنقف على البعض الآخر منها في سورة لاحقة .

من هنا بمقدورنا أن نجعل عملية التصوّر للنحاس و إسالته مرتبطةً بإلانة الحديد لداود (عليه السلام) من حيث أنّ كلتيهما: الإلانة للحديد ، و الإسالة للنحاس ، تتصلان بالبيئة الصناعية التي رسم النصُّ معطاها العبادي في اُقصوصة داود (عليه السلام) ، طالما يظلّ العمل جزءً من الممارسة العبادية التي وُظِّف الإنسان من أجلها ، و سخّرت له هذه المعادن ليفيد منها في رحلته الخلافية على الأرض .

إنّ من خصائص الصياغة الجمالية للاُقصوصة ، أنّها تجانس بين مفردات وردت في قصة داود (عليه السلام) و مفردات وردت في قصة سليمان (عليه السلام) ، بعضها: محدّد
المعالم ، و الآخر: موشى بالتخيّل الذي يستدعي بعض الإعمال في الذهن بحيث يتداعى ذهن المتلقّي من إسالة النحاس و هو معدن تحوّل مياهاً إلى إلانة الحديد في اُقصوصة اُخرى و هو معدن أيضاً تحوّل بدوره مادة ليّنة .

و المعطى الفنّي لهذه العملية يتمثّل أوّلا في التركيز أو الاقتصاد في السرد ، و ثانياً في العملية النفسية المعروفة و نعني بها: التداعي الذهني ، و ثالثاً في التماثل بين المعادن من جانب و بين تحوّلاتها إلى سائل و ليّن من جانب آخر .

كلّ اُولئك يشكّل مادة للإمتاع الفنّي و الفكري ، ينبغي ألاّ يغيب عن بالنا عبر عملية التذوّق لهذه الاُقصوصة .

* * *

التسخير الثالثُ الذي هيّأته السماء لسليمان (عليه السلام) يتمثّل في ظاهرة الجنّ .

و إذا كان النص القصصي قد نسج صمتاً حول الريح و القِطر من حيث التفاصيل ، فإنّه على العكس من ذلك رسم بعض التفصيلات فيما يتصل بشخوص الجنّ و ممارساتهم .

و في نصوص قصصية اُخرى عن سليمان و تسخير الجنّ ، تَتَناول تفصيلاتٌ وقفنا على بعضها ، حيث استدعاها سياق خاص .

أمّا هنا ـ في سورة سبأ ـ فإنّ سياقاً آخر يستدعي الدخول في تفصيلات لم تُسرد في القصص الاُخرى ، و هو ما نبدأ الآن بدراسته .

لقد بدأ رسمُ شخوصِ الجنّ و توظيفِهم لإنارةِ شخصيةِ سليمان على النحو الآتي:

﴿وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ)

﴿وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)

و أوّل ما يلفت انتباهنا في هذه الشريحة من القصة أنّها تحدّثت بلغة متوعّدة في عملية التسخير . إنّها هددت شخوص الجنّ بانزال العذاب عليهم في حالة تمرّدهم أو تلكُّـئهم في إطاعة سليمان (عليه السلام) في حين أنّ النص في اُقصوصة داود رسم شخوص الطير مثلا دون أن يرافق ذلك أيّ توعّد .

طبيعيّاً ، ثمة فارق بين شخوص الطير و شخوص الجنّ ، بصفة أنّ الطير لم تمارس من الوظائف العبادية ما تمارسه شخوص الجنّ ، ليس من حيث نمط الوعي الذي يغلّف شخوص الطير و افتراقه من حيث الفاعلية عن الوعي الذي يغلّف شخوص الجنّ فحسب ، بل من حيث ضخامة المهمّات التي يضطلع بها الجنّ بحكم فاعلياتهم المتعددة و إدراكهم للوظيفة العبادية على النحو الذي تتحدّث عنه نصوصٌ قرآنية كريمة و نصوصُ الحديث ، . . . و هو أمرٌ خارج عن نطاق هذا الحقل الذي نخصّصه لدراسة اُقصوصة سليمان فحسب . . .

المهم أنّ التساؤل يظلّ حائماً على استخلاص الدلالة الفنّية لهذا الرسم القصصي الذي بدأ أوّلا بالإشارة إلى أنّ السماء سخّرت:

﴿مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ)

ثمّ التوعّد:

﴿وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)

إنّ أيّ تذوّق فنّي للاُقصوصة يتطلّب طرح مثل هذا التساؤل ، ثمّ استخلاص الدلالة الفنّية له .

ترى: ما هي الدلالة الفنّية لهذه البداية الآمرة بأن تعمل شخوص الجنّ بين يدي سليمان ، و إلاّ فإنّها معرّضة للعقاب ؟

حين نحاول استخلاص السرّ الفنّي وراء تسخير الجنّ لسليمان (عليه السلام) و توعّدهم
بالعقاب خلافاً لأشكال التسخير الاُخرى ، يمكننا أن نصله أوّلا بما يُلقيه من إنارة على الأجزاء اللاحقة من القصة فيما يتصل بطبيعة ممارساتهم ، و بنمط استجابتهم حيال موت سليمان ، و ثانياً بما يتصل بطبيعة تركيبتهم أساساً .

فمن الواضح أنّ نمطاً يتحرّك في نطاق رئيسهم إبليس ، و حينئذ فإنّ التوعّد يبقى مسوّغاً بيّناً لقطع أيّة محاولة للتمرّد .

النصوص المفسّرة تتفاوت في تحديد العقاب المتوعّد عليه ، إذ أنّ بعضها يحدّده في العقاب الاُخروي ، و البعض الآخر يحدّده في العقاب الدنيوي ، متمثّلا في توكيل مَن يُلوّح حيالَهم بسوط من نار .

و أيّاً كان الأمر فإنّ التوعّد يأخذ فاعليّته الشديدة دون أدنى شك ، ممّا يعكس تأثيره على أحداث القصة . و هي أحداث لم تنحصر كما هو الأمر في قصة داود في ممارسة عمل واحد أو عمل عبادي لا يتطلّب الجهد الجسمي مثلا ، بل تجاوزت ذلك إلى جملة أعمال هي: المحاريب ، و التماثيل ، و الجفان ، و القدور .

يضاف إلى ذلك أنّ نمط استجابتهم حيال موت سليمان (عليه السلام)

﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)

هذه الاستجابة تعزّز مدى الحجم الكبير أو مدى الجهد الذي كانوا يتحسّسونه في ممارسة الأعمال ، بحيث اكتسب سمة «العذاب المهين» أي: التكليف الشاق .

المهم أنّ طبيعة تركيبتهم التي يمكن من خلالها أن يطيعوا أو أن يتمرّدوا . . .
يفسّر لنا ـ فنّياً ـ مسوّغات اللغة المتوعّدة التي صاغتها السماءُ حيالهم .

* * *

يجيء القسم الجديد من قصة سليمان (عليه السلام) متصلا بالأعمال التي عُهِدَ شخوص الجنّ القيام بها ، و هي:

المحاريب ، و التماثيل و الجفان و القدور .

و يُلاحَظ أنّ هذه البيئةَ الصناعيةَ التي تتحرّك الاُقصوصةُ فيها قد صيغت بعد أن تقدّم في القصة جزءٌ منها حدّثنا عن المظهر الصناعي العام المتصل بإسالة القطر:
الصفر النحاس . أي أنّ البيئة الصناعية للاُقصوصة تقدّمت أوّلا برسم المواد متمثّلا في أحد أشكالها القِطر ، ثمّ تقدّمت برسم الأعمال متمثّلة في المحاريب و التماثيل . . . إلى آخره .

و السؤال هو: إنّ اُقصوصة داود (عليه السلام) رسَمت إلانة الحديد ثمّ صناعته دروعاً ،
في حين أنّ اُقصوصة سليمان رسمت إسالة النحاس ثمّ صناعة المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور ، مع ملاحظة أنّ قسماً من هذه الصناعات لم يتوقف على الإسالة المذكورة للقطر ، في حين كانت صناعة الدرع متوقفة على الحديد كما هو واضح .

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتضح تماماً حين نضع في الاعتبار أنّ التناسق الهندسي بين تسخير نمطين من المعادن: الحديد و القطر ، إلانةً و إسالة ، لشخصين نبيّين: داود و سليمان ، يتأصّران نَسَبيّاً: أباً و ابناً . هذا التوازي أو التناسق يظلّ في إطاره المتقدّم مشكّلا من حيث التسخير و المادّة أحد أوجه البناء الجمالي الذي لحظنا خطوطاً ستةً أو أكثر من خلاله . و كلّها قد رُسمت متوازية متناسقة متوازنة تتناسب جمالياً حتّى مع رسم الأبطال الذين تقابلوا نَسَبيّاً: أباً و ابناً .

أمّا بيئة العمل الصناعي ، فإنّ الاُقصوصة تستهدف من رسمها مضافاً إلى صلة بعض المواد ببعض مظاهر عملها ، تستهدف صلة ذلك بالشخوص المسخّرة من جانب و الشخوص المسخّر لها من جانب ثان ، مضافاً إلى رسم بعض أنماط العمل الصناعي الجديد . و هو أمرٌ نلحظه بوضوح في رسم شخوص مسخّرة هي الجنّ ، و مسخّر له هو سليمان و أعمال صناعية هي: المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور ، ممّا يعني أن عالَم الاُقصوصة قد اُخضع لِتنوّع و وحدة في أبنيتها الجمالية ، كانت من الغنى بنحو ما فصّلنا الحديث عنه .

المهم ، أنّنا حيال أعمال صناعية يحسن أن نقف عندها من حيث صلتها بحاجات الإنسان أو إشباع دوافعه الرئيسة و الثانوية ، وصلة ذلك بالمهمّة العبادية و بالشكر و بالمصير الدنيوي للشخوص .

إنّ الأعمال الصناعية الأربعة قد رُسمت في سياق المهمّة العبادية المتصلة بالعمل ، ففي اُقصوصة داود (عليه السلام) مثلا ، لحظنا صلة العمل اليدوي ـ صناعة الدرع ـ بالأرزاق و أهميتها حينما تنبع من جهود الفرد نفسه و ليس من جهود غيره ، أو من انتفاء الجهد المتمثّل في الأخذ من بيت المال مثلا .

هنا في اُقصوصة سليمان (عليه السلام) لم تُرسم المهارات المذكورة في سياق الرزق ،
بقدر ما رسمت في سياق آخر من العمل ، فالمحاريب على سبيل المثال واضحة الصلة بالمناخ العبادي الخاص: الصلاة و نحوها .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ بناء بيت المقدس كان واحداً من الأعمال التي تُوفّر عليها في هذا الصدد ، فيما بدأه داود (عليه السلام) أوّلا و أتمّه سليمان (عليه السلام) بعد ذلك وفق تفصيلات تذكرها النصوص المفسّرة لاحاجة إلى عرضها الآن ، إنّما يعنينا منها أنّ البُعد الجمالي المتمثّل في عمارية المسجد ، يظلّ عنصراً بيّناً في العمل المذكور .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ الحاجات الجمالية تظلّ في تركيبة الآدميين جزءً من حاجاتها أو دوافعها الحيوية و النفسية من نحو: المشاهد الطبيعية ، و أنساق الأبنية المختلفة و نحوها .

و المُلاحَظ أنّ النص القصصي قد شدّد على إبراز هذا الجانب من الحاجات أو الدوافع البشرية ، كما لحظنا في رسمه للمزرعتين اللتين احتلّتا موقعاً جمالياً في مدينة سبأ ، و مثلما نلحظ النصوص المفسّرة التي تفصّل معالم البناء الهندسي للمسجد ، و مثلما سنلحظ رسم الاُقصوصة للتماثيل . فيما تشكل هذه الأخيرة ، أي التماثيل فنّ النحت وفق التصوّر الإسلامي لهذا الفنّ الذي يحصره في نحت أو تصوير غير ذوات الروح إنساناً أو حيواناً ، بل النحت المتصل بالنبات أو الجماد .

هذه جميعاً ـ كما هو واضح ـ تشكّل عنايةً بإشباع الحاسة الجمالية عند الآدميين .

إنّه من الممكن أن يُثار السؤال عن الدوافع الجمالية في تركيبة الآدميين و مدى خطورة إشباعِها أو عدم ذلك ، فالنحت ، أو المزرعة و هما نمطان من الأشكال الجميلة ، مصطنعٌ و طبيعي ، من الممكن ألاّ يحتلّ نفس الإلحاح الذي يسم الدوافع الحيوية الاُخرى ، كالطعام أو الجنس و نحوهما . بيد أنّ هذا لا يعني أنّ إشباع الحاجات الجمالية لا يحتل موقعاً له خطورته ، و بخاصة أنّ هذا الإشباع يرد في سياق سرد النِعم التي تغدقها السماء على الآدميين على نحو تُشبع من خلاله حتّى الحاجات غير المتّسمة بما هو ملحٌّ و ضروري .

أكثر من ذلك فإنّ المحاريب أيضاً ، بل و الجفان ، أي الصحون و القدور على نحو ما سنلحظه ، يظلّ رسمُها في سياق الحاجات الجمالية متّسماً بالطابع ذاته ، ممّا يعني ـ مضافاً إلى عنصرها الجمالي الصرف ـ أنّها ذات تأثير في تعميق الاستجابة الخيّرة لدى الآدميين حيال موضوعات فكرية أو حيوية مثل: العبادة و الطعام ، فيما يرتبط ـ مثلا ـ نمط الطعام بنمط الطريقة التي يوضع فيها ، أو يُصنع فيها الجفان و القدور ، و فيما يرتبط نمط العبادة بنمط المحاريب التي تتمّ فيها .

أمّا التماثيل فإنّها تظلّ مستقلةً من حيث بُعدها الجمالي ، كما سنوضّح ذلك .

* * *

قلنا: إنّ إشباع الحاسة الجمالية تظلّ واحداً من القيم التي نلحظها في اُقصوصة سليمان (عليه السلام) .

فالنحتُ فنٌّ جميلٌ يُشبع الحاسة المذكورة عند الشخصيّة ، بما يحمله من دلالات متنوّعة تفرزها أشكاله و خطوطه و تجسيماته بعامّة .

بيد أنّ الملاحظ أنّ النحت الذي يشبع الحاسة الجمالية ، ليس هو النحت المتصل برسم الكائن الآدمي أو الحيواني اللذين يحملان روحاً و وعياً ، بل النحت المتصل بمحاكاة الظواهر الطبيعية .

و من هنا فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) أوضح بأنّ التماثيل التي ورد ذكرها في
اُقصوصة سليمان (عليه السلام) إنّما هي تماثيل الشجر و نحوه ، و ليست تماثيل الآدميين .

و الحقّ أنّنا لسنا في صدد توضيح المسوّغات الفنّية و النفسيّة التي تنطوي عليه عملية النحت لذوي الأرواح من العضوية الإنسانية و الحيوانية ، فقد أوضحناها مفصّلا في دراساتنا عن الأدب و الفنّ الإسلاميّين على نحو يُدرك الفنّان أو المتذوّق سرّ الحَظر الذي جعله المشرّع الإسلامي على النحت للكائنات الآدمية و الحيوانية . . . إنّما يعنينا الآن أن نتبيّن موقع التماثيل في هذه الاُقصوصة من إشباع الحاسة الجمالية ، و موقعها من البناء الفنّي للأقاصيص التي تضمنتها سورة سبأ ، حيث أوضحنا أنّ رسم المزرعتين في مدينة سبأ:

﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِين وَ شِمال)

رسمَ هاتين المزرعتين إنّما تمّ بنحو تبرز من خلاله ملامح البُعد الجمالي للمزرعتين من حيث كونهما تقعان على يمين المدينة و شمالها .

و الأمر ذاته فيما يتصل بالتماثيل .

فالملاحَظ و نحن في صدد توضيح البناء الهندسي للأقاصيص ، أنّ إشباع الحسّ الجمالي في اُقصوصة سبأ قد تمّ من خلال مرائي الطبيعة الجميلة: المَزارع .

أمّا هنا في اُقصوصة سليمان (عليه السلام) فإنّ إشباع الحس الجمالي قد تمّ من خلال محاكاة المشاهد الطبيعية ، و ليس المَشاهد نفسها . فيما لحظنا أنّ الإمام الصادق (عليه السلام)أوضح أنّ هذه التماثيل التي عَمِلها شخوص الجنّ إنّما هي تماثيل الشجر و ليست تماثيل الآدميين .

* * *

و يهمّنا من هذا أن نحدّد التوازن الهندسي المتمثّل في:

المشاهد الطبيعيّة أوّلا تُقابلها المشاهد المصطنعة ثانياً ، أنّ كلتيهما ، المشاهد الطبيعية و المصطنعة تُشبع نمطاً خاصاً من الإشباع الجمالي .

فمن الواضح في حقل التذوّق للجميل ، أنّ علماء الجمال و نقّاد الفنّ يفرزون بين نمطين من التذوّق لما هو جميلٌ من الظواهر أو المَرائي .

الأوّل منهما: يتمثّل في تذوّق الطبيعة الحيّة التي ينطوي عليها الجميل من: شجر أو نهر أو . . . إلى آخره .

الثاني منها: يتمثّل في عملية المحاكاة أو تقليد الطبيعة ، و منه النحت و سائر الفنون تجسيمية كانت أم لفظية مثل: الشعر و القصة و نحوهما ، فيما تُحاكي و تقلّد ما هو طبيعيٌ من المَشاهد .

أمّا النمط الأوّل ، فإنّ مهمّاته الجمالية تتمثّل في الإشباع الحسّي المباشر ، لما تنطوي عليه المَشاهِد من ملامح و أبعاد جميلة .

أمّا النمط الثاني ، و هي الفنون ، فإنّها تشبع نمطاً آخر من الحاسة الجمالية متمثّلا في نقلها إلى تجربة تذوّقية جديدة يخلع الفنّانُ عليها إضاءات و إضافات جديدة ليست منسوخة عن الطبيعة نسخاً مباشراً ، بل غير مباشر . بحيث يبرز دلالات و أفكاراً ثانوية عليها تتّسق مع ثقافة الفنّان و خبراته في الحياة ، مثلما تتسق مع ثقافة المتلقّي أيضاً و خبراته في هذا الصدد .

و بكلمة جديدة: أنّ الفنّان يقدّم كشفاً للواقع ، و ليس نسخاً للواقع و حتّى مع افتراض النسخ الصرف أو التقليد المباشر ، فإنّ التقليد نفسه ينطوي على إمتاع جمالي ، بصفته نقلا لواقع قد شوهد سابقاً ، ثمّ نُقِل إلى شكل يُشابه الواقع السابق .

و واضحٌ في ميدان العمليات النفسية أنّ نقل الواقع و إكسابه حركةً جديدة ، يستثير المُتلقّي و ينقله إلى استجابة حيويّة و تجربة جديدة تزيده غنىً و ثراءً على نحو ما نشاهده مثلا في جهاز التلفزة من صور الطبيعة التي يعرضها الجهاز المذكور ، حيث تستثيرنا الصور المعروضة و تشيع في أعماقنا إمتاعاً جديداً يزيد من خبراتنا التي تذوّقناها سابقاً .

يهمّنا ممّا تقدّم أن نشير إلى أنّ اُقصوصة سليمان (عليه السلام) قد رسمت نمطاً آخر من الحاجات الجمالية ، مقابلا للنمط الأوّل الذي رسمته اُقصوصة سبأ ، فيما تمثّل الحاجتان أنماط التذوّق للجميل:

1 ـ التذوّق للمشهد الطبيعي و هو: المزرعتان الواقعتان عن يمين البلد و شماله .

2 ـ التذوّق للمشهد المصطنع و هو: تماثيل الشجر و نحوه .

و بمثل هذه المستويات من الرسم ، ندرك تماماً قيمة الفنّ القصصي بما يحقّقه من موازنة هندسية في بناء هذه الاُقصوصة أو تلك ، وصلة اُقصوصة سليمان (عليه السلام) باُقصوصة سبأ ، مضافاً إلى الخطوط الهندسية المتنوّعة التي سبق التلميح إليها .

* * *

و إذ نتجاوز ظاهرة التماثيل و من قبلها ظاهرة المحاريب . . . حينئذ نواجه الظاهرتين: الجفان ، و القدور ، فيما تشكل الظواهر الأربع مفردات العمل الصناعي الذي رسمته اُقصوصة سليمان (عليه السلام)عبر تسخير شخوص الجنّ .

و التساؤل هو: إنّ المحاريب رسمت في سياق عبادي خاص و التماثيل رسمت في سياق جمالي أوضحناه مفصلا ، . . .ترى: ما هو السياق الذي رُسمت الجفان و القدور الراسيات من خلاله ؟

ممّا لا شك فيه ، أنّ رسم أيّة ظاهرة مهما كان نمطها ، إنّما يتمّ في سياق الخلافة على الأرض أو ما أسميناه بــ : المهمة العبادية ، سواء أكانت المهمة في دلالتها الخاصة ممارسات الصلاة و الذكر و نحوهما ، أو دلالتها العامة التي تعني كلّ سلوك متصل بالمهمة المذكورة ، سواء أكان مرتبطاً بظاهرة حيوية مثل الطعام ، و الجنس ، أو بظاهرة جمالية مثل مشاهد الطبيعة ، أو بظاهرة نفسية مثل: التعامل الاجتماعي مع الآخرين .

و يُلاحظ هنا أنّ الجفان و القدور فيما توضّحه النصوص المفسّرة ، إنّما صنعت بنحو يتّسق مع تحركات سليمان (عليه السلام) و جنوده ، فالجفان صُنعت لِتتناسبَ مع مقادير الطعام الضخمة التي تتسع لمجموعات من الجنود لا تسعها الصحونُ العادية ، كما أنّ القدور الراسيات صُمّمت بالضخامة ذاتها في عملية الطبخ ، و هذا يعني أنّ الصناعات المذكورة قد رسمت في القصة مرتبطة بأكثر من دلالة فنّية ، فهي من جانب بما تحمله من ضخامة تُشيع ما هو مدهشٌ من الاستجابة ، و ما هو متّسق مع الحاسة الجمالية التي يبهرها نمط الصناعة ، كما أنّها ـ من جانب ثان ـ تُشير إلى أنّها وُظّفت كأداة ، كوسيلة لإشباع الحاجة الحيوية الطعام لجنود يتحرّكون عبر مهمّة عبادية رسمها سليمان (عليه السلام) .

* * *

لحظنا كيف أنّ الأعمال الصناعية الأربعة: المحاريب و التماثيل و الجفان و القدور ، قد ارتبطت بمفاهيم عبادية وظّفت لها . إنّها ـ كما رأينا ـ قد اتصلت باشباع حاجات حيوية و نفسية ، تتطلّب دون أدنى شك شكراً للسماء على معطياتها التي أغدقتها على الآدميين .

و قد لحظنا كيف أنّ السماء عبر تعقيبها على المعطيات التي منحتها لداود (عليه السلام) قد
طالبت الآدميين بأن يعملوا صالحاً:

﴿وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

و في قصة سليمان (عليه السلام) تبدأ المطالبة بالعمل الصالح بتشدّد بيّن حينما تعقّب على
المعطيات التي منحتها لسليمان بقولها:

﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

إنّ هذه الفقرة التي عقّبت بها السماءُ على النِعَمِ تحتل موقعاً فنّياً له أهميته الكبيرة في بناء القصص الثلاث التي تضمّنتها سورة سبأ و نعني بها أقاصيص داود و سليمان و سبأ .

فالأقاصيص بأكملها وُظّفت لإنارة الموضوعات التي تضمّنتها السورة و يجيء التلميحُ بنِعَمِ السماء و ضرورة الشكر على هذه النِعَمِ واحداً من الموضوعات أو الهدف الفكري للأقاصيص .

و فعلاعقّبت السماء على قصة داود بالفقرة:﴿اعْمَلُوا صالِحاً) و ها هي الآن تربط بين قصة داود (عليه السلام) و قصة سليمان (عليه السلام) ، بالفقرة:

﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)

لقد أجملت قصة داود (عليه السلام) مفردات العمل الصالح و اكتفت من ذلك بأن تخاطبنا بقولها:

﴿اعْمَلُوا صالِحاً)

أمّا في قصة سليمان (عليه السلام) فقد أوضحت ذلك الإجمال و أشارت إلى أحد مفرداته ، ألا و هو: الشكر على النعم المذكورة ، بقولها:

﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً)

فإذن العمل الذي أجملته قصة داود (عليه السلام) قد أوضحته قصةُ سليمان (عليه السلام) و هذا واحدٌ من أبعاد التواشج الفنّي بين الاُقصوصتين ، حيث نما العملُ المُـجمَل و تطوّر إلى عمل واضح هو: الشكر .

* * *

أمّا البُعد الثاني من أبعاد التشابك الفنّي بين الأقاصيص ، فهو: نموّ العمل و تطوّره بالنسبة إلى اُقصوصة لاحقة و ليس إلى الاُقصوصة السابقة فحسب ، و نعني بذلك اُقصوصة سبأ حيث تجيء من حيث التسلسل ثالثة الأقاصيص .

إنّ العمل الفنّي كما هو بيّنٌ تتميّز خطورته بأن تكون أجزاؤه مرتبطةً واحداً بالآخر ، السابق يؤثر في اللاحق ، و اللاحق يؤثر في الآخر الذي يتبعه ، بحيث يكون الجزءُ من الاُقصوصة ، أو الاُقصوصةُ بالنسبة إلى مجموعة الأقاصيص مسبّباً عن الجزء السابق ، و سبباً لجزء لاحق .

و هذا ما نلحظه بالقياس إلى القصص الثلاث في سورة سبأ ، فقصة سليمان (عليه السلام) جاء رسم الهدفِ الفكري فيها و هو الشكر على النعم ، مُسبّباً عن قصة سابقة هي قصة داود (عليه السلام) و ستكون سبباً لقصة لاحقة هي قصة سبأ .

و بكلمة جديدة: أنّ ظاهرة الشكر على النعم شكّلت هدفاً فكرياً للأقاصيص الثلاث و هذا الهدف أخضعه النصُّ القرآني العظيم لعمليات النموّ و التطوّر الفنّي ، بحيث جاء رسمُ الشكر في قصة داود منمّياً و مطوّراً لـ الشكر في قصة سليمان ، حينما أوضح أنّ العمل الصالح هو الشكر على النعم ، بعد أن اكتفى بإجمال العمل الصالح في قصة داود (عليه السلام) .

و هذا الشكر نفسه بعد أن أصبح تطويراً و نموّاً للقصة السابقة ، يُصبح الآن هو المُطوّر و المُنمّي لقصة لاحقة هي قصة سبأ .

فالشكر الذي طالبت السماءُ به قد انعكس في قصة سبأ عملا مُضاداً ، أصبح كفراناً بدلا من الشكر .

في اُقصوصة سبأ رسم النصُّ معطياتِ السماء ، متمثّلةً في الجنّتين عن يمين البلد و شماله . . . في الرزق الذي أغدقته . . . في البلدة الطيبة التي سخّرتها لهم . . .
في المغفرة التي لوّحت بها لهم ، ثمّ طالبت السماء بهذه الفقرة أيضاً:

﴿وَ اشْكُرُوا لَهُ)

لكن السبئيّين بدلا من الشكر قد تمرّدوا ، و كانت النتيجة هي زوال النِعَم ، حيث عقّبت السماء على ذلك بقولها:

﴿ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)

إذن الشكر الذي طالبت السماءُ به في القصص الثلاث ، ثمّ عقّبت في قصة سليمان (عليه السلام)على ذلك بقولها:

﴿وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)

هذه الفقرة: (وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) شكّلت تطويراً و تنميةً لِحَدَث لاحق هو عدم الشكر لدى السبئيّين بعد أن كان الشكر نفسه نتيجة تطوير لذلك الإجمال الذي ورد في قصة داود (عليه السلام) .

* * *

للمرّة الجديدة ينبغي أن نلفت انتباه المتلقّي إلى أنّ قصة سليمان (عليه السلام) حينما طالبت بالشكر ، و حينما قالت أنّ القليل من العباد هم الذين يمارسون الشكر ، إنّما أرهصت فنّياً ، أو لنقل: إنّما مهّدت بهذه العبارة الفنّية ، بأحداث لاحقة في قصة اُخرى ، هي التي يتحدد فيها بوضوح: أنّ القليل من الآدميين هم الشكور .

و فعلا كان السبئيّيون مثالا واضحاً للعباد الذين جنحوا إلى التمرّد بدلا من الشكر .

و الآن ينبغي أن نعود لمتابعة قصة سليمان (عليه السلام) بعد أن أوضحنا الصلات الفنّية و الفكرية بينها و بين قصتي داود و سبأ .

إنّ ظاهرة الشكر التي شكّلت قاعدة فكرية للأقاصيص الثلاث ، إنّما صاغها النص في سياق سرد النِعم التي عقّب عليها بظاهرة الشكر ، دون أن تكون القصةُ قد انتهت فعلا ، بل إنّها انتهت من خلال رسم المعطيات ، دون أن يكون رسمُ الشخوص قد انتُهيَ منه بعد .

و من الواضح أنّ الشخصية الرئيسة التي رسمها النص في قصة سليمان هي سليمان نفسه . أمّا شخوص الجنّ فقد جاء رسمُهم شخوصاً ثانويين وظّفهم النصُّ لخدمة سليمان .

رسمَ النصُّ سليمان (عليه السلام) شخصيّةً نبويّةً متميّزة قد اصطفتها السماء في حينه لممارسة المهمّة الخلافية ، و هيّأت لها من الأسباب تسخير الرياح ، إسالة القطر ، تسخير الجنّ ما يثير الدهشة و الانبهار بنحوه المعجز الذي لحظناه .

و واضحٌ أيضاً أنّ سليمان و داود (عليهما السلام) و سائر الشخصيات المنتقاة يمثّلون القمّة من الآدميّين الذين مارسوا مهمّة الخلافة على الأرض .

و من هنا فإنّ رسم الشكر في اُقصوصتي داود و سليمان ، صيغَ بنحو يُحسّس المُتلقّي بأنّهما مارسا مهمّة الخلافة بمستوياتها التي من أجلها منحتهما السماء هذه المعطيات المعجزة من تسبيح الجبال و الطير ، و من إلانة الحديد و إسالة النحاس و من تسخير الجنّ و . . . .

و على العكس من ذلك ، جاء رسمُ عدم الشكر تعقيباً على المتمرّدين على النعم ، متمثّلا بخاصة في السبئيّين .

بيد أنّ الملاحظ أنّ اُقصوصة سليمان (عليه السلام) قبل أن تُختم لتتجه ـ حسب تسلسلها في السورة ـ إلى اُقصوصة سبأ والتي سميناها البلدة الطيّبة، قد رسمت موت سليمان (عليه السلام) ، و نمط الاستجابة التي صدرت عن الآدميين و نظرتهم عن شخوص الجنّ حيال موته .

و السؤال هو: ما هي الأسرارُ الفنّية لرسم شخصية سليمان (عليه السلام) و هي تودّع الحياة ؟

ثمّ ما هي الأسرار الفنّية وراء الطريقة التي رسمت عبر مفارقة سليمان الحياة ؟

و أخيراً: ما هي الأسرار الفنّية لاستجابة الآدميين عن شخوص الجنّ بخاصة حيال موت سليمان (عليه السلام) ؟ .

لقد خُتمت اُقصوصة سليمان (عليه السلام) على النحو الآتي:

﴿فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)

و نحن قبل أن نعرض للنصوص المفسّرة ، يعنينا أن نتقدّم إلى التفسير الفنّي الصرف ، مشفوعاً بالنصوص الموثوق بها . و هي نصوص تتلاءم مع التذوّق الجمالي الصرف الذي تستهدفه السماء ، حينما تخضع الاُقصوصة لعمليات الكشف الفنّي لدى المتلقّين .

إنّنا بعيداً ـ في البدء ـ عن النصوص المفسّرة ، يمكننا أن نستخلص جملة من الدلالات الفنّية لهذه الخاتمة من الاُقصوصة .

إنّ أوّل ما يثيره المتلقّي من الأسئلة ، هو السؤال عن الصلة الفنّية بين الحديث عن تسخير الرياح ، و الجنّ ، و . . . لسليمان (عليه السلام) و بين صياغة النهاية من عمره الكريم بالنحو المتقدم .

تُرى: هل يعني ذلك أنّ السماء تريد أن تقول لنا: إنّ الحياة حتّى في مستوياتها غير المألوفة ، من تسخير للجنّ و الرياح و الإنس . . . إلى آخره ، تظلّ مجرّد مسافة محدّدة من الزمان و المكان بحيث تنتهي ـ مع خطورة الأحداث المعجزة التي رافقت سليمان ـ إلى تلك النهاية التي رافقت موته ، من حيث لم تدلّ الآخرين على موته إلاّ الأرضة التي أكلت عصا سليمان (عليه السلام) ، و إلى أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون بذلك ما لبثوا في العذاب المهين ؟!

إنّ مثل هذ الاستخلاص من الممكن أن يُطمأن إليه لو أنّ النهاية قد صيغت بنحو يتحدّد من خلاله أنّ الأرضة بمقدورها أن تحسم حياة شخصيّة سُخرت لها كلّ القوى .

بيد أنّ ربط ذلك بشخوص الجنّ و عدم علمهم بموته ، قد لا يُسعف المتلقّي بالاطمئنان إلى التفسير المذكور إلاّ في نطاق محدّد بحيث يشكّل جزءً من دلالات مختلفة ، و ليس التفسير النهائي له . إذن لنتجه إلى استخلاص آخر .

* * *

تقول بعض النصوص المفسّرة: إنّ سليمان (عليه السلام) قال لأصحابه يوماً:

«إنّ اللّه قد وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي»

و إلى أنّه ذات يوم صعد إلى مقصورته متكئاً على عصاه ، . . . و إذا بملك الموت يُخبره بنهاية حياته .

و طبيعيّاً أن يستجيب سليمان لهذه النهاية استجابة المسرور بلقاء اللّه سبحانه و تعالى ، حيث خاطب مَلَك الموت بقوله:

«امضِ لما اُمرتَ به ، فهذا يوم سروري ، و أبى اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سرور دون لقائه» .

و واضح من خلال هذه الإجابة أنّ سليمان (عليه السلام) قد غمره السرور الخالد الذي من أجله قد انتقته السماء و وهبت له مُلكاً لا ينبغي لأحد مثله .

و هذا يعني أنّ سليمان نفسه قد لفت الانتباه إلى أنّ لقاء اللّه هو السرور الخالد و ليس السرور الدنيوي الذي يمثّل فحسب مسافةً محدّدة من الزمن و حتّى هذا السرور ، أي: السرور الدنيوي ، إنما هو من أجل السماء .

و تبعاً لذلك استسلم سليمان (عليه السلام) للموت و هو متكئٌ على عصاه .

و تقول النصوص المفسّرة: إنّ سليمان (عليه السلام) بقي متكئاً على عصاه و هو ميتٌ دون أن يعلم أحدٌ أنّه ميتٌ فعلا لمدة طويلة من الزمن .

و واضح أنّ بقاءه ميتاً ـ و هو متكئٌ على عصاه ـ دون أن يسقط على الأرض ، يظلّ حَدَثاً معجزاً آخر يُضاف إلى سليمان في غمرة الأحداث المعجزة التي اكسبته السماء إيّاه ، ممّا يعني أنّ السماء حتّى في حالة موته قد أمدّته بعناية خاصة .

و إلى هنا تكون النهاية لحياة سليمان (عليه السلام) امتداداً لعناية السماء بشخصيته حتّى بعد الموت .

و في ضوء هذا يُطرح التساؤل عن صلة الأرضة التي أكلت عصاه بعد مدة من الزمن ، حتّى سقط على الأرض بعد ذلك .

* * *

طبيعيّاً من الممكن أن نستخلص من حادثة الأرضة أنّ السماء كانت في صدد تبيين المعجز في حياة سليمان و موته ، و إلى أنّ الإعجاز المتصل بموته قد تحقق في معرفة الآخرين بأنّ سليمان (عليه السلام) بقي مدة طويلة ميّتاً لم يسقط على الأرض ، بل بقي متكئاً على عصاه التي تشكل بدورها ملمحاً إعجازياً .

و مع تحقّق مثل هذا المعجز ، فإنّ ما بعده من الأحداث لم يكن ضرورياً إلاّ بمقدار ما يتدخل أحد الأسباب ، و هو الأرضة ، ليعيد كلّ شيء إلى وضعه المألوف .

ولو انسقنا مع مثل هذا التفسير الذي استخلصناه من صلة الأرضة بالعصا ، حينئذ من الممكن أن يستخلص المتلقّي أنّ أبسط مخلوق بمقدوره ـ من خلال قدرة السماء ـ أن يعيد الشيء إلى وضعه الطبيعي بأن ينخر في العصا حتّى يُسقطها مع سليمان ، مع ملاحظة أنّ سليمان في بقائه متكئاً على عصاه و هو ميت إنّما تمّ من خلال ما هو معجز من السماء .

و لكن السماء نفسها تجعل من قدراتها غير المتناهية سبباً لإبطال فاعلية المعجز المذكور من خلال فاعلية جديدة أودعتها لدى الأرضة لتمارس ما هو مألوفٌ في أذهان الآخرين .

و مع هذه الدلالة لصلة الأرضة بالعصا ، حينئذ فإنّ الدلالة الاُولى التي سبق أن قلنا: إنّ الاطمئنان إليها لم يكن قوياً إلاّ إذا ارتبطت بدلالة اُخرى ، هي ما أوضحناه الآن من الصلة بين الأرضة و العصا ، و إلى أنّ تسخير المعجز من الممكن أن ينطوي بحيث تستطيع الأرضة ـ و هي في خبرة الآدميين أمرٌ مألوف ـ أن تتدخل سبباً من السماء لمحو ما هو غير مألوف في خبرة الآدميين .

و من الطبيعي أيضاً ، في ضوء ما تقدّم أن يتداعي ذهن المُتلقّي إلى حقيقة الحياة العابرة التي تظلّ ـ في الحالات كلّها ـ مشفوعة بخاتمة ، بنهاية ، مهما شمخت ، فإنّها مقترنة بالزوال ، بل بأسباب تبدو و كأنّها لا قيمة لها مثل: الأرضة .

* * *

ثمة نصّ تفسيري آخر يحدّد الصلة بين الأرضة و العصا ، . . . يقول هذا النص:
إنّ سليمان (عليه السلام) قد اُوحي إليه بأنّ موته سيكون على الأرضة المذكورة ، و إلى أ نّه ما أن تمّ التعرّف على ذلك حتّى جرت الأحداث على نحو ما أوضحناه سابقاً .

و المهم: سواءٌ أتعرّف سليمان منذ البداية على الطريقة التي تُوفّي من خلالها ، أو لم يتعرّف عليها ، فإنّه في الحالتين تظلّ صلة الأرضة بــ المنسأة وصلتهما بالظواهر المعجزة ، و بالظواهر المألوفة ، . . . وصلة اُولئك جميعاً بقدرات السماء و معطياتها ، ثمّ بحقيقة الحياة العابرة ، و مقارنة السرور المقترن بها مع السرور بلقاء اللّه . . . كلّ ذلك من الممكن أن يستخلصه المتلقّي في ضوء النصوص المفسّرة ، و في ضوء التذوّق الفنّي الخالص .

بيد أنّ الأمر لا يقف عند استخلاص الدلالة الحائمة على صلة الأرضة بالعصا ، بل بالصلة القائمة أيضاً بين استجابة الآدميين أو استجابة شخوص الجنّ للموت المذكور من حيث عدم العلم بذلك . ترى: ما هي الأسرار الفنّية وراء الموت ، حيث لم يتعرّف الآخرون عليه ؟

من الممكن أن نستخلص جملةً من الدلالات الحائمة على موت سليمان (عليه السلام) وصلة ذلك بعدم معرفة الإنس أو الجنّ بموته .

ثمة نص مفسّر يذهب إلى أنّ الجنّ و الإنس ، قد استمروا في خدمة سليمان (عليه السلام) ـ و هو ميتٌ دون أن يعرفوا ذلك مادام متكئاً على عصاه ـ حتّى دبّت الأرضة و ظهر كلّ شيء .

و تقول بعض النصوص المفسّرة: إنّ الآدميين قد عرفوا وقوفه بنحوه المعجز حينما وجدوه واقفاً على عصاه مدة من الزمن لم يتعب ، و لم ينم و لم يأكل و لم يشرب ، فاختلفوا في تأويل ذلك حتّى نسبه بعضهم إلى الآلهة ، و بعضهم إلى السحر ، و بعضهم إلى إعجاز اللّه . . . حتّى دبّت الأرضة فبان كلّ شيء .

و في ضوء هذا التفسير يمكننا أن نحدّد صلة الأرضة بالعصا ، مادام الأمر يحسم الموقف الذي غلّف الناس ، و هو موقف يتطلّب ـ دون أدنى شك ـ تدخّلا من السماء لإبانة الحقيقة مادام الآخرون قد وقعوا في متاهات لم ترتضها السماء .

بيد أ نّه صلة ذلك باستجابة البشر أو الجنّ حيال الموت نفسه لم تتضح بعد ، إلاّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ انكشاف الموقف مرتبط بالنظرة الذاهبة إلى أنّ الجنّ لم يحيطوا علماً بكلّ شيء كما هو مرتكز في أذهان عامّتهم ، أو أذهان عامّة الآدميين ، و إلاّ لاُخبروا بموته ، و وضعوا حدّاً لتلك التساؤلات التي نسبت الموقف حيناً إلى الاُلوهية ، و حيناً إلى السحر ، و حيناً إلى حقيقة الأمر المعجز .

* * *

إنّ المفسرين يتردّدون أوّلا بين الذهاب إلى أنّ الجنّ هم الذين تبيّن لهم أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب ـ أي: بموت سليمان ـ لما ظلّوا يخدمونه طيلة هذه المدّة و يتحمّلون العذاب من أجل ذلك ، أو أنّ عامّتهم هم الذين كان يخيّل إليهم أنّ رؤساءهم كانوا يوحون إليهم بعلمهم الغيب ، حتّى ينكشف لهم زيف الإيحاء المذكور .

و هناك من يذهب إلى أنّ الإنس هم الذين تبين لهم أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب بعد أن كانوا يوهمونهم بالعلم .

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ التساؤل هو: هل إنّ الاُقصوصة في صدد توضيح أنّ العلم بالغيب لم يتوفّر عليه حتّى شخوص الجنّ الذين عُرفوا في أذهان الآدميين بأنّهم ينقلون أخبار الغيب ؟

إنّ هذا الاحتمال يقترب من اليقين ، إن لم يكن هو اليقين حقّاً ، مادامت الاُقصوصة نفسها تصرّح بوضوح أنّ الجنّ لم يعرفوا حقيقة الموقف إلاّ بعد أن دبت الأرضة .

نخلص ممّا تقدم أنّ النهاية التي خُتمت بها اُقصوصة سليمان (عليه السلام) تحمل جملةً من الدلالات المتنوعة التي ينبغي أن يقف المتلقّي عندها:

1 ـ ثمة حقيقة متصلة بصياغة النهاية الحتمية للكائن الآدمي ، مهما اقترنت شخصيّته بظواهر التسخير المعجز .

2 ـ إنّ الظواهر المعجزة غير المألوفة من الممكن أن تُحسم بظواهر غير مألوفة عند الآدميين و غيرهم ، مادام الأمر في الحالتين موكولا إلى السماء .

3 ـ إنّ الشخصيات التي تخلص في مهمّتها العبادية ، تظلّ في رعاية السماء التي لا حدّ لمعطياتها ، بنحو يصل حتّى إلى الإعجاز المتصل بطريقة الموت .

4 ـ إنّ لقاء اللّه تعالى و ما يقترن به من مشاعر السرور ، يظلّ أشدّ فاعلية من السرور الدنيوي الذي تتيحه السماء لعبادها المخلصين .

5 ـ إنّ العلم بالغيب لم يُتح لأيّة شخصية ، بما فيها شخوص الجنّ .

6 ـ إنّ إبراز الدلالات المذكورة قد صيغ بنحو فنّي غير مباشر ، ممّا يتّسع لدلالات اُخرى من الممكن أن يستخلصها المتلقّي على نحو ما لحظناه من نصوص التفسير المتفاوتة ، فضلا عن الاستخلاص الفنّي الصرف الذي يمكن لكلّ متلقٍّ أن يكشفه ، تبعاً لخبراته المتنوّعة في عملية التذوّق .

* * *

و بعامّة فإنّ اُقصوصة سليمان (عليه السلام) تنتهي بحادثة الموت التي انتهينا من الوقوف عندها .

و كانت هذه الاُقصوصة من حيث التسلسل ، عقيب اُقصوصة داود (عليه السلام) .

كما أنّ اُقصوصة البلدة الطيبة ـ حسب تسلسلها في السورة ـ تجيء عقيب اُقصوصة سليمان (عليه السلام) التي مهّدت لها كما سبق التوضيح .

و بما أنّ الأقاصيص الثلاثة جاءت متعاقبةً متسلسلةً ، فإنّ ذلك يعني أنّها تحوم على هدف محدّد يُشدّد النصُ القرآني الكريم عليه ، و لكن من خلال أقاصيص متنوّعة يحمل كلٌّ منها خصائص الهدف الفكري المشترك فيما بينها ، كما يستقلّ برسم أهداف ثانوية تضطلع كلّ اُقصوصة بتوضيحها .

فاُقصوصة داود (عليه السلام) حامت على ظاهرة العمل الصالح الذي طالبت به ، في حين
أوضحت اُقصوصة سليمان (عليه السلام) ملامح العمل المذكور ، متمثلة في المطالبة بالشكر
على معطيات السماء .

أمّا اُقصوصة سبأ فقد جسّدت النماذج السلبية التي لم تمارس عملية الشكر ممّا انتهى المطافُ بها إلى تمزيقهم و إزالة النِعَم عنهم .

و كانت الأقاصيص الثلاثة مقترنةً برسم ما هو معجزٌ أو مدهشٌ على الأقل ـ من معطيات السماء ـ بدءً من الجبال و الطير ، مروراً بإلانة الحديد و إسالة النحاس ، و انتهاءً بعمل المحاريب و التماثيل . . . إلى آخره .

و اقترنت أيضاً برسم معطيات العمل الصناعي فيما شدّدت عليه في قصتي داود و سليمان (عليه السلام) و برسم معطيات البيئة الزراعية فيما شددت عليه في قصة سبأ .

كما شدّدت الأقاصيص الثلاثة على تنوّع الممارسات العبادية التي وظّفت البيئات المذكورة من أجلها حتّى اقترنت بإشباع ما هو مترفٌ من الحاجات لكائنات اعتيادية لم تنتسب إلى النبوّة من نحو: أهالي سبأ الذين هُيّأت لهم حتّى طرق المواصلات بين داخل المدينة و خارجها بحيث تفرّدوا في الخصائص الجمالية التي تُشيع مزيداً من الحاسّة المتصلة بها . و مثلها ـ من حيث الإشباع الجمالي ـ آل داود الذين صنعت لهم التماثيل و المحاريب المصنوعة وفق جمالية فائقة ، كما تشرح ذلك نصوص التفسير .

و هذا كلّه يتمّ وفق بناء هندسي ، عبر الأقاصيص الثلاثة التي تحدّثنا عنها مفصّلا فيما لا حاجة إلى إعادة الكلام فيها .

وبهذا ينتهي حديثنا عن القصص التي انتظمت سورة «سبأ» وهي قصص يرتبط بعضها مع الآخر بعلاقة بين الأبطال: نسباً وفكراً ، والبعض مستقل تماماً في مادّته وعناصره . . . إلى آخره .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page