• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة ص : قصة صاحب الأيْد

 

 

 

قصة صاحب الأيْد

تبدأ حكاية أو اُقصوصة داود صاحب الأيْد على النحو الآتي:

﴿وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الأَْيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ

﴿إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ

﴿يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الإِْشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً

﴿كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ

هذه البداية القصصية عن داود مماثلةً للبداية التي لحظناها في سورة «سبأ» :

﴿يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ

وعدا هذه البداية ، فإنّ الاُقصوصة ترسم موقفاً جديداً في هذه السورة ، متميّزاً عمّا لحظناه في السورة السابقة .

و حتّى البداية القصصيّة التي تماثلت مع سابقتها ، قد رُسمت بتفصيل لم يرسم في السورة السابقة . ففي سورة «سبأ» يكتفي النص بمطالبة الجبال و الطير بأن تأوِّب مع داود ، أي: تسبّحُ أو ترجّعُ معه . أمّا هنا فإنّ الاُقصوصة تفصّل الرسم لعمليات التسخير من تسبيح و تأويب ، مع ملاحظة أنّ البداية القصصية في سورة «سبأ» استُهلّت بالتلميح إلى سمة الفضل الذي منحته السماء لداود ، فيما اكتفت بالعرض لمفردات هذا الفضل . أمّا في سورة «ص» فإنّ الاستهلال بدأ بذكر الأيد ، أي القوّة التي منحتها السماء لداود ، فيما يستتبع ـ من حيث البُعد الفنّي ـ أن يُفصّل الحديث عن حجم القوّة الممنوحة له .

و الآن مع تفصيلات الرسم:

إنّ أوّل ما يلفت الانتباه في هذه البداية القصصية عن داود إنّها فرّقت بين «التسبيح» و «التأويب» فيما يتصل بحركة الجبال و الطير ، كما أدخلت عنصر الزمن في عملية «التسبيح» العشيّ و الإشراق .

و قبل ذلك: أنّها ، أي: البداية القصصية شدّدت على سمة الأيد أو القوّة بدلا من الفضل كما أشرنا ، و يعنينا من ذلك كلّه أن نستخلص الأسرار الفنّية وراء هذه التفصيلات .

إنّ بَدء القصة بإكساب داود سمة الأيد ، يعني أن القصة ستشدّد على إبراز ملامح القوّة في شخصية داود .

و كما لحظنا في سورة «سبأ» فإنّ بدء القصة بإكساب داود سمة الفضل ، كان يعني أنّها ستشدّد على الفضل و منه: إلانةُ الحديد و صناعة الدروع ، كما لحظنا .

تأسيساً على هذه الحقيقة ، فإنّ سمة الأيد في سورة «صاد» ينبغي أن نقف عند تفصيلاتها مادام النصُّ ذاته يستهدف مثل هذه الدلالة المتصلة بطابع الأيد أي القوة .

و السؤال هو: ما المقصود من القوّة هنا ؟

هل يُقصد منها مجرّد الطاقة الجسمية و النفسية على العمل العبادي الخاص صلاة ، صوم . . . إلى آخره ، أم يقصد منها: القوة على مقارعة العدو بما يواكب ذلك من تجهيزات عسكرية مثلا ؟ أم يُقصد منها مطلق القوة التي تعني كلّ ما تقدّم ، فضلاً عن سواه بما في ذلك تسبيح الجبال و الطير ، . . . و ممارساته الخلافيّة على الأرض ؟

إنّ الدخول في تفصيلات القصة ، هو الذي يُحدّد لنا دلالة الأيد الذي رسمتها القصةُ طابعاً لشخصية داود .

* * *

إنّ أوّل سمة رسَمَها النص عن شخصية داود هي سمة أوّاب:

﴿وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الاَْيْدِ إِنَّهُ أَوّابٌ

خارجاً عن الدلالة اللغوية لهذه السمة ، فإنّ النصوص المفسّرة تتردّد بين دلالة الاطاعة و التسبيح ، و التوبة و الرجوع عمّا لايريده اللّه . . . و أيّاً كان فإنّ الدلالات المذكورة تومئ جميعاً إلى وثاقة صلته بالسماء و انقطاعه إليها .

بيد أنّ هذه السمة أوّاب ينبغي ألاّ نفصلها عن سمة رسمَها النص القصصي طابعاً للجبال و الطير بالنسبة لعلاقتها بداود:

﴿كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ

أي: الجبال و الطيور المسبّحة .

من الممكن في ضوء التصور البلاغي الصرف أن تخضع العمليّة إلى ظاهرة التجنيس من حيث أصوات الكلمة .

بيد أنّ النص القرآني الكريم يتجاوز الدلالة الصوتية و يُخضعها لدلالة المضمون دون أدنى شك . و حينئذ من الممكن أن يفسّر النص مرشّحاً بأكثر من دلالة ، منها:

الترجيع: عودة الصوت ، فيما يمكن أن يتمّ التجانس بين الرجوع إلى ما يريده اللّه من أهداف فيما يتصل بداود ، و بين الرجوع إلى تسبيحات داود فيما يتصل بالجبال و الطير و مثل هذا الاستخلاص يفصح دون أدنى شك من أنّ التجانس الصوتي قد واكبه تجانس فكري هو: إطاعة داود للسماء ، و إطاعة الجبال و الطير لداود من خلال أوامر السماء بذلك ، و هذا يعني ـ فضلا عمّا تقدّم ـ أنّ النص يستهدف تحسيسنا بنحو غير مباشر ـ و هو أحد أشكال الطرائق الفنّية في عملية التوصيل ـ بوجود الصلة بين من يطيع اللّه و بين تسخير السماء قوى الكون بإطاعة الشخصية المتّجهة نحو اللّه .

* * *

إنّ تسخير السماء قوىً كونيّةً محدّدة لداود هي: الجبال و الطير ، قد رسمه النص من خلال ظاهرتي التسبيح و التأويب .

فقد ذكرت القصةُ أوّلا أنّ الجبال و الطير يسبّحن مع داود:

﴿إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ . . . وَ الطَّيْرَ . . .

ثمّ ذكرت القصة ، أ نّها تأوّب أيضاً:

﴿كُلٌّ لَهُ أَوّابٌ

هذا يعني أنّ لكلٍّ من التسبيح و التأويب دلالة متميّزة .

و السؤال هو: ما هي الدلالة الفنّية للعمليات المذكورة ؟

إنّ داود يمارس عملية التسبيح ، و الجبال و الطير يمارسن التسبيح أيضاً ، و لكن من خلال تحسيس داود ذلك ، أي من خلال رفع حجب الغيب عنه ، بحيث يعيتسبيحات الجبال و الطير ، غير أنّ ما ينبغي لفت الانتباه إليه ، أنّ الجبال و الطير مطلقاً يمارسن التسبيح ، و أنّ تسخير السماء ذلك: هل يعني أنّها سمحت لداود بأن يعي ما غمضَ على سواه ، أم يعني أنّها سخّرت الجبال و الطير أن تُعنى بنشاط يُمخّض لداود إكراماً له ؟

ممّا لا شك فيه أنّ التسخير الخاص لداود ، هو الذي يسم العملية المذكورة و إلاّ فإنّ رفع الحُجب لشخوص غير نبويّة يظلّ أمراً متحقّقاً لأنماط كثيرة منهم .

أمّا التسخير الثاني فهوعملية التأويب و هوترجيعُ التسبيح ، أومطلقُ الإطاعة له .

و أمّا مستويات التسخير المذكورة فتتمثل في:

1 ـ تجميع الطيور .

2 ـ تسبيح الجبال بالعشي و الإشراق .

و السؤال هو: ما هي الدلالات الفنّية لرسم عنصر الزمن في تسبيح الجبال ؟ و ما هي الدلالات الفنّية لرسم عنصر الكم في تحشيد الطيور له ؟

إنّ المتلقّي يتساءل أوّلا عن السرّ الكامن وراء تسبيح الجبال و الطير مع داود . . . ثمّ ترجيع التسبيح أو مطلق الإطاعة لداود .

فالقصة تذكر لنا أنّ الجبال و الطير يسبّحن مع داود ، ثمّ تذكر أنّهن يُأوّبن مع داود أيضاً .

إذا أخذنا دلالة التأويب بأنّها مجرّد ترجيع التسبيح ، فإنّ الاحتمالات الفنّية لهذه: يعني أنّ الجبال و الطير يردّدن مع داود تسبيحاته ، ثمّ يرجّعن التسبيح من جديد .

و مثلما تذكر بعض النصوص المفسّرة ، بأنّ داود إذا مرّ في البراري فقرأ الزبور ، حينئذ تبدأ الجبال و الطير بالتسبيح معه ، و هو أمرٌ سبق أن أوضحنا دلالته المتصلة بداود و بالآخرين ، و لكن هل أنّ التأويب أو ترجيع التسبيح ينطوي على الدلالة نفسها ؟

من الممكن أن يكون ذلك أيضاً : بصفة أنّ الترجيع يعمّق أو يرسّخ الدلالة المذكورة .

بيد أنّنا إذا أخذنا التأويب بمعناه الآخر ، و هو الطاعة ، حينئذ فإنّ هذه الدلالة تظلّ أقرب إلى الذهن من الدلالة السابقة ، بل إنّها تتّسق ـ من حيث البُعد الفنّي نفسه ـ مع سمة الأيد التي شدّدت القصة عليها في رسمها لشخصية داود بحيث تظلّ سمة القوّة هي الطابع لكلّ مفردات القصة كما سنرى ، و منها: طابع التأويب الذي يعني إطاعة الجبال و الطير لداود أيضاً في مختلف نشاطه الخلافي على الأرض .

و هذا ـ في تصوّرنا الفنّي ـ يظلّ أقرب من أ يّة دلالة اُخرى ، مادام الأمر يتصل بالتجانس الفنّي بين أجزاء القصة ، سواء أكان ذلك متصلا بظاهرة التجنيسالصوتي ـ سمة أوّاب لداود و سمة أوّاب للجبال و الطير ـ ، أم كان متصلا بظاهرة التجانس الفكري ، متمثلا في إطاعة داود للسماء ، و إطاعة الجبال و الطير لداود تقديراً لاخلاصه في العمل الخلافي على الأرض ، فضلا عن تجانسه مع سمة الأيد الذي يطبع شخصيّته (عليه السلام)بصفة أنّ تسخير الجبال و الطير لإطاعة أوامره يشكّل أيداً أو قوّة له ، كما هو واضحٌ تماماً .

* * *

الظاهرة الثانية التي ينبغي الوقوف عندها ، هي:

توضيح مستويات التسخير لداود . فقد لحظنا أنّ القصة قد حدّدت العنصر الزمنيفي عملية التسبيح ، كما حدّدت عنصر الكم في عملية تحشيد الطيور .

و لنقرأ من جديد:

﴿إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الإِْشْراقِ

و هذا هو عنصر الكم في عملية التحشيد المختصة بالطيور ، فهي:

﴿وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً

فالمُلاحَظ في هذا أنّ كلاّ من الجبال و الطير يمارسن التسبيح و أنّ كلاّ منها يمارس التأويب .

غير أنّ ما يفرز الجبال عن الطير ، أنّ سمة الحشر ـ محشورة قد طبعت شخوص الطير . . . و أنّ سمة العشي و الإشراق قد طبعت عملية التسبيح بعامّة .

من الممكن بسهولة أن نفرز بين الجبال و الطير من حيث التحرّك ، فالجبال ثابتة في أماكنها ، أمّا الطير فمتنقّلة .

طبيعيّاً فإنّ تسخير نمطين من القوى :

أحدها ثابت و الآخر متحرّك .

أحدها: كبير الحجم ، و الآخر على عكسه تماماً .

أحدها لا يمتلك روحاً و الآخر يمتلكه . . .

هذه المستويات الثلاثة من التقابل ينطوي على أهمية فنّية كبيرة من حيث عمارية القصة ، و من حيث أفكارها .

أمّا من حيث العمارية ، أو هندسة البناء الفنّي لها ، فإنّ التقابل بين الثابت و المتنقّل ، و بين الكبير و الصغير ، و بين المادي و الروحي ، يظلّ موسوماً بإمتاع جمالي كبير لكلّ متذوّق يُعنى بقراءة النص القصصي .

و أمّا حيث الأفكار فإنّ التقابل بين المستويات الثلاثة المتقدّمة ، يعني أنّ السماء سخّرت مختلف القوى لداود ، تشدّداً في خطورة من يُخلِص في عمله العبادي ، تُسخّر له المادّي و الروحي و الكبيرَ و الصغيرَ و الثابت و المتنقّل .

لكننا بغضّ النظر عن البناء الهندسي المتقدّم لهذه الظاهرة ، لازلنا حيال ظواهر فنّية اُخرى و منها: سمة الحشر للطيور مثلا ، و سمة الزمن في عملية التسبيح .

إنّه من الممكن في ضوء التقابل بين أحد الأنماط الثلاثة الثبات و الحركة أن نفسّر ـ فنّياً ـ عملية حشر الطيور بسمة الحركة ، فمادامت متنقّلةً و متفرّقةً فإنّ جمعها في معسكر أو مجموعة يظلّ حاملا مسوّغاته دون أدنى شك . بخاصة أنّ حشدها ضمن هيئة جماعية إنّما يتمّ وفقاً للقيام بخدمة داود ، حيث يتطلّب الأمر أن تكون محشورة حينئذ .

و هذا فيما يتصل بعنصر الكم وصلته بشخوص الطيور ، و لكن ما هي الدلالة لعنصر الزمن وصلته بعملية التسبيح ؟

* * *

إنّ العشي و الإشراق يُصاغان في سياقات متنوّعة ، يمكنناـ من خلال التصوّر الفنّي الصرف ـ أن نلمّها في دلالات ، منها:

إنّ الزمن يظلّ مرتبطاً بنشاط داود نفسه في هذا الصدد ، من نحو تنظيمه لتلاوة الزبور مثلا في أوقات محدّدة عند العشي و الإشراق .

و منها:

إنّ الزمن يظلّ مرتبطاً بالجبال و الطير ، و تخصيصه محدّداً لهما عند العشي و الإشراق يظلّ مجرّد رمز للاستدامة من دون تحديد خاص لزمن التسبيح ، بقدر ما يظلّ الرمز هو دوام الممارسة .

إنّ استخلاص هذه الدلالة أو تلك من خلال التصوّر الفنّي الصرف ، يظلّ أمراً خاضعاً لطبيعة الخبراتِ المتصلة بالتذوّق .

غير أنّ هذه الخبرات تواجه دلالةً جديدة ، هي التساؤل عن معرفة دخول الزمن نفسه عنصراً في عملية التسبيح ، بغضّ النظر عن تحديده .

و إذا كانت دلالة حشر الطيور يمكن استخلاصُها من خلال كونها متنقّلة مثلا ، فما هي دلالة الزمن في عملية التسبيح ؟

ممّا لا شك فيه ، أنّ التسبيح بصفته ممارسةً لفظيةً يشكّل جزء من ممارسات عبادية تنشطر عادةً إلى ما هو حركي و لفظي ، أو حركيٌّ بعامّة قبالَ ما هو تأمّليٌ صرف .

و مثل هذا الانشطار يستتبع تحديداً زمنياً لهذه الممارسة أو تلك . مضافاً إلى ذلك أنّ السماء ذاتَها ترسم أمثلة هذا التحديد في ممارسات الصلاة و الأذكار و نحوها .

و لعل أهمّ ذلك كلّه ، هو أنّ داود نفسه بصفته إنساناً رُكّبت فيه حاجةً حيوية هي النوم ، حيث لا يسعه أن يستغرق في التسبيح آنات الزمان كلّه ، كما لا تسعه ممارساته الخلافية المتصلة بالتعامل مع الآخرين أن تسع آنات الزمان كلّه في التسبيح و مادامت الجبال و الطير قد سخّرت له في التسبيح ، فإنّ هذا يعني أنّ زمانها مرتبطٌ بزمان داود ، و هو مسوّغٌ فنّيٌ و فكريٌّ واضحٌ لاستخلاص الدلالة التي تساءلنا عن أسرارها .

* * *

كان القسمُ الأوّل من قصة داود متصلا بتسخير الجبال و الطير .

أمّا القسم الثاني من القصة ، فيتصل بأبعاد اُخرى أو بسمات اُخرى رسَمَها النصُ في شخصية داود .

و قبل ذلك كلّه ، فإنّ النص رَسَمَ سمةً عامة عند استهلاله للقصة ، هي: الأيد أو القوّة التي منحتها السماء لشخصية داود .

و قد مضى الجزء الأوّلُ من القصة راسماً بعض الأبعاد المتصلة بالأيد أو القوّة الممنوحة لداود ، أي الجبال و الطيور .

و ها هو القسمُ الثاني من القصة يرسم مفردات اُخرى للأيد أو للقوّة الممنوحة له .

طبيعيّاً ينبغي ألاّ نغفل عن البناء الهندسي للقصة في تنظيمها لرسم مختلف أبعاد
الشخصية ، من حيث تخصيص كلّ قسم من القصة لملامح أو أكثر من الملامح المتصلة بداود من حيث صلتها بالطابع العام الذي استُهلّت القصة به ، و هو طابع الأيد أو القوّة .

و الآن ، لِنقرأ هذا القسمَ الذي لم يستغرق أكثر من مقطع ، أو لنقل آية واحدة هي:

﴿وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ

هذا المقطع يتضمّن ثلاث سمات تطبع شخصية داود:

الاُولى: النبوّة ، أو مطلق الادراك الصائب .

الثانية: الكفاءة في ممارسة القضاء .

الثالثة: تقويةُ مُلكه ، أو إدارتهِ السياسية العامّة .

هذه السمات تظلّ متصلةً كما هو واضح بالطابع العام الذي استُهلّت به القصة ، و نعني به طابع الأيد أو القوّة:

﴿وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الاَْيْدِ

فهناك أوّلا: تقوية سلطانه عسكرياً و إدارياً . . . إلى آخره .

و هذا من أبرز ملامح الأيد أو القوة المتصلة بإدارته العامّة للجمهور .

و هناك ثانياً: إكسابه طابع النبوّة ، أو طابع الحكمة العامة التي تعني الإدراك الصائب للاُمور .

و واضح أنّ الإدراك الصائب للاُمور حين يقترن بقوّة إدارية أو عسكرية أو سياسية بعامّة ، حينئذ فإنّ طابع الأيد أو القوّة يظلّ في ذروة مصاديقه في هذا الصدد .

إنّ أيّة حكومة مثلا ، حتميّاً يحتاج لها قائدٌ واع ، و إدارة ضخمة ، حينئذ تستكمل مقوّمات وجودها دون أدنى شك . فإذا أضفنا إلى ذلك القوّة القضائية ، حينئذ فإنّ مقوّمات وجودها تصل إلى الكمال في ذروته .

و هذه السمة الثالثة ألمح النصُ القصصي إليها حينما أوضح أنّ السماء آتت داودَ فصلَ الخطاب .

* * *

إنّ فصلَ الخطاب الذي رَسَمه النصُّ القصصي طابعاً لداود ، و جعله السمة الثالثة لشخصيته التي دعمتها السماء ، هذا الطابع ـ من حيث موقعه الهندسي من بناء القصة ـ قد رُسِمَ في سياق ما هو معروف من السلطات الثلاث: السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية و السلطة القضائية .

فالحكمة تواكب الاُولى .

و شدّ المُلك يُواكب الثانية .

و الفصل يُواكب الثالثة .

إنّ ما يعنينا من ذلك ، هو أنّ النص القصصي في رسمه للطوابع الثلاثة التي تسم شخصيّة داود ، قد رَسَم سمةَ فصل الخطاب في سياق سمتين تبدوان و كأنّهما تّتسمان بعموميّة و شمول ، بالقياس إلى مفردة واحدة هي الفصل في الخصومات مثلا .

بيد أنّ التدقيق في هذه الظاهرة يدلّنا على أهمية السمة المتقدّمة ، و أعني بها فصل الخطاب .

من هنا فإنّ النص حينما يختتم القسم الثاني من القصة و يتّجه إلى قسمها الثالث و الرابع ، نجده يُشدّد على إبراز السمة القضائية ، بل إنّه يخصّص القسمين الأخيرين بكلّ ما فيهما من التفصيلات ، يخصّصهما لظاهرة القضاء فيما يعني ـ من حيث البناء الفنّي و الفكري للاُقصوصة ـ مدى ما يحرص النص عليه من الظاهرة المتقدّمة ، بحيث يخصّص لها جزءين من القصة مقابلا لجزءين آخرين خصّصا لأبعاد متنوّعة بما هو معجز و مدهشٌ من الظواهر ، بالقياس إلى ظاهرة تبدو و كأنّها مألوفة و عادية في الأذهان ، مادامت لا تتطلّب أكثر من معرفة بملابسات القضية من مُدّع و مُنكر ، و يَمين و شاهد مثلا .

و نظراً لأهمية الفصل في ظاهرة القضاء نجد أنّ القصة كما قلنا ، تتّجه في هذه السورة لمعالجة بعض شؤونه على نحو ما نبدأ بتوضيحه الآن .

* * *

القسم الثالث من اُقصوصة داود يتّجه إلى رسم حادثة أو موقف معيّن يتصل بقضاء داود .

كما أنّ القسم الرابع و هو الأخير من القصة يتّجه إلى مطالبة داود (عليه السلام) ، أو بالأحرى مُطالبة الآدميين:

﴿يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ

إنّ هذين القسمين من القصة يشكّلان مثلما قلنا عَصبَ الاُقصوصة ، أو الزاوية التي يُشدّد النصُّ عليها قبال ظواهر اُخرى ، يرسمها النص في أكثر من سورة عند رسمه لشخصية داود .

و الآن ما هو الموقف أو الحادثة القصصية التي تضمّنها الجزءُ الثالث من القصة ؟

لنقرأ أوّلا:

﴿وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الِْمحْرابَ

﴿إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ

﴿قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْض

﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ

﴿إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ

﴿فَقالَ ، أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ

﴿قالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ

﴿وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض

﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ

﴿وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ . . .

هذه الحادثة تتصل بمفاجأة داود لِشخوص صعدوا إليه من أسوار المحراب بنحو أفزعه . إذ لم يستأذنوه و لم يجيئوا إليه في الوقت المحدّد للقضاء و لم يدخلوا من الممرّ الطبيعي للمحراب .

ثمّ سُردت عليه قصة خصمين بغى بعضهما على الآخر ـ بعد أن خاطبوه بألاّ يخاف منهم و أن يحكم بالحقّ بينهم ـ متمثلةً في مطالبةِ الأخ المالك لتسع و تسعين نعجة ، الأخَ المالكَ نعجةً واحدة بضمّها إليه .

و عندها حكم داود (عليه السلام) لصالح المدّعي .

بيد أ نّه علم أنّ القضية المعروضة عليه إنّما كانت اختباراً ، فاستغفر اللّه . . .

هذا هو ظاهر الحادثة . . .

بيد أنّ الوقوف على النصوص المفسّرة من جانب ، و الملابسات التي يمكن للمتلقّي استخلاص دلالاتها من جانب آخر ، تقتاد دون أدنى شك إلى التعرّف فنّياً و فكريّاً على هذا القسم من الاُقصوصة وصلته بسائر الأقسام الاُخرى .

إذن ، لنتّجه إلى النصوص المفسّرة أوّلا ، ثمّ إلى استخلاص الدلالات الفنّية للحادثة .

تتضمّن حادثة تسوّر المحراب و الدخول على داود و فزَعِه من ذلك ، ثمّ الإحتكام إليه و القضاء لصالح المُدّعي ، ثُمّ معرفته (عليه السلام) بأنّ الواقعة تتّصل بــ الاختبار ، و استغفاره في نهاية المطاف ، ثمّ مغفرة ذلك ، و الإشارة إلى حسن المآب . . . هذه الواقعة و ما رافقها من مواقف تتضمّن جملة من الدلالات الفنّية و الفكريّة يجدر الوقوف عندها .

فنحن إذا انسقنا مع النصوص المفسّرة ، نجد أنّها تتفاوت في الذهاب إلى أنّ الاستغفار أساساً كان على نحو الاخلاص في العبادة ، و هو الاستغفار حتّى من غير ذنب ، بصفة أنّ العبادة الحقّة لا يمكن أن يُتوفّر عليها بحال من الأحوال .
و هناك من النصوص الذاهبة إلى أنّ الاستغفار ناجمٌ عن ملابسات الموقف القضائي . . . و هو موقفٌ يتّصل بالحكم لصالح المدّعي دون أن يُشفع بتبيين أقوال المُدّعى عليه .

و من الواضح أنّ التفسير المذكور ينسجم مع سياق الواقعة القصصية التي رسَمَها النصُّ القرآني الكريم .

و أمّا فيما يتّصل بواقعة التسوّر نفسه ، فإنّ النصوص المفسّرة تتفاوت أيضاً بين الذهاب إلى أنّ المتسوّرين كانوا شخوصاً بشرية ، و بين الذهاب إلى أنّهم كانوا شخوصاً ملائكية .

و لكن ، أيّاً كان الأمر فإنّ استخلاص الدلالة الفنّية و الفكرية من حادثة التسوّر و القضاء يظلّ في الحالين محكوماً بالطابع ذاته مادامت القضيّةُ متصلةً بــ الاختبار و نتائجه ، و هو صريحُ النصِّ القرآني الكريم و النصوص المفسّرة الموثوق بها .

و السؤال هو: ما هي إمكانية استخلاص الدلالة الفنّية لِبناء الواقعة المتقدّمة و ملابساتها ، من حيث صلة التفصيلات القصصية من شخوص و أحداث و مواقف بعملية الاختبار .

* * *

من حيث الحوادث فإنّ عملية التسلّق أو التسوّر تظلّ مرتبطة بأكثر من تساؤل ، منها:

1 ـ لِمَ لم يدخل الخصوم من المدخلِ الطبيعيّ للمحراب ؟

2 ـ إذا انسقنا مع النصوص الذاهبة إلى أنّ الوقت لم يكن في الزمن المعتاد للقضاء ، . . فإنّ التساؤل أيضاً يُثار على هذا النحو: لِمَ لَم يأتِ الخصوم في الزمن المعتاد ؟

و إذا تجاوزنا ذلك ، إلى سمة الفَزَع الذي غلّف داود (عليه السلام) ، حينئذ نجد أنّ رَسْمَ هذا الملمح الفَزَعِ لابدّ أن يرتبط عضوياً برسم التسوّر الذي تمّ في الزمان و المكان غير الاعتياديَيْنِ .

ممّا لا شك فيه ، أنّ عملية التسوّر تستدعي فَزَعاً على النحو الذي تمّ رسمُه . بيد أنّ السؤال قائمٌ على إمكانية استخلاص دلالة التسلّق نفسه . ترى: هل بمقدور المُتلقّي أن يربط بين الفَزَع و بين نمط الحُكم الصادر لصالح المدّعي ؟

و بكلمة جديدة: هل أنّ النص في صدد تبيين إحدى العمليّات النفسيّة و هي الفزع بصفته استجابةً انفعاليةً تعكس أثرها على عملية الحكم ذاته ، بداهةَ أ نّه من الممكن أن يصرف الفزعُ انتباه الشخصيّة عن جزئيات الموقف لحين تلاشي الفزع ؟

و من الواضح أنّ عملية التسلّق حينما تُصاغ بنحوها المتقدّم ، حينئذ تظلّ الصلةُ بينها و بين انفعال الفزع ، لها مسوّغاتها الفنّية .

فما لم يكن ثمة حَدَث غيرطبيعي ، حينئذ لم يكن ثمة فزع .

و ما لم يكن ثمة فزع لم يكن ثمة انعكاسٌ على الحكم .

* * *

إنّ مثل هذا الاستخلاص من الممكن أن يتّسم بكونه صائباً أو خاطئاً بيد أنـّه مجرّد استخلاص خاضع للاحتمال .

بقي أن نتّجه إلى موقف المتخاصمين أنفسهم:

فالمُلاحظ أ نّهم خاطبوا داود (عليه السلام) على النحو الآتي:

﴿لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْض

﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ

إنّ هذا الموقف يتضمن ثلاثة أو أربعة منبّهات أو مُثيرات لها صلتها أيضاً بنمط الاستجابة القضائية .

فقد أحسّ المتخاصمون بأنّ الفزع قد غلّف شخصِيّة داود (عليه السلام) و مجرّد تحسيسه (عليه السلام)بأنّهم على وعي بالموقف ، كاف ـ عبر التركيبة الاعتيادية للآدميين ـ أن يزرع الثقةَ بالمُدّعي .

فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الاقرار بالخصومة:

﴿بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْض

ثمّ إظهار الحرص على أنّهم لا يقبلون الشَطط ، فضلا عن إظهار الحرص على أنّهم يتشوّقون الهداية إلى الصراط السوي ، . . . حينئذ فإنّ هذه المثيرات كافيةٌ بدورها بأن تزرع الثقة بالمدّعي .

و لعل أشدّ المنبّهات أو المثيرات حجماً و مساهمتها في تفجير الثقة ، هو نمط الطرح الذي صاغه المُدّعي في تبيين مظلوميّته .

فقد أشار إلى أنّ أخاه يمتلك تسعاً و تسعين نعجةً و إلى أ نّه يمتلك نعجةً واحدة فحسب ، و إلى أنّ أخاه طالبه بضمّ الأخيرة إليه و إلى أ نّه يتميّز باقتدار معنوي أو مادّي أو لفظي ، بحيث يسيطر على الموقف .

مثل هذا الطرح يساهم مساهمةً كبيرة في زرع الثقة بالمدّعي مادام الأمر يتصل بضمّ الواحدة إلى التسع و التسعين ، و مادام المدّعى عليه متمكّناً من السيطرة على الموقف بمهاراته الاُسلوبية في الكلام ، على عكس المدّعي الذي لا يمتلك سوى نعجة واحدة ، مثلما لا يمتلك مهارة اُسلوبية في الكلام يُسيطر بها على أخيه . .

كلّ هذه الملابسات المتصلة بنمط الطرح الذي يُبرز مظلوميّة المُدّعي ، كاف بزرع الثقة به كما قلنا ، ممّا يُعزّز التجاوبَ مع الموقف على نحوه المتقدّم . . .

* * *

بيد أنّ هذا كلّه يظلّ مجرّد استخلاص حائم على التذوّق الفنّي الصرف ، فيما يمكن أن يتّسم بصواب التذوّق أو عدمه ، لكنه ـ بعامّة ـ متّسقٌ مع ظاهر النص القرآني و النصوص المفسّرة الذاهبة إلى أنّ العملية متصلة بــ الاختبار ، ولو لم يكن ذلك ، لما كان ثمة مسوّغ صريحٌ لهذه الفقرة الكريمة:

﴿وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ

و لـمّا كان ثمة مسوّغ للفقرة الآتية أيضاً:

﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ . . .

إذن يمكننا أن ندرك بعض الأسرار الفنّية لعملية التسلّق ، ثمّ ما رافقها من استجابة الفزع ، ثمّ عمليّة الحكم ، ثمّ الاستغفار . . . فضلا عما غلّف الموقف من اُسلوب في طرح الدعوى و مفرداتها . . . كلّ ذلك ـ دون أدنى شك ـ قد تمّ وفق بناء هندسي له جماليّـته التي ينبغي ألاّ نفصلها عن الدلالة الفكرية المستهدفة في هذا الجزء من اُقصوصة داود (عليه السلام) ، و بخاصة أنّ الاُقصوصة خُتِمت بفقرة:

﴿يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ . . .

ممّا يعني أنّ الفقرة موجّهة إلى المتلقّين بعامّة في ممارساتنا لعملية الخلافة على الأرض ، و منها: ظاهرة القضاء و أحكامه .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page