• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة ص : اُقصوصة سُلَيمان (عليه السلام)

ممّا لا شك فيه أنّ اُقصوصة سليمان (عليه السلام) تظلّ مرتبطةً بقصة داود (عليه السلام) حيث أنّ الحديث عن الأب يستدعي الحديث عن الابن ، كما أنّ السمات المشتركة بين الشخصين تحمل مسوّغات التوحّد بين القصتين أو بطليهما ، . . . و المهم أنّ متابعتنا لقصة سليمان سوف تكشف عن تداخل أو تعاقب القصتين .

إذن ، لنتّجه إلى الاُقصوصة الثانية من أقاصيص سورة «صاد» و هي: اُقصوصة سليمان .

و قد لحظنا في اُقصوصة داود (عليه السلام) أو صاحب الأيد أ نّها استُهلّت برسم سمة عامة لداود هي الأيد أو القوة .

و لحظنا كيف أنّ الاُقصوصة سَردت لنا وفق بناء هندسي مفردات السمة المذكورة: من تسخير للجبال و الطيور و من دعم له في نطاق المُلك و الحكمة و القضاء ، مع ملاحظة أنّ الاُقصوصة شدّدت على سمة أوّاب في رسمها لشخصية داود (عليه السلام) .

هنا في اُقصوصة سليمان يبدأ السردُ على النحو الآتي:

﴿وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ

فهذه البداية القصصية تتضمن سمتين في رسمها لشخصية سليمان (عليه السلام): الاُولى:
أنّه نعم العبد ، و الاُخرى: سمة أوّاب ، أي نفس السمة التي رسَمَها النص لأبيه داود (عليه السلام) .

هنا ، ينبغي أن نقف على البناء العضوي للاُقصوصة من حيث صلتها أوّلا بأقاصيص السورة ، و منها: هذه البداية القصصية .

ففي وقوفنا على سورة «سبأ» لحظنا مثلا مدى التلاحم العضوي بين قصص السورة المتقدّمة ، و بخاصة حينما تتوالى القصص دون أن يُفصل بينها نثرٌ غير قصصي ، ممّا يعني أنّ القيم الفكرية التي تصل بين الأقاصيص تتضخم خطوط التلاقي بينها على نحو أقلّ منه في الأقاصيص التي يفصل بينها نثرٌ قصصي ، مع أنّها في الحالين ، أي: في حالة انتثار الأقاصيص في سورة ما بلا فاصل نثري ، و في حالة انتثارها بفاصل نثري ، يظلّ الأمر كلّه حائماً على وحدة فكرية تجمع بين قصص السورة ، كلّ ما في الأمر أنّ حجم الوحدة المذكورة يتميّز من نصٍّ لآخر ، حسبَ ما يقتضيه السياق .

هنا ، في سورة «صاد» نلحظ التناسق العضوي بين الاُقصوصتين داود و سليمان (عليهما السلام)محكوماً بالطابع العماري نفسه من حيث تجانس الخطوط الهندسية التي ترسمها الاُقصوصتان .

و السؤال هو عن صلة البداية القصصية أوّلا .

﴿وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ

صِلتها بالاُقصوصة السابقة .

* * *

إنّ أوّل ما يبتدر إلى الذهن ، أنّ الآصرة النسبيّة البنوّة تجيء في مقدمة الخطوط التي تنتظم عِمارةَ الاُقصوصة .

ففضلا عن أنّهما داود و سليمان ينتميان إلى النبوّة ، فإنّهما أيضاً ينتميان إلى آصرة نَسبيّة أب ـ ابن .

ثانياً: يجيء رسم السماتِ لشخصيتيهما مشفوعاً بسمة هادفة يُشدّد النصُ عليها من نحو نِعمَ و أوّاب فيما يتصل بشخصية سليمان ، و ذي الأيد و أوّاب فيما يتصل بشخصيّة أبيه داود .

ثالثاً: يجيء رسم السمات لشخصيتيهما مطبوعاً بما هو مشترك حيناً ، و بما هو متميّزٌ حيناً آخر .

فسمة ذي الأيد مثلا ، تشكل طابعاً مميّزاً يأتلف مع مفردات الأحداث التي سيقت في اُقصوصة داود . إلاّ أنّ سمة أوّاب تظلّ طابعاً مشتركاً بين داود و ابنه .
فداود رسمه النص إنّه أوّاب و سليمان رسمه النص أيضاً إنّه أوّاب .

رابعاً: أنّ البداية القصصية لكلّ منهما ترسم سمة محدّدة تنعكس على مفردات الاُقصوصة حَدَثاً و موقفاً على نحو ما لحظناه في اُقصوصة داود ، و على نحو ما نحاول الآن توضيح ذلك في اُقصوصة سليمان .

و المُهمّ ، أنّ البداية القصصية:

﴿وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ

يُمكننا أن نتعرّف من خلالها على بعض خطوطها المتمثلة في رابطة النبوّة و النسب ، ثمّ في السمة المشتركة التي نُصّ عليها بكلمة أوّاب .

و مع أنّنا سنعرض لهذه السمة أوّاب و انعكاسها على أحداث القصة ، . . . إلاّ أنّنا قبل ذلك نواجه خصّيصتين تتطلّبان الوقوف عندهما من حيث انعكاسهما على محتويات القصة من جانب ، وصلتهما بما هو مشترك بين قصتي داود و سليمان من جانب آخر .

و الخصّيصتان هما:

1 ـ ﴿وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ .

2 ـ ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ .

و الخصّيصة الاُولى تتصل: بسمة اجتماعية ، و الاُخرى: بسمة فردية .

ترى: ما هي دلالة السمتين المذكورتين ، فنّياً ؟

* * *

أمّا السمة الاُولى:

﴿وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ .

فإنّ الملاحظ ، أنّها لم ترد في سورة «سبأ» التي تضمّنت أيضاً قصتي داود و سليمان متعاقبتين ، بل جاء رسمُ شخصية سليمان في السورة المذكورة ، دون التلميح إلى الرابطة النسَبيّة بينهما ، في حين جاء رسم الشخصية المذكورة في سورة «صاد» مستهلاّ بأنّ السماء وهبت لداود سليمان:

﴿وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ

و السؤال هو: هل يُمكننا الذهاب إلى أنّ النص في صدد سرد النعم لداود الذي تقدّم الحديث عنه في الاُقصوصة السابقة من أ نّه ذو الأيد أو القوّة ، بحيث يُعدّ منح سليمان له ، جزءً من الأيد المذكور ؟

إنّ مثل هذا الاستخلاص ، يظلّ حائماً على مجرّد الاحتمال ، لكنّه ـ من حيث التذوّق الفنّي الصرف ـ قويّ الدلالة إذا أخذنا في الاعتبار أنّ منح الابن هو استمرارٌ لشخصية الأب فيما كان مثلُ هذا المنح موضعَ مطالبةِ بعض الأنبياء (عليهم السلام) و فيما صرّحت بمثله نصوصٌ قرآنية كثيرة و فيما أوضحت نصوص الحديث أهمية مثل هذا المنح .

يضاف إلى ذلك أنّ بعض الأعمال التي باشَرَها داود (عليه السلام) قد استُكملت في عهد ابنه سليمان ، كما تذكر ذلك بعض النصوص المفسّرة عبر تلميحها لداود و سليمان في سورة «سبأ» .

و المهم بعد ذلك كلّه ، أنّ سمة ذي الأيد تظلّ على صلة بهذا المنح ، إذا دقّقنا في تنوّع القوى التي منحتها السماء لداود ، حيث يتصل بعضها بقوى مادية مثل:
الجبال ، و قوىً حيوانية مثل: الطيور ، فضلا عن سمة فردية مثل الحكمة و سمة سياسية مثل المُلك و سمة قضائية مثل فصل الخطاب .

و كلّها قوىً تجسّد دلالة الأيد الذي رسمه النص طابعاً عامّاً في استهلاله لسرد قصة داود و هو أمرٌ يظلّ متسقاً مع منح الابن الذي يشكّل استمراراً لشخصية الاب من حيث كونه قوّة بدورها .

و هذا كلّه فيما يتصل بالسمة الاُولى .

و لكن ما هي الدلالة الفنّية التي يمكن استخلاصها من السمة الثانية التي وردت في البداية القصصية ، و نعني بها سمة نعم العبد ؟

ممّا لا شك فيه ، أنّ هذه السمة تظلّ من النمط الآخر الذي قلنا: إنّ النصّ يرسم في كلّ اُقصوصة مستويين من السمات ، أحدهما: سمات مشتركة بين بطلي الاُقصوصتين داود و سليمان ، و الآخر: سمات متميّزة ينفرد بها كلُ بطل ، بحيث يُشدّد النص عليها من خلال الحوادث و المواقف المسرودة في القصة .

من هنا فإنّ سمة نعم العبد مضافاً إلى سمة أوّاب عبر ورودهما في البداية القصصية عن سليمان (عليه السلام) ينبغي أن نعالجهما في تضاعيف القصة بما تتضمنها من أحداث و مواقف ، مع ملاحظة أنّ سمة أوّاب تشكّل طابعاً مشتركاً للبطلين .

لكننا مع ذلك ، ما دمنا في صدد توضيح الصلة العضوية بين بداية الاُقصوصة و محتوياتها ، فإنّ السمات المشتركة و المتميّزة تخضع لطابع واحد من حيث الصلة المذكورة .

تبدأ اُقصوصة سليمان بعد المقدّمة القصصية بعرض الحادثة الآتية:

﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصّافِناتُ الْجِيادُ

﴿فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ

﴿رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الاَْعْناقِ

إنّ هذه الحادثة التي يبدأ القسمُ الأوّلُ من الاُقصوصة بها ، لو دققنا التأمّل فيها ـ دون الاستعانة بالنصوص المفسّرة ـ لواجَهتنا بجملة من الدلالات التي تثري من عملية التذوّق الفنّي .

فلو انسقنا مع ظاهر الحَدَث ، للحظنا أ نّه يتمثل في مجموعة من الخيل السريعة الواقفة على ثلاثة أرجل ، قد استعرضها سليمان ذات يوم . لكنه أمَرَ بالاتيان بها ، و مسَحها بالسوق و الأعناق بسبب من إشغالها إيّاه عن ذكر اللّه ، نظراً إلى أ نّه كان يُعنى بها و يحبّها .

إلى هنا فإنّ غموضاً فنّياً ممتعاً يلفّ الحادثة . أمّا المفردات الواضحة فيها ، أو لنقل: المعرفة الإجمالية بالحادثة ، تتمثل في انتباه سليمان (عليه السلام) إلى أنّ حبّه للخيل ، ينبغي ألاّ يشغله ولو حيناً عن ذكر اللّه .

هذه هي القيمة الفكرية للحادثة ، و المتلقّي بمقدوره أن يستخلص هذه الفكرة بسهولة ، و هو الهدف الرئيسي من سرد الحادثة و كفى به هدفاً ألفتت القصةُ انتباهَنا إليه .

من هذه الزاوية بالذات ، يمكننا أن نعلّل واحداً من أسرار الخطورة الكبيرة في القصص القرآنية الكريمة . فالقرآن حينما يسرد لنا قصةً ما ، فإنّه يستهدف توصيل غرض معين ، فكرة محدّدة بمقدور أيّ واحد منّا أن يُدركها بوضوح بغية الإفادة منها في السلوك ، لكنه في الآن ذاته يوشّيها بخصائص جماليّة و فكريّة لن تُستخلص بسهولة إلاّ لمن أراد أن يحقّق لفكره مزيداً من الثراء أو يشبع حاجته إلى الجمال و التذوّق الفنّي ، حينئذ لابدّ له من الركون إلى النصوص المفسّرة من جانب ، و إلى خبرته الفنّية الخاصة من جانب آخر .

* * *

و انطلاقاً من هذه الحقيقة ، فإنّ بمقدور أيّ قارئ أو مستمع أن يدرك الفكرة المحدّدة التي تنطوي عليها حادثة الخيل ، و هي: أنّ حبّ الخيل أو أيّة معطيات اُخرى ، ينبغي ألاّ يشغلنا عن ذكر اللّه ، و هذه القيمة الفكرية لا يحتاج المستمعُ أو القارئ العادي في استخلاصها إلى النصوص المفسّرة أو إلى خبرة تذوّقية خاصة .

و هذا أحد أوجه الخطورة الفنّية الكبيرة في قصص القرآن الكريم ، حيث يُتيح للمتلقّي إدراك القيمة الإجمالية العامّة للقصة .

و هذه الخصّيصةُ بالذات هي التي تفسّر لنا أسباب الصياغة الفنّية التي تجمع بين الوضوح و الغموض الفنّي ، بين ذكر بعض التفصيلات و اختزال البعض الآخر .

إنّ المتلقّي قد يتساءل مثلا: ما المقصود بمسح السوق و الأعناق ، و قد يتساءل عن المقصود بفقرة: حتّى توارت بالحجاب ، لكنه حتّى لو لم يصل إلى معرفة المقصود من التواري ، أو المقصود من المسح ، فإنّه يدرك بنحو مجمل أنّ سليمان قد صرّح بوضوح بما يلي:

﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي

و صرّح قائلا:

﴿رُدُّوها عَلَيَّ

فمن خلال هذين التصريحين ندرك أنّ استعراض الخيل قد أشغله لِبرهة ولو ضئيلة عن ذكر اللّه ، و ندرك أنّ سليمان قد مارسَ عملا ما حيال الخيول ، تكفيراً عن إشغالها إيّاه فترة قليلةً عن الذكر . أمّا ماهيّة هذا العمل ، فأمرٌ ثانوي . أمّا تفصيلات العرض ، و تفصيلات الزمن المستغرق له ، و تفصيلات الذكر الذي فات سليمان ، فأمرٌ ثانويّ له أهميته دون أدنى شك ، و لكن ليس بنفس الأهمية الكبيرة التي ينطوي عليها الانشغال بالمعطيات عن ذكر اللّه بشكل عام . و تبعاً لهذه الأسباب يمكننا أن نفسّر المسوّغ الفنّي لحذف التفصيلات ، أو اختزالها أو غموضها ، مادامت تشكّل هدفاً ثانوياً بالقياس إلى الهدف الرئيسي الذي أفرزته
القصة بوضوح ، كما أسلفنا .

و الآن و قد أدركنا هذه الحقيقة يجدر بنا أن ننتقل إلى الأهداف الثانوية للحادثة متوكئين على النصوص المفسّرة من جانب ، و على التذوّق الفنّي الخالص من جانب آخر .

* * *

إنّ أوّل ما يواجهنا من الحادثة ، هو العرض العسكري للخيل .

و تواجهنا ثانياً السماتُ الخارجية للخيول ، فيما رُسمت بأنّها صافنات و جياد .

و يواجهنا ثالثاً التواري بالحجاب .

و يواجهنا رابعاً المسح بالسوق و الأعناق .

ترى ما هي دلالات ذلك كلّه ؟

أمّا العرض العسكري للخيل ، فإنّ النصوص المفسّرة تتفاوت في تقويم السبب المعزّز لهذا العرض . فبعضها يذهب إلى أنّها خيول متميّزة تحمل سمة المُدهش و ليس سمة المألوف ، كأن تكون خيولا بحرية ذات أجنحة و بعضها يذهب إلى أنّ سليمان قد ورث خيولا كان أبوه داود قد أصابها في أحد فتوحاته . و بعضها يذهب إلى أنّ سليمان نفسه قد أصابها في أحد معاركه . و بعضها يذهب إلى أنّ سليمان ـ أساساً ـ كان يحبّ الخيل ، فيستعرضها تبعاً لذلك .

و أيّاً كان السبب ، فإنّ العرض العسكري للخيول يظلّ متصلا بطبيعة مهمّته العسكرية التي لا تقف عند نمط واحد من القوى ، بل تتجاوزه إلى قوى الإنس و الجنّ و الطير و الريح و سواها .

بيد أنّ الذي حدث هو ، أنّ العرض العسكري قد أبطأ به عن ذكر اللّه ، كما هو صريح الحوار الذي وجّهه سليمان نفسه:

﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي

مثلما هو صريح النصوص المفسّرة .

* * *

و أمّا المفردة الثانية من الحادثة فهي: السمتان اللتان رسمهما النص للخيول ، و نعني بهما سمة الصافنات و سمة الجياد .

و تقول النصوص: إنّ الخيول التي استعرضها كانت واسعة الخطو ، سريعة المشي و إلى أنّها تقف على ثلاثة أرجل و تضع طرف الرابعة على الأرض .

إنّ مثل هذه السمات لابدّ أن تتصل بملامح جمالية و عسكرية دون أدنى شك ، و إلاّ لما نصّت الاُقصوصةُ عليها ، طالما نُدرك أنّ النص القرآني الكريم يتميّز بالاقتصاد اللغوي الذي يظلّ أحد وجوه الإعجاز فيه .

و ممّا لا شك فيه أيضاً ، أنّ مجرّد اتّصاف الخيول بملامح عسكرية و جمالية ، كاف في تفجير أحاسيس المُتعة لدى الناظر إليها ، مادامت هذه الأحاسيس يتصل بعضها بقيمة الفاعلية التي تنطوي السماتُ المذكورة عليها في المعارك و مادامت هذه السماتُ تتصل بإشباع الحاسة الجمالية التي تتذوّق الملامح الخارجية للخيول في طبيعة حركتها أو وقوفها .

المهم ، أنّ توفّر مثل هذه السمات لدى الخيول ، يُعزّز المسوّغ إلى استعراضها ، و بخاصة ذلك الاستعراض الذي جعل البطل نفسَه يرتّب عليه بعض الآثار ، مادامت قد جعلته يؤثرها ـ ولو لحين ـ على الذِكْر .

المفردة الثالثة التي تواجهنا في حادثة العرض العسكري للخيول ، و استجابة سليمان حيالَها ، هي فقرة: توارت بالحجاب .

﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ

حادثة المواراة هذه يغلّفها غموض فنيّ مُمتع حيث يُشكل واحداً من المسوّغات التي سبق التلميحُ إليها في النصوص القصصيّة التي تقدّم معرفةً عن الهدف الفكريلها ، ثمّ تتجه إلى إثراء المعرفة و تعميق الإحساس بالجمال عبر تمرير الهدف الثانوي للقصة .

إنّ المتلقّي لا يمكنه أن يُدرك المقصود من توارت بالحجاب . بيد أنّ النصوص المفسّرة تسعفه في ذلك حينما يذهب بعضها إلى أنّ المقصود منها الخيول فيما تمّ استعراضها ، و توارت عنه .

و فيما يذهب بعضها إلى أنّ المقصود من ذلك هو الشمس ، فيما غربت قبل أن ينتهي سليمان من العرض العسكري ، و يبدو أنّ الدلالة الأخيرة ، أي تواري الشمس هي لسان أغلبية النصوص المفسّرة .

و تقول هذه النصوص: إنّ استعراض سليمان للخيل قد استغرقه حتّى غابت الشمس ، و عندها دعا إلى أن تُردّ الشمس عليه حتّى يصلّي العصر في وقتها .

و يقول البعض الآخر منها: إنّ سليمان قد فرضت عليه ضرورةٌ عسكريةٌ ، و هي القيام بالعرض المذكور لأنّه أراد جهاد العدو ، حتّى غابت الشمس فدعا بردّها عليه لممارسة الصلاة .

في ضوء هذه الدلالة يكون دعاء سليمان ردّوها عليّ متصلا بردّ الشمس:

﴿رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الاَْعْناقِ

و أمّا في ضوء الدلالات الاُخرى ، فإنّ الردّ يظلّ متصلا بالخيل ، و القيام بمسح سوقها و أعناقها .

و أيّاً كان الأمر ، فإنّ ما يعنينا ، هو إنارةُ هذه التفصيلات الثانوية للقضية الرئيسة و هي: ذكر اللّه و عدم الانشغال عن ذلك ، أيّاً كان السبب . فسواء أكان العرض عادياً أم ضرورياً للقيام بحملة عسكرية عاجلة . و سواء أكان الخطاب ردّوها عليّ متصلا بالشمس أم بالخيل ، بل حتّى لو افترضنا صحّة التفسير الذاهب إلى أنّ التواري هو للخيل و ليس للشمس مع أ نّه معارض بالنصوص الموثوق بها ، كلّ ذلك يشكّل إنارة لقضية رئيسة ألفت انتباهنا إليها سليمانُ نفسُه حينما قال:

﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي

حيث عنى بذلك: أنّ ذكر اللّه سبحانه و تعالى ينبغي ألاّ يستغرقه أيّ هَمٍّ آخر مهما كانت مسوّغاتُه .

إذن كلّ هذه التفصيلات وُظّفت ـ فنّياً ـ لإنارة الهدف الكبير: ذكر اللّه ، و هو أمرٌ ينبغي ألاّ نغفل عنه من حيث صلته بالبناء الجمالي للقصة .

* * *

أمّا المفردةُ الأخيرة التي تواجهنا في حادثة العرض العسكري للخيول ، و استجابة سليمان حيال ذلك ، فهي:

عملية المسح بالسوق و الأعناق .

و لعلّ هذه العمليّة تظلّ أشدّ المفردات الأربع التي رافقت حادثة العرض العسكري تفاوتاً بين نصوص التفسير . فالنصوص المفسّرة تتفاوت في تحديد دلالة المسح . . . بعضها يذهب إلى أنّ المسح يعني قطع سوق الخيل و أعناقها ، أي:
ذبحها ، و بعضها يسوّغ هذه العملية بأنّها تمّت ، لكي يتصدّق سليمان بلحومها . لا أ نّه أهدرها لمجرّد التكفير .

غير أنّ مثل هذا التفسير تردّه نصوصٌ اُخرى تُنزّه سليمان من قيامه بعملية الذبح التي لا مسوّغ لها ، بل تفسّره بأنّه مجرّد مسح للسوق و الأعناق بصفته مجرّد حبّ ، أو أ نّه جعلها في سبيل اللّه مثلا . . .

و الحقّ ، أنّ أيّاً من الدلالات المذكورة من الممكن أن تشكّل أيضاً إنارةً للهدف الكبير: ذكر اللّه الذي ينبغي ألاّ يستغرقه همٌّ آخر . مع ملاحظة أنّ نوع التعامل مع الخيل قد يشكّل نمطاً من معالجة الموقف ، كي لايتكرّر ثانيةً على سبيل المثال .
و بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الاُقصوصة السابقة ـ اُقصوصة داود ـ قد تضمّنت ما يتجانس مع هذا الموقف استغفاراً هناك ، و مسحاً بالسوق و الأعناق هنا . و هو أمرٌ لا يعزّز الموقف المذكور فحسب ، بل يشكّل تلاحماً عضوياً أو لنقل:
تجانساً هندسياً بين خطوط الاُقصوصتين ، فضلا عن التجانس الهندسي بين أجزاء اُقصوصة سليمان نفسها ، حينما نتابع أحداثها اللاحقة . و نلحظ أنّ الاستغفار قد طبع سلوك سليمان أيضاً في القسم الثاني من الاُقصوصة التي نبدأ الآن بمتابعتها .

* * *

القسم الثاني من اُقصوصة سليمان ، يبدأ على النحو الآتي:

﴿وَ لَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ

﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي . . .

و قبل أن نتحدّث عن مادة هذا القسم ، ينبغي أن نلفت انتباه المتلقّي إلى الترابط الفكري بين مادة هذا القسم و اُقصوصة داود .

ففي حادثة تسلّق المحراب ، أشارت القصة إلى كلّ من الفتنة و الاستغفار:

﴿وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنّاهُ

﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ . . .

هنا في قصة سليمان عبْر حادثة الجَسَد التي سنقف عندها ، يطرح النصُ أيضاً ظاهرة الفتنة و الاستغفار .

لنقرأ من جديد:

﴿وَ لَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ

﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي . . .

إذن كلٌّ من الفتنة و الاستغفار قد طبعا قصتي داود و سليمان . و هو أمرٌ يُلفت انتباهنا إلى إحكام البناء الهندسي و توازن خطوطه ، و ما ينطوي عليه هذا التوازن من جمالية و إمتاع يُثريان التذوّق ، و يحققان الإثارة الفنّية في هذا الصدد .

المهمّ أن نقف عند هذه الواقعة ، بعد أن عرفنا موقعها الفنّي من بناء الأقاصيص في السورة .

* * *

مؤدّى الواقعة: أنّ ثمةَ جسداً قد اُلقي على كرسي سليمان ، و إلى أنّ الواقعة ذات صلة بالاختبار أو المحنة المشار إليها بفقرة:

﴿وَ لَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ

و بالإنابة ، و الاستغفار اللذين تُشير إليهما فقرتا ثمّ أناب و ربّ اغفر لي ، أي:
بظاهرتي الفتنة و الاستغفار اللذين طبعا قصة داود في حادثة تسوّر المحراب .
و يطبعان الآن قصة سليمان في حادثة الجسد .

و المُلاحَظ أنّ الغموض الفنّي يظلّ مغلِّفاً هذه الواقعة بنحو أشدّ إثارةً من الإمتاع الفنّي الذي لحظناه في حادثة العرض العسكري للخيل .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ المعرفة الإجمالية للحادثة تظلّ محكومة بالقيمة الفكرية الذاهبة إلى أنّ الاختبار ذو معطى كبير في تقويم السلوك و تعديله ، و إلى أنّ طلب المغفرة و الإنابة مؤشّرٌ على ذلك .

بيد أنّ هدفنا هو الوقوف على تفصيلات الموقف و ما تُلقيه من إنارة على القيمة الفكرية الرئيسة التي تستهدفُها الاُقصوصةُ بما تُحقّقه هذه التفصيلاتُ من إثراء فكري و من إمتاع جمالي . و هو أمرٌ يتطلّب أن نقف أوّلا عند النصوص المفسّرة ، ثمّ نتبعها بعملية التذوّق الفنّي الخالص .

حين نعود إلى النصوص المفسّرة لهذا القسم من اُقصوصة سليمان:

﴿وَ لَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ

﴿قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي

حين نعود إلى النصوص المفسّرة لهذا النص ، نجدها متفاوتة في تحديد الفتنة و الجسد .

بعضها يذهب إلى أنّ الجنّ عندما وُلِدَ لسليمان ابنٌ ، تخوّفوا من ذلك ، بغية ألاّ يلاقوا منه ما لاقوه من أبيه من المتاعب . و عندما عرف سليمان ذلك ، أشفق منهم ، فاسترضعه في السحاب .

بيد أنّ السماء أماتت الوليد و ألقته جسداً ميّتاً على كرسي أبيه ، تنبيهاً له من أنّ القدر لا يجدي معه أيّ تخوّف من الجنّ الذين سخّرتهم السماء .

و بعضها يذهب إلى أنّ سليمان تخوّف من الموت لوليده ، فاسترضعه في السحاب المذكور .

و هناك نصوص مفسّرة اُخرى لا يعنينا منها إلاّ الدلالة على ظاهرة محدّدة ، هي التخوّف ينبغي ألاّ يحدث إلاّ حيال السماء . و إلى أنّها ، أي: السماء ، هي المصدر الوحيد لكلّ تحرّك .

المهم ، أنّ ثمة اختباراً أو فتنة مشابهةً للفتنة التي واجهت داود في قضية الحكمالذي أصدره على المتخاصمين . هذا الاختبار ، هو إلقاءُ جسد ميّت على كرسي سليمان .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ مثل هذا الاختبار يستتلي أكثر من استجابة حيال مُثير مُحدّد .

فالمُثير أو المنبّه هو: جسدٌ ميّتٌ ملقىً على كرسي سليمان . و إذا كان هذا الجسد هو جسد طفل يحنو عليه والدهُ بحكم الدافع إلى البنوّة ، فحينئذ نتوقّع ضخامة الاستجابة حيال هذا الموت .

إنّ مجرّد موت الطفل كاف في إحداث الاستجابة المحزنة حياله . فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الأب كان مشفقاً على وليده من إصابته بالسوء . فحينئذ يتضخّم حجم الحزن تبعاً لتضخّم حجم الخوف من الإصابة . و إذا أضفنا إلى ذلك أنّ الإشفاق دفعه إلى أن يسترضعه في السحاب مثلا ، حينئذ نتوقّع مدى ضخامة الحزن الذي سيلفّ الأب حينما يُجابَه بموت الابن .

ثمّ إذا أضفنا إلى ذلك ، أنّ عنصر المفاجأة يزيد من حِدة الاستجابة المحزنة ، حينئذ نُدرك حجم الحزن في هذا الصدد .

و هذا كلّه من حيث مجابهة الموت ، مجرّداً من أيّة ملابسات . أمّا إذا واكبت موت الطفل مثيرات اُخرى ، فإنّ حجم الحزن سيأخذ بالتضخّم تبعاً لنمط هذه المثيرات .

و لعلّ أشدّ أنماطها إثارةً هو: إلقاء جسده فجأة أمام نواظر الأب .

ثمّ أشدّها إثارةً: إلقاء الجسد على كرسي سليمان ، و هو مقرّه الذي أدار من خلاله الدنيا .

إذن ، كم هو حجم الحزن ، أو الإثارة بما تستتبعها من استجابة حيال هذا الاختبار ؟

* * *

إنّ ما نعتزم التنبيه عليه هو ، أن نحدّد من الوجهة الفنّية صلة هذا الرسم: صورة الجَسد الميت ، ملقىً على سليمان ، صلته بالاختبار ، بالفتنة ، بالشريحة الفكرية التي يُشدّد النصُ عليها في قصة سليمان . . . و هي ذات الشريحة الفكرية التي أوضحها النص في قصة داود .

و خطورة مثل هذا الرسم تتمثّل في ذلك البناء الهندسي الجميل الذي يصل بين قصة داود و قصة سليمان في خطوط متوازية متوازنة بنحو تتلاقى فيه عند مفهوم الاختبار . . . ، و عند مفهوم نوع الاستجابة الصادرة حيال ذلك كلّه .

و الآن ، لِنعد إلى قصة سليمان في رسمها لصورة الجسد .

إنّ أهمّ ما ينبغي أن نقف عنده هو: مفهوم العطاء الذي تمنحه السماء للآدميين ، و إلى أنّها مالكةُ الأمر ـ دون سواها ـ لكلّ مخلوقات الكون .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ اختيار أشدّ الدوافع إلحاحاً ، و نعني به دافع الاُبوّة ، يُفصح عن أنّ الاختبار أو الفتنة تظلّ محكّاً للشخصية ، و فرز العادي أو الخطير منها .

و من هنا فإنّ سليمان بصفته من الشخوص المُصطفاة ، ستمرّ من خلال هذا الاختبار ناجحةً بالنحو الذي أوضحته القصة ، من أ نّه قد أناب ، و من أ نّه سأل اللّه المغفرة . و انتهى كلُّ شيء .

و ممّا لا شك فيه أيضاً ، أنّ الحذر من أيّة قوّة ـ سوى اللّه ـ سيكون موضع استخلاص فكريٍّ من الصورة المذكورة: صورة الجسد الميّت .

إنّ الجنّ أو أيّة قوّة اُخرى . أو إنّ الموت أو أيّة مصائر دنيويّة محفوفة بالأخطار لن ينفع الحذر منها مادامت القوة المخوف منها هي قوّةٌ لا تملك لنفسها نفعاً و لا ضرّاً ، و مادام الموتُ أو أيُّ مصير آخر لن ينفع الحذر منه مادام الأمر محكوماً بمصلحة ، بعطاء تقرّره السماء دون أن يُدرك الآدميون أسرار ذلك . . .

هذه الشرائح الفكرية يستخلصها المتلقّي بوضوح عند وقوفه على الصورة الفنّية الكبيرة التي رسمتها القصة في هذا القسم من النص: صورة الجسد الميت على كرسي سليمان .

* * *

و هنا ينبغي أن نقف عابراً على ظاهرة الكرسي من الصورة المذكورة .

إنّ الكرسي الذي اُلقي الجسد عليه ، هو: كرسي سليمان . و مثلما أوضحنا فإنّ إلقاءه على الكرسي دون سواه ، يعني أنّ رسم هذا الملمح من بيئة القصة له أهميته العضوية في بناء الاُقصوصة .

فالكرسي كما سنرى ، يُشكّل أشدّ مظاهر القوّة التي ملّكتها السماء لسليمان .

ففضلا عن أنّ إلقاء الجسد الميت على الكرسي يُعدّ ـ من الناحية الفنّية ـ تنبيهاً غير مُباشر إلى أنّ أشدّ مظاهر القوّة ستقترن بأشدّ مظاهر الضعف .

القوّة من حيث مُلك سليمان .

و الضعف من حيث زوال أحد ممتلكاته الوليد .

فضلا عن ذلك سنجد أنّ الكرسي يشكّل بُعداً فنّياً آخر ، بما سيسرده النص في القسم الآتي من القصة من أحداث تتصل بملكية هذا الكرسي ، و بما تواكبه من مظاهر القوّة التي منحتها السماء لسليمان .

كلّ ذلك سنجد أصداءه بوضوح في القسم الأخير من القصة ، ممّا يعني أنّ البناء الهندسي للنص قد اُحكِمَ بنحو قد تلاحمت أجزاؤُه و تنامت عضوياً ، بحيث يُلقي كلّ جزء منها إنارة على الجزء الذي يليه ، . . . ممهّداً له بنحو من السببيّة التي تؤدّي كلُّ مقدّمة إلى نتائجها التي تُشكّل بمجموعها أفكاراً محدّدة قد استهدفها النص ـ وفقَ جمالية عالية ـ في صياغة الاُقصوصة .

* * *

بعد أن تمّت عمليةُ الاختبار أو الفتنة التي واجهت سليمان ، ثُم استغفاره (عليه السلام)بعد أن تتجه القصةُ إلى قسمها الأخير الذي يحدّده النصُ على هذا النحو الذي بدأه سليمان بالطلب الآتي:

﴿وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لاَِحَد مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ

ثمّ أجابته السماء:

﴿فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ

﴿وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاء وَ غَوّاص

﴿وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفادِ

﴿هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِساب

﴿وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآب

بهذا النحو ينتهي القسمُ الأخير من اُقصوصة سليمان ، فيما تنتظمه ثلاثُ شرائح: إحداها تـتصل بطلب سليمان مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده . و الثانية:
بإجابة السماء لدعائه . و الثالثة: تتصل بالعطاء الاُخروي له أيضاً .

و قبل أن نأتي على تفصيلات هذه الشرائح الثلاث من القصة ، يتعيّن أن نلفت الانتباه إلى ظاهرة العطاء الذي تُشدّد القصةُ عليه في صياغتها لهذا الموقف .

إنّه ذلك العطاء الضخم الذي رسمته قصة داود . و هو ذات العطاء الذي ترسمه قصة سليمان في قسمها الأوّل . و هو ذاتُه ترسمه في قسمها الأخير ، و لكن وفق أرقام جديدة ، وفق نمط آخر يبدأه سليمان بعد الاستغفار بالذات ، ثمّ تجيبه السماء محققةً طلبه بنحو لم يُدر بِخَلَدِه .

و أكثر من ذلك ، مؤكدةً بأنّها ـ أي السماء ـ هيّأت عطاءً اُخروياً ضخماً مضافاً إلى العطاء الدنيوي .

أجل ، إنّه لَعطاء بغير حساب ، . . . عطاء اللّه الذي يرفده لعباده المُصطفين الذين مارسوا مهمّتهم العبادية على الأرض ، و أخلصوا للسماء في ممارساتهم المذكورة كلّ الإخلاص .

ترى ، كم هو حريٌّ بنا ـ نحن المُتلقّين ـ أن نفيدَ من تجربة هذا العطاء الذي رسمته القصة ، و هي تستهدفُنا حتماً من وراء قصّها لأمثلة هذا العطاء بغير حساب!!

كانت الشريحةُ الاُولى من هذا القسم من الاُقصوصة ، تتصل ـ كما قلنا ـ بطلب سليمان مُلكاً لا ينبغي لأحَد من بعده .

و السؤال هو: لماذا طلب سليمان مثل هذا المُلكَ أوّلا ؟ و لماذا طلبه لنفسه دون الآخرين ، ثانياً ؟

إنّ النصوص المفسّرة تـتفاوت في تحديد هذا الطلب و الاستئثار به ، بيد أنّ النص الذاهب إلى أنّ سؤاله كان في نطاق المقارنة مع مُلك الشخصيات الأرضيّة التي لا تتعامل مع السماء في زعامتها للآخرين و سيطرتها عليهم ، . . . هذا النص يبدو و كأنّه أقرب الدلالات إلى الاستئثار بمثل هذا الحكم الذي يتعامل مع قوانين السماء قبال الحكم الأرضي المنفصل عنها ، مع ملاحظة أنّ النص المفسّر الذاهب إلى أنّ طلبه كان وفاقاً لما أعلمته السماء بمشروعية مثل هذا الطلب سلفاً ، لمصلحة تقتضي ذلك ، . . . مثل هذا النص بدوره من الممكن أن يكون مؤتلفاً مع الاستئثار .

و لكن ، أيّاً كان الأمر فإنّ السماء قد أجابته لطلبه ، و هو طلبٌ تتحدّد مشروعيته ـ على الأقل ـ في إجابة السماء ذاتها للطلب ، و كفى بذلك مشروعيةً و تقويماً ، مضافاً إلى ذلك ، فإنّ المُلك الذي منحته السماء لسليمان مادام مرتبطاً ـ أساساً ـ بقوانين السماء ، فإنّه حينئذ يكتسب قيمة ضخمة بقدر ضخامة المهمّة الخلافية الملقاة على الآدميين في الأرض .

و الآن ، ما هي أبعاد هذا المُلك الذي منحته السماء لسليمان ؟

* * *

إنّ بيئة الملك الذي حدّدته الاُقصوصة ، تـتمثّل في قوّتين هما: الريح و الشياطين .

و قد منحت القصةُ كلاّ من القوّتين سمات خاصة مثلما فصّلت في رسم المهمّات التي طبعت القوّة الأخيرة: الشياطين . إنّ البناء الهندسي للبيئة المذكورة ، فضلا عن أهميته الجمالية التي تـتصل بوصف الريح و حركتها ، و بوصف عمليات البناء و الغوص ، و بوصف الملامح الخارجية لشخوص الشياطين ، . . . فضلا عن ذلك كلّه ، ينطوي على أهمية مضمونيّة تتصل بمعطيات العمليات المتقدّمة ذاتها بناءً و غوصاً ، و تكبيلا للقوى الشيطانية .

و يعنينا الآن أن نقف مع هذه التفصيلات:

الريح: إنّ أهمية الريح تتمثّل في كونها واسطةً جوّية مقابلا للوسائط البريّة و البحرية ، فيما تمثّل بمجموعها كافة الوسائل المتاحة عادة في تحرّكات الجيوش ، أو عمارة الأرض .

و يُلاحظ ـ من حيث البناء الهندسي ـ أنّ القصة تكفّلت برسم هذه الوسائط الثلاث: الجو ، البر ، البحر ، فيما ألمحت إلى الاُولى بــ الريح ، و إلى الثانية بالبناء ، و إلى الثالثة بالغوص ﴿وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاء وَ غَوّاص .

و هذا أحد أوجه الجمال الفنّي في بناء القصة التي رسمت طبيعة القوى مستكملةً لأشكالها الثلاثة: الجو ، البر ، البحر .

و المهم أن نقف عند الريح أوّلا في تفصيلاتها التي سردتها القصة ، و نصوصُ التفسير .

* * *

النص القصصي يكتفي برسم الريح من أنّها رخاء أوّلا ، ثمّ أنّها قد سُخّرت له حيث يُريد ، دون أن تُقيّد حركته مع الريح ، ثانياً .

و من الواضح ، أنّ لهاتين السمتين اللتين منحتهما السماء لسليمان ، أهمية كبيرة: جمالياً و فكرياً من حيث حركة الريح و معطياتها .

فقد أكسبت الريح سمة رخاء أي: ليّنة ، مع ملاحظة أنّ نصّ القرآن الكريم قد أكسب الريح صفة مضادة في قصة اُخرى هي سمة عاصفة .

و بعض المفسرين قد انتبه إلى هاتين السمتين: رخاء و عاصفة ، و علّل ذلك بقوله: إنّ الريح جُعلت حيناً رخاءً ، و حيناً عاصفةً بحسب ما يريدها سليمان .

و في تصوّرنا ـ مضافاً إلى ما تقدّم ـ أنّ اكساب الريح صفة رخاء في هذه القصة ، يتساوق جمالياً مع طابع الإرادة التي منحتها السماء لسليمان ، حينما عقّبت على ذلك:

﴿حَيْثُ أَصابَ

فالإصابة هنا تعني: الإرادة أو القصد أو الهدف الذي ينشده سليمان في تحرّكاته .

و حينما يخلع النص سمة رخاء بوصفها: ليّنةً و سريعةً ، يعني: أنّ السرعة و اللين
تتناسقان مع الطواعية التي ينشدها سليمان . و بكلمة جديدة: أنّ تطويع الريح يقتضي كونها ليّنةً تتناسب مع التطويع ، بغض النظر عن كونها خفيفة أو عاصفة .
فصفة الخفة و ما يضادها العصف لا تتنافيان مع كون الريح قد طُوِّعت أو لُيِّنت تبعاً لإرادة سليمان .

و بكلمة ثالثة: أنّ الرخاء يتساوق مع دلالة الطوع قبال التلكّؤ مثلا . . . في حين أنّ كونها عاصفةً لا يضاد كونها طيعةً أيضاً . . .

إنّ هذا التصور يظلّ في حدود التذوّق الفنّي الصرف ، من الممكن أن يكون خاطئاً و من الممكن أن يكون صائباً ، مادُمنا لا نملك حق التفسير النهائي في هذا الصدد ، و لكن حسبنا أن نستخدم ذائقتنا الفنّية في نطاق الخبرات التي يمتلكها هذا المتلقّي أو ذاك ، دون أن نركن إلى يقين نهائي ، مادام الأمر موكولا إلى اللّه سبحانه و تعالى .

* * *

كانت السمةُ الاُولى للقوّة التي منحتها السماء لسليمان ـ فيما يتصل بالريح ـ هي: سمة رخاء ـ ليّنة:

أمّا السمة الثانية للقوّة ، فهي تحقيق الهدف الذي ينشده:

﴿حَيْثُ أَصابَ

و من الواضح ، أنّ تسخير الريح لينةً مضافاً إلى أنّها طُوّعت له حيث يريدُ و يقصدُ و يستهدفُ ، يعني إكسابه قوّة لا حدود لها ، تتّسق مع طلبه الذي قال عنه:

﴿وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَِحَد مِنْ بَعْدِي

و هذا كلّه فيما يتصل بإحدى القوّتين: الريح .

أمّا القوّة الثانية فهي: تسخير الشياطين .

و يُلاحظ أنّ الريح قد شكّلت ـ كما أشرنا ـ وسيلة جويةً للتحرّك .

أمّا الشياطين ، فقد شكّلوا قوة بريّةً و بحرّيةً في التحرّك:

﴿وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاء وَ غَوّاص

و يلاحظ أيضاً أنّ سمةً اُخرى قد رسَمَها النصُّ فيما يتصل بالملامح الخارجية لشخوصهم ، و نعني به الرسم الخارجيّ المتمثل في كون بعضهم مقرّنين بالأصفاد:

﴿وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاء وَ غَوّاص وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفادِ

ترى ما هي الأبعاد الفنّية التي يمكن استخلاصها من السمات الثلاث: البناء ،
الغوص ، التكبيل بالقيود ؟

من حيث البناء المعماري أو الهندسي لهذا الرسم ، فإنّ شخوص الشياطين قد رُسِموا في مستويين من النشاط:

1 ـ من حيث ممارساتهم بعامّة: بناءً و غوصاً .

2 ـ من حيث إطاعتهم بعامّة .

أمّا من حيث الممارسات ، فإنّ البناء يظلّ متصلا بالتحرّك على الأرض ، و عمارتها . و الغوص يظلّ متصلا بالتحرّك في البحر و استخراج ما فيه من الكنوز .

و أمّا من حيث إطاعة الشياطين بعامّة ، فإنّ رسمُهم مكبّلين بالقيود ، يعني بوضوح أنّ البعض ـ كما هو صريح النص و آخرين ـ كان متمرّداً على أوامر السماء ، بحيث أرغمتهم على خدمة سليمان ، فجعلتهم مكبّلين بالقيود لا يستطيعون فكاكاً منها مُرغمين على خدمته حيث يريد .

و واضح أنّ رسمهم مكبّلين ، مرغمين على خدمته يتساوق ـ فنياً ـ مع السمة التي طبعت قوّة الريح حين رسمها بأنّها تجري رخاءً حيث أراد سليمان ، كما يتساوق أيضاً مع السمة التي طبعتهم بعامة:

﴿كُلَّ بَنّاء وَ غَوّاص

إذن كلّ السمات التي رسمها النص ، سواء أكانت متصلةً بالريح أو بالشياطين ، و سواء أكانت متصلة بالملتزمين أو المتمرّدين ، هذه السمات جميعاً قد وُظّفت ـ من الناحية الفنّية ـ لخدمة سليمان على نحو ما رسمه النص من طابع عام يسمُ طلبَ سليمان الذي تمثّل في ملك لا ينبغي لأحد من بعده ، و في تجسيد ذلك في ممارسات قال عنها النص في بداية الرسم: من أنّ القوى تجري معه حيث أصاب ، أي حيث قصد و أراد و استهدف .

و هذا مَعلمٌ آخر من معالم البناء الجمالي لهذا الجزء من الاُقصوصة ، فيما يمثّل توازناً هندسياً لخطوط البناء ، و فيما يمثّل تنامياً عضوياً لها ، بحيث تُصب مختلف أدوات الإنارة على رافد واحد ، هو مُلك سليمان ، و إرادته أو رغبته في تحقيق هذا الهدف أو ذاك .

* * *

و أخيراً ، فإنّ القصة بعد ما تنتهي من رسم هذا العطاء الدنيوي لسليمان ، . . .
تتّجه إلى التذكير بالعطاء الاُخروي أيضاً ، فيما تقرر ما يلي:

﴿وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآب

هذه الخاتمة القصصية ينبغي ألاّ نفصلها عن قصة سليمان بمجموع أجزائها أوّلا ، و ينبغي ألاّ نفصلها عن القسم الأخير من القصة ثانياً ، و ينبغي ألاّ نفصلها عن القصة السابقة: قصة داود، صاحب الأيد ثالثاً .

و بكلمة جديدة: ينبغي أن ندقّق في المزيد من تفصيلات البناء الهندسي الضخم لهذه الاُقصوصة التي انتهينا توّاً من توضيح بعض معالم البناء المعماري فيها .
و نتّجه إلى تبيين الجديد من معالم البناء المذكور ، و منه: الخاتمة القصصية نفسها من حيث صلتها بالمحاور الثلاثة المتقدمة . أمّا صلة الخاتمة بقصة داود فإنّها من الوضوح بمكان كبير ، إذا تذكرنا أنّ قصة داود قد اختُتمت أيضاً بنفس الفقرة:

﴿وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآب

مثلما سبقتها نفس الدلالة الحائمة على الفتنة ثمّ على الاستغفار ، ممّا يعني مزيداً من التناسق بين خطوط القصتين اللتين بدأتا برسم سمة الأوّاب لكلّ من شخصيتي داود و سليمان ، و برسم المعطيات المعجزة لكلٍّ منهما ، و بتعرّضِهما للفتنة جميعاً و باستغفارهما من ذلك ، ثمّ بالتلويح لكلٍّ منهما بالفقرة المشتركة ـ لفظاً و دلالةً ـ من أنّ لهما حسن مآب ، فيما شكّلت هذه الفقرة نهايةً قصصية لكلٍّ منهما .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page