• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة المؤمن : قصَّة مُؤمِن آلِ فرعَون

 

قصَّة مُؤمِن آلِ فرعَون

لقد افتتحت السورة المذكورة بالإشارة إلى ظاهرة الجدال و ألمحت إلى الجزاء الاجتماعي لمجتمعات كانت أشدّ قوّة من مجتمع معاصري الإسلام ، كما ختمت بالجزاء الاُخروي الذي طال المجتمعات أو المجتمع البائد الذي استُهلّت السورة بقصته التي تتحدّث عن موسى (عليه السلام) و مؤمن آل فرعون و صِلتها بمجتمع فرعون و تعامله المجادل مع الشخصيتين المذكورتين .

إذن ، تجيء قصة مؤمن آل فرعون في سياق خاص لتلقي الإنارة على ذلك بالنحو الذي سنتحدّث عنه الآن ، نقول:

تتضمّن سورة «المؤمن» جملةً من القصص تحوم على آل فرعون ، و هذه القصص أو الحكايات المتنوّعة ينتظمها خيط يُوحّد بينها ، بحيث يمكن أن نعدّها قصة واحدة تتناول الحياة الطولية لآل فرعون: بدءً من مجيء موسى (عليه السلام) إليهم ، . . .
مروراً بهلاكهم ، . . . و انتهاءً إلى مقرّهم في اليوم الآخر: البرزخ ، ثمّ النار .

إنّ بناء هذه القصة أو الهيكل الهندسي لها ، يقوم على حَيَوات أو بيئات مختلفة:
بيئة الحياة الدنيا أوّلا . ثمّ بيئة البرزخ أو القبر ثانياً ، ثمّ بيئة النار ثالثاً . و كلّها تحوم على سلوك آل فرعون . . . يرسمها النصُّ وفق شكل قصصيٍّ مُمتع ، يُداخل من خلالها ، فيما بين هذه البيئات المختلفة ، عبر التسلل الموضوعي للزمن الذي لا تفصل القصةُ آناتِه في المستقبل عن الحاضر و . . . فضلا عن الماضي .

و هذا فيما يتصل ببيئة القصة .

أمّا فيما يتصل بعنصر الشخصيات أو الأبطال في القصة ، فإنّها تحفل بأكثر من شخصية ثانوية مثل موسى (عليه السلام) . . . و مثل مؤمن آل فرعون . . . فضلا عن شخصيات
فرعون و هامان و قارون . هذا إلى أنّ آل فرعون أنفسهم يمثّلون شخصية جماعية رئيسة في القصة ، كما هو واضح ، و ينبغي ألاّ ننسى بأنّ القصة ذكّرتنا بشخصية يوسف أيضاً في سياق خاص ، كما سنلحظ .

بيد أنّ الدور الخطير الذي تحوم القصة ـ في غالبيتها ـ عليه ، هو الدور الذي يمارسه البطل: مؤمنُ آل فرعون ، ممّا سوّغ للقصة أن تحمل اسمَه عنواناً لها ، نظراً لأهمية الاُسلوب الذي تعرضه القصة في ممارسة العمل الرسالي الذي نهض به مؤمن آل فرعون ، ممّا يشكّل مع اُسلوب المواجهة المباشرة الذي اختَطّه بطلٌ آخر و هو موسى ، . . . يشكّلان معاً طريقتين أو اُسلوبين تفرضهما طبيعة المناخ السياسي على الأبطال المُجاهدين في توزّعهم بين العمل السرّي و العلني ، عبْرَ سوح الجهاد من أجل اللّه .

أمّا عناصر القصة الاُخرى من أحداث و مواقف ، فتخضع بدورها إلى بناء هندسي مُمتع ، نتحدّث عنه و عن سائر العناصر القصصية مفصلةً في تضاعيف هذه الدراسة .

* * *

تبدأ القصةُ مع شخصية موسى (عليه السلام) في مواجهته الصريحة لفرعون و هامان و قارون على هذا النحو:

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطان مُبِين

﴿إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ

﴿فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ

﴿فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا

﴿قالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ

﴿وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلال

هذا هو القسم الأوّل من القصة .

السماء ترسل موسى إلى فرعون و هامان و قارون .

و السؤال هو: ما هي المواقع الوظيفية التي يضطلع بها هؤلاء الثلاثة: فرعون و هامان و قارون .

أمّا فرعون ، فإنّه كبير الطغاة و موقعه من الأحداث لا يحتاج إلى تعقيب .

و أمّا هامان فوزيره و له موقعٌ مثيرٌ للسخرية ، كما سنلحظ . بيد أنّ قارون صاحب كنوز فرعون ، لم يَرد له موقعٌ في القصة ، بل رسمته النصوص القرآنية في قصةً اُخرى وقفنا عليها مفصلا .

هل يعني ذلك ـ من الزاوية الفنّية الخالصة ـ أنّ القصة ليست في صدد تبيين المواقع الوظيفية التي يحتلها هؤلاء الثلاثة في القصة التي نحن في صددها ، بل في صدد عرض الأوثان التي تحتل موقعاً اجتماعياً في البيئة التي يتحرّك في نطاقها آل فرعون و علاقتهم بموسى (عليه السلام) ، بغض النظر عن التحرّك الفعلي المحدّد لهذا الوثن أو ذاك ؟

أغلب الظنّ أنّ الأمر كذلك ، مادامت الأوثانُ الكبيرةُ لها تأثيرها الاجتماعي في نطاق الموقع الذي تحتله في أذهان الرعاع و مادام الأمرُ متصلا برهط أو قوم أبى الشيطان إلاّ أن يركبَ رؤوسَهم بالرغم من الأدلّة و الحجج و البراهين التي قدّمها موسى إليهم ، بضمنهم قارون فيما يمثّل أحد الرؤوس المنتسبة لآل فرعون الذين تحوم القصةُ حولهم .

* * *

كان ردّ الفعل لهؤلاء الأوثان على الرسالة التي دعاهم إليها موسى ، هو اتهامَه بالسحر و الكذب .

بيد أنّ القصة عبرت سلسلة الزمن و اقتطعت شريحةً من أحداث المستقبل ، ثمّ عادت إلى الحاضر من جديد ، لتواصل حركة الأحداث وفق تسلسلها .

الشريحة الزمنية التي اقتطعتها القصة ، هي ردود الفعل التي تركتها دعوة موسى إلى القوم ، متمثلة في قولهم:

﴿اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ

فمن خلال هذا الحوار نستخلص ـ وفقاً للطريقة الفنّية التي سلكتها القصة ـ أنّ رسالة موسى إلى الإيمان باللّه أحدثت تأثيرها في النفوس ، بحيث آمن بها مَن آمَن ، . . . و بحيث دفعت فرعون و زبانيته إلى المطالبة بقتل المؤمنين و استحياء نسائهم ، على نحو ما يفعله طغاةُ العصر الحديث .

لكنّ القصة عقّبت على ذلك بقولها:

﴿وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلال

ممّا يعني ـ من وجهة النظر الفنّية ـ أنّ أحداث القصة اللاحقة ستكشف عن أنّ الهزيمة كانت من نصيب الطغاة .

و من هنا تعود القصة إلى التسلسل الزمني للأحداث من جديد ، بعد أن قطعت شريحة من المستقبل شدّدت فيها على أنّ الجمهور ـ قلّ أو كثر ـ قد استجاب لنداء السماء ، و إلى أنّ النهاية الكسيحة للطغاة تحدّدت تماماً .

و ها هي القصة تعود من جديد ، لتواصل ردود الفعل التي تركتها الدعوةُ الخيّرة إلى اللّه وفقاً لتسلسل الأحداث التي بدأت بهذا النحو من ردّ الفعل لدى الطاغية فرعون:

﴿وَ قالَ فِرْعَوْنُ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ

﴿إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسادَ

إنّ هذا المنطق المثير للسخرية ، جزءٌ من وسيلة إعلامية يستخدمها الطغاة في كلّ زمان و مكان ، و نعني به ـ في لغة علم نفس الجمهور ـ عملية إسقاط السمة السلبية التي يحملها المفسدون في الأرض على الشخصيات المُصلحة .

فالمُفسد و المنحطّ و البَشِعَ و القَميء و الذليل تغطيةً لانحطاطه يحاول إسقاط نفس السمة التي يحملها على الآخرين ، حتّى تنهارَ من جانب ، أيّةُ قيمة أخلاقية نظيفة في الحياة في حالة وعي الآخرين بوساخة مثل هذا الاُسلوب الإعلامي ، و حتّى تتشوّه الحقائق من جانب آخر ، بغية الاحتفاظ بالمنصب أو النظام السياسي الذي يستخدم مثل هذا الاُسلوب الإعلامي في حالة عدم وعي الآخرين بحقيقة الموقف .

إنّ فرعون و هو كبير المفسدين في الأرض عصرئذ و مثله: طغاةُ العصر الحديث يتّهم موسى بالإفساد و يصطنع الحرص أو التخوّف من أن يبدّل موسى دين الجمهور . و قد خيّل إليه أنّ هذا الاُسلوب النفسي كفيلٌ بأن يخدع رعاع الجمهور ، و أن يُسبّب ردّ فعل مؤلم في أعماق الواعين الذين يؤلمهم حقّاً تشويه الحقائق .

لكنّ الذي فاتَه ، أنّ السماء تقف بالمرصاد لكلّ مكر يلتجئ إليه المفسدون في الأرض ، حتّى لو كان ذلك إلى أمَد بعيد ، و أنّ النهاية لا تُسجَّل لصالح الطغاة ، إلاّ بنحوها الكسيح الذي تمثّل في غَرق فرعون و قومه ، و إمحائهم من الوجود تماماً .

لقد اقترح طاغية عصره ، فرعون ، أن يقتل موسى حفاظاً على عرشه الذي حاول أن يمدّه بأسباب القوّة و منها: خداعُ المغفلين و إيذاء الواعين من خلال لجوئه إلى الإعلام المضلّل:

﴿إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسادَ

غير أنّ التفكير بقتل موسى (عليه السلام) قد اقترن ـ فيما يبدو ـ بمعارضة البعض من مستشاريه و هو ما تكشف القصةُ عنه فيما بعد بطريقة فنّية غير مباشرة .

و موسى نفسه قبل أن يختفي من مسرح الأحداث في هذه القصة قدّم إجابة لها أهميتها في منطق الأحداث التي ستكشف عنه بيئة القصة ، و ذلك عندما عقّب على ردود الفعل التي أحدثته دعوتُه إلى الإيمان باللّه ، قائلا:

﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ

إلى هنا فإنّ دور موسى في القصة ، أو لنقل: الموقع الوظيفي الذي يحتله موسى في القصة ، ينتهي . . . ليُخلي الموقع إلى بطل جديد يمارس ألواناً ضخمة من النشاط تأخذ مساحة كبيرةً من حجم القصة ، بل تؤثر في حركتها تأثيراً كبيراً .

هذا البطل الجديد يبدأ من النقطة التي بدأ فيها فرعون بالتفكير بقتل موسى ، وجُوبِه بالمعارضة التي اتخذت شكلها السافر بظهور هذا البطل على مسرح الأحداث ، و بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ هذا البطل كان خازناً لفرعون أو ابناً لخالِهِ ، ممّا يعني أهمية معارضته ، و انسحاب هذه الأهمية على التفكير بعملية القتل .

* * *

لقد قال موسى (عليه السلام) قبل أن يختفي من مسرح الأحداث في هذه القصة:

﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّر لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ

هذه الإجابة ستُلقي إنارةُ ـ كما قلنا ـ على مستقبل الأحداث ، و بخاصة شخصية فرعون التي يسمها طابع التكبّر و عدم الانقياد لمنطق الواقع ، كما سنلحظ ذلك من خلال تحركاته المثيرة للسخرية في هذا الصدد .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ موسى عندما بدأ بالتحرّك نحو فرعون و قومه ، إنّما رافق تحرّكه أكثرُ من موقف سكتت القصةُ عنه . لكنّ البطل الجديد ـ و هو مؤمن آل فرعون ، كما سنعرض لتفصيلات شخصيته بعد قليل ـ كشف عن جانب من تحرّكات موسى (عليه السلام) ، ممّا تدلّنا مثلُ هذه الصياغة القصصية عن بعض السمات أو الأسرار الفنّية التي سلكتها القصة في بناء الأحداث و الشخصيات .

إنّ القصة قد اكتفت بتقديم شخصية موسى من أ نّه تقدّم إلى آل فرعون:

﴿بِآياتِنا وَ سُلْطان مُبِين

و إلى أ نّه استعاذ باللّه من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب .

أمّا تفصيلات الموقف الذي واكب طريقة دعوته القوم إلى الإيمان باللّه ، فقد سكتت القصةُ عنها تاركةً ذلك ـ من جانب ـ إلى القارئ و السامع حتّى يستخلص بنفسه ملابسات الموقف و من جانب ثان لا ضرورة فنّية لبعض التفصيلات ، ثمّ من جانب ثالث ـ و هذا ما نعتزم التنبيه عليه ـ تركت القصةُ بعض تفصيلات المواقف المتصلة بشخصية موسى ، . . . تركتها إلى بطل جديد هو مؤمن آل فرعون حيث نستكشف من خلال التعريف بشخصيته ، سمات الموقف الذي واكب تحرّكات موسى .

و واضحٌ مدى الأهمية أو الإمتاع الفنّي لهذا النمط من التعريف بالشخصيات و بالأحداث في ميدان اللغة القصصية . و خارجاً عن السمة الفنّية المذكورة يعنينا أن نشير إلى أنّ البطل موسى سيختفي من المسرح تماماً ، و إلى أنّ بطلا جديداً سيأخذ موقعه ، أو يستكمل الدور الذي بدأه موسى في حركة القصة بعامّة .

فما هي ملامح هذا البطل الجديد ؟

* * *

تبدأ القصة بتعريف البطل الجديد على هذا النحو:

﴿وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ

أمّا ماذا قال البطل ، فأمرٌ نتحدث عنه فيما بعد ، و لكن ما هي سمات هذا البطل الذي قلنا إنّه كان في المقدمة من المعارضين لقتل موسى (عليه السلام) و إلى أ نّه سيُتمّم ما بدأه موسى من مهمّاته التي أوكلتها السماءُ إليه ؟

إنّ سمات ثلاثةً رسمتها القصة لهذا البطل و هذه السمات:

هي كونه رجلا مؤمناً .

و إنّه من آل فرعون .

و إنّه يكتم إيمانه .

هنا ينبغي أن نتأمّل بدقة الأهمية الفنّية الكبيرة لمثل هذا التعريف بالسمات الثلاثة لشخصية البطل الجديد . فهذا التعريف بالبطل يطرح دلالات كبيرة ذات ثراء و غِنىً ، يجدر بنا أن نتمثّلها في ميدان الجهاد من أجل اللّه ، و أن نفيد منها في كلّ تحرّك سياسي أو اجتماعي أو فردي تطالبنا السماء به في النطاق الذي يسمه وضعٌ إرهابيّ خاص ، لايسمح الطغاةُ من خلاله بتحرّك الشخصية الإسلامية جهاراً ، أو في النطاق الذي يحقق فائدة أشدّ في سريّة الموقف منه في جهريّته مثلا ولو في موقف دون آخر كما سنرى ذلك مفصّلا ، عند متابعتنا لسلوك البطل الذي نحن في صدد الحديث عنه .

* * *

إنّ مجرّد كون البطل من آل فرعون يعني أنّ الرهوط أو الأقوام أو الجماعات المفسدة في الأرض ، لا يعني انغلاقهم جميعاً عن الخير ، مادامت التنشئةُ الاجتماعية الخاصة و الفارقيةُ بين الأفراد تحدّدان نمط السلوك و تعدّلان منه ، بل و تمحوان الطابعَ الوراثي المنحرف في حالات خاصة فضلا عن محوهما لأثر البيئة المنحرفة .

إنّ امرأة فرعون نفسه كانت مؤمنة ، فكيف بابن خاله مثلا ؟

إنّ ملاحظة هذا الجانب يفيدنا في استثمار الشخصيات التي تلفّها اُسرٌ أو أقوامٌ أو بيئات أو أنظمةٌ منحرفة ، و انتشالها ـ سرّاً أو جهراً حسب ما يستدعيه السياق ـ من الانحراف ، و نقلِها من الظلمات إلى النور و بخاصة إنّها بحكم موقعها من النظام أو الرهط تظلّ ذات فاعليّة أشدّ من سواها كما هو واضح .

المهمّ ، أنّ هذه السمة الاجتماعية التي عرّفتنا القصةُ بها ، و نعني بذلك: سمةَ كونِ هذا المؤمن من آل فرعون تظلّ ذات فاعليّة في حركة الأحداث على ما سنلحظه لاحقاً .

و أمّا سمةُ كونه مؤمناً ، فأمرٌ نسجت القصةُ صمتاً حياله ، بما في ذلك نصوص التفسير التي اكتفت بالقول بأ نّه كتم إيمانه مدة من السنين دون أن تحدّد أوّليّاته .

و حتّى السمة الثالثة ، و نعني بها: كَتمَ إيمانهِ لا تتحدث النصوصُ المفسّرةُ عن ملابساتها بقدر ما تتحدّث عن طابعها العام و عن مداها الزمني .

و من البيّن ـ من وجهة النظر الفنّية الخالصة ـ أنّ القصة ليست في صدد تحديد أوّليّات الإيمان أو مداه الزمني بقدر ما تُشدّد على طابع الكتمان نفسه ، نظراً للفاعلية التي ينطوي الكتمانُ عليها في الحفاظ على حياة الشخصية ، و ممارسة وظيفتها العبادية ولو في النطاق الفردي من جانب . ثمّ إمكانات الممارسة الاجتماعية التي ستتاحُ لهذه الشخصية في تحرّكها السرّي الذي يثبت حقاً ، أو يمسح باطلا ، أو يستثمر أفراداً آخرين في نقلهم من الظلمات إلى النور ، أو انتظاراً لفرصة سانحة من التحرّك ، على نحو ما سنلحظه من تحرّك مؤمن
آل فرعون عندما واجه لحظةً حاسمةً تتصل بتفكير الطغاة في الإقدام على جريمة قتل لشخصية مصطفاة من السماء .

يبدأ الدور أو الموقع الوظيفي للبطل الجديد: مؤمنِ آل فرعون ، مع الموقف الآتي:

﴿وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ

﴿أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ؟

﴿وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ

﴿إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ

﴿يا قَوْمِ: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الأَرْضِ

﴿فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا ؟

من هذا الحوار أو الموقف نستخلص جملةً من الاُمور الفنّية ، منها:

إنّ فرعون عندما قال:

﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى

إنّما قالها و هو يعتزم التفكير فعلا بقتل موسى . أو إنّه كان في صدد الاستشارة أو طلب التأييد لقراره . . . و لذلك أدلى مؤمن آل فرعون برأيه ، متدخّلا فيما يبدو حيث كان قد وعد القوم بالنجاة مثلا في حالة إيمانهم باللّه و بالعذاب الدنيوي في حالة ركوب الذات .

نفهم هذا من خلال إشارة البطل إلى أنّ موسى إن يكُ صادقاً:

﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ

أي من العطاء . و نفهمه أيضاً من خلال إشارته القائلة:

﴿فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ إِنْ جاءَنا ؟

أي من عذاب اللّه الذي لوّح به موسى .

هذه المواقف التي سلكها موسى ، لم تسردها القصة عند حديثها عن مواجهته للقوم ، و إنّما كشف البطلُ الجديد عنها: مؤمن آل فرعون .

و هذه واحدةٌ من سمات العرض الفنّي للقصة .

و لكن خارجاً عن السمة الفنّية المتقدمة ، يعنينا أن نتعرّف على أهمية هذا الدور أو الموقع الوظيفي للبطل الجديد: مؤمن آل فرعون ، من حيث طريقته في التدخل ، و من حيث تدخّله الذكيّ لانقاذ الموقف ، و من حيث انعكاس ذلك على فرعون نفسه ، ثمّ انعكاسه على الأحداث بعامّة ، فضلا عمّا رافقته من مُلابسات متنوّعة .

* * *

القارئ أو السامع يتوقّع أنّ فرعون كان جادّاً في اعتزامه على قتل موسى .
و ظاهرُ القصة القرآنية تعزّز مثل هذا الذِهاب . بيد أنّ النصوص المفسّرة تُلقي بعض الإنارة على الموقف ، معلّلة سبب تردّده أو استشارته أو تأجيله لقرار القتل .

تقول هذه النصوص المفسّرة بما مؤدّاه: إنّ إدراك فرعون بأنّ قتل الأنبياء و أولادهم لا يمكن أن يجرأ عليه إلاّ أولاد البغايا . . . ، هذا الإدراك مَنَعُه من الإقدام على جريمة القتل . حتّى أنّ هذه النصوص المفسّرة تنقل لنا جانباً من وجهات نظر مُستشاريه أيضاً ، حيث اقترحوا على فرعون أن يرجئَه و أخاه هارون إلى وقت آخر للسبب ذاته ، من أنّ أولاد السفاح هم الذين يجرأون على قتل الشخصيات العظيمة .

إنّ هذا يعني ـ على الأقل ـ أنّ فرعون كان حريصاً على سمعته من أن تُشوّه ، و أن يُغمز نسبُه في حالة إقدامه على مثل هذه الجريمة في قتل الأنبياء أو أولادهم .

و بالفعل ، فإنّ الإقدام على جريمة قتل للشخصيات التي يصطفيها اللّه ، أو للشخصيات العاملة المخلصة في تعاملها مع اللّه . . . إنّ الاجتراء على قتل مثل هذه الشخصيات في أيّ زمان و مكان لا يمكن أن يصدر إلاّ من سيكوباتيين منحرفين ، لو فُتِّشَت ملفّاتُهم الخاصة ، لوُجِدَ أنّهم وُلدوا من أب غير شرعي .

و التاريخ يُحدّثنا قديماً و حديثاً عن أمثال هؤلاء المنحرفين الذين تحكّموا في غفلة من الرقابة في مصائر الشخصيات المصطفاة ، أو المخلصة المنتسبة إلى مبادئ السماء ، فأقدموا على جرائم القتل دون أن يُبالوا حتّى بسمعتهم التي يعرفها الداني و القاصي ، و دون أن يعنيهم أنّهم من أب شرعي أو غير شرعي . و أيّاً كان فإنّ ملابسات الموقف المتصل بالتفكير في جريمة القتل ، تُبيّن لنا أنّ فرعونلم ينفّذ قراره بنحو عاجل ، بل لفَّ الموقفَ تردّدٌ و تأجيلٌ و استشارةٌ و مُدارسةٌ ، . . .
كان من آثارها هذا التدخّل مِن قِبَل البطل الجديد: مؤمن آل فرعون ، فيما آنَ أن نتبيّن تفصيلاتِه .

* * *

إذا كان الإقدامُ على جريمة قتل لايصدر إلاّ عن أولاد السفاح ، فإنّ التدخّل للحيلولة دون وقوع الجريمة يكشف عن صفة مضادة تماماً ، بمعنى أنّ السكوت على جريمة قتل مع إمكان التدخّل يُعدّ سمة مشابهة للسمة الانحرافية التي تطبع القَتَلة . . .

من هنا ، نظراً للنظافة و النقاء اللذين يطبعان مؤمن آل فرعون ، وجَدَ هذا البطلُ الذي كتم إيمانَه مدة طويلةً من الزمن ، . . . وجَدَ أنّ السكوت على جريمة قتل يُعدّ مساهمةً في الجريمة ، و لذلك تدخّل مباشرة للحيلولة دون تنفيذ الجريمة ، . . .
و هذا ما يفسّر لنا ـ من الزاوية الفنّية و النفسية ـ أسباب تدخّل هذا البطل . . .

بيد أنّ البطل الجديد ، و هو يتّسم بنُضج الشخصية ، و بالحكمة ، و بالذكاء الاجتماعي ، و بالموقف الفقهي السليم ، . . . لم يتدخّل بشكل عاطفي أو ساذج ، بل بنحو ذكيّ قائم على المحاجّة التي تقطع على الآخرين حُجَجَهم ، بغضّ النظر عن النتائج النهائية التي تردّدت النصوص المفسّرة في تحديدها ، الذاهب إلى أنّ البطل قد نجا مع موسى في عبور البحر ، أو نجا من محاولة قتل خُططت له . . .

و بعامّة ، فإنّ مناقشته للقوم أخذت بنظر الاعتبار مصلحة القوم أنفسهم ، حيث تحرّك من خلال عواطفهم و رغباتهم ، . . . قال لهم:

﴿لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الأَرْضِ

أي: أقرّهم على السلطة التي يتمتعون بها ، و حذَّرهم من زوالها في حالة صدق الكلام الذي توعّدهم به موسى من نزول العذاب . مثلما أقرّهم بعامّة على المعطيات التي يرغبون إليها ، فيما بشّرهم بها موسى في حالة إيمانهم باللّه ، في قوله:

﴿وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ

و المهمّ أنّ اُسلوبَ تدخّله قد اتّسم بالنضج و بالحكمة و بالضرب على رغباتهم ذاتها .

و السؤال هو: ما هو ردّ فعل فرعون حيال هذا التدخّل أو النصيحة ؟

ثمّ: ما هي معطيات هذا التدخّل في نطاق العمل من أجل مبادئ السماء ؟

* * *

أمّا معطيات هذا التدخّل ، فسنوضّحها في حينه عبر متابعة المواقف المتنوعة التي سلكها البطل في الأجزاء اللاحقة من القصة .

و أمّا ردّ فعل فرعون حيال هذه النصيحة ، فتوضّحه الفقرةُ الحواريةُ الآتية:

﴿قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ

و هذا يعني أنّ فرعون لايزال عند قراره السابق ، و عند نطاق ذات اللغة المُضلّلة التي تتحدّث كذباً و افتعالا عن الهداية و الرشاد و نحوهما من المنطق المُضلّل .

بيد أنّ القصة تقف عند هذا الحدّ من ردّ الفعل لدى فرعون ، دون أن تفصّل في عرض قراراته العملية في هذا الصدد .

ثمّ تبدأ بعرض مواقف جديدة للبطل: مؤمن آل فرعون ، على نحو ما ستتحدّث عنه لاحقاً .

غير أنّ السؤال ـ من وجهة النظر الفنّية ـ هو:

لماذا سكتت القصة عن تحديد العمل الذي سيتّخذه فرعون حيال موسى ؟

هل إ نّه همّ بقتله ؟ هل إنّه أرجأه لوقت آخر ؟

كلّ ذلك سكتت القصة عنه و تابعت حديثها عن مواقف البطل: مؤمن آل فرعون . . . فما هو السرّ الفنّي وراء ذلك ؟



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page