• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة المؤمن : مسرحة القصة

 الملاحَظ ، أنّ قصة مؤمن آل فرعون خضعت لهيكل قصصي خاص قائم على مسرحة القصة ، فيما يتصل بالحوار الذي أجراه كلٌّ من بطلي القصة: المؤمن و فرعون . فمؤمن آل فرعون يتحدّث مع قومه ثلاث مرّات أو أكثر ، حيث يتخلّله حديث فرعون مع قومه أيضاً أكثر من مرّة .

مؤمن آل فرعون يخاطب قومه ، قائلا: لاتقتلوا موسى!! ثمّ يسكت .

و يجيء فرعون في هذه اللحظة ، ليقول: الرشاد هو في قتل موسى .

إلى هنا يبدو و كأنّ الحوار جار بين المؤمن و فرعون ، و لكن من خلال مخاطبة القوم و ليس حواراً مباشراً بينهما .

ثمّ يعود البطل مؤمن آل فرعون إلى مخاطبة القوم ، مذكّراً إيّاهم بهلاك القرون الماضية . ثمّ يسكت المؤمن .

و يجيء فرعون ليخاطب وزيره هامان ، قائلا له: ابنِ لي صرحاً حتّى أطّلع على إله موسى . ثمّ يسكت فرعون .

و يعود المؤمن ليتحدث من جديد ، قائلا لقومه: إتّبعونِ ، أهدِكم سبيل الرشاد . . .
إلى آخره .

إنّ هذا الحوار المقسّم إلى أجزاء كان من الممكن أن يُصاغ مرةً واحدةً و ينتهي الأمر ، و بخاصة أنّ المؤمن و فرعون لم يتحدّثا مباشرة حتّى يتطلّب الأمر سؤالا و جواباً و تعدّداً للحوار ، و إنّما يتحدّثان مع قومهما ، حتّى ليبدو أحياناً أنّ كلاّ منهما لا علاقة لحديثه بحديث الآخر .

فمثلا كان مؤمن آل فرعون يتحدّث عن هلاك القرون الماضية: أقوام نوح و عاد و ثمود . و إذا بالقصة تقطع سلسلة حديثة لتفسح المجال لفرعون ، و لكن ماذا قال فرعون ؟

طلب فرعون من وزيره هامان أن يبني له صرحاً ليطّلع إلى إله موسى .

فالملاحظ عدم وجود علاقة ظاهرة بين حديث المؤمن و فرعون . المؤمن يتحدّث عن تجارب الأقوام البائدة و فرعون يتحدّث عن بناء صرح .

ثمّ عاد المؤمن إلى الحديث من جديد ، و لكن بنحو لا علاقة له أيضاً بحديث فرعون حيث خاطب القوم ، قائلا:

﴿اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ

إذن تقطيع الحوارات بهذا النحو دون أن تكون بين البطلين المؤمن و الكافر مناقشةٌ تتطلّب تقطيع الحوار بهذا الشكل ، . . . لابدّ أن ينطوي على سرّ فنّي له خطورته . و إلاّ لِمَ كانت هذه القصة دون سواها من القصص التي وقفنا عليها تنفرد بهذا الشكل من الحوار المقسّم إلى أجزاء ، دون أن تكون علاقة ظاهرة بين الحوارات التي يقاطعها المؤمن حيناً ، و يقاطعها فرعون حيناً آخر ، و أحدُهما لا يواجه الآخر ؟

* * *

من وجهة نظرنا الفنّية ، أنّ هذه القصة ـ قصةٌ مُمسرحَة ـ إذا صحّ لنا استخدام مثل هذه اللغة .

فمن المألوف في حقل الأدب القصصي أنّ بعض القصص تُصاغ لكي تقرأ فحسب ، و بعضها يُصاغ لِيُمثّل على خشبة المسرح .

طبيعيّاً ثمة فارق بين القصة و بين المسرحية ، لا يعنينا الآن ملاحظة الفوارق الكبيرة بينهما . و هذا المائز بين الشكلين القصصي و المسرحي لا علاقة له بالقصة ذات الطابع المسرحي في مشاهدها: جزئياً أو كليّاً . و بكلمة اُخرى أنّ النص الذي بين أيدينا يظلّ نصّاً قصصياً و ليس نصّاً مسرحياً ، كلّ ما في الأمر أنّ بعض أو غالبية هذا النص صيغ وفق بُعد مسرحي يتطلّبه الموقف .

و يمكننا تخيّل هذا الموقف على النحو الآتي:

هناك قاعةٌ اُعدّت لعقد اجتماع يحضره فرعون و هامان و سائر وزرائه و كبار الموظفين و ربّما حشدٌ من الجمهور أيضاً .

و يحضر هذا الاجتماع أيضاً ، مؤمن آل فرعون بصفته أحد كبار موظفي الدولة .
يفتتح الاجتماع فرعون ، مقترحاً على الحاضرين قتل موسى (عليه السلام) .

و يتدخّل مؤمن آل فرعون في الأمر ، مُدلياً برأيه في هذا الصدد . مشيراً إليهم بعدم قتله .

لكنّ فرعون يقاطعه ، أو يعقّب على رأيه مبيّناً أنّ الرشاد هو في قتل موسى .

و هنا يعود المؤمن إلى الكلام ثانيةً ، موجّهاً كلامه إلى الحاضرين ، مذكّراً إياهم بحوادث القرون الغابرة و ما أصاب أقوام نوح و عاد و ثمود من الإبادة ، نتيجة لاصرارهم على الكفر .

ثمّ يكفّ المؤمن عن الكلام ، . . . و يعود فرعون من جديد متحدّثاً مع القوم ، و كأ نّه يريد التعريض بشخصية المؤمن ، و بتخطئة آرائه ، أو كأ نّه يُريد السخرية منه و نقل الحديث إلى وجهة اُخرى فيخاطب وزيره هامان قائلا له: إبن لي صرحاً لأصعد نحو السماء و أنظر إلى إله موسى .

لكنّ المؤمن و هو يدرك سخف الحديث الذي شغل به فرعونُ أذهان الحاضرين يعود ثالثة إلى الحديث مخاطباً الحاضرين:

﴿يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ

ثمّ يستمرّ في كلامه المخلص الجادّ على عكس فرعون الذي شغل الحاضرين بالسخرية و الهزل و الكلام الفارغ . . .

ثمّ ينفضّ الاجتماع بعد أن يُنهي المؤمن كلامَه .

و بعد ذلك تأخذ القصةُ منعطفاً آخر . . .

* * *

المهمّ أنّ القصة من وجهة نظرنا الفنّية الخاصة كانت في صدد نقل وقائع الاجتماع الذي حضره فرعون و هامان و المؤمن و سائر الأشخاص المعنيين بهذه القضية .

و لذلك جاء عنصر الحوار مُقطّعاً إلى شرائح ، كان فرعونُ نظراً لشخصيته المفسّدة ، المُمزّقة ، المريضة سبباً في عدم انتظامه في سؤال و جواب منطقيّين ، أو في مناقشة سليمة مترابطة الحلقات ، بل حاول تمييع القضية و نقلها من صعيد الجدّ إلى صعيد الهزل ، على النحو الذي نقلته القصة مفصّلا .

و هذا ـ مثلما قلنا ـ يفسّر لنا أسرار صياغة الحوار ، و كأنّه لا علاقة بين مفرداته ، . . . لا علاقة بين طرفي السؤال و الجواب فيه و . . . لا علاقة بين تقطيعه إلى أجزاء . . . إلى آخره .

و من البيّن أنّ هذا النحو من صياغة الحوار الذي فرضته طبيعةُ الاجتماع أو الجلسة التي عقدها كبيرُ المفسدين في الأرض: فرعون ، . . . هذا النحو من صياغة الحوار يظلّ حيّاً في غاية الحيويّة ، مُمتعاً كلّ الإمتاع ، يشعّ بحركة الواقع بكلّ بساطته و تعقيده في آن واحد . . . إنّه ينقل وقائع الاجتماع أو الجلسة بتناقضاتها التي يجسّدها فرعون و بجديّتها التي يجسّدها مؤمنُ آل فرعون . ينقلها لا بنحو مباشر و كأنّ الأمر مسرحٌ و جمهور ، بل ينقلها بنحو غير مباشر و من خلال شكل قصصي لا مسرحي . . . ينقلها من خلال صياغة خاصة للحوار تنفرد عن الصياغة المألوفة للحوار في القصص القرآنية الاُخرى ، حتّى يدفعنا ـ نحن القرّاء و السامعين ـ إلى استخلاص و استنتاج حركة جديدة داخل القصة ، هي: وجود جلسة أو اجتماع خاصٍّ أو جماهيري فرضته ظروف معينة ، و طبعته ملامح خاصة على النحو الذي سنفصّل الحديث عن نتائجه .

* * *

لحظنا مفصّلا بناء القصة قصة مؤمن آل فرعون و السمات الفنّية التي طبعتها ، عبر الحوار المسرحي الذي أجراه كلٌّ من المؤمن و فرعون ، و وجّهاه إلى القوم في الاجتماع الذي عُقِدَ لدراسة القرار المتصل بقتل موسى (عليه السلام) .

و الآن نتابع تفصيلات هذا الحوار الذي خصّصت القصةُ غالبيّته للبطل: مؤمن آل فرعون و خلّلته تعليقات عابرة لفرعون .

قال البطل مؤمن آل فرعون ـ بعد أن وجد أنّ فرعون راكبٌ رأسه ـ موجّهاً خطابه إلى القوم ، مستخدماً لغة الثواب و العقاب الدنيويين و الاُخرويّين معاً ، بعد أن كان في خطابه الأوّل يحوم على الحيلولة دون تنفيذ القرار بقتل موسى .

و لكن بعد أن وجد أنّ فرعون لم يأبه لنصيحته ، واصل خطابه إلى القوم ، مذكّراً إيّاهم بمصائر الأقوام البائدة و بالمصير الاُخروي الذي سيلحق قومه في حالة إصرارهم على الكفر:

﴿وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزابِ

﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوح وَ عاد وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ

﴿وَ مَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ

﴿وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ

﴿ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِم وَ مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هاد

هنا يُشدّد البطل على شخصية أحد الرسل بالذات ، و هو يوسف (عليه السلام) ، مُذكّراً قومه بموقف الأقباط من رسالة يوسف ، و تشكيكهم بها:

﴿وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ

﴿فَما زِلْتُمْ فِي شَكّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ

﴿حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً

﴿كَذلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ

﴿الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطان أَتاهُمْ

﴿كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا

﴿كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبّار

السؤال هنا:

ما هو الموقع الفنّي لهذا التذكير بشخصية يوسف دون سواه ؟

* * *

إنّ القضيةَ متصلةٌ بالأقباط و بقوم موسى ، و قد كان يوسف بالذات كما تقول بعض النصوص قد نبّه قومه حين حضرته الوفاة على الشدائد التي سيواجهونها في المستقبل .

و هذا يعني أنّ تذكير البطل: مؤمن آل فرعون بشخصية يوسف ينطوي على عنصر فنّي و نفسي واضح الصلة بالموقف الجديد . فقد تحقّقت نبوءة يوسف ، حيث قُتل الرجال ، و ذُبحت الأطفال ، و بُقرت بطون الحبالى على النحو الذي نعرفه من تعامل الأقباط مع الإسرائيليين .

و نحن ينبغي أن نلفت الانتباه إلى القصة القرآنية عندما تذكّر بإنقاذ قوم من قوم ، إنّما تستهدف تحذيرهم من جانب و ترسم لهم ـ في حالة عدم اتعاظهم بهذا التذكير ـ مصيراً مماثلا للبائدين .

فقد لحظنا مثلا في إحدى قصص موسى (عليه السلام) ، تشدّد القصة على النِعَم التي أغدقتها السماء على الإسرائيليين و في مقدّمتها إنقاذهم من الأقباط . بيد أنّ الإسرائيليين كفروا بالنعم و ركبوا رؤوسهم حتّى فاقوا بجرائمهم جرائم مضطهديهم ، بحيث رسمت السماء ـ في القصة المشار إليها ـ مصائر سوداء تتناسب مع حجم الجرائم التي ارتكبها الإسرائيليون ، ممّا يعني أنّ تذكيرهم بالنعم من وجهة النظر الفنّية يقترن بمصير يُرسم لهم في نهاية المطاف ، جزاءً للكفران بالنعم .

هنا ، في قصة مؤمن آل فرعون تأخذ القصة وِجهةً اُخرى في عملية التذكير بالماضي ، ليس هدفُها محكوماً بذات الطابع الذي يعتزم رسم مصير خاص لهذا الرهطِ أو ذاك ، بل هدفها التحذير فحسب ، حتّى تحمل القوم على الإيمان باللّه .

و فعلا ، فإنّ الإيمان برسالة السماء عصرئذ وجَدَ سبيله عبر أعداد كبيرة لايعنينا الآن الحديث عنها ، مادامت القصة في صدد هدف آخر .

المهمّ أنّ تذكير البطل: مؤمنِ آل فرعون بشخصية يوسف دون سواه من الشخصيات ، يظلّ حاملا خصّيصة فنّية و نفسية ذات صلة بنبوءة يوسف من جانب و بتشكيكهم بعد وفاته (عليه السلام) بالرسل من جانب آخر:

﴿حَتّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً

وصِلة اُولئك جميعاً بعملية التشكيك الذي يحياه القوم حاضراً ، عندما جاءهم موسى برسالته .

* * *

عندما كان البطل مؤمن آل فرعون يواصل في الاجتماع الذي حضره فرعون و هامان و سائر القوم ، عندما كان البطل يواصل تحذيره ، كان فرعون يطلب من وزيره هامان بناء صرح ليطّلع على السماء . . .

﴿وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً

بيد أنّ البطل لا يلتفتُ إلى الاقتراح السخيف الذي كشف المزيد من صَلَف فرعون ، بل واصَلَ حديثه الذي يحمل في طيّاته ردّاً غير مباشر على فرعون . . .

و من وجهة النظر الفنّية فإنّ مؤمن آل فرعون عندما ختم كلامه السابق بقوله:

﴿كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبّار

أو في حالة الذهاب إلى أنّ هذه الفقرة تعقيبٌ من السماء و ليس من البطل . . .
يبدو أنّ اقتراح فرعون السابق جسّد تطبيقاً عملياً لقوله: إنّ اللّه يطبع على كلّ قلب متكبِّر جبّار . بحيث لم تعد هناك أ يّة إمكانيّة لهداية هذا الضالّ .

ألم يكشف فرعونُ بنفسِه ـ من خلال اقتراحه السخيف ـ من أ نّه قد طُبعَ على قلبه فعلا ؟

المهمّ أنّ البطل مؤمن آل فرعون لم يلتفت لمثل هذا الاقتراح السخيف ـ بناء الصرح ـ ، بل واصل خطابه إلى القوم ، مُضمّناً ذلك ردّاً غير مباشر على فرعون:

﴿وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ

﴿يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ

لا يغب عن بالنا أنّ فرعون ـ في الاجتماع المذكور ـ سبقَ أن وجّه خطاباً إلى القوم ، زعَمَ فيه أ نّه يهديهم إلى سبيل الرشاد .

﴿ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ

لكن القصةَ ـ فنّياً ـ تردّ على الزعم المذكور موضحةً على لسان بطلها مؤمن آل فرعون: أنّ الرشاد ، هو في اتّباع مبادئ السماء .

و لنتابع خطاب البطل:

﴿وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ

﴿تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ

﴿وَ أَ نَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفّارِ

﴿لا جَرَمَ أَ نَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الآخِرَةِ

﴿وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ

بهذه الفقرات ينتهي خطاب البطل: مؤمن آل فرعون ، ثمّ تأخذ القصة منعطفاً آخر . . . و هنا ينبغي أن نلفت الانتباه إلى أهميّة هذه الفقرات التي اختتم البطلُ بها خطابَه ، من حيث انطواؤها على سمات و خصائص فنّية ، ستعكس آثارها على حركة القصة و مصير البطل ، فضلا عن المصائر التي ستلحق قومَه على نحو ما سنفصّله إن شاءاللّه .

* * *

كانت الكلمات الأخيرة التي ألقاها البطل: مؤمن آل فرعون في الاجتماع الذي حضره فرعون و كبار قومه . . . كانت هذه الكلمات التي أنهى بها البطلُ خطابَه للقوم ، ذات دلالة و مغزىً كبيرين ، فيما يتصل بحركة القصة و ما تموج به من أحداث في المستقبل ، سواء أكان هذا المستقبل خاصاً ببيئة الدنيا ، أم بها و ببيئة الحياة الاُخرى أيضاً . و سواء أكان متصلا بمصير شخصية البطل نفسه ، أم بمصير آل فرعون .

إنّ الأهمية الفنّية لهذه الكلمات التي أنهى البطلُ بها خطابه من حيث البناء العضوي للقصة و تلاحُم خطوطها الهندسية ، تتمثّل في كونها قد حملت القارئ أو السامع على أن يمارس عملية التنبّؤ بمصائر الأحداث . بعضها يكاد يبيّن للقارئ و السامع ، و بعضها يُلفّعُ بشيء من الغموض .

بعضها محفوفٌ بالتوجّس و التخوّف على مصير البطل ، و بعضها مصحوبٌ بمشاعر الرثاء و الإشفاق على مصائر القوم الذين لم تُجْدِهم النصيحة . . .

المهمّ أنّ عنصر التشوّق ، لِما ستُسفر عنه الأحداثُ قد لا يبيّن للقارئ أو السامع العاديّين ، لكنه ـ بالنسبة للقارئ الذكيّ الذي يخبر أساليب الفنّ القصصي يظلّ الأمر معكوساً تماماً ، طالما يعرف أنّ لكلّ كلمة يلقيها البطل و لكلّ إشارة يلوّح بها مغزىً و دلالة ، و بخاصة أنّ البطل لم يكن مجرّد شخصيّة عاديّة ، بل شخصيّة آمنت باللّه مبكّراً حتّى أنّ النصوص المفسّرة أشارت إلى أنّ هذا البطل واحدٌ من أربعة أشخاص في التاريخ ، يجسّدون دلالة قوله تعالى:

﴿وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ

أي أ نّهم في مقدّمة السابقين إلى الإيمان في ظروف لم يُتح لأيّ رجل أن يحالفَه مثلُ هذا التوفيق .

على أ يّة حال ، مثل هذه الشخصية الكبيرة التي أحاطها اللّه برعايته ، لابدّ ـ حينما تُحذّر و تلوّح بشيء ـ أن يكون لتحذيرها و لتلويحها بهذا الشيء أو ذاك ، أثره في حركة القصة و مستقبل أحداثها .

و الآن لنتعرّف على الدلالات التي تضمّنتها كلماتُ البطل في ختام الجلسة أو الاجتماع الذي عُقِدَ لمناقشة قرار القتل المتصل بموسى (عليه السلام) ، و ملابسات الرسالة التي جاء بها و كُلِّف ـ من قِبَل اللّه ـ بتوصيلها إلى فرعون و قومه .

* * *

قال البطل ، مؤمن آل فرعون:

﴿يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ

و هذه هي الفقرة الاُولى من الفقرات التي نتوقّع ـ من الزاوية الفنّية ـ أن تكون لها انعكاساتها على مصائر القوم .

و قال البطل أيضاً:

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

و هذه هي الفقرة الثانية التي تحمل وقعَ الصاعقة على النفوس ، نظراً لما تـتـضمّنه من تلويح بما سيكون .

و قال البطل في آخر كلمة صدرت منه:

﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ . . .

و هذه الفقرة تحمل القارئ و السامع على أن يتوقّع ملاحقة الطغاة لهذا البطل .
لكنّه ـ أي القارئ أو السامع ـ يطمئنُّ في الآن ذاته إلى أنّ السماء ستكون عند حُسن ظنّ البطل و إلى أنّها ستحيطه برعايتها العظيمة .

و الآن بعد تأمّلنا لهذه الكلمات الثلاث:

1 ـ﴿ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ .

2 ـ﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ .

3 ـ﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ .

بعد تأمّل هذه الكلمات الثلاث: يتوقّع القارئ ـ من وجهة النظر الفنّية ـ أن تنعطف القصة نحو ترتيب الآثار عليها .

و فعلا ، و بطريقة مدهشة و سريعة: تُنهي القصّة مصير آل فرعون دنيوياً ، . . .
و تنقذ البطلَ من مَكرِهم . فقد عقّبت القصّة مباشرة على كلمات البطل ، قائلة:

﴿فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ

إنّ هذه الكلمات . . . حسمت كلّ شيء ، و أنهت فنّياً كلّ مصير يتّصل بحياة البطل و بحياة آل فرعون في هذه الحياة الدنيا .

و ستعرض القصةُ بعد ذلك مباشرة ، مصير آل فرعون في بيئة البرزخ ، ثمّ في بيئة النار على نحو ما سنفصّل الحديث عنه لاحقاً .

لكننا ـ قبل ذلك ـ ينبغي ألاّ نمرّ عابراً ـ دون التذكير من جديد ـ بالعلاقة العضوية بين كلمات البطل و بين مصائر القوم ، و مصير البطل نفسه ، ثمّ استخلاص بعض الدلالات الفكرية التي ينبغي أن نفيد منها في تعاملنا الدنيوي .

فيما يتصل بمصير البطل: مؤمن آل فرعون ، قال هذا البطل:

﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ

و سرعان ما أجابته السماء ، فحقّقت حسن ظنّه باللّه ، فقالت:

﴿فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا

عند هذه الدلالة ينبغي أن نقف ، ولو عابراً .

فبغضّ النظر عن السمة الفنّية التي كشفت عن وجود علاقة بين خطاب البطل الذي وجّهه إلى القوم ، و بين تعقيب القصة عليه . . . بغض النظر عن السمة الفنّية المذكورة . . . يعنينا أن نشدّد على دلالتها الفكرية .

إنّ هذا البطل الذي كتم إيمانه سنين طويلة ، لأسباب تتعلق بمبدأ التقية التي تفرض مثل هذا الكتمان ، بغية الحفاظ على استمرارية العبادة حيناً ، و استثمارها في الوقت المناسب حيناً ثانياً ، و التخطيط للثورة حيناً ثالثاً . . .

أقول: إنّ هذا البطل الذي كتم إيمانه للأسباب المتقدمة التي فرضتها التقية ـ و تفرضها طبيعةُ العمل السرّي الذي تمارسه الحركات التحرّرية ـ هذا البطل يعلن فجأة عن هويّته في الوقت المناسب ، و لكن وفق اُسلوب نفسيّ ذكي بدأه أوّلا بنحو يبدو و كأ نّه شخصٌ محايد ، حيث قال للطغاة:

﴿أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَـقُولَ رَبِّيَ اللّهُ

ثمّ أبدى حرصاً أو تعاطفاً مع مصالحهم أنفسهم ، حينما قال لهم:

﴿لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الأَرْضِ

﴿فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللّهِ

و قبل ذلك هوّنَ من أهميّة القضية حينما قال لهم:

﴿وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ

﴿وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ

فهذا الاُسلوب هوّن من أهميّة القضية من جانب ، ثمّ ربطها بمصلحة القوم من جانب ثان في حالة صدق موسى بدعواه ، ممّا يجعل القوم ـ دون أدنى شك ـ مُطمئنين إلى مشاعره حيالهم . . . ثمّ تدرّج البطل في تصعيد الموقف من خلال تذكيرهم بالأقوام البائدة ، ثمّ بشخصية يوسف و تشكيكهم برسالته . . . حتّى انتهى الأمر أن يعلن بصراحة عن هويته الحقيقية ، و إلى أن يتحدّث بنفس اللهجة الصريحة التي حدّثهم موسى بها ، لغة المواجهة المباشرة مع الطغاة ، و لكن من خلال لغة الحبّ الذي تحمله رسالات السماء كلُّها ، مشفوعة بلغة التهديد التي تظلّ حائمةً على الحبّ أيضاً ، مادامت تقتاد إلى الإيمان و ما يحققه من مُعطيات دنيوية و اُخروية للقوم .

المهمّ ، أنّ البطل بدأ من التقية و تدرّج إلى الحياد و انتهى إلى المواجهة الصريحة ، حتّى وصل الأمر إلى أن يتوقّع البطل إلقاء القبض عليه أو قَتله ، . . .
و عندها هتف قائلا:

﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ

إنّ ما يعنينا من هذا: جانبان . الإفادة من كتمان الموقف ، و سريّته و استثماره في الوقت المناسب بطريقة ذكية ، و ليس بطريقة عاطفية أو ساذجة أو مغفّلة لا تأخذ بنظر الاعتبار ظروف الموقف . ثمّ أهمية التفويض إلى اللّه في حالة المواجهة المباشرة .

* * *

لقد أنهت قصةُ مؤمن آل فرعون ، أنهت مصيرَ كلٍّ من البطل المؤمن و مصائر أعدائه ، فبالنسبة إلى المؤمن سكتت القصةُ عن تحديد تفصيلات مصيره . بيد أنّ القصة لوّحت بنجاته دنيوياً حينما قالت:

﴿فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا

و المهم ـ من الناحية الفنّية ـ أنّ القصة ربطت بين تفويض البطل أمره إلى اللّه ، و بين وقاية اللّه للبطل سيئآت ما مكروا به .

ليست القصة في صدد نمط الطريقة التي نجا البطل من خلالها و إنّما في صدد النجاة نفسها ، و لذلك نسجت القصةُ صمتاً حيال الطريقة التي نجا بها .

و هذا هو المسوّغ الفنّي لعدم الدخول في تفصيلات المصير الذي آلَ البطلُ إليه .

أمّا النجاة من سيئات آل فرعون فهو ما تستهدف القصةُ لفتَ انتباهنا إليه مادام البطلُ قد فوّض أمره إلى اللّه .

و دلالة تفويض الاُمور إلى اللّه هي التي ينبغي أن نفيد منها في هذه الشريحة من القصة ، بعد أن أفدنا من دلالة التقيّة و دلالة المواجهة المباشرة مع الأعداء و معطياتهما في ميدان الجهاد .

إنّ التفويض إلى اللّه ، يعني أنّ المجاهد في سوح القتال ، أو ميدان الفكر ، أو في حقل الجهاد الذاتي ، أو مطلق التعامل مع اللّه . . . يعني أنّ السماء تنقذ عبادها من الشدائد التي يواجهونها ، حتّى لو اطبقت السماءُ على الأرض ، شريطة أن يكون التفويض إلى اللّه نابعاً من أعماق مخلصة ، و أن يكون مقترناً بالاخلاص في الممارسات العبادية بعامّة . و هو ما لحظناه في ممارسات البطل مؤمن آل فرعون ، فهو قد كتم إيمانه من أجل اللّه و تدخّل في قضية قتل موسى (عليه السلام) من أجل اللّه ، و نصح قومه من أجل اللّه ، و توعّدهم ـ دون أن يبالي حتّى بالموت ـ من أجل اللّه . . .

إنّه . . . ، فوّض أمره إلى اللّه في تحديد مصيره . . . و كان اللّه في حسن ظنّه ، حيث وقاه سيئآت ما مكروا ، و حاق بآل فرعون العذاب .

* * *

و نتّجه الآن إلى مصير آل فرعون . . .

القصة أجملت أيضاً مصير الطغاة ، مكتفية بقولها:

﴿وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ

مُوازنةً برسم هذا المصير بين البطل الذي أنقذته السماء دون أن تذكر تفصيلات إنقاذه ، و بين انتقام السماء من الأعداء دون أن تذكر تفصيلات الانتقام أيضاً . . .

المهمّ هو: هذه الموازنة الهندسية بين مصير كلٍّ من طرفي الصراع: الحقّ و الباطل .

بيد أنّ الملاحظ ، أنّ القصة لازالت في نطاق الرسم المتصل بالمصير الدنيوي لآل فرعون .

و قد سبق القول ـ في مقدمة دراستنا لهذه القصة ـ : إنّ البيئة التي تحركت القصةُ من خلالها ، تنتظمها ثلاث بيئات: بيئة الدنيا ، بيئة البرزخ ، و بيئة الحياة الآخرة .

و هذا يعني أنّ هناك بيئتين لا تزالان في انتظار آل فرعون ، هما بيئة البرزخ أو القبر و بيئة جهنّم .

لكننا قبل أن نتحدّث عن هاتين البيئتين ، يجدر بنا أن نصلَ بينهما فنّياً و بين الكلمات الأخيرة التي أنهى بها البطل مؤمن آل فرعون خطابه إلى القوم . . .

قال البطل في خطابه:

﴿وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّهِ

و جاء الجواب في الجزء اللاحق من القصة:

﴿فَوَقاهُ اللّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا

و قال البطل:

﴿وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ ؟

و قال أيضاً:

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

إنّ قول البطل: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ و قوله: ﴿أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ ينطويان على حقيقة فنّية بالغة الخطورة ، متمثلةً في انعكاس هذين القولين على مصائر آل فرعون في الدنيا و في الآخرة بخاصة ، أي بمصير آل فرعون في بيئة البرزخ و في بيئة جهنّم .

و بكلمة اُخرى: إذا استخدمنا لغة النقد القصصي ،يمكننا أن نذهب إلى أنّ الفقرتين اللتين أنهى البطلُ بهما خطابه قد أنميا حركة الأحداث و طوّراها عُضوياً ، بحيث كان لهما تأثيرٌ سببيٌّ على تلوين الأحداث المُقبلة ، و تطبيعهما بهذا المصير أو ذاك .

و بالفعل فإنّ النار التي دعا القومُ: البطلَ إليها ، . . . و النجاة التي دعا البطلُ: القومَ إليها . . . هذه الدعوة قد تجسّدت نجاةً فعليّاً للبطل ، و تجسّدت عقاباً فعليّاً لآل فرعون . مضافاً لذلك ، قال البطل:

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

و ها هي أحداث القصة تحقّق نبوءات البطل و تُذكّر القوم فعلا بنصائح البطل . . .
و لكن بعد فوات الأوان . . .

* * *

و الآن لِنعرض بيئتي البرزخ و اليوم الآخر و علاقتهما بقول البطل:

﴿وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ

و بقوله:

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

و ممّا لا شك فيه ، أنّ الطغاة سيتذكّرون ما قاله البطلُ لهم ، . . . و ممّا لا شك فيه أيضاً ، أنّهم نتيجةً لإسرافهم أصبحوا من أصحاب النار كما تنبّأ البطلُ بذلك .

و ها هي بيئةُ البرزخ تخلع أفئدة الطغاة ، ليلَ نهارَ . . .

و لنقرأ:

﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا

و ها هي بيئة اليوم الآخر يواجهون الأمر بالدخول إلى جهنّم التي عُرضوا عليها في حياة القبر غدوّاً و عشيّاً:

﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ

و نتساءل عن السمة الفنّية التي سوّغت عَرضَ بيئة البرزخ أوّلا ، ثمّ بيئة النار ، و بخاصة الفقرة القائلة:

﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ

و لسوف نرى في القسم الأخير من القصة موقفاً خاصاً لآل فرعون في بيئة النار ، تُعرض من خلاله مناقشات القوم فيما بينهم و معاتبة البعض للبعض الآخر ، فيما تعكس جانباً آخر من أحداث القصة في العلاقة العضوية القائمة بين سلوكهم في الدنيا و انسحابه على الموقف الاُخروي ، . . . فضلا عن انسحابه على نمط تعاملهم مع البطل: مؤمن آل فرعون .

و نحن قبل أن نتحدّث عن السمة الفنّية التي انطوى عليها عَرضُ البرزخ ، ثمّ الأمر بالدخول إلى ﴿أَشَدَّ الْعَذابِ . . . ثمّ عرض بيئة النار ذاتها عبر المناقشات التي سيتوفّر عليها آل فرعون في تلك البيئة . . .

قبلَ أن نعرضَ لهذا كلّه ، ينبغي أن نشير إلى أنّ البطل: مؤمن آلِ فرعون ، سيختفي من المسرح تماماً ، . . . كما اختفى من قبلُ موسى (عليه السلام) . . . و سيكون هذا القسم الأخير من القصة مخصّصاً لآل فرعون فحسب في بيئة ما بعدَ الحياة الدنيا .

و نحن لا نحتاجُ لطرح أيّ سؤال فنيٍّ يختصّ بالتعرّف على سبب اختفاء البطل من مسرح الأحداث ، . . . ما دمنا قد أوضحنا أنّ البطل قد انتهى موقعه مع انتهاء رسالته التي نهض بها في مقارعة الطغاة في الحياة الدنيا .

أمّا الحياة الآخرة ، فإنّ صلتها بالبطل ستظل في نطاق آخر هو: انعكاسُ أقواله و نصائحِه و تنبّؤاتِه على مصائر آل فرعون ، حينما قال لهم:

﴿ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ

و حين أكّد لهم:

﴿وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النّارِ

و حينما نبّههم بهذه الكلمة الرائعة:

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

إنّهم سيتذكّرون و هم في القبر . . . ، و هم في الموقف . . . ، و هم في النار . . .
نصائح البطل ، و استكبارهم ، و لكن بعد فوات الأوان .

لقد أطالَ مؤمنُ آل فرعون ، خطابَه الموجّه إلى قومه . . .

و هذه الإطالة لابدّ أن تتضمّن سرّاً . . .

أمّا طَرف الصراع الآخر و في مقدّمته فرعون ، فكانت ردود فعله ، سخريةً ، و استكباراً ، و إمعاناً في ركوب الذات . . .

من هنا نتوقّع ـ و بخاصة أنّ تنبّؤات البطل المؤمن قد لوّحت بذلك ـ أن يطول الحساب مقابلا لإطالة الكلام ، و النصيحة و الحبّ و التوعّد ، . . . حتّى يتحقّق التوازن الفنّي بين حجم النصيحة التي قدّمها البطل ، و حجم العقاب المترتب على رفض آل فرعون لتلك النصيحة التي قدّمها المؤمن و مِن قَبلِهِ موسى (عليه السلام) .

لقد عَرَضت القصةُ مرأى أو بيئة البرزخ بالنسبة إلى آل فرعون بشكل يتناسب مع حجم المواقف التي صدرت عنهم . لقد قتلوا الرجال و استحيوا النساء و ذبحوا الأطفال ، . . . مضافاً إلى أ نّهم ركبوا رؤوسهم و أصرّوا على الاستكبار بالرغم من النصائح التي قدّمها ليس شخصية من غير رهطهم مثل موسى (عليه السلام) فحسب ، بل فتىً من رهطهم أنفسهم و من داخل المنظومة الحاكمة ، بل من المتصلين بنسب قريب إلى فرعون ، و هو: البطل: ابن خال فرعون حسب بعض النصوص المفسّرة .

مع ذلك كلّه ، أصرّ القومُ على العناد بحثاً وراء شهوة الحكم و التسلّط على رقاب الناس .

لقد بلغ الصلف ، و الغرور ، و الحماقة بفرعون إلى أن يطلب من وزيره الهزيل هامان أن يبني صرحاً له ، لعلّه يطّلع على السماء ، . . . ساخراً بذلك منها . . . حينئذ ماذا نتوقّع من المصير لمثل هذا الطاغية ، و لجماعته الحاكمة ، و لقومه المتسلطين . . .

حتّى الرعاع ، . . . حتّى الضعاف من رعيّته ، كان يبهرهم سلطانُه الزائف ، فانقادوا إليه و إلى كبراء قومه بحثاً وراء مكاسب رخيصة ، مؤثرين الحياة الدنيا على الآخرة . . . مؤثرين السلامة و العافية على الجهاد من أجل اللّه ، مع أ نّهم بمرأىً و مسمع من الآخرين الذين انصاعوا لنداء الحقّ ، و آمنوا باللّه و تحمّلوا ما تحمّلوا من الشدائد انتصاراً للّه . . .

إذن البحث وراء شهوة الحكم ، و إيثار السلامة و العافية ، بالرغم من وضوح الحقّ و إطالة النصيحة ، لابدّ أن تقتاد هؤلاء إلى مصير يتناسب هولُه مع نمط المتاع الدنيوي الذي تحمّسوا له . هذا المتاع قد لُفَّ في لحظات ، و انفلت منهم مع حادثة الغرق التي سلّمتهم إلى أعماق البحر .

لكنّ البحر سلّمهم إلى حرارة النيران ، . . . سلّمتهم المياه الباردة إلى معرض النيران اللافحة . . .

ها هُم بعد أن طواهم البحر ، . . . إذا بهم يواجهون:

﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا ...

و ذلك كلّه ، قبل أن تقوم الساعة .

* * *

و تقوم الساعة . . . و آلُ فرعون و سائر الطغاة قديماً و حديثاً ، ممّن تحكّموا في رقاب الناس و ذبحوا الرجال و استحيوا النساء و أبادوا الأطفال ، و بحثوا وراء شهوة الحكم ، و انقادوا ـ مثل الخِراف ـ لرؤسائهم ، و سكتوا عن الحقّ ، و آثروا السلامة و العافية . . .

حين تقوم الساعة . . . يهتف هاتف:

﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ

و آل فرعون نموذجٌ واحدٌ فحسب ، . . . و هناك عشرات النماذج ممّن لفظهم التأريخ قديماً و حديثاً: سيهتف هاتف بنفس اللغة ، . . . بإدخالهم أشدّ العذاب:
جهنّم .

* * *

هنا لا تزال القصةُ تتحدّث عن بيئة الموقف: يوم الحساب ، . . . و قبلَها تحدّثت عن بيئة القبر: بيئة البرزخ . . .

و لابدّ أنّ آل فرعون بدأوا يتذكّرون نصيحة البطل: مؤمن آل فرعون حين قال لهم: ﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ... بدأوا يتذكّرون نصيحة البطل الذي لوّح لهم بأنّ المسرفين هم أصحاب النار ، و إلى أ نّه يدعوهم إلى النجاة . . . بدأوا يتذكّرون ذلك ، . . . و لكن دون جدوى .

إنّهم يتلاومون فيما بينهم ، . . . و كلٌّ يلقي تبعة ضلاله على الآخر . . .

و ها هي القصة ـ في قسمها الأخير ـ تنقل الطغاة آل فرعون إلى بيئة جهنّم بعد أن عرضتهم و هم في بيئة البرزخ ، . . . ثمّ بعد أن عرضتهم و هم في عَرَصات القيامة ، صيح بهم:

﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ

و ها هم قد دخلوا النار و استقروا في مهادها إلى ما لا نهاية له ، . . . و تذكّروا ما قاله البطل: مؤمن آل فرعون ذات يوم:

﴿فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ

ها هم يتذكّرون كلّ شيء ، كما تنبّأ البطل ، لكنّهم لا يملكون أيّ خيار ، بعد أن كانوا يملكونه في الحياة الدنيا ، و في ذلك الاجتماع الذي خطب بهم مؤمن آل فرعون ، و تركهم أمام خيارين: الجنّة أو النار . . .

أمّا الآن فلا يملكون إلاّ خياراً واحداً هو: جهنّم و لا يملكون شيئاً غير أن يتلاوموا ، . . . يعاتب بعضُهم البعض الآخر ، على نحو ما ستعرضه القصةُ في قسمها الأخير .

* * *

تنتهي القصةُ ، بهذا العَرض عن آل فرعون في بيئة النار:

﴿وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النّارِ

﴿فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا

﴿إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مِنَ النّارِ ؟

﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ

هذا هو الحوار الذي يقوم بين آل فرعون: كبراءهم و ضعافِهم .

وهناك حوارٌ آخر يقوم بين آل فرعون وخزنة جهنّم ، على هذا النحو:

﴿وَ قالَ الَّذِينَ فِي النّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ

﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ

﴿قالُوا: أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ

﴿قالُوا: بَلى

﴿قالُوا: فَادْعُوا

﴿وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلال

إنّ هذا العرضَ الذي خُتِمت القصةُ به ، يحسم كلّ شيء . فهو تنميةٌ عضويةٌ و تطويرٌ فنّيٌ للعرض الذي حفل بأحداث و مواقفَ ، كان البطلُ مؤمنُ آل فرعون في الصميم منها في محاججته مع آل فرعون و في ردّ فرعون عليه . . .

إنّ الجمهور الذي حضر ذلك الاجتماع الذي عقده فرعون و منظومتُه ، أو تناهى إليه خبرُ البطل و مناقشته للقوم ، و نصيحته المخلصة لهم . . . هذا الجمهور و طاغيته فرعون و سائر المستكبرين ، يعقدون في جهنّم اجتماعاً مماثلا لاجتماعهم في الحياة الدنيا ، . . . و لكن عبر لغة التلاوم و ليس عبر لغة الخيار الذي كانوا يملكونه حينئذ . . .

و ها هم الضعفاء ، . . . الأتباعُ ، . . . الذين لحسوا أقدام رؤسائهم . . . العملاءُ الذين
نفّذوا رغبات ساداتهم . . . الساكتون عن الحقّ . . . المؤثرون السلامة و العافية . . . ها هم الضعفاء يوجّهون اللوم إلى ساداتهم قائلين:

﴿إِنّا كُـنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا ؟

و يجيبهم رُءساؤهم بهذه اللغة التي تضاعفُ من إحساس العملاء بالألم ، و بالانسحاق حينما يجيبونهم قائلين:

﴿إِنّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ

كم يكون إحساس العملاء بالانسحاق كبيراً ، حينما يجدون ساداتهم قد تنصّلوا من كلّ شيء ؟

و هذا كلّه فيما يتصل بحوار آل فرعون فيما بينهم: كبارِهم و أذنابهم .

أمّا موقفهم مع خزنة جهنّم ، فأدهى و أمرّ . . .

لقد طلبوا من خزنة جهنّم أن يخفف اللّه عنهم ولو يوماً من عذاب النار . . . لكن خزنة جهنّم ذكّروهم ، كما ذكّرهم البطل: مؤمن آل فرعون بالرُّسل التي أتتهم بالأدلّة و البراهين . . .

و عندها قالت الخزنة لهم: أدعوا أنتم . . . قالوها و هم ساخرون من آل فرعون ، كما سخر فرعون في الاجتماع الذي عقده في الدنيا بمحضر من البطل: مؤمن آل فرعون ، طالباً من وزيره هامان ـ على وجه السخرية ـ أن يبني له صرحاً ليطّلع على السماء . . .

و هذا هو الجواب الفنّي لسخرية فرعون: سخرية خزنة جهنّم من الطغاة و أذنابهم ، ممّن آثروا الحياة الدنيا ، و سخروا من المؤمنين . . .

أخيراً: أمكننا ملاحظة شخصية مؤمن آل فرعون وعلاقتها بـ فرعون ومن قبل كيفية تسلّم دورها بعد الدور التمهيدي لموسى(عليه السلام) ومن ثمّ لاحظنا المادّة القصصية الجديدة التي تربط بين شخصين موسى وناصره ، وفق الأساليب الفنّية المتنوّعة ، ومنها: الدور المسرحي بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page