• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الواقعة : بيئة السابقين

 لنقرأ النص القصصي ، أوّلا:

﴿وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ

﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ . . . ثُلَّةٌ مِنَ الأَْوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ

و قبل أن نتقدّم إلى وصف البيئة التي رُسمت لهذه الطبقة من الشخوص ينبغي أن نقف على سماتهم التي حكتْها القصةُّ ذاتُها .

لقد وصَفَهم اللّه سبحانه و تعالى بأ نّهم: السابقون ، و بأ نّهم: المقرّبون .

و من حيث العدد ، وُصِفوا بأنّهم جماعة كبيرة من الأوائل ، و جماعة صغيرة من الأواخر .

و السؤال هو: كيف اُتيح لهذه الطبقة أو الصنف الحصول على امتيازات خاصة ـ سنلاحظها بالتفصيل عند حديثنا عن البيئة التي اُعدّت لهم ـ بحيث وُصفوا بكونهم سابقين بالقياس إلى سواهم ، و بكونهم كثيري العدد في سابق الزمان ، وضئيلي العدد في لاحق الزمان ؟

النصوص المفسّرة متفاوتةٌ في تحديد السابقين إلى طاعة اللّه ، و تطبيق مبدأ الخلافة في الأرض .

فبعضُها يُحدّد أسماء بأعيانها ، . . . و بعضها يكتفي بالتعميم و ثالثٌ يُفصّل في هذا الصدد .

بيد أنّ النص الذاهب إلى أنّ السابقين هم: رسلُ اللّه و خاصّته من خلقه ـ فيما اُثِر ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) ـ . مثل هذا النص يظلّ متّسقاً مع الامتياز الممنوح للرسل و الأئمّة (عليهم السلام) بصفتهم يمثّلون قمّة التجسيد لمفهوم العبادة ، كما هو واضح .

و طبيعيّاً أن يُضاف إليهم كما ألمحت إلى ذلك بعضُ النصوص المفسّرة ، و كما يقتضيه ظاهر النص القصصي النماذج التي سارعت قبل سواها إلى التصديق برسالات السماء ، أو النماذج التي أخلصت في ممارساتها العبادية بنحو أشدّ من سواها ، سواء أكان ذلك يعني عدداً كبيراً من الاُمم الماضية و عدداً قليلا من اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ، أو العدد القليل في اُخريات الزمان بالقياس إلى أوائله مطلقاً .

* * *

و الآن لنتّجه إلى وصف البيئة المخصّصة للسابقين .

لقد هيّأتِ السماءُ لهم الوسائل الثلاثَ المعروفة: الأكلّ ، الشرب ، الجلوس ، أوّلا .

ثمّ نوّعت هذه الوسائل ، ثانياً .

و أخيراً أخضعتها لانتقاء خاص من حيث الترَف في الإشباع .

و قد رافق هذه الوسائل المادّية إشباعٌ عقليّ ، أو نفسي يتصل بالعلاقة القائمة بين الأطراف .

أمّا الوسائل المادّية الثلاث المعروفة ، فأوّلها هو: المكان المُعَد للجلوس ، حيث تمّ على النحو الآتي:

﴿عَلى سُرُر مَوْضُونَة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ

إنّ مجرّد جلوسهم مستندين ، متّكئين بدلا من الجلوس العادي ، كاف في تحقيق دلالة التَرَفِ . فإذا أضفنا إلى ذلك جلوسهم على السرير بدلا من الجلوس على أرض الجنّة ، . . . حينئذ يبلغ الترفُ درجةً عالية .

ثمّ إذا أضفنا إلى ذلك ، أنّ السرير نفسه قد وُصِفَ بأ نّه موضون أي: منسوج ، محبوك ، متشابك الحلقات ، حينئذ فإنّ الترف يبلغ ذروته من حيث توفّر مثل هذه الحاجة الجمالية .

و لكي يتمّ الإشباعُ بنحو لا مماثلَ له ، نجد أنّ وَصْلَهُ بتهيئة المناخ النفسي للجالسين على السُرر ، قد تحقق بنحوه الذي لا مزيدَ عليه ، . . . و نعني به كونهم مُتقابلين ، يجلس كلٌّ منهم قِبال الآخر ، لا أ نّهم منفردون ، أو مبعثرون .

و واضحٌ أنّ الجلوس واحداً قبال الآخر ، لا يُكلّف الجالسَ أدنى حركة أو أدنى جهد مبذول في التوجّه إلى صديقه الذي يُحدّثه . . . و هذا منتهى الترف الذي يمكن أن نتصوّره في هذا الميدان .

و هذا كلّه فيما يتصل بنمط الجلوس ، و لقاء الأحبّة فيما بينهم .

و لكن هل أنّ مثل هذه الجلسة تمضي بشكلها المُترِف المذكور ، دون أن يرافقها زادٌ من الأكل و الشرب ؟

إنّ الزاد بشكليه: الأكل و الشرب مُهيّأ تماماً ، كما سنرى ذلك مفصّلا .

غير أنّ مجرّد الأكل و الشرب ، لا يحققان النَمط العالي من التَرفَ ، ما لم يقترنا بــ الوسائل الجمالية العالية أيضاً .

و لعلّ أوّل ما يتحسّسه الجالسون على السرر الموضونة هو: العنصر البشري الذي يخدمهم ، و هم جالسون على أسرّتهم .

و ها هو العنصر البشري الخادم يتقدّم إليهم بتهيئة ما يشتهونه ، واحداً واحداً:

﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ . . .

و سواء أكان هؤلاء الولدان قد هيّأتهم السماءُ خصّيصاً لخدمة الجالسين على السرر الموضونة ، أم كانوا أطفال الدنيا الذين لم تكن لهم حسنات ، أم كانوا أطفال المشركين الذين اُعفوا من الحساب ماداموا غير مُكلّفين . . . أيّاً كان هؤلاء الولدان ، فإنّهم في الحالات جميعاً قد هيّأتهم السماءُ ، لكي يخدموا هؤلاء الجالسين على السرر الموضونة ، . . . يطوفون عليهم بما يشتهونه من الزاد ، حتّى لا يُكلّفوا أنفسهم أدنى نَصَب في الجلسة الأبدية التي يلتقي الأحبّةُ فيها بعضهم بعضاً .

* * *

هَا هُمُ السابقون في﴿جَنّاتِ النَّعِيمِ ...، مُتّكئين على السرر ، . . . مُتقابلين:
واحداً حيال الآخر ، في أعلى سُلّم من التَرَفِ ، لا يكلّفون أنفسَهم أدنى تَعَب أو حركة في إشباع حاجاتهم المتصلة بالجلوس و بلقاء الأحبّة .

الزاد أيضاً ، . . . يُهيّأ لهم بالمستوى ذاته من الترف ، حيث يتطوّع الولدان المخلّدونلخدمتهم في تهيئة الزاد أكلا و شرباً .

و الآن ما هي مستويات التناول لكلّ منهما ؟ و ما هي درجة الترف الذي يُصاحب إشباع حاجاتهم لكلٍّ من الشرب و الأكل ؟

فيما يتصل بالشرب ، يقول النص القصصي:

﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْواب وَ أَبارِيقَ وَ كَأْس مِنْ مَعِين

﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ

المُلاحظ أنّ تناول الشرب من الممكن أن يتمّ بأيّة أداة ، . . . بأيّ إناء مُتاح في هذا الصدد .

بيد أنّ السماء تأبى إلاّ أن تُحقّق لعبادها المخلصين ، السابقين إلى الخيرات أعلى أدوات التَرفَ التي تتساوق مع نفس درجة الترَفِ الذي حَقّق لهم الجلوس على السرر ، و لقاء الأحبّة .

لقد هيّأت السماءُ لهم بدلا من آنية واحدة ، ثلاثةَ أشكال من الأواني تتّسم جميعُها بمظهر جماليٍّ يُحقّق للسابقين إشباعاً مزدوجاً لكلٍّ من حاستي الجمال و التذوّق .

لقد هُيّـئت لهم هذه الأشكال الثلاثة: بأكواب و أباريقَ و كأس من مَعين .

فهناك أكوابٌ ، أي أقداحٌ واسعة الرؤوس .

و هناك ثانياً أباريق أي الأواني ذات الخراطيم و العُرى . . . ذات المظهر البرّاق في صفاء لونها .

و هناك ثالثاً كؤوس ، و هي واضحة الشكل كما هو بيّن .

و من البيّن أيضاً أنّ كلاّ من الأواني المذكورة يقترن بإشباع جمالي مختلف عن الآخر ، فالأكواب غير الأباريق ، و الأخيرتان غير الكؤوس ، كلٌّ منها متميّزٌ عن الآخر ، ليس في مظهره الخارجي فحسب ، بل في مظهره الحركي في اليد و في عملية التناول . فالأباريق مثلا ذات عُرىً تـتناول باليد . . و قد تكون الكؤوس مثلها . . .

و قد تكون الكؤوس أيضاً . . . و قد لا تكون كذلك . . . غير أ نّهما متميزان بالضرورة عن الأباريق في اشتمالها على خراطيم للشرب مثلا . . . و هكذا .

إذن هناك مظهر جماليٌّ يتصل بشكل الأواني ، و هناك مظهرٌ حركيّ يتصل بطريقة التناول: حملا باليد ، و شرباً بالفم . و كلّها تُحقّق مستويات تمثّل الذروة من التَرَفِالذي أعدّته السماء لعبادها السابقين إلى طاعة اللّه .

* * *

لقد تساوقَ كلٌّ من مظاهر الجلوس و الشرب في بيئة جنّات النعيم التي اُعدّت للسابقين إلى طاعة اللّه .

الأكلُ أيضاً يتساوق بدوره مع درجة الترف التي لحظناها في الشرب و الجلوس .

و لنقرأ:

﴿وَ فاكِهَة مِمّا يَتَخَيَّرُونَ وَ لَحْمِ طَيْر مِمّا يَشْتَهُونَ

الزادُ هنا نمطان: فاكهةٌ و لحم .

و حين ننقل هذين النمطين من تناول الطعام إلى خبراتنا في الحياة الدنيا ، حينئذ يمكننا أن نقرّر بوضوح أنّ لحوم الطير هي أشدّ جذباً من لحوم الأنعام مثلا . . .

فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ لحوم الطير متنوّعة ، و إلى أنّ كلاّ منّا من الممكن أن يتناول نوعاً منها بالقياس إلى الأنواع الاُخرى . . . حينئذ فإنّ تناول ما نشتهيه من هذا النوع أو ذاك ، يحقق أعلى درجات الإمتاع الذي ننشده .

إذن إختيار لحوم الطير على سواها من جانب ، ثمّ إختيار ما نشتهيه من أنواعها من جانب آخر ، يمثّل ذروة الإشباع المتصل بحاجاتنا الحيوية .

و هكذا كلّه فيما يتصل بما هو مُلِحٌّ في خبراتنا الدنيوية .

أمّا ما يتصل بما هو أقلّ إلحاحاً و نعني به الفاكهة ، . . . فإنّها موسومة بنفس الطابع: ما نشتهيه و نختاره:

﴿وَ فاكِهَة مِمّا يَتَخَيَّرُونَ . . .

* * *

و الآن لا نزال مع القصة في سردها لبيئة الزاد: أكلا و شرباً .

لا نزال أيضاً نتناول النص القصصي من زاوية خبراتنا في الحياة الدنيا .

فالسابقون إلى طاعة اللّه يتناولون بالأكواب و الأباريق و الكؤوس ما هو جار مثل النهر أو النهر ذاته .

و لا نغفل أنّ صفة الجري تحمل بدورها إثارة بالغة المدى في إشباعها للحسّ الحيوي و الجمالي .

إنّ ما هو جار بمثل الأنهار ، و ما هو ظاهر للعيون ينطوي على جملة من الدلالات:

فأنت حينما تمدّ عينيك إلى مجرىً ثر ، غزير لا نضوبَ فيه ، . . . عندها تُحقّقُ توازناً داخلياً لا يصحبه أيّ توتّر محتمل في حساب المستقبل . . .

المجرى الثر . . . ، الغزير . . . ، الدائم . . . يحقّق في الآن ذاته إشباعاً جماليّاً بما ينطوي عليه مرأى النهر من جمال و جذب . . .

و لكن يضاف إلى ذلك كلّه أنّ القصّة عقّبت على ذلك بما يلي:

﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ

هذا التعقيب لو نقلناه إلى خبراتنا الدنيوية ، لأمكنَ أن نُدرك بوضوح قيمة الشرب الذي لا نتفرّق عنه ، أو لا يصيبنا أذىً منه ، و لا ننزف عنه حينما نتناول ماءً أو لبناً أو عَسَلا دون أن نقيّده بالمقادير الملائمة مثلا . . .

و القيمةُ النفسيةُ لمثل هذه الخبرات التي يَدعنا النصُّ القصصي ننقُلها من خبرة دنيويّة إلى خبرة اُخروية مع ملاحظة أنّ التركيبة الآدمية قائمة على دوافع تبحث عن الإشباع من جانب ، ثمّ تشبع فعلا من جانب آخر .

لكننا لو تصوّرنا أنّ الإشباع عمليةٌ استمراريةٌ لا يسبقها توتّرٌ مثلا ، أو أنّ التوتّر غير مصحوب بما نألفه في حياتنا الدنيا باحتمالات الإحباط أو مجرّد التوجّس من الإحباط مثلا . . . أقول: لو أمكننا أن نتصور أمثلة هذا التركيب الدافعي الجديد للآدميين في جوار اللّه سبحانه . . . لأدركنا بوضوح ضخامة العطاء الذي تمنحه السماء لعبادها السابقين إلى طاعته . . .

اللّهم احشرنا مع هؤلاء السابقين ، بمحمّد و آله الطاهرين .

المهمّ أنّ الوصف القصصي لبيئة السابقين شرباً و أكلا و جلوساً و تلاقياً مع الأحبّة . . . يظلّ من حيث عنصر الإشباع مجسّداً لذروة التَرَف الذي يمكن أن نتمثّله في هذا الصدد . . .

و لكنّ الأمر لا يقف عند التخوم المذكورة ، بل يتجاوزه إلى عنصر جديد ، ثمّ إلى نمط التعامل الأخلاقي فيما بين السابقين إلى الطاعة ، إلى العبادة ، إلى الخلافة في الأرض .

لقد هيّأت السماء لعبادها السابقين إلى الطاعة حاجات حيويّةً من النمط الأشدّ تَرَفاً كما لحظنا . شراباً يُدار بأكواب و أباريق و كؤوس ، فاكهةً ممّا يتخيّرون ، لحمَ طير ممّا يشتهون ، حوراً كأمثال اللؤلؤِ المكنون .

هذه الحاجات الحيوية ، أردفتها السماء بحاجات نفسية كان أوّلها هو لقاء الأحبّة يقابل الواحدُ منهم الآخَر في جلسته على السرر الموضونة .

و الآن يُتوّج النصُ القصصي هذه الحاجة النفسية بظاهرة خاصة من السلوك ، هي أنّ السابقين إلى الطاعة في مقرّهم (جَنّاتِ النَّعِيمِ) يطبعهم نوعٌ من التوافق الاجتماعي عبر العلاقة القائمة بين الأطراف على هذا النحو:

﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً

و قبل أن نتحدّث عن هذه الظاهرة الاجتماعية في بيئة جنات النعيم ، ينبغي أن ننتبه إلى تعقيب القصة على الحاجات الحيوية التي هيّأتها للسابقين إلى الطاعة فيما يتصل بحاجات الجوع و العطش و الجنس و الحاسّة الجمالية ، حيث عقّبت القصةُ على ذلك ، بقولها:

﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

هذا التعقيب هو الحصيلة الفكرية لكلّ ما رسمته القصة من حاجات حيوية .

فالطعام منعزلا عن مفهوم العبادة أو الخلافة في الأرض ، لا يعني إلاّ حاجةً تنتفي أهميتها أساساً . و هكذا سائر الحاجات المتصلة بالشرب و الحاسّة الجمالية .

و نحن الآن قبال بيئتين: بيئة الحياة الدنيا و بيئة الحياة الاُخرى .

أمّا بيئة الحياة الدنيا ، فقد ألغتها القصةُ بطريقة فنّية غير مباشرة من ذاكرة الإنسان ، و لخّصتها في هدف فكري و نفسي واحد هو قولها:﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. أي أنّ العمل للّه هو المسوّغ الوحيد لتهيئة الحاجات الحيوية بنحوها المترف في الحياة الآخرة .

و إذا كان الطعامُ مثلا في بيئة الدنيا يُشكّل مجرّد وسيلة لاستمرار الكائن الآدمي في ممارساته العبادية ، فإنّه يتحول في بيئة الآخرة إلى كونه أيضاً وسيلة للعبادة ، لكنّها من نمط آخر .

ترى: كيف يمكن إدراك مثل هذا الفارق بين الوسيلتين ؟

* * *

إنّ علاقة الكائن الآدمي باللّه ، تظلّ متصلة بحاجة عقلية أو نفسية صرف ، سواء أكانت هذه العلاقات بين الفرد و اللّه في بيئة الدنيا ، أو في بيئة الآخرة .

أمّا الحاجة الحيوية ـ أي: البيولوجية ـ من طعام و نحوه ، فإنّها في نطاق الدنيا تظلّ وسيلةً يكتنفها صراعٌ و في نطاق الحياة الآخرة ينتفي عنصر الصراع فيها .

فأنتَ حينما تؤجّل رغبتك في تناول طعام شهي ، تكون قد اجتزت مرحلة صراع بين تناول الطعام و بين تأجيله ، كأن تصوم مثلا ، أو تمضي إلى جبهات القتال دون أن تحسّ بقيمة ما هو زائدٌ على الحاجة ، أو تمتنع عن تناوله ، نظراً لِشوبِهِ بما هو محرّمٌ . . . إلى آخره .

كلّ ذلك يتطلّب تأجيلا للذّة حيويّة و اجتياز مرحلة الصراع بين الحصول على اللذة و تأجيلها ، حتّى ينتهي بك المطاف إلى يقين تامّ ، أنّ الطعام لا ضرورة له إلاّ بما يسدّ الحاجة . و أنّ الصومَ ، و التوجّه نحو جبهات القتال ، و الإمتناعَ عن الشبهات الحائمة على زاد مشتبه به ، هو الخيار الإيجابي الذي يتّسق مع دلالة مفهوم الخلافة في الأرض .

أمّا في الحياة الآخرة ، فإنّ الصراع لا وجود له البتة ، كما لا وجود للخيار مادام لا صراعَ في الموقف . كلّ ما في الأمر أنّ الطعام يظلّ وسيلة تلقائية ، كعملية الدورة الدموية مثلا ، لا يصاحبها خيارٌ في التوقف أو الجري .

يضاف إلى ذلك ، أنّ هذه الوسيلة أو الأداة إنّما اكتسبت هذا النمط من الإشباع ، فلأ نّها جزاءٌ لممارسات العمل العبادي في الحياة الدنيا ، ممّا يعني أنّ العمل العبادي ـ و هو حاجة عقلية و نفسية ـ هو الدلالة الوحيدة لمعنى الإنسان .

من هنا ، فإنّ العلاقات الاجتماعية في بيئة الآخرة بما يطبع هذه العلاقات من دلالة نفسية و عقلية ، تظلّ هي السمة التي تغلّف السلوك ، فيما توّج بها النصُّ القصصي رسمه لبيئة جنات النعيم ، قائلا عنهم:

﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً

* * *

إنّنا لو نقلنا طبيعة العلاقات الاجتماعية التي قالت القصةُ عنها بأ نّها مطبوعة في بيئة جنات النعيم بعدم سماعِ اللغو و الإثم ، و بأنّ التحيّة و السلام و الحبّ هو الطابع الذي يسود العلاقة بين الأطراف الاجتماعية . . .

أقول: لو نقلنا هذه الدلالة إلى خبراتنا في الحياة الدنيا ، حينئذ سنُدرك أهمية مثل هذه العلاقات الاجتماعية ، مثلما سنُدرك الأهمية الفنّية لمثل هذا الرسم القصصي .

فالقصةُ بدلا من أن تطالبنا بشكل مُباشر بأن نختط لأنفسنا سلوكاً قائماً على الحبّ في نشاطنا الدنيوي ، . . . سلكت منحىً فنّياً غير مباشر في مطالبتنا بالسلوك القائم على الحبّ ، و الابتعاد عن لغو الكلام ، و تجريح الآخرين .

قالت القصةُ لنا: إنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون بكلام لا فائدة فيه .

و قالت لنا: إنّ أهل الجنّة لا يُسيء أحدُهم إلى الآخر ، و لا يتّهمهُ .

و قالت لنا: إنّ أهل الجنّة ، يُسلّم بعضُهم على الآخر و يُحيّيه ، و يفيض عليه مشاعِر الحبّ .

هذا السلوك الذي يطبع أهل الجنّة ، تُطالبُنا القصةُ بمثله في سلوكنا الدنيوي أيضاً ، دون أن تقول لنا ذلك مباشرة ، بل جعلتنا نستوحي و نستخلص و نستنتج بأنفسنا ضرورةَ أن ندرّب أنفسَنا في الحياة الدنيا على الابتعاد عن لغو الكلام و الابتعاد عن الإساءة ، و إبداله بلغة الحبّ ، و بالكلام الهادف .

كلّ ما في الأمر أنّ أهل الجنّة لا يحيون صراعاً في ابتعادهم عن لغو الكلام ، و الإساءة . في حين أنّ السلوك الدنيوي قائمٌ على تركيبة الصراع الذي تطالبنا السماءُ باجتيازه ، و تأجيل اللذة العابرة ، و التدريب على ممارسة العلاقة القائمة على حبّ الآخرين و على الابتعاد عن الكلام الذي لا فائدة فيه .

كلّ هذه الدلالات أوحتها القصةُ لنا إيحاءً وفق طريقة فنّية غير مباشرة على نحو ما تقدّم الحديثُ عنه .

و الآن بعد أن أوضحنا الطريقة الفنّية التي سلكتها القصة في حملنا على استخلاص ما فيها من دلالة فكرية ، يتعيّن علينا أن نتحدّث بالتفصيل عن كلٍّ من مفهوم عدم اللغو و عدم التأثر و التحية أو السلام ، في خاتمة الوصف الذي شمل بيئة السابقين إلى طاعة اللّه ، في جنّات النعيم التي اُعدّت لهم . حيث بدأ وصفُ بيئتهم بأ نّهم:

﴿عَلى سُرُر مَوْضُونَة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ

﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْواب وَ أَبارِيقَ وَ كَأْس مِنْ مَعِين

﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ وَ فاكِهَة مِمّا يَتَخَيَّرُونَ

﴿وَ لَحْمِ طَيْر مِمّا يَشْتَهُونَ

﴿وَ حُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ

حيث انتهى ذلك بأ نّهم :

﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً

* * *

قلنا: إنّ السابقين إلى طاعة اللّه لا يتكلّمون في بيئة الجنّة بكلام لا فائدة فيه:
﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً . . . .

و إذا نقلنا هذه الظاهرة إلى بيئة الدنيا لحظنا أنّ اللغو من الممكن أن يتجسّد في عدّة أنماط من السلوك ، منها:

الكلام غير الهادف ، الكلام زائداً عن الحاجة ، المزاح ، الغناء ، الجدال العقيم ، . . . إلى آخره .

و مثلما قلنا أيضاً: فإنّ القصة من وجهة نظر فنّية تستهدف إيصال هذه الحقيقة إلى نشاطنا الدنيوي أيضاً بنحو غير مباشر ، بغية حملنا على تعديل السلوك و ضبطهِ عبر مرحلة الصراع الذي يطبع السلوك البشري في الحياة الدنيا .

إنّ النصوص المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) ، تُطالبنا بالصمت عندما لا نجد ثمة ضرورة إلى الكلام .

و في حقل الأمراض النفسية يُشير أهل البيت (عليهم السلام) إلى أنّ حبّ الكلام يشكل واحداً من هذه الأمراض التي ينبغي أن ندرّب ذواتنا على التخلّص منها .

فمن الواضح أنّ أية شخصيّة عندما تحاول أن تـتكلّم في ما لا ضرورة له ، إنّما تحاول لفت الانتباه إلى ذاتها المريضة التي تـتحسّس الضعة و الهوان ، و محاولة سدّها بأيّة وسيلة تؤكّد هوية الذات .

أمّا الشخصية السليمة ، فإنّ إحساسَها بالثقة و الاستقلال و الكفاءة ، جديرٌ بأن يلغي لديها أيّ حافز إلى الكلام الذي لا ضرورة له .

* * *

القيمة الفكرية الثانية في القصة ، هي عدم التأثيم:

﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً

و واضح أنّ الكلمة المجرّحة ، القاسيةَ ، المُتّهمةَ ، الكلمةَ التي تُسيء إلى الآخرين ، إنّما تعبّر ـ في حقل المرض النفسي ـ عن وجود نزعة عدوانية لدى صاحبها ، ملأى بالحقد و الضغينة و الحسد و الكراهية .

و لا حاجة بنا إلى التذكير بنصوص أهل البيت (عليهم السلام) في هذا الحقل ، مادام المشرّع الإسلامي ـ أساساً ـ يُشدّد على تنقية الشخصية و تدريبها على الحبّ بدلا من الحقد .

و هذا ما ألمحت القصةُ إليه في القيمة الفكرية الثالثة التي طرحتها في القصة ، عبر رَسمِها للسابقين إلى طاعة اللّه في بيئة الجنّة ، و نعني بذلك هذه الفقرة:

﴿إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً

فالسلام أو التحية لا يُشكل مجرّد سلوك لفظي خال من الدلالة ، بل حتّى في حالة الافتعال يظلّ تعبيراً ـ أو على الأقل ـ محاولةً في التدريب على الحبّ ، يمسح من الأعماق بقايا الكراهية أو التوتّر الذي يطبع أحد الأطراف الاجتماعية في السلوك الدنيوي .

* * *

خارجاً عن القيم الفكرية للقصة . . . نجد أنّها قد خُتمت بالوصف الحائم على ما هو نفسي قبال ما هو حيوي متصلٌ بالطعام و الشرب و الحاسة الجمالية ، ممّا تُشعرنا ـ هذه النهاية القصصية ـ بأنّ القيمة الحقّة التي تُتوّج بيئةَ السابقين إلى طاعة اللّه هي: الحبّ الذي يطبع العلاقة القائمة بين الأطراف .

المهم أنّ السابقين إلى الطاعة يُشكّلون صفوة أو نخبةً رسمتهم القصةُ في الذروة من النعيم: حيوياً و نفسياً .

يليهم في بيئة الجنّة: أصحابُ اليمين أو الميمنة .

و هُم المجموعة الأقلّ امتيازاً من السابقين .

و طبيعيّاً أن نتوقّع إشباعاً أقل حجماً عند أصحاب اليمين بالقياس إلى السابقين ، ما دامت عملية الاختبار الدنيوي الذي اجتازه السابقون قد اقترن بتأجيل أكبر حجماً من التأجيل الذي مارسه أصحاب اليمين في مواجهتهم للحياة الدنيا و لذائذها .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page