• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة القلم : قصَّة أصحَاب المَزرعَة

 لاحظنا في دراساتنا لجملة قصص أنّ السورة القرآنية الكريمة تطرح منذ الاستهلال مفهوماً معيّناً ، ثمّ تـتقدّم بقصة تحوم حيال المفهوم المذكور . . . لاحظنا ذلك في سورة الكهف ، و سورة ياسين و سواهما ، و ها نحن في سورة القلم نواجه في مقدمة السورة طرحاً لبعض المفهومات ، و منها الحلف مثلا . و سنجد أنّ القصة التي نحن بصددها ستتناول في أحد جوانبها موضوع الحلف و سواه ، على نحو ما نبدأ به الحديث الآن:

تـتضمّن سورةُ القلم اُقصوصةً واحدةً ، سَبَقَتها بعضُ مواقِف المُناهضين لرسالة الإسلام ، فيما سردتها السورةُ على هذا النحو:

قالت السورةُ ، مُخاطبةً النبيّ (صلى الله عليه وآله):

﴿وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاّف مَهِين هَمّاز مَشّاء بِنَمِيم مَنّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيم . . .

و بغضّ النظر عن هويّة الشخوص المهينة التي تعاملت مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) عبر دعوته إلى رسالة السماء ، فإنّ السورة شدّدت على إبراز بعض سِماتهم ، متمثلةً في كونهم حلاّفين بالباطل ، غيرمبالين بالكذب ، يجرحون الناس بألسنتهم ، يَسعون بالنميمة
و الفساد بينهم ، يبخلون بالأموال على فقرائهم .

هذه السمات المَرَضِيّة التي طبعت المُستكبرين الذين عاصروا رسالة محمّد (صلى الله عليه وآله)قد استثمرتها السورةُ في صياغة قصة خلعت منها السمات المذكورة على شخوص القصة مستهدفةً من ذلك إحداث التأثير الفنّي لدى القارئ أو السامع ، بُغيةَ الإفادة منها في تعديل السلوك و ضبطه .

و الآن ، لنقرأ القصة:

﴿إِنّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ

﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ

﴿فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ

﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ

القارئ أو السامع قبل أن يرجع إلى نصوص التفسير ، يستطيع أن يستخلص بنحو مُجمل ، أنّ هناك اختباراً أجرته السماء على معاصري الرسالة الإسلامية . . .
و هذا الاختبار أو الامتحان يُشبه اختباراً جرى لقوم مجهولين ، يمتلكون ـ فيما يبدو ـ مزرعةً ذات أثمار و قد حَلفَ هؤلاء القوم ذات يوم على أن يقطعوا ثمار المزرعة في صباح اليوم الآتي ، دون أن يربطوا حِلفَهم بمشيئة السماء ، ثمّ حدثَ ما لم يكن في الحُسبان .

إذ أرسلت السماءُ على المزرعة إحدى الآفات ، فأبادتها تماماً حتّى أصبحت كالليل المظلم في وحشتها ، و ذلك قبل أن يقبل الصباحُ الذي عزموا فيه على اقتلاع الثمر ، و قد حَدَث ذلك كلّه و هم نائمون .

هذا ما يمكن استخلاصه من أحداث القصة ، دون أن نملك تفصيلات غيرها .

بيد أنّ الرجوع إلى النصوص المفسّرة ، . . . مُضافاً إلى مُقدّمتها التي أشارت إلى كلّ حلاّف مهين و منّاع للخير ، ثمّ متابعة أجزاء القصة بعد ذلك . ذلك جميعاً يلقي إنارات متنوّعة فنّياً و فكريّاً على القصة ، فيما يحسن بنا أن نقف عندها مفصّلا .

* * *

تقول النصوص المفسّرة: إنّ هناك مزرعةً تقع في اليمن على بُعد عدّة أميال من صنعاء . و كانت المزرعةُ لشيخ صالح لا يحمل إلى داره من ثمار المزرعة ، إلاّ بعد أن يتصدّق بها إلى الفقراء .

ثمّ تُوفّي الشيخ و خلّفه بنوه .

و بعض النصوص المفسّرة تذهبُ إلى أنّ أولاد الشيخ حدّثوا أنفسَهم بحرمان الفقراء من ثمار المزرعة ، معلّلين ذلك بأنّهم أحقُّ بها لكثرة عيالهم .

و بعض النصوص المفسّرة الاُخرى تذهبُ إلى أنّ الأولاد طغوا و بغوا حينما شاهدوا أنّ مزرعتهم في السنة التي تُوفي فيها أبوهم ، قد حَملت حملا كبيراً لم يعهدوه في حياة أبيهم .

و تبعاً لذلك قرّر الأولاد الاستئثار بثمار المزرعة و حرمان الفقراء منها ، بعد أن نسبوا إلى أبيهم سمة الخَرَف في تصرفاته نحو الفقراء .

و بعد اتخاذ مثل هذا القرار ، تمّ الاتفاق على الذهاب إلى المزرعة صباح اليوم الآتي و قطعِ كلّ ثمارها ، حيث حلفوا على تنفيذ خطتهم دون أن يستثنوا ذلك بمشيئة اللّه سبحانه و تعالى ، و عندها اُبيدت المزرعة على نحو ما سردته نصوص القصة ذاتها .

و الآن ، في ضوء هذه النصوص المفسّرة يحسن بنا أن نتّجه إلى تبيين السمات الفنّية في صياغة الاُقصوصة من حيث بناؤها بدايةً و وسطاً و خاتمة ، و من حيث سائر العناصر المتصلة بها من شخوص و أحداث و مواقف ، ثمّ من حيث لغتها حواراً و سرداً .

و أوّل ما يواجهنا من سمات الفنّ فيها ، أنّ القصة لم تحدّثنا بكلّ شيء منها في البداية ، بل احتفظت ببعض أسرارها في الجزء الثاني من القصة ، و بخاصة في عنصر الحوار الذي كشف بعض تلك الأسرار ، و ذلك بعد أن اُبيدت المزرعة ، حيث ترك ذهاب المزرعة عنهم ردود فعل متنوّعة ، ألقت الضوء الكامل على شخصياتهم كما سنرى .

و المهم أنّ الدلالة الفكرية للقصة و ما تنطوي عليه من أغراض يستهدفها النصُّ القرآنيُّ الكريمُ ، هو الذي يفسّر لنا أهمية مثل هذا البناء الفنّي الذي يستخدم عنصر التشويق و المماطلة و المفاجأة في تثبيت المفاهيم المستهدفة .

و هو أمرٌ ينبغي الوقوف عنده أوّلا.

لابدّ أن نضع في الاعتبار أنّ السورة الكريمة عندما خاطبت النبيّ (صلى الله عليه وآله):

﴿وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاّف مَهِين هَمّاز مَشّاء بِنَمِيم مَنّاع لِلْخَيْرِ . . .

إنّما استهدفت إبراز مثل هذه المفاهيم في قصة واقعية أوضحت لنا من خلالها كيف إنّ الذي يحلف بالسماء مثلا دون أن يستثني ذلك بمشيئتها ، أو كيف إنّ الذي يمنع الخير و يحجبه عن الفقراء ، . . . كيف إنّ مثل هؤلاء تنتظرهم نهاياتٌ قاتمة كسيحة لم تخطر ببالهم أبداً ؟

و فعلا جاءت أحداثُ القصة لِتوضّح لنا بجلاء ، كيف إنّ مزرعةً مُثمرة لم يُصبها الجدبُ ، و لم تنزل بها أيّةُ آفة زراعية طوال الحياة التي عمّرها الشيخُ أبوهم ؟

و كيف إنّ هذه المزرعة قد زاد ثمرها في حياة الأولاد ، في العام الذي تُوفّي أبوهم فيه ، ممّا يُعزّز لديهم قناعةً جديدة و اطمئناناً كافياً بإمكان استمرارية المزرعة ، و بقاء ثمرها و زيادته . . . كيف إنّ مثل هذه المزرعة تُباد فجأة ، . . .
تُصيبها آفةٌ غير متوقّعة على الاطلاق . . . ؟ و كيف تُباد المزرعةُ خلال ليلة واحدة فحسب ، و ليس تدريجياً مع الزمن . . . تُباد في نفس الليلة التي ينتظر القومُ صباحَها حتّى يقطعوا ثمارَها ، و يستأثروا بها ، و يحجبوها عن الفقراء . . . تباد في نفس الليلة التي سبقها الحلفُ بالسماء بأنّهم سيقطعون ثمارها في الصباح:

﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ

هكذا جاءت أحداثُ القصة . . . لِتوضّح لنا نهايةَ كلّ حلاّف مهين ، كُلِّ منّاع للخير . . . و هم نماذج من شخصيات عاصرت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، و شابَهَتها شخصياتٌ القصة التي أوردها النصُ القرآني الكريم .

* * *

كان القِسمُ الأوّل من قصة أصحاب المزرعة يحوم على حادثة الإبادة التي أحاطت بالمزرعة:

﴿فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ

هذا القِسمُ من القصة لم يُبيّن لنا من تفصيلاتها سوى حادثة المزرعة التي أصبحت كالليل في وحشتها بعد أن كانت حافلةً بعطاء الثمر ، و لم يبيّن لنا من مواقف و سلوك أصحابها سوى أنّهم أقسموا ليقطعنّ ثمارها في الصباح دون أن يستثنوا ذلك بمشيئة السماء:

﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ

من حيث البناء الفنّي للقصة ـ في قسمها الأوّل الذي نتحدّث عنه ـ لم تكن حادثةُ إبادة المزرعة قد أخذت تسلسلها الزمني في أحداث القصة ، بل جاءت تستبق الزمن و تعبر مرحلته الطبيعية ، لترتدّ من جديد إلى التسلسل الموضوعي للزمن .

إنّ أوّل مواقف القصة هو: أنّ أصحاب المزرعة أقسموا على الذهاب صباحاً إلى مزرعتهم و قطفِ كلّ ثمارِها و الاستئثار بها ، و منع خيراتها عن الفقراء و هذه مرحلةُ اتخاذ القرار .

أمّا المرحلة الثانية فهي: تنفيذ القرار ، أي الذهاب صباحاً إلى المزرعة .

و لكن القصة قبل أن تسرد لنا مرحلة التنفيذ هذه ، سردت لنا المرحلة الثالثة من خلال ما يطلق عليه في المصطلح القصصي بـ : الاستباق ، و هي حصول آفة سماوية أتت على المزرعة و أبادتها تماماً .

و بعد حادثة إبادة المزرعة عادت القصة إلى المرحلة الثانية ، و السؤال هو:
لماذا قطعت القصةُ تسلسل الزمن ، فسردت الخاتمة قبل أن تسرد الأحداث التي تسبق الخاتمة ؟

إنّ الإجابة ـ فنّياً ـ على هذا السؤال تـتّضح تماماً حين نأخذ في الاعتبار أنّ القصة كانت ساكتةً عن توضيح السبب الذي جعل القوم مُقسمين بأنّهم سيذهبون صباحاً إلى المزرعة و يقطعون ثمارها .

فالقارئ أو السامع سيظلّ مشدوداً إلى معرفة السبب الذي يكمن وراء مثل هذا القرار ، إنّه يتساءل: لماذا يتّخذ القومُ مثل هذا القرار ؟ ما هي خلفيات هذا القرار ؟
ما الحكمة و ما الوجه فيه ؟

و هذا واحدٌ من عناصر التشويق القصصي الذي يجعل القارئ متطلّعاً لمعرفة السبب ، حتّى يُتابع أحداث القصة بِنَهَم و شوق .

* * *

لم تكتفِ القصةُ بهذا القدر من عنصر التشويق القصصي ، بل ضاعفت من عملية التشويق حينما أوحت للقارئ بأنّ اتخاذ القرار المذكور ، أي الذهاب صباحاً إلى المزرعة و قطعِ ثمارها ، إنّما يُشكّل قراراً ظالماً ، بدليل أنّ اللّه سبحانه و تعالى أرسل في تلك الليلة آفةً معينةً بحيث أبادت المزرعةَ من أساسها ، فأصبحت كالليل في وحشتها .

إنّ مفاجأة القارئ بهذه الآفة قبل أن يتعرّف على مرحلة التنفيذ العملي لدى القوم ، . . . قبل ذهابهم فعلا إلى المزرعة و قطع ثمارها ، . . . إنّ مفاجأة القارئ بهذه الآفة قبل تعرّفه على مرحلة التنفيذ ، إنّما يكشف له عن سِمتين فنّيتين مزدوجتين في هذا الصدد ، أوّلهما: أنّ القصة ستحيطه علماً بأنّ قرار الذهاب إلى المزرعة و قطع ثمارها ، إنما هو سلوك جائرٌ .

ثانيهما: أنّ القصة ستُزيد من تشوّقه لمعرفة تفصيلات هذا القرار ، و لماذا اتّسم بكونه قراراً ظالماً ؟

يُضاف إلى ذلك أنّ حدوثَ الآفة النازلة على المزرعة و هم نائمون ، و حدوثَها و هم لم ينفّذوا العملية بعدُ ، إنّما يكشف عن حقيقة فنّية ، هي تحسيس الآخرين بأنّ السماء تقف بالمرصاد لكلّ مَن تسوّل له نفسه القيام بسلوك ظالم ، حيث سـتتدخّل السماء قبل أن يحقّق الظالم أهدافَه الشرّيرة .

إذن هناك أكثرُ من سبب فنّي يكمن وراء قطع التسلسل الموضوعي للزمن في هذا الجزء من القصة التي نحن في صددها الآن .

* * *

و لنتّجه إلى المرحلة الثانية التي عَبَرَتها القصة ، لنستكشف المزيد من أسرار الفنّ .

كانت المرحلة الاُولى هي: اتخاذ القرار .

المرحلة الثانية: تنفيذ القرار ، و هذا ما تكشف القصة عنه على النحو الآتي:

﴿فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ

﴿فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ

﴿وَ غَدَوْا عَلى حَرْد قادِرِينَ

هذه هي مرحلة التنفيذ .

فعندما أسفر الصبحُ تنادى القومُ بعضهم يُنادي الآخر ، يستحثّه إلى تنفيذ العمليّة مطالباً إيّاه بأن يسرع إلى المزرعة و قطعِها .

و فعلا اتّجهوا إلى المزرعة .

و في الطريق كان الإخوة يتحاورون فيما بينهم ، . . . يتحدّثون هامسين ، . . .
متخافتين ، مُتسارين:

بمَ كانوا يهمسون ؟ هذا ما أوضحته القصة على لسانهم:

﴿لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ

هذه الفقرة هي المفتاح الذي يكشف للقارئ كلّ الأسرار ، فالقارئ أو السامع الذي يتطلّع لمعرفة السبب الكامن وراء اتخاذ القرار بالذهاب إلى المزرعة صباحاً ، و السبب الذي جعل السماء ترسل آفةً مبيدةً للمزرعة ، . . . إنّما هو هذا القرار الجائر الذي يكشف عن منّاع للخير . . . لا نغفل أنّ صفة مناع للخير وردت في مقدمة السورة ممّا يكشف ذلك عن صلة القصة بمقدّمة السورة الكريمة .

المهم أنّ القرار المتقدّم يكشف عن قوم دَفعَهم حرصُهم و جشعُهم و حبّهم لذواتِهم إلى أن يستأثروا بالخيرات لأنفسهم فحسب و يمنعوها عن الفقراء ، عن المساكين . . . إنّهم لا يريدون أن يشبعوا جائعاً عوّده أبوهم الشيخُ على الإطعام ، يُريدون أن يستأثروا بالخيرات لأنفسهم . . .

إنّه لَجشعٌ ، و حرصٌ ، و جدبٌ في الأعماق ما بعده من جَدْب .

* * *

من الزاوية الفنّية الخالصة ، يهمّنا أن نلفت الانتباه إلى أهميّة هذا الحوار الجمعي القائم بين الفتية الجَشِعين فَترتـئذ .

فالقصة لم تحدّثنا في البدء بأنّ هناك مجموعة من الأفراد صمّموا على أن يمنعوا الفقراء من أرزاقهم ، و إنّما قالت لنا: هناك أفراد صمّموا أن يذهبوا إلى مزرعة لهم صَباحَ ذات يوم ، و إلى أنّ السماء أرسلت على المزرعة ناراً أحرقتها بكلّ ما فيها . ثمّ احتفظت القصةُ بالسرّ الكامن وراء الذهاب إلى المزرعة و تدخّل السماء في ذلك ، . . . احتفظت بهذا السرّ الفنّي . . . ثمّ كشفته بهذا النحو المُمتع .

و بذلك حقّقت للقارئ إثارةً فنّيةً بالغة المدى ، حينما جعلته يتشوّق و يتطلّع و يتلهّف لمعرفة السبب ، حتّى يتابع سائر أجزاء القصة ، مجسّدة بهذا ما يُسمّى في لغة الأدب القصصي بعنصر التشويق الفنّي . ثمّ بما صاحبَه من عنصر المفاجأة و المماطلة الفنّـيتين .

و لكن هل أنّ عنصر التشويق قد انتهى عند هذا النطاق من القصة ؟ كلاّ .

سنلحظ عند متابعتنا أجزاء القصة مزيداً من عنصر التشويق الفنّي ، و ما ينطوي عليه من دلالات فكرية تـتصل بالخيرات التي يمنحها اللّه لعباده ، و بوقوفه بالمرصاد لكلّ منّاع للخير ، و بالندم الذي قد يلحق بعض الأفراد ، و بإمكان التوبة من الأعمال الخاطئة . . . إلى غير ذلك من الدلالات التي سنتحدّث عنها مفصّـلا .

إتّجه أصحاب المزرعة صباحاً إلى مزرعتهم ، و هم واثقون بأنّهم سيُنفّذون قرارَهم الظالم ، . . . القرارَ القاضي بمنع الفقراء من حقوقهم .

لكنهم فوجئوا بما لم يكن في الحُسبان .

لقد شاهدوا بأنّ المزرعةَ أصبحت كالصريم ، . . . كالليل المظلم في وحشته . . .

هذا كلّه يتمّ في ثلاث مراحل قصصية هي:

المرحلة الاُولى: و كانت تـتمثّل في اتخاذ القرار .

المرحلة الثانية: و هي إبادة المزرعة .

المرحلة الثالثة: و هي فشل القرار القاضي بمنع الفقراء من حقوقهم .

ثمّ تجيء المرحلة الرابعة ، و هي القسم الأخير من القصة ، متمثلا في ردود الفعل التي أحدثتها إبادةُ المزرعة ، بعد أن علّقَ القومُ عليها آمالا عِراضاً قد انطفأت في لحظة زمنية قصيرة لم تـتجاوز نِطاقَ المُشاهَدةِ التي تعرّضوا لها و هم حيال المزرعة المحترقة .

لقد احترقت المزرعةُ ، و انتهى كلُّ شيء .

و الآن ماذا نتوقّع من أصحاب المزرعة ، فيما يتصل بردود الفعل التي أحدثتها حادثةُ الإحراق ؟

يبدو أنّ القوم ـ وفاقاً لمنطق القصة ذاتها ـ قد أقرّوا بخطأ تصرّفاتهم في هذا الصدد .

و يبدو ـ و هذا واحدٌ من أسرار الفنّ العظيم الذي كشفت القصةُ عنه في قسمها الأخير ـ أنّ شخصاً على الأقل ، أو أخاً من الإخوة الذين ورثوا المزرعة من أبيهم ، و هو أوسطهم في السنّ ، أو أفضلهم في النضج العقلي لم يكن راضياً و لم يشاركهم الرأي في القرار القاضي بمنع الفقراء من حقوقهم ، أو على الأقل طالبَهم باستثناء مشيئة اللّه في القسم الذي ارتكنوا إليه فيما يتصل بقطع ثمار المزرعة . . .

كلّ هذا تسرده القصةُ مفصّلا عبر الحوار الجمعي الذي أبرزته القصة في هذا النطاق .

و السؤال هو: ما هي ردود الأفعال مفصّلةً أوّلا ؟ ثمّ أهمية الطريقة الفنّية التي سلكتها القصةُ في الكشف عن الشخصية التي حذّرت أصحاب المزرعة من سوء فعالهم ، ثانياً ؟

* * *

لنقرأ ردود الأفعال عند القوم ، و هم يشاهدون المزرعة المحترقة .

﴿فَلَمّا رَأَوْها

﴿قالُوا: إِنّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

هذا هو أوّل ردّ فعل يُقرّ بأنّهم كانوا ضالّين في اتخاذهم قراراً بمنع المساكين من أرزاقهم ، و عدم استثنائهم ذلك بمشيئة اللّه .

و بعض المفسّرين يرى أنّ قولهم: إنّا ضالون ، إنّما يعني ضلالهم عن الطريق ، و التشكيك في أنّ هذه المزرعة المحترقة هي مزرعتهم أم لا ؟

و مع هذا التشكيك استدرك بعضهم و كأنّه لم يقتنع بأنّ المزرعة المحترقة هي غير مزرعتهم ، فقفزت إلى ذهنه حقيقة الانتقام الإلهيّ ، فهتف قائلا:

﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ

من ثمار هذه المزرعة ما دمنا تركنا الاستثناء في المشيئة ، و ما دمنا فكّرنا في منع الفقراء من أرزاقهم .

لقد تَرَكَنَا النصُ القصصي نواجه بأنفسنا ـ نحن القرّاء ـ مشاعر المعترفين بالذنب ، سافرة واضحةً على ألسنتهم ، من خلال الحوار الجمعي في هذا الجزء من القصة .

و هذا الإقرار من الزاوية الفنّية له أهميته الكبيرة في التعرّف على حقيقة أعماقهم .

غير أنّ الحوار الجمعي أفرز لنا جوانب اُخرى من الأهمية حينما كشف المزيد من المواقف الغائبة عنّا في تصرّفات القوم .

فالقارئ أو السامع يملك تصوّراً خاصاً عن القوم ، بأنّهم جميعاً كانوا على اتفاق فيما بينهم بالنسبة لقرار المنع ، و بالنسبة لِقَسَمِهم:

﴿لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَ لا يَسْتَثْنُونَ

و هذا التصوّر بأنّ الأولاد كانوا بأجمعهم دون استثناء متفقين في الرأي ، لم يكن اعتباطاً ، بل إنّ الأقسام الثلاثة من القصة هي التي أوحت بمثل هذا التصور مادامت منذ البداية تـتحدّث عن أصحاب المزرعة جُملةً لم تستثنِ منهم أحداً .

لكن القسم الرابع من القصة يكشف لنا عن سرٍّ جديد احتفظ به النص طوالَ القصة ، . . . و بدأ الآن بكشفه على النحو الآتي:

﴿قالَ أَوْسَطُهُمْ: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ

إذن هناك واحدٌ من الأولاد أو القوم ، كان منذ البداية غير راض بتصرّفات إخوته ، . . . بل إنّه قدّم النصيحة لهم ، قائلا: ألا تُسبّحون ؟! ألا تستثنون ؟! ألا تتّقون ؟! ألا تخرجون حقّ الفقراء من أموالكم ؟!

طبيعيّاً لم تجر هذه النصائح بحرفيّتها التي نقلناها بقدر ما يمكن أن يستوحيها القارئ من كلامه: ﴿لَوْلا تُسَبِّحُونَ .

غير أنّ الأهم من ذلك كلّه هو عنصر المفاجأة الذي سلكته القصة في هذا الصدد ، حينما احتفظت بأحد الأسرار طوال فصول القصة و كشفته فجأة للقارئ في القسم الأخير من القصة ، مُحققةً بذلك مزيداً من الإمتاع القصصي و هو إمتاعٌ له خطورته الكبيرة في ميدان الأدب القصصي ، يعرفه جيداً كلّ من أدمن على قراءة القصص البشرية و خَبُرَ أساليب الصياغة في هذا الصدد .

* * *

على أيّة حال ، . . . لا يزال الحوار بين القوم يكشف المزيد من ردود الفعل لديهم . فبعد أن ذكّرهم أوسطُهم بنصيحته منذ البداية ، أقرّوا بظلمهم من جديد ، قائلين:

﴿سُبْحانَ رَبِّنا إِنّا كُنّا ظالِمِينَ

و هذا يعني أنّ القوم تحتفظ أعماقُهم بشيء من النقاء ، ماداموا قد اعترفوا بذنوبهم .

فقد أدركوا أوّلا بأنّهم قد حرموا من ثمار المزرعة عندما غلبتهم أهواؤهم في الاستئثار بها .

ثمّ أقرّوا من جديد بأنّهم كانوا ظالمين .

و ها هم للمرة الثالثة يلوم بعضُهم بعضاً على تصرّفاته:

﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض يَتَلاوَمُونَ

ثمّ أنّهم للمرة الرابعة:

﴿قالُوا: يا وَيْلَنا إِنّا كُنّا طاغِينَ

إنّ هذه المستويات من ردود الفعل تكشف لنا أنّ القوم لم يكونوا من النمط الذي طُبعَ على قلبه بحيث لم يتّعظ بالأحداث و التجارب ، و إنّما كانوا من النمط الذي تنفعه الذكرى و العظة .

و فعلا كانت النهاية التي توّجت سلوكهم ، هي التوبة مصحوبة بأمل أنّ اللّه سبحانه و تعالى يبدلهم خيراً من مزرعتهم التي اُبيدت . لقد هتفوا قائلين:

﴿عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ

و هكذا تنتهي القصةُ بخاتمة تـتحدّث عن التوبة ، و تـتحدّث عن إمكانيّاتها الهائلة التي طالما تدعونا السماءُ إليها ، مُلحّةً علينا بأن نسرع إلى التوبة قبل فوات الأوان . و إنّه لَعطاء اللّه الذي لا حدود لاقداره ، عطاء اللّه الذي دفع القوم ليس بأن يندموا على فعلتهم و الاعتذار عنها فحسب ، بل دفعهم إلى أن يطالبوا بأن يُبدِلهم اللّه خيراً من مزرعتهم . . . ممّا يعني أنّ نِعَم اللّه لا يُمكن أن تُحصى ألبتّة . إنّه سبحانه و تعالى يقبل القليل و يعفو عن الكثير . إنّه يُحسّسنا من خلال هذه القصة التي أجرى فيها على لسان الخاطئين الرغبةَ في أن يبدلَهم اللّهُ خيراً من مزرعتهم ، يُحسّسنا بمعطيات التوبة . . . يحسّسنا بأنّ العبيد مُدِلّون في رغبتهم المزيدَ من العطاءات بالرغم من ذنوبهم التي حُذّروا منها ، لكن شريطة أن تكون التوبةُ
خالصةً نصوحاً ، لا يُحدّث المرءُ بعدها ذاتَه بمعاودة الذنب .

إذن كم يجدر بنا الإفادة من الدلالة الفكرية لقصة أصحاب المزرعة ، بغية تصحيح سلوكنا و تعديله في غمرة هذه الحياة العابرة التي نحياها و نجتازها إلى الدار الأبدية ؟!



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page