• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سورة الجن : قصَّة نفر من الجنّ

 هذه القصة من حيث الشكل تظلّ منتسبة إلى نمط من العرض القصصي القائم على المحاورة .

و المحاورة قد تكون فردية و قد تكون جمعية ، كما قد ترد في سياق ما يسمّى بقصص السيرة الذاتية ، أو ترد في سياق ما يطلق عليه مصطلح الحوار الداخلي .

و المهم أنّنا نواجه في القصة التي نتحدّث عنها نمطاً من السيرة الذاتية للجنّ ، و لكن وفق صياغة خاصة نتحدّث عنها الآن:

الأبطال أو الشخصياتُ يشكّلون في الأعمال القصصية عنصراً حيوياً مُمتعاً ، يمدّونها بالحركة التي تشدّ انتباه القارئ مادامت كلّ واقعة و كلّ موقف يرتبطان بالضرورة بعنصر الأشخاص .

و ممّا يزيد الإمتاع و الحيوية في القصة ، أن يتنوّع الأبطالُ فيها و بخاصة إذا انضمّ إليهم عنصرٌ من غير عضويتهم ، من نحو الملائكة أو الجنّ أو الطير مثلا .

و في قصص قرآنية سابقة ، لحظنا عنصر الملائكة يشاركون الآدميين في أدوار القصة ، كما لحظنا عنصر الجنّ و عنصر الطير يساهمان في قصص سليمان أيضاً .

هنا في القصة التي نتحدّث الآن عنها يجيء عنصر الجنّ أبطالا مستقلين في القصة . . . ، ينهضون بدور خاصٍّ مرسوم لهم .

و حيويّة مثل هؤلاء الأبطال لا تـتمثّل في مجرّد كونهم عنصراً غير مرئي مثلا ، أو عنصراً يحمل في سماته ما هو مُدهشٌ أو غريب ، بل تـتمثّل في مشاركتهم للآدميين في طبيعة همومهم و تطلّعاتهم و حركتهم في الوجود بعامّة .

إنّ القصّة القرآنية الكريمة ، لا تستهدف عرض الحقائق أو الأبطال غير الآدميين بمجرّد التسلية و الإمتاع ، بل تستهدف من ذلك تحسيسنا ـ نحن البشر ـ بحقيقة مهمّتنا العبادية في الأرض و الإفادة من تجارب الآخرين ـ حتّى لو كانوا من غير العضوية البشرية ـ في تصحيح سلوكنا و تعديله .

إنّ الجنّ مخلوقات غير مرئيّة ، لها بيئتُها الخاصةُ التي كيّفتها السماءُ لهم ، كما أنّهم ـ مثلُ الآدميين و سائر المخلوقات ـ لم يُخلقوا عبثاً ، بل من أجل مهمّات خاصة يضطلعون بها .

المهمّ أنّ القصة التي نحن في صددها ، تستهدف عرض بعض الحقائق المتصلة بهذا العنصر ، وصلته بالعنصر الآدمي من حيث مشاركتهما جميعاً في تحقيق المهمّة العبادية: هُم ، أي الجنّ في بيئاتهم الخاصة و نحن في بيئتنا الأرضية .

و الأهم من ذلك ، إفادتنا ـ نحن الآدميين ـ من تجربة الأبطال غير الآدميين في نطاق العمل العبادي الذي خُلقنا من أجله .

و الآن ما هي التجربة المطروحة في نطاق أبطال الجنّ ؟

التجربة المطروحة أمام هؤلاء الأبطال ، هي قضية إيمانهم برسالة الإسلام العظيم .

و قد يبدو لأوّل وهلة أنّ الإسلام رسالةٌ بشريّة صرف ، مادام الأمر متصلا بشخصية المُرسَل (صلى الله عليه وآله) و المرسَل إليهم البشر .

غير أنّ الأمر يأخذ منعطفاً آخر عندما تُحدّثنا القصة عن أبطال من غير البشر ، لهم تركيبتهم النارية الخاصة غير المرئية و لهم لغتهم الخاصة لا تُفقه في إدراك الآدميين العاديين ، و لهم بيئاتهم التي تـتجاوز نطاق الأرض ، لكنها ذات تعامل مع رسالة القرآن .

التجربة المطروحة أمام هؤلاء الأبطال ، تعرضها القصة على النحو الآتي:

(اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)

(فَقالُوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)

هذه البداية القصصية لا نمرّ عليها عابراً ، بل نقف عندها طويلا .

فنحن حيال قصة تعرض الحقائق وفق شكل فنّي خاصٍّ ، ممّا يعني أنّ بدايتها بهذا النحو دون سواه له دلالةٌ محدّدة .

القصة التي تواجهنا تعتمد شكل الحوار الخالص ، دون أن يتخلّله تعقيبٌ أو تعليق ، بل يظلّ الحوار طوليّاً يتمّ وفق محاورة جماعية مبهمة يتحدّث فيها أبطال الجنّ مع أنفسهم ، أو أصحابهم على النحو الذي أوضحته بدايةُ القصة ، حينما نقلت لنا جانباً من محادثاتهم بهذا الشكل:

(إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)

إنّ أهميّة هذا الحديث أو الحوار تـتمثّل في كونه حديثاً أحادي الجانب ، لا أنّه محاورةٌ بين طرفين: أحدهما يسأل ، و الآخر يجيب ، أو أحدهما يتحدّث ، و الآخر يعقب عليه . بل يجري و كأنه مُحاضرة يُلقيها فردٌ على آخر ، أو جماعة على آخرين .

أو يُمكننا أن نتصوّر الأمر على نحو ما نُمارسه ـ نحن البشر ـ حين نتلقّى نبأً خطيراً مثلا ، فيهرع كلّ واحد منّا إلى صديقه أو جماعته ، و ينقل إليه هذا النبأ .

طبيعيّاً عندما استمع نفرٌ من الجنّ إلى القرآن ، و قالوا لأصحابهم: (إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، نتوقع حينئذ أن يصدر من المخاطبين تعليقٌ على هذا النبأ ، سواء أكان إيجابياً أم سلبياً .

غير أنّ القصة لم تنقل إلينا شيئاً من تعليقات هؤلاء .

و السرّ في ذلك من الزاوية الفنّية أنّ القصة في صدد التعريف بردِّ الفعل الذي أحدثه نزول القرآن الكريم في نفوس أبطال الجنّ ، متمثّلا في استجابتهم الخيّرة حيال رسالة السماء على النحو الذي تفصّله القصةُ لاحقاً .

* * *

إنّ القصة عندما بدأت بهذا الشكل:

(اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)

تركتنا ـ نحن القرّاء ـ أمام جملة من التصورات لهذه البداية الفنّية في القصة .

إنّ القارئ يطرح أكثر من سؤال في هذا الصدد:

هل قرأ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) القرآن على الجنّ كما قرأهُ على الإنس ؟

هل إنّهم استمعوا إليه خلال قراءته على الإنس ؟

هل قُرِئ بلُغتهم ؟

و قبل ذلك: هل لهم لغةٌ خاصة ؟ هل يفقهون اللغة العربية ؟

هل اُتيح لمجموعة من الجنّ أن يستمعوا ذلك ، دون آخرين ، و لماذا ؟

إنّ هذه الأسئلة تُثار في ذهن القارئ دون أدنى شك .

بيد أنّ القصة سكتت عن ذلك تاركةً لنا تقليبَ الوجوه و الاستنتاجات ، بغية أن نكتشف بأنفسنا احتمالات الموقف .

و واضحٌ من حيث السمة الفنّية أنّ القصة ليست في صدد تبيين لُغةِ الجنّ ، أو تحديد نمط العلاقة الاجتماعية القائمة بينهم و بين الآدميين ، بضمنها طريقة تلقّيهم للمعرفة ، بل في صدد المعرفة نفسها ، . . . في صدد تبيين ردّ الفعل لديهم حيال مواجهتهم لرسالة الإسلام .

من هنا انتفت الحاجة إلى قصّ التفصيلات المتصلة بلُغتهم و طريقة تلقّيهم للمعرفة .

و يُلاحظ أنّ النصوص المفسّرة بدورها ، لم تُلق إنارةً تامّة على هذا الجانب .

فبعضها ينفي أن يكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد قرأ القرآنَ عليهم و إلى أنّ هذا النفر استمع إليه عبر محاولته معرفة السبب الذي حال بين الشياطين و بين السماء عند ظهور
الرسالة .

و بعضها يذهب إلى أنّ بطلهم قد استمع فذهب إليهم يُقرئُهُم في إحدى الليالي .

و بعضها يذهب إلى أنّ عددهم سبعة أبطال أو تسعة قابلهم و أرسلهم إلى الآخرين .

و مثلما قلنا ، فإنّ المهمّ فنّياً ليس عددهم و لا نمط الرهط الذي ينتسبون إليه ، و لا طريقة استماعهم ، بل المُهم هو استماعُهم نفسه ، و إدراكهم لأهمية الرسالة التي أنزلتها السماء على محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فيما جعلتهم مُنبهرين منها بقولهم:

(سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً)

و الأهم من ذلك أنّهم أدركوا تفصيلات الموقف الجديد ، وصِلته بماضي سلوكهم و لاحقه على نحو ما يكشفون هُم أنفسهم في الحوار الجماعي أو الحديث المطول الذي ألقوه على جماعتهم في هذا الميدان .

يبدو أنّ أبطال الجنّ الذين استمعوا إلى القرآن عند نزوله ، و عقّبوا على ذلك قائلين: (إنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) . . . يبدو أنّ هؤلاء الأبطال يُشكّلون مجموعةً خاصة تـتميّز بوعي ، أو بموقع اجتماعي متميّز لم يتوفّر عند الآخرين ، على نحو ما نجده في نطاقنا الآدمي مثلا ، و إلاّ لِمَ تهيّأ لهذا النفرِ منهم دون سواهم مثلُ هذا الاستماع للقرآن ، و إدراك رسالة السماء ، بحيث هرعوا إلى أصحابهم ينقلون إليهم مثلَ هذه الظاهرة العظيمة ؟

إنّ بيئة الجنّ لابدّ أن تُشبه بيئة الآدميين في طبيعة بنائهم النفسي و الفكري ، و في مقدمتها الموقفُ الفلسفي من الكون و مُبدعه ، و هو أمرٌ يُحدّثنا به أبطال الجنّ أنفسهم ، . . . فلنستمع إليهم أوّلا ، و هم يواصلون إلقاء كلمتهم على جمهور الجنّ ، و نعني بهم اُولئك النفر المتميّز الواعي الذي اُتيح له أن يستمع إلى القرآن و ينقل إلى الجمهور تجربته في هذا الصدد:

قال هؤلاء النفر:

(إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ)

(وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً)

إلى هنا فإنّ الكلمة التي ألقاها هذا النفر على جمهور الجنّ ، تـتحدّث عن ظاهرة التوحيد و عدم الشرك باللّه .

و ممّا لا شك فيه أنّ الحديث عن التوحيد و عدم الشرك يومئ بوجود عنصر التشكيك في أذهان البعض منهم على نحو ما هو متحقّقٌ عند الجَهَلة من الآدميين .

غير أنّ هذا الفرز بين نمطين من الجمهور: الجمهورِ الموحّد و الجمهور المشكّك ، يأخذ تحديداً أوسع شمولا ، حينما نجد هؤلاء النفر يُعلنون عن المَصدر الذي كان يثير في أذهان الجنّ عنصرَ التشكيك ، ألا و هو: الشيطان .

يقول هؤلاء النفر الواعون من الجنّ ، مواصلين إلقاء كلمتهم على الجمهور:

(وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللّهِ شَطَطاً)

إنّ هذه الكلمة ذات دلالة فنّية و فكرية كبيرة ، و تـتمثل أهميتُها في أنّها صادرة من رهط ينتسبون إلى عنصر الجنّ و يعرفون رئيسَهم تمام المعرفة ، حيث خلعوا عليه صفة السفيه .

و واضح أنّ كلمة السفيه لا تُشرّفُ صاحبَها بأية حال من الأحوال ، لأنّ السفاهة نوعٌ من أمراض التخلّف العقلي .

و لا شيء أشدّ ألماً في النفس مِن أن يرى كبيرُهم الذي أضلّ مجموعةً من الجنّ ، يرى هذا الرئيس أنّ متبوعيه يطلقون عليه صفة السفاهة ، بعد أن خُيّل إليه أنّه قد نجح في إضلالهم .

إذن ، كم لهذه الكلمة من وقع حادٍّ على نفسية الشيطان السفيه!! و إلى أيّ حدٍّ ستُعرضه إلى التمزّق و التوتّر و الانسحاق و القلق و الرُعب!

إنّها كلمةٌ مُجلجلة ، تصعقُ الشيطان ، و تردّه مدحوراً . . .

* * *

على أنّ صفة السفيه التي أطلقها الواعون من الجنّ على الشيطان ، تنطوي على أهمية اُخرى غير الأهمية التي تسحب أثرها النفسي على الشيطان ذاته ، . . . هذه الأهمية ، هي انسحاب أثرها على القارئ و السامع أيضاً . فالقارئ حينما يجد أنّ عنصر التشكيك الذي يثيره الشيطان ، إنّما صدر من شخصية سفيهة تعاني مرضَ التخلّف العقلي ، . . . حينئذ لا يُقيم القارئ أيّ وزن لهذه الشخصية و أفكارها ، لأنّها أفكار نابعة من مرض عقلي هو السفاهة . فالأفكار من الممكن أن تجد لها صدىً في النفوس إذا كانت صادرة من عقل سليم . أمّا إذا صدرت من سفيه فحينئذ تسقط الأفكار أساساً و تُصبح موضع سخرية ، كما حدث بالنسبة إلى النفر الواعي من الجنّ ، عندما أدركوا سفاهة الشيطان و ضربوا بأفكاره عرض الجدار ، و اتجهوا إلى الإيمان باللّه و برسالة الإسلام .

للمرة الجديدة: نُذكّر القارئ بأهمية الكلمة التي أطلقها الواعون من الجنّ على الشيطان ، و نعني بها كلمة السفيه من حيث وقعها المرّ على الشيطان ذاتِه و من حيث وقعها الإيجابي على القارئ الذي ستتعمّق لديه حقائق الموقف بجلاء أشدّ .

* * *

و لنتابع الآن نص الكلمة التي ألقاها نفرٌ واع من الجنّ على جمهورهم:

قال هذا النفر ، بعد أن تعرّضَ لسمة السفاهة على الشيطان :

(وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الاِْنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّهِ كَذِباً)

هنا يتم كشفُ شيء جديد من الموقف .

فأبطال الجنّ لم يتحدّثوا لحد الآن إلاّ عن السفيه: الشيطان ، لكنهم في هذه الفقرة من كلمتهم تعرضوا إلى الإنس أيضاً ، فخلعوا عليهم صفة مشاركة لصفة الجنّ ، ألا و هي: الكذبُ على اللّه .

لنقرأ الكلمةَ من جديد: (وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللّهِ كَذِباً)

و السؤال ـ من الزاوية الفنّية ـ هو : لماذا أقحم أبطالُ الجنّ عنصرَ الإنس في هذه الكلمة مع أنّهم يتحدثون عن تجربتهم الخاصة ؟

في تفسيرنا الفنّي لهذه الظاهرة ، أنّ القصة عندما نقلت لنا هذه الفقرة و سواها ممّا يتصل بعنصر الآدميين ، إنّما استهدفت الآدميين في ذلك ، مادام الأمرُ متصلا بتجربة البشر الذي يقرأ القصة ، . . . فضلا عن أ نّها حقيقةٌ ذات صلة بتجربة الجنّأيضاً .

إنّ الكذبَ على اللّه يُشكّل جريمةً أو مفارقةً عقليةً واضحة .

فاللّه حقيقة تفرض وجودها بكلّ ما للحقيقة من دلالة ، فلماذا يحاول الإنسُ و الجنُّ نفيَ هذه الحقيقة ؟

من هنا ، فإنّ أبطال الجنّ محقّون كلّ الحقّ في ظنّهم الذاهب إلى أ نّه لا يمكن لإنسيّ أو جنّي أن يفتري على اللّه كذباً .

و من هنا أيضاً جاء الإنسُ عنصراً يفرض وجوده في أذهان الواعين من الجنّ مادام محاولا بجهالة نفي حقيقة اللّه .

* * *

و إذا كان الجنّ قد اقحموا عنصر الإنس في كلمتهم المتقدّمة للسبب الذي أوضحناه ، فإنّهم في كلمة جديدة من خطابهم إلى جمهور الجنّ يقحمون عنصر الإنس أيضاً عبر تجربة اُخرى ، عَرَضوا لها في كلمتهم .

و لنستمع إليهم في هذا الصدد . قال هذا النفر الواعي من الجنّ:

(وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجال مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً)

(وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللّهُ أَحَداً)

في هذه الفقرات من خطاب الجنّ حقيقتان تـتصلان بعنصر الآدميين و علاقتهم بعنصر الجنّ ، الاُولى هي: أنّ البعض من الآدميين كان يستجير بالجنّ ، فزادتهم هذه الاستجارةُ رهقاً .

أمّا الحقيقة الثانية فهي: مشاركة الآدميين للجنّ في التشكيك باليوم الآخر .

ممّا لا شك فيه ، أنّ هذه الحقيقة الأخيرة ، أي التشكيك باليوم الآخر ، يظلّ متصلا بعنصر التشكيك في ظاهرة التوحيد أيضاً . و قد سَبَق التحدث عنها ، لكنها في الحقيقة تبقى متصلةً أيضاً بعملية الاستجارة بالجنّ ، . .و هي الحقيقة التي ينبغي التوقف عندها ، نظراً لانطوائها على أهمية كبيرة في نطاق العلاقة القائمة بين عنصري الإنس و الجنّ .

و السؤال ـ فنّياً ـ هو: لماذا أقحم أبطالُ الجنّ الذين وجّهوا كلمتهم إلى الجمهور ، . . . لماذا أقحموا قضية الاستعاذة أو الاستجارة الآدمية برجال الجنّ ؟

هل لأنّ الجنّ يتميّزون بقوىً لا يملكها الآدميون ؟

هل لأشكالهم غير المرئية صلة بهذا التميّز ؟

هل هناك تجارب بشريّة في هذا الصدد فرضت على أبطال الجنّ عَرْضها بهذا النحو ؟

ثمّ ما هي صلة الفشل الذي لحق تجاربَ الآدميين في اعتصامهم بقوى الجنّ .

ما هي صلة الفشل المذكور بحقيقة الموقف الجديد الذي أعلنه أبطال الجنّ عند استماعهم للقرآن الكريم ، و إيمانهم بالإسلام ؟

هذه الأسئلة تـتطلّب إجابةً مُحدّدة مادامت متصلةً بتجارب الآدميين الذين نُقِلت هذه القصةُ لهم .

يُخيّل للقارئ أو السامع أنّ أبطال الجنّ الذين كانوا يتحدّثون لجمهورهم عن أنّ رجالا من الإنس يعوذون برجال من الجنّ ، . . . يُخيّل أنّ ذلك بمثابة تقرير لحقيقة ثابتة هي أنّ الجنّ بصفتهم قوىً غير مرئيّة ، و بصفتهم يتّسمون بما هو غريب و مدهش بالنسبة للآدميين ، و بصفتهم يتنقّلون بحرّيّة ليس في البيئة الجغرافية الفاصلة بين السماء و الأرض فحسب ، بل حتّى في الأرض ، و بصفتهم يمتلكون إمكانات التأثير على الآدميين . . . كلّ ذلك حمل أبطالَ الجنّ الذين تحدّثوا لجمهورهم عن رسالة القرآن العظيم ، . . . حملهم على الإشارة لهذا الجانب ، و تحسيس جمهورهم بأنّ هذه الاستعانة بالجنّ ـ بالنسبة للآدميين ـ تظلّ عملا
مُنكراً بدليل أنّ الجنّ زادوا الآدميين الذين اعتصموا بهم ، زادوهم رهَقَاً ، و إثماً ، و ضعفاً ، بل يمكن أن تكون هذه الاستعانة بهم ، عنصر تشجيع للجنّ أيضاً ، بأن تـتورّم ذواتُهم و يطغوا بذلك ، حيث يحملهم الطغيان على التفكير بأنّهم اُولوا قوّة و سطوة ، و هو أمرٌ منكرٌ دون أدنى شك إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الكهنة ـ كما تقول بعض النصوص المفسّرة ـ كانت تنقل إلى الآخرين ما يسمعونه من الجنّ ، . . .
و إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الكلمة الحقيقة تظلّ ليس لهذا الجنس أو ذاك ، أو أيّة قوّة أرضية أو كونية اُخرى .

إنّ هذه الدلالات التي استخلصناها من حديث أبطال الجنّ لجمهورهم ، تنطوي على أهمية كبيرة في هذا السياق القصصي الذي كُتِبَ لنا نحن الآدميين ، و ليس لِسَوانا .

هذه الشريحة من القصة تُريد أن تقول لنا: إنّ أ يّة استعانة بغيراللّه عديمةُ الفاعلية ، و إلى أ نّها تنمّ عن الضعف و انعدام الثقة باللّه .

كما تريد أن تقول القصةُ لنا ثانياً: إنّ سلالة الجنّ بالرغم من امتلاكها ـ في تصور الآدميين ـ إمكانات هائلة ، و بالرغم من طغيانها ، و بالرغم من وقوعها مباشرة تحت تأثير سفيههم الكبير: الشيطان ، . . . بالرغم من ذلك ، ما أن سمع نفرٌ منهم إلى القرآن الكريم ، حتّى أسرَعَ إلى الإيمان باللّه ، و برسالة محمّد (صلى الله عليه وآله) .

و تريد القصةُ أن تقول لنا ، ثالثاً ـ بطريقة فنّية غير مباشرة ـ : إنّ الجنّ بالرغم من انتسابهم إلى سُلالة غير الآدميين ، و بالرغم من أنّ القرآن لم ينزل إلاّ بلُغة الآدميين ، . . . بالرغم من ذلك ، فقد أسرع أبطال الجنّ إلى الإيمان بمجرد استماعهم للرسالة ، في حين تلكّأ الآدميون في الاستجابة للنداء الخيّر . . .

طبيعيّاً لا ينحصر الأمر في عملية التوحيد فحسب ، بل ينبغي تجاوز ذلك إلى مُطلق التعامل مع مبادئ الإسلام . . . أي أنّ التجربة الآدمية ينبغي أن تفيد من تجربة الجنّ في تعديل سلوكها بعامّة ، و في ضبطه وفق مهمّة الخلافة في الأرض ، . . . و هي المهمة التي ألقتها السماءُ علينا ـ نحن الآدميين ـ في هذه المسافة الزمنية المحدّدة من العمر .

* * *

و لنتابع كلمةَ أبطال الجنّ إلى جمهورهم ، . . . قالَ هذا النفرُ من الجنّ:

(وَ أَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً)

(وَ أَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)

(وَ أَنّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)

في هذه الفقرات من كلمةِ أبطال الجنّ لجمهورهم تـتقدّم القصةُ بكشف حقائق جديدة في حقل الظاهرة الكونية التي صاحبت نزول رسالة الإسلام ، . . . و هي حقائق ذات خطورة كبيرة تدلّنا ـ نحن الآدميين ـ على مدى أهمية رسالة الإسلام العظيمة التي اختارتها السماء لنا .

إنّ ثمة تغييراً في النظام الكوني قد حَدثَ مع انبثاق الرسالة الإسلامية ، . . .
كشفه لنا حوارُ الجنّ . . .

فأوّلا: (وَ أَنّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً) .

و هذا يعني أنّ الجنّ كانوا يمارسون عملية الصعود إلى السماء ، و إلى أنّهم كانوا يجدونها ملأى بالملائكة ، و بالشُهب ، أي بالأنوار الممتدّة من السماء .

ثانياً: (أَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) .

و هذا يعني أنّ الجنّ كانوا عبر صعودهم إلى السماء ، و مشاهدتهم لحُرّاسها من الملائكة ، و لِشُهُبها ، . . . كانوا حينئذ يستمعون إلى أصوات الملائكة و تحرّكاتهم . . .

و لكنّ الذي حدثَ بعد ذلك: «فمن يستمع الآن ، يجد له شهاباً رصداً» .

إنّ الذي حدَثَ هو: أنّ الجنّ كانوا يتمتّعون بحرّية التنقّل في الأجواء إلى الدرجة التي كانوا يشاهدون الملائكة و الشهب من خلالها و يطّلعون على الأسرار . . .

لكنّهم الآن ، أي بعد نزول القرآن الكريم على محمّد (صلى الله عليه وآله) ما أن يحاولوا استراق السمع حتّى يجدوا شهاباً يرصدهم ، فيمنعهم من الصعود . . .

إنّ اقتران الحجز ـ أي: منع صعودهم إلى السماء ـ مع رسالة القرآن ، يظلّ مؤشراً واضحاً إلى خطورة ما لمّحنا به قبل قليل . . .

إنّه ـ على الأقل ـ نبّههم إلى حدوث ظاهرة خطيرة ، بحيث جعلتهم يتساءلون:

(وَ أَنّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)

أي: لِعذاب سينزل بالآدميين ، أم لرسالة تهدي إلى الرشاد .

إنّه لا شك مؤشّرٌ إلى الرسالة الجديدة التي غمرت هذا الكون . . .

* * *

لقد انتبه أبطال الجنّ إلى حدوث الظاهرة الخطيرة على النحو الذي لحظناه .

و الآن لا يزال هؤلاء الأبطال يكشفون لنا عبر كلمتهم التي ألقوها على جمهورهم بعد استماعهم للقرآن . . . يكشفون لنا مزيداً من الحقائق المتصلة بعالَمِهم ، و إمكان إفادتنا ـ نحن الآدميين ـ من تجاربهم في هذا الصدد .

يقول هؤلاء الأبطال:

(وَ أَنّا مِنَّا الصّالِحُونَ وَ مِنّا دُونَ ذلِكَ كُنّا طَرائِقَ قِدَداً)

(وَ أَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللّهَ فِي الأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)

(وَ أَنّا لَمّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً)

(وَ أَنّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)

(وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)

إنّ هذه الكلمات ـ في منطق القصة ـ ليست مجرّد نقل لتجربة سلالة من نار ، بل تظلّ في الصميم من تجارب الآدميين ، فهناك الصالحون من جنٍّ و إنس و هناك من دونَهم درجة و هناك فئات مختلفة طرائق قِدداً . . . لكنّ الحقّ ـ كما نطق به أبطالُ الجنّ ـ أن لا أحد في الكون يعجز اللّه في الأرض أو يعجزه هَرَباً ، بل تظلّ الهيمنة للّه وحده . . .

و تبعاً لذلك ، ما أن واجَهَ أبطالُ الجنّ هذه الحقيقة ، حتّى هتفوا بأصحابهم:

(وَ أَنّا لَمّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنّا بِهِ)

و أخيراً فإنّ القصة تنقل لنا هذه الفقرة التي تلخص كلّ شيء:

(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً)

إنّ القصة و هي تنقل نص الكلمة التي ألقاها نفرٌ من الجنّ على جمهورهم تستهدفنا ـ نحن الآدميين ـ في تماثل التجربة التي يحياها كلٌّ من سلالة الطين و سلالة النار في غمرة الصراع بين الشهوة و العقل . . . لقد أوضح أبطال الجنّ: أنّ فيهم المسلم و القاسط و أنّ فيهم الصالح و مَن دون ذلك ، و أنّ فيهم مذاهب شتّى . . .
و هذه الحقيقة ذاتها تطبع الآدميين . . .

لكن الواعين منهم وهم أبطال الجنّ ، أوضحوا أنّ الحقيقة ، هي الإيمان باللّه ، فيما لا يُخاف معها أيّ بخس و أيّ رهق ممّا يعني في نهاية المطاف أنّ الآدميين أحقّ بإدراك مثل هذه الحقائق التي أغدقتها السماء عليهم ، حيث وعاها نفرٌ لم ينزل القرآن على بَطل منهم ، بل على بطل من الآدميين و بلُغة يفقهونها جيداً . . .

و هكذا نجد أنّ القصة المُمتعة التي نقلت تجربة الجنّ إلينا ، تظلّ نموذجاً من طرائق فنّية متنوعة ، توصلها إلينا نحن القرّاء بغية الإفادة منها في تعديل سلوكنا ، و إدراك حقيقة المهمّة العبادية لنا .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page