بعد مقتل عثمان، توجهت أنظار الثوار إلى الإمام علي يطلبون منه أن يلي الحكم، خاصة بعد تدهور مجمل أوضاع المسلمين وبدأوا يفكرون بصورة جدّية في اختيار القيادة الإسلامية الشرعية القادرة على إدارة شؤون الدولة الإسلامية والتي أوصى بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجاء إجماع المسلمين على انتخاب الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في ولاة الأمة.
ومع أن هذا الإجماع جاء متأخراً ربع قرن حينما تغافلت جماهير الأمة أحاديث ووصايا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في حق علي (عليه السلام) في ولاية أمور المسلمين.
وجاء الناس بعد مقتل عثمان إلى الإمام (عليه السلام) وقد اجتمعوا من كل مصر ليبايعوا الإمام علي (عليه السلام) وكان الإمام (عليه السلام) يتهرب منهم، وهم يتعقبونه ويصرّون عليه بقبول البيعة، واستمرت الحالة بين رفض الإمام (عليه السلام) وإصرار الجماهير لعدة أيام.
فالإمام (عليه السلام) كان يدرك نتيجة لوعيه العميق للظروف الاجتماعية والنفسية التي كانت تجتاح المجتمع الإسلامي في ذلك الحين، ولأن المدّ الثوري الذي انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه بالنسبة إلى عثمان يقتضي عملاً ثورياً يتناول دعائم المجتمع الإسلامي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية(1).
ومن هنا كان رفض الإمام (عليه السلام) وامتناعه عن الاستجابة الفورية لضغط الجماهير والصحابة عليه بقبوله الخلافة، فقد أراد أن يضعهم أمام اختبار يكتشف به مدى استعدادهم لتحمل أسلوب الثورة في العمل لئلا يروا فيما بعد أنه استغفلهم واستغل اندفاعهم الثوري حين يكتشفون صعوبة الشروط التي يجب أن يناضلوا الفساد الذي ثاروا عليه في ظلها)(2).
ولهذا أجابهم الإمام (عليه السلام) بقوله: (دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب عاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أمير)(3).
ولم يجد الإمام (عليه السلام) بداً ـ بعد انثيال الناس لمبايعته خليفة على المسلمين، فاستجاب لرغبة الناس وقبل الخلافة دونما إرادة منه.. وقد صوّر الإمام (عليه السلام) تدافع الناس وهم يلتمسون منه القبول في تحمل مسؤولية الإنقاذ فيقول (عليه السلام): (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وُطئ الحسنان، وشُقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم..) ولكنه (عليه السلام)، يذكر في نهاية خطبته جملة بعنوان اتمام الحجة، فيقول: (واعلموا إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم): أي إذا استلمت زمام الخلافة فإني سوف أقودكم وفق علمي، واجتهادي، وليس وفق ما تريدونه أنتم.
وكان آخر ما قاله لهم في تلك الخطبة أيضاً؛ (وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً)(4) هذه الكلمات التي صدرت من علي (عليه السلام)، تبين أنه كان يتوقع مشاكل كثيرة، تحدث في عهد خلافته، وهي من التعقيد والغموض بحيث علم بأنه سوف يصعب على الناس في كثير من الأحداث المقبلة، أن يتقبلوا أوامر القيادة الشرعية، ويتفهموها، وكان هذا هو السر في كراهته لقبوله الخلافة، وقد حدث ما توقعه الإمام (عليه السلام) فيما بعد فماذا كانت المشاكل التي واجهها (عليه السلام)؟
______________________________
1 - وقد حدد الإمام علي (عليه السلام) هذه الحقوق في مناسبة قاسية من مناسبات حياته وذلك بعد صفين في خطبة له راجع نهج البلاغة، ج1، ص102، 105.
2 - راجع للتوسع ثورة الحسين، لمحمد مهدي شمس الدين، ص35، 38.
3 - نهج البلاغة، ج1، ص217.
4 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، ص36، خطبة 92، الكامل لابن الأثير: 37، 191.
حكومة الإمام علي (عليه السلام)
- الزيارات: 2598