لقد اهتم المستشرقون ـ بغية إيجاد التفرقة بين المسلمين ـ بهاتين السورتين، وقاموا بنشرهما في كتبهم ومجلاتهم، وقد كانت نتائج دراساتهم وتقاريرهم حولهما على الشكل التالي:
1 ـ Noldeke، نولدكه (1836 ـ 1931 م) (1): يذكر سورة النورين في كتاب تاريخ القرآن نقلا عن كتاب "دبستان مذاهب"(2).
2 ـ Ignas Goldziher، غولدتسيهر (1850 ـ 1920 م): إنه يقرأ هذا الموضوع بمزيد من التفصيل فيقول:
"وهم في الحق لا يأتون بالأجزاء الناقصة من النص، وبدلا من ذلك جاءوا بسور ناقصة بالكلية من القرآن العثماني، أخفتها الجماعة التي كلّفها عثمان بكتابته، عن سوء نية، في زعمهم، إذ هي تشتمل على تمجيد لعلىّ، وقد نشر جارسان دي تاسي Garcin de Tassy ومرزا كاظم بك، لأول مرّة، في المجلة الآسيوية (Journal Asiatique) (1842)، سورة من هذه السور المتداولة في دوائر الشيعة.
وحديثاً وجدت في مكتبة بانكيبور (بالهند) نسخة من القرآن تشتمل، فضلا عن هذه السورة، على سورة "النورين" (41 آية)، وسورة أخرى شيعية أيضاً (ذات سبع آيات)، وهي سورة الولاية، أي الموالاة لعلىّ والأئمة، كما تشتمل على تفسيرات مذهبية كثيرة في بقية السور المشتركة.
وكل هذه الزيادات الشيعية نشرها كلير تسدال W. st. Clair Tisdall باللغة الإنجليزية.
وكل ذلك يدل على استمرار افتراض الشيعة حصول نقص غير قليل في نص القرآن العثماني بالنسبة إلى المصحف الأصلي الصحيح"(3).
هذا هو ما استنتجه وتخرج به غولدتسيهر، وهو أن تلك السورة التي نشرها كل من "دي تاسي" و"كاظم بيك" كانت متداولة في الأوساط الشيعية، وهاتين السورتين غير تلك السورتين الموجودتين في تلك النسخة من القرآن التي عثر عليها في بلاد الهند، ويردف غولدتسيهر ادعاءاته هذه ـ ودونما دليل ـ معتبراً أن أولئك الذين عنوا بتدوين المصحف العثماني بأمر من عثمان بن عفان قاموا ـ وفقاً لمنطق التفكير الشيعي ـ بإلقاء هاتين السورتين من القرآن، نظراً لاشتمالهما على
فضائل علىّ عليه السلام.
والأسئلة التي لا بدّ من إثارتها أمام المستشرقين هي:
1 ـ ما هو المصدر الذي استند إليه دي تاسي وكاظم بيك فيما يخص هاتين السورتين؟
2 ـ هل أن هاتين السورتين اللتين تحدّث عنهما دي تاسي وكاظم بك غير تلك السورتين المعروفتين باسم النورين والولاية؟
3 ـ هل أن ما نقله كلير تسدال ـ الذي يدعي غولدتسيهر بأنه جمع كل الموارد التي ادعي فيها أنها حرّفت من القرآن الكريم ـ من سور ناقصة كان أزيد من هاتين السورتين؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة يمكن استحصاله عن طريق الرجوع إلى المصادر التي ارتكز عليها غولدتسيهر في هذا الموضوع.
ففي عام 1842 م قام دي تاسي ـ ولأول مرّة ـ بنشر النص العربي لسورة النورين في مجلة (4)Journal Asiatique مرفقاً إياه بترجمة فرنسية له، ويذكر دي تاسي بأن المصدر الذي استقى منه هذه السورة إنما هو أثر فارسي يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي (11 هجري) واسمه "دبستان مذاهب"، وهو من تأليف شخص إيراني زرادشتي يقطن الهند(5)، وبعد سنة واحدة من ذلك، أي عام 1843 م، وفي نفس المجلة، قام كاظم بيك بإيراد هذه السورة طبقة لنسخة تجعل آياتها 43 آية، ونشرها مقدّماً ترجمة أكثر دقّةً عنها، بيد أن كاظم بيك لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى تلك النسخة التي اعتمد عليها(6).
وبمقايسة متن "سورة النورين" في كلتا المجلتين، نرى أنه ليس هناك أي تفاوت ما بين ألفاظهما، الأمر الذي يدلل على أن كاظم بيك إنما أخذ هذه السورة عن نفس الكتاب، أي عن "دبستان مذاهب"(7)، وبالتالي عن نفس ذاك المصدر الذي كان دي تاسي قد أخذ السورة عنه.
وفي تموز من عام 1913 م كتب كلير تسدال (Clair Tisdall) في مجلة(8) The Moslem World وفي مقالة حملت عنوان "إضافات الشيعة على القرآن" (shiah addions to the koran) يقول:
"إن هناك علاوةً على سورة النورين المكونة من 42 آية، سورةً أخرى هي سورة الولاية، المؤلفة من سبع آيات، كما قام هو بنفسه بترجمة السورتين إلى اللغة الإنجليزية، وتحدث عن مصدره الذي اعتمده في هاتين السورتين فقال: "إن هاتين السورتين مأخوذتان من نسخة خطية للقرآن تعود إلى القرن السادس عشر أو السابع عشر الميلادي موجودة في بانكيبور في الهند"(9).
لكن تسدال يذعن ـ فيما يتعلق بنص هاتين السورتين ـ بأن: "الأشخاص العارفين باللغة العربية، يمكنهم اكتشاف وضع واختلاق هاتين السورتين عدا تلك الأجزاء التي وجدت فيهما، مما هو من القرآن نفسه، والتكوين الجعلي لهذه الإضافات لم يكن ليمنحها مجالا لتحظى بالتوفيق أبداً، بل لقد احتوت على أخطاء نحوية أيضاً، والنص الموجود بين يدىَّ لسورة النورين يختلف في كثير من المواضع عمّا هو الموجود في النص الذي نشره كانون سيل (Canon Sell)، وقد كان "سيل" أخذ النص الذي عنده عن مقالة المرزا كاظم بيك المنشورة في المجلة الآسيوية"(10).
وبناء عليه، فهاتان السورتان لا تعودان إلى مرحلة زمنية أسبق من القرن السادس عشر الميلادي ـ هذا على فرض أن تلك النسخة من القرآن قد دوّنت في ذلك القرن ـ والحالات التي يتحدث فيها تسدال عن وجود اختلاف بين نسخته والنسخة التي كانت عند كانون سيل، إنما هي من باب الاختلاف ما بين النسخ الخطية، والذي هو أمرٌ طبيعي.
لكن محمد صبيح، ذكر خمس عشرة (آية) من آيات سورة النورين دونما إشارة إلى المصدر الذي اعتمد عليه، مطلِقاً على ما أتى به سورة النورين(11)، مدعياً ـ ودون اتكاء على مستند ـ بأن هذه السورة كانت في مصحف الإمام علىّ عليه السلام، ولكن عثمان قام بتنحيتها جانباً؟!(12) ويكتب محمد جواد مشكور أيضاً فيقول:
"لقد تمّ العثور في الهند على نسخة مختلقة من القرآن تشتمل على سورة ثالثة غير سورتي الولاية والنورين، تحتوي على سبع آيات، وهي في زعم غلاة الشيعة سورة ولاية علىّ والأئمة"(13).
لكن مشكور يقع هنا في خطأ واشتباه، ذلك أنه لا توجد سورة باسم سورة ولاية الأئمة غير هاتين السورتين، أي سورة النورين وسورة الولاية، ومقايسة نص هاتين السورتين اللتين أوردهما الدكتور مشكور مع السورة التي ذكرها اللاهيجي(14) وكلير تسدال(15) باسم سورة الولاية، يرشد إلى أنهما سورة واحدة، ومستند الجميع ليس سوى تلك النسخة المجهولة الاسم والعنوان للقرآن الكريم التي ادعى العثور عليها في الهند.
والحاصل أن مصدر ومرجع المستشرقين، ومشكور، والآخرين حول سورتي النورين والولاية، ليس سوى كتاب "دبستان مذاهب"، ونسخة من القرآن يقال إنها مكتوبة في القرن السابع عشر الميلادي، ولم يقدّم أحد أي مصدر ومستند آخر لهما.
____________
1 ـ يعد نولدكه ـ على حد تعبير عبد الرحمن بدوي ـ شيخ المستشرقين الألمان، (المصاحف للسجستاني، المقدمة، ص 4، طبعة مصر) وكذلك يعبر عنه غولدتسيهر بـ "الرائد الكبير" (انظر مذاهب التفسير الاسلامي: ص 40) ولمزيد من التعرف على شخصية نولدكه العلمية وآثاره يمكن الرجوع إلى موسوعة المستشرقين، ص 595، وآراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره: ج 2، ص 496 وما بعدها.
2 ـ تاريخ القرآن: ص 144.
3 ـ مذاهب التفسير الإسلامي: ص 294 ـ 295.
4 ـ May, 1842, pp, 431, 36.
5 ـ نفس المصدر: ص 433.
6 ـ (Decembsr, 1843, pp, 414, 19).
7 ـ الجدير ذكره أن كاظم بيك ذكر رأي الشيخ الصدوق فيما يخص بعدم تحريف القرآن في إطار ذكره لرأي الشيعة دفاعاً عنه. نفس المصدر: 401.
8 ـ 111, July, pp, 231, 34.
9 ـ نفس المصدر: ص 228، والعنوان الوحيد الذي يشير له فيما يخص هذه النسخة من القرآن الكريم هو أن هذه النسخة عثر عليها في حزيران من عام 1912 م في بانكيبور في الهند، وقد قال مسؤول مكتبة بانكيبور بأن هذه النسخة قد تمّ شراؤها قبل عشرين سنة من شخص يدعى نواب في مدينة لكنهوي الهندية، وأن تاريخ هذه النسخة يعود في الأكثر إلى 200 أو 300 سنة سابقة، انظر المصدر نفسه: ص 228.
10 ـ نفس المصدر: ص 232.
11 ـ تاريخ القرآن: ص 28.
12 ـ نفس المصدر: ص 29.
13 ـ تاريخ شيعه وفرقهاى اسلامى تا قرن چهارم: ص 155.
14 ـ تذكرة الأئمة: ص 19 ـ 20.
15 ـ The Moslem World, 111, p. 234.
سورتي النورين والولاية في قراءات وتقارير المستشرقين:
- الزيارات: 4279