• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الباب التاسع والأربعون

في فضيلة الفقر وحسن عاقبته
الشاهد على فضيلة الفقراء على الأغنياء قول النبي صلى الله عليه وآله: يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم، ومقداره خمسمائة عام(1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام: انّ الفقراء المؤمنين يتقلّبون في رياض الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً، ثمّ قال: سأضرب لكم مثلا، إنّما مثل ذلك سفينتين مرّ بهما ناخس(2) فنظر في احداهما فلم يجد فيها شيئاً فقال: أسربوها، ونظر في الاُخرى فإذا هي موفورة فقال: احبسوها(3).
وعن أبي عبد الله عليه السلام: إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة فقير وغني، فيقول الفقير: يا ربّ على ما اُحاسب، فو عزّتك لقد علمت انّي ما وليت ولاية لأعدل فيها أو أجور، ولم تملكني مالا فاعطي حقّه أو أمنعه، ولقد كان يأتيني رزقي كفافاً.
فيقول الله: صدق عبدي ادخلوه الجنّة، ويبقى الغني حتّى يسيل منه العرق ما لو شرب منه أربعون بعيراً لأصدرها، ثمّ يدخل الجنّة فيقول له الفقير: ما أخّرك؟ فيقول: طول الحساب، ما زال يحاسبني بالشيء بعد الشيء ويغفره الله لي، ثمّ يحاسبني بآخر حتّى تغمّدني الله برحمته، فمن أنت؟ فيقول له: أنا الفقير الذي كنت واقفاً معك في الحساب، فيقول له الغني: لقد غيّرك النعيم بعدي(4) وهذا من أعظم نعم الله تعالى على الفقير، خفّة حسابه ودخوله الجنّة قبل الغني ومن سعادة الفقير وراحته انّه لا يطالب في الدنيا بخراج، ولا في الآخرة بحساب، ولا يشتغل قلبه عن الله تعالى بهموم الغني من حراسة المال، والخوف من السلطان، ومن اللصوص والحاسد، وكيف يدبره وكيف ينميه. ومقاسات عمارة الأملاك والوكلاء والأكاري، وقسمة الزروع، وتعب الأسفار، وغرق المراكب، وتمنّي الورّاث موته ليرثوه، وإذا خلا من آفة تذهبه حال حياته كان حسرة له عند الموت، وطول حسابه في الآخرة، ويرثه منه امّا من يتزوّج بامرأته أو امرأة ابنه أو زوج ابنته، لابدّ من أحد هؤلاء يرثه ويحصل هو التعب والهموم وشغله به عن العبادة، وتحظى به أعداؤه الذين لا يغنون عنه شيئاً.
ولا يزال الغني مخاطراً بنفسه وبالمال في البراري والقفار، إن كان في بحر غرق هو والمال، وإن كان في برّ أخذه منه القطّاع أخذوه وقتلوه، فهو لا يزال على خطر به وبنفسه، والفقير قد انقطع إلى الله وقنع بما يسدّ فورته، ويواري عورته.
وقال بعض العلماء: استراح الفقير من ثلاثة أشياء وبلى بها الغني، قيل: وما هي؟ قال: جور السلطان، وحسد الجيران، وتملّق الاخوان(5).
وقال بعضهم: اختار الفقراء ثلاثة أشياء: اليقين، وفراغ القلب، وخفّة الحساب، واختار الأغنياء ثلاثة أشياء: تعب النفس، وشغل القلب، وشدّة الحساب(6).
ولا شك انّ الفقر حلية الأولياء وشعار الصالحين، ففيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام: وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحباً بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجّلت عقوبته(7).
ثمّ انظر في قصص الأنبياء وخصائصهم وما كانوا فيه من ضيق العيش، فهذا موسى كليم الله الذي اصطفاه لوحيه وكلامه كان يرى خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله، وما طلب حين آوى إلى الظلّ بقوله: {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير}(8) إلاّ خبزاً يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، وروي انّه عليه السلام قال يوماً: ربّ انّي جائع، فقال تعالى: أنا أعلم بجوعك، قال: يا ربّ أطعمني، قال: إلى أن اُريد(9).
وفيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام: الفقير من ليس له مثلي كفيل، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس له مثلي مونس ويُروى حبيب(10) يا موسى ارض بكسرة من شعير تسدّ بها جوعتك، وبخرقة تواري بها عورتك، واصبر على المصائب، وإذا رأيت الدنيا مقبلة عليك فقل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون عقوبة عجّلت في الدنيا، وإذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل: مرحباً بشعار الصالحين، يا موسى لا تعجبنّ بما اُوتي فرعون وما متّع به، فإنّما هي زهرة الحياة الدنيا(11) وأمّا عيسى بن مريم روح الله وكلمته فإنّه كان يقول: خادمي يداي، ودابتي رجلاي، وفراشي الأرض، ووسادي الحجر، ودفائي في الشتاء مشارق الأرض، وسراجي بالليل القمر، وادامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام، أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على وجه الأرض أحد أغنى منّي(12) وأمّا نوح عليه السلام مع كونه شيخ المرسلين، وعمّر في الدنيا مديداً، ففي بعض الروايات انّه عاش ألفي عام وخمسمائة عام، ومضى من الدنيا ولم يبن فيها بيتاً، وكان إذا أصبح يقول لا امسي، وإذا أمسى يقول لا اصبح(13) وكذلك نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله فإنّه خرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة، ورأى رجلا من أصحابه يبني بيتاً بجصّ وآجر، فقال: الأمر أعجل من هذا(14).
وأمّا ابراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فقد كان لباسه الصوف، وأكله الشعير، وأمّا يحيى بن زكريا عليه السلام فكان لباسه الليف، وأكله ورق الشجر، وأمّا سليمان عليه السلام فقد كان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر، وإذا جنّه الليل شدّ يديه إلى عنقه، فلا يزال قائماً حتّى يصبح باكياً، وكان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده، وإنّما سأل الملك لأجل القوّة والغلبة على ملوك الكفّار ليقهرهم بذلك، وقيل: سأل الله القناعة.
وأمّا سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله فقد عرفت ما كان من طعامه ولباسه، وقيل: انّه صلى الله عليه وآله أصابه يوماً الجوع فوضع حجراً على بطنه، ثمّ قال: ألا ربّ مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا ربّ مهين لنفسه وهو لها مكرم، ألا ربّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة في الآخرة ناعمة يوم القيامة. ألا ربّ نفس كاسية ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا ربّ متخوّض متنعّم فيما أفاء الله على رسوله ما له [في الآخرة](15) من خلاق، ألا انّ عمل الجنّة جنّة بربوة، ألا انّ عمل النار كلمة سهلة بشهوة، ألا ربّ شهوة ساعة أورثت حزناً طويلا يوم القيامة(16).
وأمّا عليّ سيد الوصيّين، وتاج العارفين، وصنو رسول ربّ العالمين فحاله في الزهد والتقشّف أظهر من أن يُحكى.
قال سويد بن غفلة: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بعدما بويع بالخلافة، وهو جالس على حصير صغير ليس في البيت غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين بيدك بيت المال ولست أرى في بيتك شيئاً ممّا يحتاج إليه البيت، فقال عليه السلام: يا ابن غفلة إنّ اللبيب لا يتأثّث في دار النقلة، ولنا دار قد نقلنا إليها خير متاعنا، وإنّا عن قليل إليها صائرون(17) وكان عليه السلام إذا أراد أن يكتسي دخل السوق فيشتري الثوبين، فيخيّر قنبر أجودهما ويلبس الآخر، ثمّ يأتي النجار(18) فيمدّ له أحد كمّيه ويقول: خذه بقدومك، ويقول: هذه تخرج في مصلحة اُخرى ويبقى الكم الاُخرى بحالها ويقول: هذه تأخذ فيها من السوق للحسن والحسين(19) فلينظر العاقل بعين صافية، وفكرة سليمة، ويتحقّق انّه لو يكون في الدنيا والاكثار فيها خير لم يفت هؤلاء الأكياس الذين هم خلاصة الخلق وحجج الله على سائر الناس، بل تقربوا إلى الله بالبعد عنها، حتّى قال أمير المؤمنين عليه السلام: قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها(20).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما يعبد الله بشيء مثل الزهد في الدنيا(21).
إنّ الله تعالى يقول للفقراء يوم القيامة: لم افقركم لهوانكم عليّ ولكن لما هو خير لكم.
وقال تعالى في بعض كتبه: انّي لم اغن الغني لكرامته عليّ، ولم افقر الفقيرلهوانه علي، وإنّما ابتليت الأغنياء بالفقراء، ولولا الفقراء لم يستوجب الأغنياء الجنّة(22) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّ الله يجمع الفقراء والأغنياء في رحبة الجنّة يوم القيامة، ثمّ يبعث منادياً ينادي من بطنان العرش: يا معاشر المؤمنين أيّما رجل منكم وصله أخوه المؤمن في الله ولو بلقمة من خبز بادامها خصّه بها على مائدته، فليأخذ بيده على مهل حتّى يدخله الجنّة.
قال: فهم أعرف بهم يومئذ منهم بآبائهم واُمّهاتهم، قال: فيجيء الرجل منهم حتّى يضع يده على ذراع أخيه المكرم له الواصل له، فيقول له: يا أخي أما تعرفني، ألست الصانع بي في يوم كذا وكذا من المعروف كذا وكذا؟ فيذكره كلّ شيء صنع معه من البر والصلة والكرامة، ثمّ يأخذ بيده، فيقول: إلى أين؟ فيقول: إلى الجنّة فإنّ الله قد أذن لي بذلك، فينطلق به إلى الجنّة، فيدخله فيها برحمة الله وفضله وكرامته لعبده الفقير المؤمن.
روي أنّ فقراء المؤمنين يدخلون الجنّة قبل أغنيائهم بسبعين خريفاً، وأمّا الغني فإنّه مطغى لقوله تعالى: {كلاّ إنّ الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى}(23) وما يجمع الغني المال إلاّ لنعيم الدنيا ولذّتها وترفّهها، وقد قال الله تعالى: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون}(24) فوعدهم بالعذاب، وعيّرهم أيضاً بالتكاثر بقوله تعالى: {ألهاكم التكاثر}(25) يعني عن العبادة والزهد.
وروي عن الصادق عليه السلام انّ رجلا فقيراً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وعنده رجل غنيّ، فكفّ ثيابه وتباعد عنه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ما حملك على ما صنعت، أخشيت أن يلصق فقره بك، أو يلصق غناك به؟! فقال: يا رسول الله أما إذا قلت هذا فله نصف مالي، قال النبي صلى الله عليه وآله للفقير: أتقبل منه؟ قال: لا، قال: ولِمَ؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخله(26) اعلم انّ احياء دين الله، واعزاز كلمته، وامتثال أوامر الرسل والشرائع، ونصرة الأنبياء، وانتشار دعوتهم من لدن آدم إلى زمان نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله لم تقم إلاّ بأولي الفقر والمسكنة، أولا تسمع إلى ما قصّه الله عليك في كتابه العظيم على لسان نبيّه الكريم، وتبيّن لك انّ المتصدّي لانكار الشرائع هم الأغنياء المترفون، والأشراف المتكبّرون.
فقال تعالى مخبراً عن قوم نوح عليه السلام إذ عيّروه: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون}(27) {وما نراك اتبعك إلاّ الذين هم أراذلنا}(28) يعني بذلك الفقراء منّا.
وقالوا لشعيب عليه السلام: {إنّا لنراك فينا ضعيفاً (أي فقيراً) ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}(29).
وقال المستكبرون من قوم صالح للّذين استضعفوا: {أتعلمون انّ صالحاً مرسل من ربّه قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون}(30) وقال فرعون مزدرياً لموسى عليه السلام ومفتخراً عليه: {فلولا اُلقي عليه أسورة من ذهب}(31).
وقالوا لمحمد صلى الله عليه وآله: {لولا اُلقي عليه كنز أو تكون له جنّة يأكل منها}(32) وكفى بهذا كلّه مدحاً للفقراء الراضين، وذمّاً للأغنياء المتكبّرين.

********
1- كنز العمال 6: 468 ح16580.
2- في "ب": ناظر.
3- الكافي 2: 260 ح1; عنه البحار 72: 6 ح4; عدة الداعي: 116.
4- أمالي الصدوق: 294 ح11 مجلس 57; عنه البحار 72: 35 ح28; روضة الواعظين: 455.
5- عدة الداعي: 107.
6- عدة الداعي: 106.
7- البحار 72: 55 ضمن حديث 85; عن عدة الداعي: 117.
8- القصص: 24.
9- البحار 13: 361 ح75; عن عدة الداعي: 117.
10- في "ج": ويُروى أنّه قال.
11- البحار 13: 361 ح76; عن عدة الداعي: 118.
12- البحار 72: 55 ضمن حديث 85; عن عدة الداعي: 118.
13- البحار 70: 321 ح38; عن عدة الداعي: 118.
14- البحار 76: 155 ح37; عن عدة الداعي: 119.
15- أثبتناه من "ج".
16- البحار 70: 321 ضمن حديث 38; عن عدة الداعي: 120.
17- البحار 70: 321 ضمن حديث 38; عن عدة الداعي: 121.
18- في "ج": الخياط.
19- البحار 70: 322 ضمن حديث 38; عن عدة الداعي: 121.
20- نهج البلاغة: قصار الحكم 77; عنه البحار 73: 128 ضمن حديث 132.
21- عدة الداعي: 121.
22- الكافي 2: 265 ح20; عنه البحار 72: 26 ح22.
23- العلق: 6.
24- الأحقاف: 20.
25- التكاثر: 1.
26- البحار 72: 54 ح85; عن عدّة الداعي: 114.
27- الشعراء: 111.
28- هود: 27.
29- هود: 91.
30- الأعراف: 75-76.
31- الزخرف: 53.
32- الفرقان: 9.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page