• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الاعتراف بالعجز

6- إن العقل إذا فقد المدد الخارجي، واستفردته الغرائز، يعجز عن مقاومتها، فلا يستطيع الهيمنة على الفرد، وإذا عجز عن بناء شخصية الفرد، لا يستطيع تكوين جبهة تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها، مقابل جبهة الغرائز التي تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها.
ومهمة الأنبياء - في مجال المجتمع - تتلخص في إمداد العقل، لتكوين جبهة، تهيئ المناخ المناسب لمن يريد الانضمام إليها، حتى يجد كل فرد نفسه أمام طريقين، ومردداً بين خيارين كما يقول القرآن الكريم: (وهديناه النجدين فلا اقتحم العقبة).(10) وأما أولئك الذين وهبهم الله عقولاً وإرادات جبّارة، يستطيعون بها أن يمارسوا الإيمان عقيدة وحياةً في المناخ المضاد، فهم ليسوا من مصاف البشر العادي، وإنما هم من مصاف الأنبياء، واعتبرهم النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله إخوانه في الحديث المعروف الذي قال فيه: (آه، شوقاً إلى إخواني...).
فإذا لم يستقبل العقل مدد السماء، وفقد سلطانه لتقنين الغرائز، فإنها ستتمرد عليه تدريجاً، وتستخدمه لأغراضها، والعقل لا يكف عن إطلاق نداءاته، فإنه يستخدم رغم نداءاته وضد أهدافه، فالمجرمون المحترفون - جميعاً - يستخدمون عقولهم في التخطيط لجرائمهم - وسواء أسميناه عقلاً أو فكراً، فالنتيجة واحدة -.
وإذا تنكرت الغرائز للعقل، فإنها تسعى لتقنينه، وتأخذ في النمو بشكل تصاعدي حتى تغطي ظاهرة الحياة الفردية والاجتماعية - كأي نبات تحرر من ضوابطه، وكأي حيوان فقد ضوابطه، وكأي فرد من البشر استطاع التمرد على ضوابطه -.
وعندئذ، تبدأ الغرائز بالخروج من الأطر التي يرسمها لها العقل، وتعمل لتبرير هذا الخروج، وإسباغ الشرعية عليه، بسنّ القوانين التي تصدر لتبريرها أكثر مما تعمل لتحديدها، وما أسهل إسباغ الشرعية على نزوات الغرائز، طالما القوانين تصدر عن مجموعة من نفس البشر الذي أطلق غرائزه، فلا يبقى شيء من المعاصي إلا ويبرره القانون بشكل من الأشكال، وإذا كانت المعاصي كلها شذوذاً، فالمجتمع الذي ينخر فيه الشذوذ لا بد أن ينتهي بالانهيار.
ولنأخذ مثلاً لذلك، غريزة حب السلطة والاستعلاء، هذه غريزة كبحها العقل القرآني بإعلان غلق أبواب السماء في وجهه من يمارسها: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).(11) ومعلوم أن هذه الآية لا تلغي هذه الغريزة في المجتمع، ولكن شتان بين أن تمارس علناً، وبين أن تموه في أهداف مشروعة، حذراً من أن يكتشفها المجتمع، فتأتي النتائج عكسية.
ثم جاءت وبرزت هذه الغريزة في أساليب الاعتراف بحب الاستعلاء الثورية والانتخابية، والحزبية، وغيرها. فانطلق أصحاب هذه الغريزة لممارستها بلا قناع، وإذا كانت هذه الغريزة لا تقف عن حدّ، وإذا كان أصحابها كثيرون، وإذا كانت المجالات التي يمكن التزاحم عليها محدودة، فمن الطبيعي أن ينقلب مفهوم (تعاون البقاء) الإنساني النبيل إلى (تنازع البقاء) الوحشي الرخيص.
وبمقتضى مشروعية (تنازع البقاء) يسعى الأفراد من داخل الأسرة الواحدة، إلى تحشيد ما يمكن تحشيده من أفراد وأشياء، لممارسة (تنازع البقاء) على أي شيء يمكن التنافس عليه.
وبمقتضى مشروعية (تنازع البقاء) يبقى الحق دائماً مع الأقوى، لمجرد أنه أقوى، فالناجح في ممارسة حق (تنازع البقاء) المشروع، عظيم تظفر لمفرقه أكاليل الغار، وليس جانياً يعاب أو يلام.
وهكذا تتكون التكتلات المسلحة بالأسلحة المناسبة لكل مرحلة، ابتداءً من الأشقاء في الأسرة الواحدة، ومروراً بالمدرسة والسوق والشارع، والدوائر الانتخابية، والمجالس الرسمية، والمحافل الدولية، والدول الكبيرة، ثم تشتعل بينها الحروب المشروعة - حسب المبدأ المذكور بأشكالها المختلفة.
وإذا كانت الثروات الطبيعية والعلوم الحديثة، ومبدأ (سباق التسلح) مكنت الدول الكبار من إعداد معدات عسكرية تكفي لإبادة الحياة على وجه الأرض ملايين المرات. وإذا كان تجويع شعوب العالم لأجل التوفير على المعدات العسكرية مشروعاً حسب مبدأ (تنازع البقاء) وطبق القوانين الصادرة من المجالس - ذات الصلاحية - وإذا كان تحريك هذه المعدات لتدمير الحياة على الأرض - أيضاً - مشروعاً اتخذ بشأنه قرار الدول الكبار وفق معادلات معينة وبأسباب معينة، وإذا كانت مطامع الدول الصناعية القوية تدفعها إلى احتلال الدول الغنية بالمنتجات الأولية وفق مبدأ (تنازع البقاء) فمن الطبيعي جداً أن يأتي الوقت الذي يتحرك فيه جنون بعض قادة العالم - على إثر عصرات قوية - فتنطلق فيه جميع المعدات العسكرية للانقضاض على بعضها - اتباعاً لفكرة الضربة القاضية - فتشتعل المدن الكبار، لتتحول خلال دقائق إلى محارق لعشرات الملايين من البشر، وتنتشر في الأجواء سحب ذرية بحثاً عن بقايا البشر، لإصابتها بالعاهدات المخيفة فتنفرط الحكومات وأجهزة الأمن والشرطة، ولا يبقى إنسان قادر على الحركة إلا ويكون مذعوراً قلقاً معطل المشاعر، لا يدري أيبكي أقربائه الذين ماتوا قتلاً أو حرقاً؟ أم يواسي الآخرين الذين جرحوا وتشوهوا؟ أم يحمي نفسه من الغارات والمخاوف المتوقعة؟ أم يبحث عن القوت والسلاح والمال والمكان وسائر الأشياء التي قد تمد في حياته؟؟
هكذا يفقد كل إنسان توازنه، وتتفاعل فيه المخاوف والمطامع، عالماً بأن أجهزة الحكومات قد تعطلت فلا يحميه إلا نفسه، ولا يعاقبه إلا ندّه، فيتحرك عشوائياً يقتل وينهب ويغتصب ويدمّر، طاغياً خائفاً، فيسود القطاعات البشرية المتبقية طوفان عارم من القلق والفوضى، ويصبح كل فرد ظالماً أو مظلوماً، أو ظالماً ومظلوماً في آن واحد.
في مثل هذه الأوضاع الموحشة القلقة التي قضت على ثلثي البشر، وبقي الثلث الآخر بين الأنقاض والأشلاء والرماد يعاني الموت بالتقسيط، ينطلق صوت العدالة والسعادة فتمتصه المشاعر قبل الآذان، وتصفق له القلوب قبل الأكف.
والناس إذا أصيبوا يبحثون عن الملجأ مهما كان، فكيف إذا كانت الإصابة رهيبة كتلك والملجأ وديعاً مثل هذا؟


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page