• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

العنوان الثالث : في خصائص صفاته وأخلاقه وعباداته يوم عاشوراء

العنوان الثالث :

في خصائص صفاته وأخلاقه وعباداته يوم عاشوراء
لهذه الخصائص خصوصية ظهرت في صفاته وعباداته يوم عاشوراء بالخصوص ، وهي منشأ جميع الخصائص ، ألا وهي امتثاله لخطاب خاصّ به من الله تعالى قد امتثل بعبادة خاصّة به في يوم واحد ، وتحقّقت بالنسبة إليه ألطاف خاصّة في مقابل أجزاء تلك العبادة ، أو لنقل العبودية للربّ .
وهي عبادة ما تحقّقت من أحد قبله ، ولا تحصل لأحد بعده ، وهي عبادة جامعة لما يتصوّر من العبادات البدنية الواجبة والمندوبة ، ظواهرها وبواطنها ، روحها وصورتها ، وأتى بأكمل أفراد كلّ واحد منها .
فعَبَد الله تعالى بجميع مفردات تلك الكلمة وتراكيبها ،
وبهيئة اجتماعها في ظرف يوم واحد ، وأظهر مع ذلك فيه جميع مكارم الأخلاق والصّفات الحسنة ، متلائمها ومتضادّها ، بأكمل أفرادها ، وأضاف إلى ذلك تحمل أعظم الشدائد والابتلاء الحاصل لكلّ مبتلى ، والصّبر عليها بأكمل أنواعه ، بل الشكر عليها بأكمل وجوهه ، وحازت هذه العبادات من كلّ مزية وخصوصية موجبة للفضيلة أزكاها وأسناها ، وزادت على ذلك كلّ خصوصية للعبادة في الشدّة التي هي من خصوصيات بعض الأنبياء (عليهم السّلام) والذين باهى الله تعالى بهم ملائكته .
لذلك حصلت له من جميع ذلك خصوصية عبادة لم يكن له شريك فيها ، وبسببها اختصّ بنداء خاصّ بقوله (عزّ وجلّ) : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ، واختص برضاه عن ربّه تعالى ورضاه عنه ( رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ، واختصّ بعبودية خاصّة وجنّة خاصّة منسوبة إلى الله تعالى ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .
فلنشرع في تفصيل هذه العبادة بعون الله تعالى ، فنقول : اعلم أنّ الله (جلّ جلاله) كلّف عباده بحسب مراتبهم ودرجاتهم ومصالحهم ، فجعل لكلّ نبيّ شرعة ومنهاجاً له ولأمّته ، ولكلّ منهم خصائص بالنسبة إلى أوصيائهم ، كما جعل الله تعالى الملّة الحنيفية السّمحة السّهلة لنبيّنا محمد المصطفى (صلوات الله عليه وآله) ، ولكن جعل له خصائص كثيرة تبلغ إحدى وعشرين أو أزيد ، وجعل لأوصيائه (عليهم السّلام) بالنسبة إلى ما يتعلّق بإمامتهم ودعوتهم إلى الدين أحكاماً خاصّة مثبتة ، ( صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) ، فجعل لكلّ واحد في ذلك تكليفاً خاصّاً بيّنه لهم في صحيفة مختومة باثنتي عشرة خاتماً من ذهب لم تمسّه النار .
جاء بالصحف جبرئيل (عليه السّلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) قبل وفاته ، وقال : يا محمد ، هذه وصيتك إلى النخبة من أهل بيتك .
قال (صلّى الله عليه وآله) : (( ومَنْ النخبة ؟ )) .
قال (عليه السّلام) : علي بن أبي طالب ووُلده .
فدفعها النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى سيد الوصيين علياً (عليه السّلام) وأمره أن يفك خاتماً منها ويعمل بما فيه ، ثمّ دفعها إلى ابنه الحسن (عليه السّلام) ، ففكّ خاتماً فعمل بما فيه ، ثمّ دفعها إلى أخيه الحسين (عليه السّلام) ، ففكّ خاتماً فوجد
فيه : أن اخرج بقوم للشهادة ، لا شهادة لهم إلاّ معك ، واشرِ نفسك لله تعالى . أي بمعنى : بع نفسك لله . ثمّ دفعها إلى علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) ، ففكّ خاتماً فوجد فيه : اطرق واصمت ، والزم منزلك ، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين .
ولمّا كان من التكليف المختصّ بالحسين (عليه السّلام) ( بع نفسك ) ، والمراد به في خصوص يوم القتال ، فلا بدّ أن يجمع في ذلك اليوم بين كلّ عبادة بدنية وقلبية وفعلية وتركية ؛ واجبة ومستحبة ، بأنواعها وأقسامها ، وأصنافها وأشخاصها ، المشتركة بينه وبين غيره ، والمختصّة به (عليه السّلام) ، فاستحق المعاملة الكلية مع الله تعالى ، وأن يعطيه كلّ ما يمكن أن يعطيه المخلوق ، وقد فعل ذلك .
وحصلت له بإزاء ذلك ألطاف خاصّة جليلة وخفية ، وتفصيل هذه المعاملة ، وبيان هذه العبادة إنّما يتحقّق بأن نعنون للعبادات والأخلاق على نحو ما في كتب الفقه ، ثمّ نذكر كيفية تأديته لها ، ثمّ بعض خصوصيات جمعها وتركيبها .

كتاب العبادات البدنية الواجبة
وفيه أبواب :

أولاً : باب الطهارة الظاهرية العامة
فقد اغتسل ليلة شهادته بماء أتى به ولده علي مع علمه بأنّهم يضطرون إليه ، وهذا من خصائصه فاختص بالجمع بين أقسام الطّهارات ، ثمّ تطّهر بطهور خاصّ هو دم قلبه ، فتوضأ منه بغسل الوجه ، ثمّ اغتسل غسل ترتيب بدمائه ، فغسل بها رأسه ثمّ بدنه ، ثمّ غسل بها غُسل ارتماس تارة اُخرى .
وأمّا الباطنية الخاصّة : فقد توضأ في يوم العاشر بوضوء خاصّ ، فملأ كفه من بعض دمائه وغسل بها وجهه وخضّبه ، ثمّ تيمم صعيداً طيّباً مباركاً فمسح به وجهه ، واضعاً عليه جبهته حينما تهيّأ لتسليم ما باعه لله تعالى .

ثانياً : باب الصلاة
في الزيارة الجامعة ورد : (( وأقمتم الصّلاة )) . وفي زيارة الحسين (عليه السّلام) بالخصوص : (( وأقمت الصّلاة )) .
فله إقامة الصّلاة المختصّة به ، فقد صلّى في ذلك اليوم بأربعة أقسام من الصّلوات .
القسم الأوّل : الوداع لصّلاة الليل ، وهي التي لها استمهل القوم ليلة عاشوراء .
القسم الثاني : صلاة الظهر في
ذلك اليوم على طريقة صلاة الخوف ، بنحو خاصّ به غير صلاة عسفان وذات الرقاع وبطن النخل(1) .
القسم الثالث : روح الصّلاة من أسرار أفعالها وأقوالها وكيفيتها على ما هو مذكور في كتاب الصّلاة .
القسم الرابع : صلّى صلاة خاصّة به بتكبير خاصّ وقراءة خاصّة ، وقيام خاصّ وركوع خاصّ وسجود وتشهّد وتسليم . أحرم لها حين نزل من الفرس وقام حين وقف راجلاً ، وركع حين كان ينوء(2) ويكبو(3) ، وقنت بقوله : (( اللّهمّ متعالِ المكان ، عظيم الجبروت ، شديد المحال ، غنيّاً عن الخلائق ، عريض الكبرياء ، قادراً على ما تشاء ، قريب الرحمة ، صادق الوعد ، سابغ النّعمة ، حسن البلاء ، قريباً أذا دُعيت ، محيطاً بما خلقت ، قابل التوبة لمَنْ تاب إليك ، قادراً على ما أردت ، ومُدرِكاً ما طلبت ، شكوراً إذا شُكِرت ، وذكوراً إذا ذُكِرت .
أدعوك محتاجاً ، وأرغب إليك فقيراً ، وأفزع إليك خائفاً ، وأبكي إليك مكروباً ، واستعين بك ضعيفاً ، وأتوكّل عليك كافياً ، احكم بيننا وبين قومنا ؛ فإنّهم غرّونا وخدعونا ، وخذلونا وغدروا بنا ، وقتلونا ونحن عترة نبيّك ، وولد حبيبك (صلّى الله عليه وآله) الذي اصطفيته بالرسالة ، وائتمنته على وحيك ، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً ، برحمتك يا أرحم الراحمين )) .

ثالثاً : باب الصوم
قد وقع التكليف به مختلفاً ، وهو اثنا عشر قسماً ذكرتها في فصل مستقل ، وأعلاها صوم الحسين (عليه السّلام) ، فقد أتى بصومٍ أمسك فيه عن الطعام وشرب الماء .
وأضاف إليهما الإمساك عن جميع علائق القلوب والأبدان ؛ ولذا جعل الله تعالى لصومه إفطاراً خاصّاً ، أهداه إليه على يد نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ، وهو منتظر لوقت الإفطار كما أخبره به ولده علي الأكبر (عليه السّلام) ، وقال : هذا جدّي بيده كأس مذحورة لك .

رابعاً : باب الجنائز
يجب تجهيز الأموات وتغسيلهم وتكفينهم وتحنيطهم والصّلاة عليهم ، إلاّ الشهيد في المعركة فيجب الصّلاة عليه ودفنه بثيابه ، ويستحبّ التشييع لجنائزهم وحملها ، والتربيع في حملها وغير ذلك ، إلاّ الحسين (عليه السّلام) لم يتمكن من الواجبات ؛ ولعلّه أتى بأقل الواجب من الصّلاة حسب الإمكان .
وأمّا الدفن فروي أنّه (عليه السّلام) حفر لرضيعه بسيفه فدفنه ؛
لنكات :
الأوّل : التمكّن منه وحده .
الثاني : أن لا يُقطع رأسه .
الثالث : أن لا يبقى مطروحاً ثلاثة .
الرابع : أن لا يُرضّ بحوافر الخيول .
الخامس : عدم القدرة على النظر إليه .
ولا ننسى أنّه روي أنّ أكثر من رضيع للحسين قُتل يوم الطفّ . نعم ، قد فعل ما تمكّن منه ، من حمل الأجساد وجمعها ، ووضع بعضها على بعض ، فإذا وجد مَنْ يحمل الجنازة معه فعل ، ومع عدم الوجدان كان (عليه السّلام) يحمل بنفسه ويشيع ويربّع .

خامساً : باب الزكاة والصدقات
فقد أدى زكاة البدن ، وزكاة المال ، لا العشر وربع العشر ، بل جميعه حتّى الثوب العتيق الذي لا قيمة له ، ودفع ليلة عاشوراء أثواباً قيمتها ألف دينار لفكّ الرقاب(4) .

سادساً : باب الحجّ
قد امتاز حجّه من عباداته بخصوصيات ، سنذكرها في عنوان ما يتعلّق منه ببيت الله إن شاء الله تعالى .

سابعاً : باب الجهاد
في زيارة الجامعة : (( وجاهدتم في الله حقّ جهاده )) . وفي زيارة الحسين (عليه السّلام) بالخصوص : (( أشهد أنّك قد جاهدت في الله حقّ جهاده )) . نعم ، له خصوصية (عليه السّلام) في الجهاد ؛ فاُمر بجهاد خاصّ في أحكامه لم يُؤمر به أحد قبله .
وذلك من وجوه :
الأوّل : أنّ من شرائط الجهاد في أوّل الأمر أن يكون الواحد بعشرة لا أكثر ، فيلزم ثبات كلّ واحد في مقابل عشرة من الكفار ، ثمّ خفّف الله تعالى عنهم وعلم أنّ فيهم ضعفاً فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين ، فلم يوجب الجهاد إذا كان عدد العدو عشرة أضعاف المجاهدين ، ولكن قد كتب عليه القتال وحده في مقابل ثلاثين ألفاً أو أكثر .
الثاني : أنّه لا جهاد على الصّبيان ولا على الهرم ، وهو الشيخ الكبير ، وقد شرع الجهاد في واقعته على الصّبيان ، مثل القاسم (عليه السّلام) وابن العجوز (سلام الله عليهما) ، بل على مثل عبد الله بن الحسن (عليه السّلام) ، وعلى الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر (سلام الله عليه) .
الثالث : أن لا يظنّ الهلاك ، ولكنّه (عليه السّلام) قد علم بأنّه يُقتل ، فقال لأصحابه : (( أشهد أنّكم تقتلون جميعاً ، ولا ينجو
أحد منكم إلاّ ولدي علي )) .
ثمّ إنّ أعداءه خالفوا في سلوكهم معه حتّى الأحكام التي جعلها الله تعالى للقتال مع الكفّار وهي كثيرة .
منها : عدم القتال في الشهر الحرام ، ولكنّهم قاتلوه فيه .
ومنها : أن لا يقتل صبيّ ولا امرأة من الكفّار ، ولكنّهم قتلوا منه صبياناً بل رُضّعاً ؛ فرضيعاً حين أراد تقبيله ، ورضيعاً حين أراد منهم أن يسقوه .
ومنها : أن لا يحرق زرعهم ، وقد احرقوا بعض خيامه أثناء حياته ، وأرادوا حرقها مع مَنْ فيها فخاب كيدهم ، ولكنّهم أحرقوا بعضها الآخر بعد قتله .
ومنها : أن لا يهجموا دفعة ؛ إذ الشّرط الوحدة في المبارزة ، ولو مع الكفّار .
ومنها : أن لا يبدؤوا في الهجوم قبل الظهر ، بل العصر ؛ حتّى لا تطول المقاتلة ويحول الليل بينهم ؛ لئلاّ يُستأصلوا .
ومنها : أن لا يُنقل رأس من المعركة(5) ، وقيل : إنّه يكره نقل رؤوس الكفّار إلاّ مع نكاية بهم ، فأصل قطع رأس الكافر جائز ، ونقله في أرض المعركة جائز ، ولكن لا يجوز أن يُنقل من الميدان ومحلّ الحرب إلى مكان آخر .
ومنها : أن لا يُسلب كبير الكفّار إلاّ إذا قُتل ، حتّى إنّ علياً (عليه السّلام) لمّا قتل عمراً ، وهو الكفر كلّه ، لم يسلب منه حتّى درعه الذي لم يكن له نظير في ذلك الزمان على ما قيل ، ولم يكن من لباسه ، وقد سُئل (عليه السّلام) عن ذلك فقال : (( إنّه كبير قوم ، ولا أُحبّ هتك حرمته )) .
وذلك حينما قال المصطفى (صلّى الله عليه وآله) فيه : (( برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه )) ؛ وبذلك فرحت أُخته لمّا رأت أخاها غير مسلوب ، وعلمت أنّ قاتله علي (عليه السّلام) ، فكان فرحها لشيئين :
أحدهما : أنّ قاتله كفء كريم ، وشخص جليل ؛ لذا قالت :
لو أنّ قاتل عمر غير قاتله     لكنت أبكي عليه آخر الأبد
وثانيها : أنّه (عليه السّلام) قد احترمه بعدم سلب درعه ؛ لذا قالت : لا رقأت دمعتي إن أهرقتها . تعني أنّ سروري باحترام قاتلك لك قد أنساني مصيبة قتلك فلا أبكيك ، بل يُقال : إنّها هلهلت فرحاً ، وقالت : يا أخي ، عشت طويلاً جليلاً مكرماً ، وقُتلت بيد جليل محترماً . ثمّ أنشدت :
لكنّ قاتله مَنْ لا يُعاب له     وكان يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ(*)
فما أدري لو كان قاتل أخيها ابن راعية المعزى ، أبقع أبرص من أرذل الناس ، فما كانت تصنع ؟!
ومنها : أن لا يُمّثل بقتيل من الكفّار ، حتّى إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) نهى عن المُثلة بأشقى الاشقياء من الأوّلين والآخرين ، وهو ابن ملجم ، فقال (عليه السّلام) : (( إذا متُ فلا تمثّلوا به بعدي )) .
وهذا الحكم ثابت عند الكفّار ، وعبدة الأصنام أيضاً في الجاهلية ، حتّى بالنسبة إلى المسلمين الذين قُتلوا فإنّ أبا سفيان لمّا وقف يوم اُحد على الشهداء بعد فرار المسلمين في الأطراف ، ورأى جسد الحمزة ، جاء إليه ووضع الرمح على فمه وضعاً وشمت بقتله ، وقال : ذُق يا شاق يا عاق .
لكن لمّا رأى المثلة في أصابعه وبطنه وإخراج كبده ، صاح بأعلى صوته : يا أتباع محمد ، إنّ قتلانا في قتلاكم مُثلة . والله ما أمرت بهذا ، ولا رضيت به .
ولكن قد أمر بأعظم المُثلة دعيُ أبي سفيان ، فكتب إلى ابن سعد : إذا قتلت حسيناً اركب الخيل ظهره وصدره ، ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً ، لكن على قول قد قلته : لو قتلته لفعلت هذا به .
ومنها : أن لا يُمرّ بنساء الكفّار إذا أُسرن على رجالهن القتلى ؛ ولذا عاتب المصطفى (صلّى الله عليه وآله) بلالاً حين مرّ بصفية أسيرة على قتلى اليهود حتّى ارتجف وارتعدت فرائصها ، ولكن عظمة المصيبة بالنسبة إلى سبايا آل محمد (صلّى الله عليه وآله) ليست في مجرّد المرور بهنّ على قتلاهنّ مضرجين بالدماء ، بل في اصطحابهنّ لقتلاهنّ أياماً كثيرة تزيد على الشهر ، وكون رؤوس القتلى بمنظرهنّ .
ومنها : أنّ النساء من الكفّار إذا اُسرنَ واسترققنَ ، وكنّ من بنات السلاطين فلا يُعرضنَ للبيع في الأسواق ، ولا يوقفنَ في المجالس ، ولا تُكشف وجوههنَ كسائر نساء الكفّار ، ولكن روي عن الباقر (عليه السّلام) أنّه جيء بسبايانا إلى الشام مكشّفات
الوجوه ، فقال أهل الشام : ما رأينا سبايا أحسن وجوهاً من هذه السبايا(*) .
ومع ذلك فقول الشامي ليزيد : هب لي هذه الجارية ، يقرع الكبد أكثر من العرض للبيع .

ثامناً : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
له (عليه السّلام) من ذلك قسم لم يُكلّف به غيره ، حتّى إنّه تبسّم في وجه قاتله ووعظه لمّا أراد قتله ، ووعظ رأسه الشّريف الراهب ودعاه إلى الحقّ فأسلم على يديه .

كتاب العبادات المستحبة

أولاً : باب سقي الماء
والظاهر أنّه مستحبّ حتّى للكفّار في حال العطش والبهائم ، وواجب في بعض الأوقات ، وأجره أوّل أجر يُعطى يوم القيامة(6) . وقد تحقّقت منه (عليه السّلام) أنواع السقي كلّها حتّى السقي للمخالفين له ، والسقي لدوابهم بنفسه النفيسة ، وسقي ذي الجناح ، فقال : (( اشرب وأنا أشرب )) . وحصلت منه أنواع الاستسقاء كلّها حتّى بحفر البئر بيده الشّريفة ، وبالسؤال منهم بلسانه وبرسوله مقللاً لكميته حتّى بلغ السؤال لقطرة أيضاً .

ثانياً : باب الإطعام
( فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ) . وكفى في فضله أنّ الخلاص من العقبة قد حُمل عليه في الآية الشّريفة ، والحسين (عليه السّلام) لم يتمكّن من هذه العبادة بالخصوص ، مع إنّ يوم عاشوراء علاوة أنّه كان يوماً ذا عطش فقد كان يوماً ذا مسغبة أيضاً .
إنّ الطعام كان مفقوداً عندهم في ذلك اليوم ؛ ولذا قال السجّاد (عليه السّلام) : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً ، قُتل ابن رسول الله عطشانَ )) . لكن من جهة شدّة العطش لم يتحقّق ذكر الاستطعام ؛ لأنّه مذلّة عظيمة لا تتحمّلها النفوس الأبية ، بل وتستنكف الإطعام وإن حصل بدون استطعام في هذه الحالة .
ولذا لمّا أطعم أهل الكوفة الأطفال التمر والجوز صاحت بهم أمّ كلثوم (عليها السّلام) : يا أهل الكوفة ، إنّ الصدقة علينا حرام . وأخذت هي وزينب ما في أفواه الأطفال ورمته إليهم ؛
فإنّ الطعام في هذه الحالة صدقة فيها إهانة وذلّة ؛ فيحرم عليهم وإن لم يكن زكاة .

ثالثاً : باب ملاطفة الآباء أولادهم
فإنّه مستحبّ ، ولتفريح البنات خصوصية في الفضيلة ، وقد تحقّق ذلك منه بأحسن وجوهه ، وذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة (عليها السّلام) ، بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها فما ازدادت إلاّ غصّة وحزناً .

رابعاً : باب ردّ العادية وإغاثة الملهوف
له من هذين المستحبّين ما لم يتحقّق لغيره منذ صارا من المستحبات ؛ فقد ردّ العادية أحسن ردّ لمّا صرخت النساء حين الإحاطة بهنّ ، فقال لهم : اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي .
وقد أغاث اثنين وسبعين لهيفاً من أصحابه (رضوان الله عليهم) حين كانوا ينادونه إذا صرعوا ليحضر عندهم ، فأغاثهم كلّهم ، وأغاث سبعة وعشرين لهيفاً من أهل بيته (عليهم السّلام) . نعم ، عزّ عليه ، ويعزّ ذلك علينا أنّ بعض إغاثاته صارت سبباً لشدّة المصيبة على مَنْ أغاثه ، كما اتفق في إغاثته لابن أخيه على ما سيجيء إن شاء الله ؛ ولذا قال (عليه السّلام) : (( عزّ والله على عمّك أن يجيبك فلا ينفعك ... )) .

خامساً : باب إدخال السرور على المؤمن ، وزيارته
وهما من أفضل الأعمال كما في الروايات ، وقد سعى (عليه السّلام) في إدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات في ذلك اليوم ؛ تسليات وملاطفات ، وأمر بالصبر ووعظ ، لكن حيث إنّ الميدان أرض كرب وبلاء بذاته ، وإنّ يوم عاشوراء يوم أسف وحزن بذاته لم يمكن أن يحصل سرور في قلوبهم . وأمّا الزيارة فقد حصلت منه بعناوين مختلفة .

سادساً : باب عيادة المريض
التي ورد فيها : (( إنّ عيادة المؤمن بمنزلة عيادة الله جلّ جلاله )) . وقد ظهر منه (عليه السّلام) عيادة للمرضى والمجروحين حين دعوه إليهم ليعودهم ، فلم يكتفِ بمحض المجيء والجلوس عندهم ، بل كان يخصّ بعضهم بملاطفات خاصّة ، وخصوصاً الغرباء منهم ، كالعبد الأسود ، والغلام التركي
الذي جاء إليه ووجده قتيلاً ولكنّه (عليه السّلام) أراد عيادة واحد منهم فلم يتحقّق ذلك وهو ابنه ؛ فإنّه لأدبه لم يدعه ، لكنّه لمّا سمع سلامه جاء إليه عالماً بأنّه لا يدركه حيّاً ، فصاح : (( يا بُني ، قتلوك ! )) .
نعم ، تحقّقت منه عيادة لولده السجّاد (عليه السّلام) وسؤال عن حاله حين أراد المبارزة ، لكنّها كانت آخر عيادة لموت العائد الصحيح قبل المريض المعاد ، وتفصيلها في عنوان الشهادة .

سابعاً : باب تلاوة الذكر والدعاء
أمّا التلاوة : فقد كان يتلو كتاب الله تعالى آناء الليل وأطراف النّهار ، ومع ذلك فقد استمهل الأعداء ليلة عاشوراء لأمور [ كان ] أحدها التلاوة ، فقد اهتدى بسماع تلاوته ومناجاته ثلاثون رجلاً في تلك الليلة ، وعبروا إليه من عسكر ابن سعد ، واستشهدوا بين يديه ، وتلا القران الكريم في يوم عاشوراء في مقامات خاصّة : أحداها حين وقف لولده قبالة القوم ، وقد دامت تلاوته إلى حين رفع رأسه على الرمح ، فسُمعت منه سورة الكهف .
وأمّا الذكر : فإنّ جميع حالاته وأفعاله وأقواله ، وحركاته وسكناته من عصر تاسوعاء إلى عصر عاشوراء كانت ذكراً لله تعالى ، وتذكّراً للميثاق ، وتعاهداً له حتّى أدّى أمانته ، ولم ينشغل بشيء من اللوازم البشرية والجسدية حتّى أكل الطعام ، هذا مع إنّه كان رطب اللسان دائماً بالذكر حتّى حين يبس لسانه .
وأمّا الدعاء : فقد اشتغل به من أول الليل ، وهو أحد الأمور التي استمهل الأعداء لأجلها ليلة عاشوراء ، فاشتغل به في تلك الليلة إلى الصّباح .
ودعا أوّل الصبح بقوله : (( اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ، ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة . كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك وشكوته أليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سوال ، ففرّجته )) . ثمّ كان آخر دعاء دعا به وهو طريح : (( اللّهمّ متعالي المكان ، عظيم الجبروت ... )) . والذي مرّ ذكره آنفاً .

كتاب العبادات القلبية والصّفات الحميدة
اعلم أنّه (عليه السّلام) قد
أبرز الأعلى من جميع مكارم الأخلاق في ذلك اليوم ، ولنذكر أوّلاً الأخلاق والصّفات ، فقد ورد في الرواية : إنّ الله تعالى قد خصّ بها رسله وهي اثنتي عشرة صفة كما في بعض الروايات :
منها : اليقين
وقد حصل له أعلاه ؛ فإنّ حقيقة اليقين أن تصرف النفس عن الدنيا ، وتتجافى عنها ، وقد حصل له يوم خرج من المدينة ، ولمّا نزل كربلاء كتب إلى أخيه وسائر بني هاشم : (( من الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم . أمّا بعد ، فكأنّ الدنيا لم تكن ، والآخرة لم تزل ... )) . فإنّه جعل الدنيا كأن لم تكن ، وهذا عبارة عن تجافي القلب عنها بالكلّية .
ومنها : الرضا
وقد كان (عليه السّلام) في أعلى درجات الرضا ، فلمّا أراد الخروج من مكة : (( كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً ، وأجربة سبغاً . لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت (صلوات الله تعالى عليكم) نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين )) . فإنّه رضي بأعظم مصائبه ، وهو تقطّع الأوصال ؛ إمّا بالجراح ، أو بالرض ... إلخ .
ومنها : السّخاء
وقد سخا (عليه السّلام) لا بجميع ماله فحسب ، بل وبما يتعلّق به .
ومنها : الشّجاعة
وقد ورث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) شجاعته كما في الرواية ، فظهرت منه (عليه السّلام) في ذلك اليوم شجاعة يُضرب بها المثل ، لا أقول : إنّه (عليه السّلام) أشجع منه أبيه وجدّه المصطفى (صلوات الله تعالى عليهم) ، بل أقول : إنّه لم يتّفق لأبيه ولا لجدّه المصطفى ولا لغيره من الشّجعان المشهورين مثل ذلك . أي لم يُقدّر للنبي المصطفى ولا لأخيه وابن عمّه المرتضى علي (صلوات الله تعالى عليهما) لم يُقدّر أن يكون لهما يوم كيوم الإمام الحسين (عليه السّلام) .
وكما قال عبد الله بن عمّار : ما رأيت مكثوراً(7) قطّ قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه ! ولقد كان يحمل عليهم وقد تكمّلوا نيفاً وثلاثين ألفاً ، فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر . فأصل الحملة على ثلاثين ألفاً ناشئ عن قوّة قلب ، ودالّ على كمال الشّجاعة .
ومنها : الوقار والطمأنينة
وقد ظهر منه فرد كامل توحّد فيه ؛ فإنّه كان كلّما اشتدّ عليه الأمر يوم عاشوراء يكثر وقاره ، ويزيد اطمئنانه ،
ويشرق لونه .
ومنها : رقّة القلب
فكان يرقّ قلبه على كلّ مَنْ كان معه ؛ لشدّة ابتلائهم ، ويسعى في رفع المصاعب عنهم ؛ ولشدّة رقّة قلبه وروحه الطاهرة عظمت مصائبه . فمِن رقّة قلبه : أنّه بمجرد رؤية ابن أخيه مريداً للمبارزة ، وهو يتيم حائر عطشان مكروب ، بكى حتّى غُشي عليه ، فكيف تكون حاله إذا رأى حاله مُرضّضاً قد وطأته الخيول بسنابكها حتّى مات من ذلك .
ومنها : الحلم
ويكفي فيه أنّه مع جميع هذه الحالات تحمّل الضّرب والجراحات ، وما دعا عليهم إلاّ إذا جُرح باللسان جرحاً لم يتحمّله ، حتّى إنّ بعض مَنْ ضربه بالسيف ، وسبّه كـ ( مالك بن بسر ) لم يدعُ عليه حين ضربه ، بل دعا عليه حين سبّه . وهذا لا ينافي الحلم ؛ فإنّ تحمّل الاستخفاف إذلال للنفس لا حلم ؛ ولذا قال (عليه السّلام) : (( الموت خير من ركوب العارِ )) .
ومنها : حسن الخُلق
وقد ظهر منه (عليه السّلام) ، مع ما كان عليه مدّة عمره في يوم عاشوراء وليلتها ، كيفيات عجيبة تظهر بملاحظة سلوكه مع كلّ واحد من الأصحاب والأهل ، والعيال والخدم والعبيد بحيث يعلم تفردّه مَنْ لاحظ جزئيات حالاته في ذلك الوقت الموجب لتشتت الفكر .
ومنها : المروءة
وقد ظهر منه (عليه السّلام) من هذه الصّفة معهم من سقي الماء ، وعدم الرضا بنصرة الجنّ ، ما يقضي منه العجب ، وأعجب من ذلك أنّه أراد أحد أصحابه أن يرمي شمراً بسهم قبل التحام القتال حين جاء يكلّمهم ، فقال (عليه السّلام) : (( لا ترمه ؛ فإنّي لا أبدأ بالقتال )) .
ومنها : الغيرة بالنسبة إلى النفس ، وبالنسبة إلى الأهل والعيال
أمّا بالنسبة إلى النفس فأقواله في ذلك ؛ شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة ، وأفعاله الدالّة على ذلك كثيرة . لكن قد أقرح القلب واحد منها وهو أنّه (عليه السّلام) لمّا ضعف عن الركوب لضربة صالح بن وهب نزل ، أو سقط عن فرسه
على خدّه الأيمن ، وقد قيل بطعنه على خاصرته طعنة منكرة ، فلم تدعه الغيرة على العيال وتجنّب الشماتة أن يبقى ساقطاً ؛ لذا قام (صلوات الله عليه) ، وبعد ذلك أصابته صدمات أضعفته عن الوقوف ، فجلس (صلوات الله تعالى عليه) وتحاماه الناس حين جلوسه وعليه جبة خز ، ثمّ أصابته صدمات أضعفته عن الجلوس ، فجعل يقوم مرّة ويسقط أُخرى ، كلّ ذلك لئلاّ يروه مطروحاً فيشمتوا به .
وأمّا بالنسبة إلى العيال فقد بذل جهده في ذلك من حفر الخندق وإضرام النار فيه ، وقوله : (( اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي )) . حتّى وصل الأمر إلى أنّه صبّ الماء الذي في كفه وقد أدناه إلى فمه ، وهو مقطّع الكبد والفؤاد من الظمأ والإعياء لمّا سمع قول القائل : إنّه قد هُتكت خيمة حرمك .
ومنها : القناعة
فقد قنع (عليه السّلام) من الدنيا لإتمام الحجّة عليهم ، بأن يذهب إلى ثغر من الثغور ، ثمّ ازدادت قناعته فقنع من جميع الدنيا وأموالها بثوب عتيق مخرّق لا يُرغب فيه ولا قيمة له أبداً .
ومنها : الصبر
وهو مناط أمام الأئمّة (عليهم السّلام) ، وسبب جزائهم لقوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) ، ( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) .
وقد روي في مهيج الأحزان بسند معتبر عن الصّادق (عليه السّلام) ما مضونه : إنّه ممّا أوحى الله تعالى إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ليلة المعراج أنّ الله تعالى يختبرك بثلاث لينظر كيف صبرك ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : اُسلّم أمرك ، ولا قوّة لي على الصبر إلاّ بك .
فأوحى أنّه لا بدّ أن تؤثر فقراء أُمّتك على نفسك . فقال (صلّى الله عليه وآله) : اُسلّم ذلك وأصبر . ولا بدّ أن تتحمّل الأذى والتكذيب لما يصيب أهل بيتك ؛ فأمّا أخوك فيُغصب حقّه ويُظلم ويُقهر ؛ وأمّا ابنتك فتُظلم وتُحرم ، ويُؤخذ حقّها غصباً الذي تجعله لها ، وتُضرب وهي حامل ، ويُدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن ؛ وأمّا ولداك فيُقتل أحدهما غدراً ويُسلب ويُطعن ، والآخر تدعوه اُمّتك ثمّ يقتلوه صبراً ، ويقتلون ولده ومَنْ معه من أهل بيته ، ثمّ يسبون حرمه .
فقال (صلّى الله عليه وآله) : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اُسلّم أمري إلى الله تعالى وأسأله الصبر .
أقول : ولقد صبر (صلوات الله عليه وآله) في جميع ذلك عن كلّ شيء
إلاّ عن الحسين فلم يصبر عن البكاء عليه ؛ فإنّ البكاء لا يُنافي الصّبر ، بل هو لازم الشّفقة ، ورقّة القلب . ولم يُسمع أنّه ذكر يوماً مصيبة نفسه ، أو أحد أهل بيته وبكى ، لكنّه كان كلّما ذكر الحسين (عليه السّلام) أو رآه غلبه البكاء . وكان يقول لعلي (عليه السّلام) : (( أمسكه )) . فيمسكه ، فيقبّل نحره ، فيقول (عليه السّلام) له : (( لِمَ تبكي ؟ )) .
فيقول (صلّى الله عليه وآله) : (( أُقبّل موضع السّيوف منك وأبكي )) .
وكان إذا رآه فرحاً يبكي ، وإذا رآه حزيناً يبكي ، وكذلك علياً وفاطمة والحسن (عليهم السّلام) كانوا يبكون عليه لأجل ذلك ، وقد أوصى (عليه السّلام) أهل بيته بالصّبر حين الوداع ، ووعظهم ونهاهن عن خمش الوجوه ، أي خدشها ولطمها وضربها ، وشقّ الجيوب والدعاء بالويل ، ولكن قال (عليه السّلام) : (( لا أمنعكم من البكاء )) .
نعم ، قد منع ابنته عن البكاء حال حياته ؛ لئلاّ يحرق قلبه ، وقال :
لا تُحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً     مادام منّي الروحُ في جثماني
فإذا قُتلت فأنت أولى بالذي     تأتينه يا خيرة النسوانِ

نعم ، إنّه منعهنّ من الجزع عليه في حينها ؛ كي لا يشمت بهم الأعداء ، ولكن بعدها ورد أنّ زينب (سلام الله عليها) قد ضربت بوجهها المحمل فسال الدم المبارك منها جزعاً على الحسين (صلوات الله عليه) .
نعم ، إنّ الجزع حرام ، ولكن على مصاب أهل البيت (عليهم السّلام) وعلى الحسين (عليه السّلام) فليس بحرام ما دام لا يتلف النفس ، أو به إيذاء شديد . ثمّ أي إيذاء يأتي من اللطم أو الجزع عليهم ؟ بل هو الشّفاء بعينه كما شوهد على مرّ العصور .
وأمّا صبره (عليه السّلام) ، فقد ورد أنّه عجِبت من صبره ملائكة السماوات ، فتدبّر في أحواله وتصوّرها حين كان مُلقى على الثرى في الرمضاء ، جريحاً بسهام لا تُعدّ ولا تُحصى ؛ مفطور الهامة ، مكسور الجبهة ، مرضوض الصدر بسنابك الخيول ، مثقوب الفؤاد بذي ثلاث شعب ؛ فسهم في نحره ، وسهم في حنكه ، وسهم في حلقه ، واللسان مجروح من اللوك ، والكبد محترق ، والشّفاه يابسة من الظمأ ، والقلب الطاهر محروق من ملاحظة الشّهداء في أطرافه ، ومكسور من ملاحظة العيال والنساء في الطرف الآخر ، والكفّ مقطوعة من ضربة زرعة بن شريك ، والرمح في الخاصرة ، وهو مخضّب اللحية والرأس ، يسمع صوت الاستغاثات من عياله ، والشماتات ،
بل الشتم والاستخفاف من أعدائه ، ويرى بعينه إذا فتحها القتلى الموضوع بعضهم على بعض ، ومع ذلك كلّه لم يتأوه في ذلك الوقت ، ولم تقطر من عينه قطرة دمع ، وإنّما قال (سلام الله عليه) : (( صبراً على قضائك يا ربّ ، لا معبود سواك يا غياث المستغيثين … إلخ )) . وفي الزيارة : (( ولقد عجبت من صبرك ملائكة السماوات )) .
وروي عن إمامنا المظلوم السجّاد (عليه السّلام) أنّه قال : ( كلّما كان يشتدّ الأمر كان يشرق لونه ، وتطمئن جوارحه ، فقال بعضهم : انظروا كيف لا يبالي بالموت ! )(8) . نعم ، قد بكى في كربلاء في مواضع ستة ، ستأتي قريباً .
والوجه في بكائه أحد أمور :
الأوّل : أنّ أصل البكاء على مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) من الطاعات .
والثاني : أنّ بكائه (عليه السّلام) على ما كان يراه من اضمحلال الدين وخموده .
والثالث : وهو الأقوى ، إنّ الطبائع البشرية موجودة فيهم فيعرضهم الجوع والعطش عند أسبابه ، وتحترق قلوبهم لِما يرد عليهم ، كما قال النبي (صلّى الله عليه وآله) عند موت ولده : (( يحترق القلب ، وتدمع العين ، ولا نقول ما يُغضب الربّ )) .
فكذلك كان هو (عليه السّلام) فليت شعري ، أفكان يمكنه حبس الدموع وهو فريد وحيد بعد كثرة الأصحاب والإخوان والأولاد ، ومضطهد مصاب ، وقد ضاقت عليه الأرض برحبها ، ومحصور بين أهل الدنيا وعبيدها في خيام هو وعياله في الرمضاء وعناء السّفر ، عطاشى جميعهم وليس فيهم إلاّ أطفال ونساء ، وعليل يغمى عليه بين الفينة والأُخرى ، مظلوم أمام معصوم ، ورأى أهله صرعى وعياله بهذه الحالة من المصائب ، وقد صرعهم العطش بين ميّت ومحتضر ؟
ويريد أن يتركهم ويرحل عنهم ، ويقول لهم : تهيّأوا للأسر ، ويأمرهم بالصبر ، ويجدّ في إسكاتهم عن البكاء والصّراخ في حين الواقعة لئلاّ يشمت بهم الأعداء .
والمواضع السّتة التي بكى بها الإمام الحسين الشهيد (عليه السّلام) :
الأوّل : حين أراد أن يخرج فجاءت ابنته الصغيرة صائحة ، حاسرة مع شدّة حبّه لها وتعلّقت بثوبه قائلة : مهلاً ! مهلاً ! توقف حتّى أتزوّد من النظر إليك ، فهذا وداع لا تلاقٍ بعده . آه يا حسين ! ثمّ قبلت يديه ورجليه ، فجلس وأجلسها في حجره ، وبكى بكاءً شديداً ومسح دموعه بكُمّه وجعل يقول (عليه السّلام) :
سيطول بعدي يا سكينةُ فاعلمي     منك البكاءُ إذا الحمام دهاني
فهل يتصوّر قلب لا يغلب عليه في مثل هذه الحالة ؟ فهذا أحد مواضع بكائه .
الثاني : حين وقف على جسد أخيه العباس (عليه السّلام) فرآه صريعاً مع قربة مخرّقة ، وكلّ من يديه المباركتين مطروحة في طرف ؛ فحينئذ بكى بكاءً شديداً ، وقال (عليه السّلام) : (( الآن انكسر ظهري ، وقلّت حيلتي )) .
الثالث : لمّا أراد القاسم (عليه السّلام) أن يبرز إلى الحرب اعتنقه وبكى حتّى غُشي عليه (سلام الله عليه) .
الرابع : لمّا وقف على جسده ورآه رضيضاً بحوافر الخيل .
الخامس : حين برز ولده علي الأكبر (عليه السّلام) ، أرخى عينيه ، وأخذ شيبته بيده ، ورفع رأسه المبارك ودعا ربّه تعالى .
السادس : حين كان يُسلّي أخته زينب الكبرى (عليها السّلام) عن البكاء والجزع غلب عليه البكاء ، وقطرت من عينه قطرات ، ثمّ حبس نفسه عن البكاء .
فإذا تأمّلت هذه الحالات وجدت أنّه يستحيل لصاحب القلب السليم الرؤوف الرحيم أن لا يبكي عندها ، ووجدت أنّ من الخصوصيات الصادرة منه في هذه الحال حكمة خاصّة .
فحالته عند وداع ابنته الصغيرة ، وحالة الأخ المواسي التي قُطعت يداه لقربة ماء ، تقتضي البكاء حتّى يُغشى عليه ، وهكذا باقي الكيفيات الخاصّة .
طبعاً هنا ما أحصره المؤلّف من بكاء الإمام في ستة مواضع ليس بالضّرورة أنّها هي تلك فقط المواضع السّتة ، بل قد يعني بها أبرز مواطن بكائه ، وإلاّ فإنّ البلاء والمصاب الذي ألمّ بالإمام في كربلاء كان شديداً على قلب إمامنا ، بل على جميع أهل بيته ومَنْ معه ، بل على أولياء الله تعالى من الأولين والآخرين ، حيث دون تلك المواضع السّتة التي ذكرها المؤلّف هناك مصاب الرضيع القتيل على صدر أبيه الحسين (عليه السّلام) ومصاب الرضيع الآخر .
ومصاب أصحابه الذين لم يُعلم على مرّ التاريخ أصحاباً كأصحابه ، يستأنسون بالموت استيناس الطفل لثدي أُمّه ، وأيضاً مصاب الطفلة المظلومة حميدة حين مسح على رأسها ، وأيضاً مصاب بناته وحال نسائه وما هنّ مستقبلات له من السّبي والضرب على متونهنّ والإذلال بحيث سيروهنّ بخيّالة قليلة وهزال ، وحرق الخيام ، وحاله مع أهل بيته وأطفال حين توديعهم .
وأيضاً مصاب ابنه العليل المهموم لأبيه (عليهما السّلام) ، وأيضاً مصاب الأُمّة والتي منها أعدائه الذين فاق عددهم على الثلاثون ألفاً والسبعون ألفاً ، بل لم يُعلم عددهم لكثرته في كتب الحديث ، مصابه بهم كيف عميت بصائر كلّ تلك الجموع من البشر ، وما هو إلاّ رحمة منه على أُمّة جدّه (صلّى الله عليه وآله) ، وما هو إلاّ لطيب نفسه وطهارته ، وإنّه من أهل بيت طُهّروا تطهيراً .

خاتمة
اعلم أنّ العنوان السابق خصائص صفاته في طول حياته ، وهذا العنوان خصائص صفاته يوم عاشوراء ، وهذه الخاتمة لخصائص خصائص من صفاته البارزة يوم عاشوراء ، وحاصلها صفتان عجيبتان :

الصفة الأولى : إنّه جُمعت في صفاته الأضداد ؛ ولهذا عزّت له الأنداد
ولنعدّ الصّفات بذكر كلّ صفة خاصّة وضدّها مجتمعتين ، فنقول : كان (عليه السّلام) إذا زاد اضطراباً اطمأنّ قلبه ، وهدأت جوارحه ، فهو المضطرب الوقور ، وكان (عليه السّلام) قد بكى في مواضع كثيرة قد ذكرناها ، ولكن ازداد بذلك صبره الذي عجبت منه الملائكة فهو الباكي الصّبور ، وقد كان (عليه السّلام) مكثوراً أحاط به الأعداء من جميع الجهات ولكن لم يضعف قلبه من ذلك ، فهو رابط الجأش مكثور ،
وقد كان (عليه السّلام) موتوراً قُتل أصحابه وأهله وولده وإخوانه وهو مع ذلك ثائر بدمه ، فكأنّه أخذ الثأر من قتلته ، فهو الثائر الموتور ، وقد كان فرداً وحيداً بلا أنصار ، لكن :
كأنّه وهو فردٌ في جلالتِهِ     في عسكرٍ حين تلقاهُ وفي حشمِ
وإنّه لمّا كان يشدّ عليهم ينكشفون انكشاف المِعزى إذا شدّ عليها الذئب ؛ فهو الفريد ذو العسكر ، والوحيد ذو الحشم . وقد كان (عليه السّلام) محتضراً غريباً وحوله أهله وعياله ؛ فهو الغريب عند الأهل . وقد كان (عليه السّلام) يستغيث لإتمام الحجّة عليهم ، ويغيث كلّ مَنْ ناداه بـ ( أدركني يا أبا عبد الله ) ، فهو المغيث المستغيث . وكان (عليه السّلام) قد فدته نفوس الشهداء ، ولا زالت تفديه قتلاً بين يديه ، والأحياء جميعاً إلى يوم الجزاء ، مع أنّه قد فدى نفسه الشريفة لهم ولهدايتهم ونجاتهم ؛ ولذا أنشد بعض الحكماء عن لسان حاله عند مخاطبته لأصحابه :
فديتموني إنّما أنا جئتكم أفديـ     ـكم من لظى فهو الفادي المفدّى
وكان (عليه السّلام) حين وقوعه صريعاً مطروحاً يسعى تخليص أهله ، ومَنْ يجيء إليه فهو المطروح الساعي ، وكان (عليه السّلام) قد بلغت شدّة عطشه إلى اللوك للسانه ، يعني كثرة إدارة لسانه في فمه ، حتّى تجرّح لسانه من شدّة عطشه وإعيائه ويبس لسانه ، وكان يسعى في سقي العطاشى حتّى إنّه أراد سقي ذي الجناح قبل أن يشرب ، وما نراه شرب (سلام الله تعالى عليه) ؛ حيث سمع بهتك الخيام فألقى بالماء ، فهو العطشان السّاقي .
وكان (عليه السّلام) عارياً بالعراء ، لكن :
تحمي أشعته العيون فكلّما     حاولنَ نهجاً خلنه مسدودا
فهو (عليه السّلام) العاري المستور بنور الشّمس ، ونورٌ ذاتي يخرج من بدنه المبارك يشهده العدو والقريب . وكان (عليه السّلام) مضمّخاً بالدماء والتراب ، ولكن لم ير الناظر إليه قتيلاً مضمّخاً بدمه أنور منه (عليه السّلام) ، حتّى قال عدوّه : لقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله . فهو المضمّخ بالتراب ذو النور الأزهر .
وكان (عليه السّلام) لم يبقَ له مأوى ولا مأمن ، وقد وصف به نفسه أيضاً ، وكان يأوي إليه كلّ خائف ، كما آوى إليه عبد الله بن الحسن (عليه السّلام) وغيره من أهل بيته ؛ فهو المأوى بلا مأوى ، وهو الملجأ بلا ملجأ .
وكان (عليه السّلام) مسلّياً عن البكاء ، وهو سبب البكاء ، كما في رواية الغفاريين عبد الله وعبد الرحمن حين استأذنا وبرزا ،
إذ كانا يبكيان ، فقال : (( ما يبكيكما ، وأنا أرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين ؟ )) .
فقالا : ما على أنفسنا نبكي ، ولكن نبكي عليك يا سيّدنا ؛ نراك قد أُحيط بك ولا نقدر أن نمنع عنك .
وكان (عليه السّلام) مسكتاً عن البكاء وهو يبكي ؛ وذلك حين أخذت زينب الكبرى بالبكاء ، لمّا سمعت ما سمعت ليلة عاشوراء من نعي الإمام (عليه السّلام) لنفسه ، فجاءت صارخة حاسرة وقالت : يا أخي ، هذا كلام مَنْ أيقن بالقتل ! قال : (( نعم يا أُختاه ، لا يذهب حلمك ، واصبري )) . ثمّ غلب عليه البكاء .

[ الصفة ] الثانية : من خصائص خصائصه جمعه بين التكليفين المتنافيين ظاهراً
بيان ذلك : إنّه قد ثبت أنّ للنبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) خصائص في أحكامٍ تكليفية ووضعية تخالف الأحكام العامّة الثابتة لأُمّته ، ولك منها : بالنسبة إلى ما يتعلّق بتكليفه وبإمامته وسلوكه مسلك الدعوة إلى الدين ، والحفظ للشريعة أحكام خاصّة مثبتة ، ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) . وقد عمل كلّ من الأئمّة بمقتضى ما في صحيفته المختومة بخاتم من ذهب لم تمسّه النار ؛ [حيث] أتى بها جبرئيل (عليه السّلام) ، وقد أشرنا إليها .
وحيث إنّ فيها أحكاماً تُخالف ما ثبت في ظاهر الشّريعة لباقي الأئمّة (عليهم السّلام) ، فما ينبغي الاعتراض بعد ذلك بأنّه كيف جاز الإقدام على ما يقطع معه بالضرر ، وذهاب الأنفس بالنسبة إلى بعض الأنبياء والأئمّة (عليهم السّلام) ؛ فإنّهم إنّما بلغوا هذه المرتبة للتسليم والرضا ، بل وحبّ القضاء والقدر بهذا التكليف . وقد اختصّ سيّدنا المظلوم الحسين (عليه السّلام) في قضيته بالجمع بين التكليفين ؛ الظاهري الموافق لتكليف سائر الناس ، والواقعي الموافق لتكليفه الخاصّ ، وهذا أيضاً من خصائصه (عليه السّلام) .
أمّا التكليف الواقعي الذي دعاه إلى الإقدام على الموت والقتل ، وتعريض عياله ونسائه وابنه العليل ، ومَنْ معهم من النساء المواسيات للأسر ، وأطفاله للذبح مع علمه بذلك . فالوجه فيه أنّ عتاة بني أُميّة ، وخاصة معاوية ، قد اُشرب الناس حبهم ، بحيث اعتقدوا أنّهم على الحقّ ، وأنّ علياً وأولاده (عليهم السّلام) وشيعتهم على الباطل ، حتّى جعلوا سبّ علي (عليه السّلام) من أجزاء صلاة الجمعة ، وسُنّة واردة .
وبلغ الأمر في ذلك أنّ بعض أتباعهم
نساه في صلاة الجمعة حين خطبته وسافر ، وذكره وهو في البريّة ، فقضاه في محلّ تذكّره ، فبنوا هناك مسجداً سمّوه مسجد الذكر ؛ تأكيداً لهذا الأمر .
فلو كان الحسين (عليه السّلام) يبايعهم تقيّة ويسلّم لهم لما بقي من الحقّ من أثر ؛ فإنّ كثيراً من الناس اعتقدوا أنّه لا مخالف لهم في جميع الأُمّة ، وأنّهم خلفاء النبي (صلّى الله عليه وآله) حقّاً ، فبعد أن حاربهم الحسين (عليه السّلام) ، وصدر ما صدر إلى نفسه وعياله ، وأطفاله وحرم الرسول (صلّى الله عليه وآله) تنبّه الناس لضلالتهم ، وبأنّهم سلاطين الجور حقّاً وصدقاً ، لا حجج الله تعالى ولا خلفاء لحبيبه (صلّى الله عليه وآله) ، فظهر دين الحقّ من جديد بعد أن أخمده الأمويون بجورهم وكفرهم .
وأمّا التطبيق على التكليف الظاهري فبيانه أن نقول : إنّه (عليه السّلام) قد سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه فلم يتيسر له ، وقد ضيّقوا عليه الأقطار ، ولم يدَعوا له في الأرض مقرّاً ، فكتب يزيد إلى عامله في المدينة أن يقتله فيها ؛ ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ، ولاذ إلى حرم الله تعالى الذي جعله مأمناً للوحوش أن تُصاد ، وللطيور أن تنفر ، وللشجر والنبات أن يُقطعا ، فأرادوا قبضه هناك ، أو قتله غيلة وهو مُحرِم ؛ فأحلّ وخرج ولم يتمكّن من إتمام حجّه أيضاً ، ولم يكن له في الأرض مقرّ .
وقد تحقّق له التكليف الظاهري بالتوجّه إلى الكوفة ؛ لأنّ جميع أهلها كتبوا له بالسّمع والطاعة وألقوا إليه الحجّة ، ولم يتبيّن منهم خلاف ذلك ، خصوصاً بعد أن كتب له مسلم بن عقيل ببيعة الناس له ، فلم يكن له عليهم حجّة لو لم يأتهم ، ثمّ لمّا أتاهم وعلم بنقضهم البيعة لم يمكّنوه من الرجوع ، ومع ذلك كلّه نقول : لو رجع أين يرجع ؟ لو لم يأتهم فأين كان يذهب ؟
ملاحظة : إنّ الحسين (عليه السّلام) لم يكن السبب الحقيقي في خروجه أو توجّهه للكوفة لسبب بيعة الناس له ، كلاّ ، بل كان خروجه أوّلاً من مكة المكرّمة حفاظاً منه على أن لا يُراق فيها دم ، وأمّا نقض الكوفة لبيعتهم فهو كان يعلم بذلك قبل أن يقدمهم وهذا له بحث طويل مستقل حول علم الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام) ، ولكنّه خرج إلى الكوفة لأسباب غير بيعة أهلها ، يُذكر منها : أنّ بها أرضية واسعة لموالاة أهلها لمحمد المصطفى وآله (صلّى الله عليه وآله) وغيرها من الأسباب .
وأيضاً السّبب الأساس لخروجه ، والذي كان واجباً عليه أن يخرج ، هو حفاظ على ما تبقّى من دين جدّه (صلّى الله عليه وآله) ؛ ولئلاّ يُمحق ما تبقّى من الدين . ومَنْ أحقّ منه بالخروج على الحكومة الظالمة الجاحدة ؟!
فكان هذا الحديث النبويّ الشّريف مصداقاً لهذا الكلام ، وهو قول النبي (صلّى الله عليه وآله) : (إنّ الإسلام محمدي الوجود ، حسيني البقاء)(*) .
لقد ضاقت عليك الأرض يا أبا عبد الله الحسين ، وكنت مضطرباً حيران على ما ترى من تضييع الحقوق وذهاب الدين المحمدي ، ولم يكن لك بدّ ولا مفرّ يا حبيبي يا حسين .
والدليل على ذلك قوله (عليه السّلام) لأخيه ابن الحنفية ، وقد أشار إليه بأن يذهب إلى اليمن ، أو إلى البوادي وكهوف الجبال : (( لو دخلت في جحر هامة من هوامّ الأرض لاستخرجوني حتّى يقتلوني )) .
ويدلّ على ذلك أيضاً ، قوله
للفرزدق : وقد قاله له وهو خارج عن مكة داخل الحرم ، بأبي أنت وأُمّي يابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ما أعجَلك عن الحج ! فقال (عليه السّلام) : (( لو لم اُعجّل لاُخذت )) .
وقوله لأبي هرّة الأزدي في الثعلبية ، وقد قال له : ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدّك المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ؟
فقال (عليه السّلام) : (( ويحك يا أبا هرة ! إنّ بني أُميّة أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت )) .
طبعاً ، هنا هرب ليفتدي بنفسه وما يملك فقطّ لإبقاء دين الله تعالى ، ويدلّ على ذلك قوله أيضاً لعمرو بن لوذان ، وهو شيخ من بني عكرمة رآه ببطن العقبة ، قال له : يابن رسول الله ، أين تريد ؟
قال (عليه السّلام) : (( الكوفة )) .
فقال : أُنشدك الله تعالى لما انصرفت ؛ فوالله لا تقدم إلاّ على حدّ السيوف والأسنّة ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً .
فقال (عليه السّلام) : (( يا عبد الله ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره )) . ثمّ قال (عليه السّلام) : (( والله ، لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي )) .
فانظروا إلى قوله (عليه السّلام) : (( ولكنّ الله )) ؛ فإنّه بيان للتكليف الواقعي الذي تقدّم ذكره . وقوله : (( والله لا يدعونني )) ، بيان للاضطرار ، وإنّه لا يفيد الرجوع ولا الفرار . وفي تعبيره عن قلبه بـ ( العلقة ) إشارة إلى شدّة مصيبته ، وانقلاب قلبه دماً في تلك الحالة مع كونه أولى بالأمر .
ثمّ أقول : إنّه لو بايعهم لقتلوه أيضاً ، كما يدلّ عليه كلام ابن زياد حيث قال : ينزل على حكمي وحكم يزيد ، يعني يجعل نفسه محكومة لنا ، فلربما قتلناه أو خليناه .
وقول الشمر : فليبايع ثمّ نرى رأينا فيه .
بأبي المستضعف الغريب الوحيد ، الذي أرادوا أن يقرّ لهم إقرار العبيد .
ومن جملة كلام له (عليه السّلام) يوم عاشوراء : (( والله ، لا أقرّ لكم إقرار العبيد ، ولا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل )) .
بأبي أنت وأُمّي يا أبا عبد الله ! نعم ، والله قتلُك في ميدان الحرب والضرب أنبل من الإقرار لهم ، وقد قلت أنت : (( إنّ مصارعة الكرام أحسن من مضارعة اللئام )) . ولو كنت ترضى بذلك تقيّة وتكليفاً ظاهريّاً فكنت تقرّ لهم ، ما خلوك
وما تركوك حتّى يجمعوا لك بين الذلّة والقتلة ؛ ولذا قلت (صلوات الله تعالى عليك) بنفسي أنت : (( القتلة ولا الذلّة ، والمنيّة ولا الدنيّة )) .
آه بأبي أنت وأُمّي ! أعززت نفسك ، وأحييت نفسك ، وأحييت العباد بتحمّلك هذا التكليف .
انتهى العنوان الثالث

 



(1)عسفان : أي موضع بين مكة والمدينة ، وذات الرقاع : مخازن بنجد كانت تمسك الماء لبني كلاب ، وبطن النخل : قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة .
(2) أي ينهض ويقوم .
(3) أي يسقط .
(4) وهو كما ورد في اللهوف ـ لابن طاووس / 41 .
(5) كما جاء في كتاب المبسوط ـ للشيخ السيوطي 2 / 33 .
(*) ورد المصراع الثاني في هذا الكتاب : ( وكان يُدعى قديماً ببيضةِ البلد ) ، وفيه خلل عروضي واضح ، وما أثبتناه هو الصحيح ؛ إذ ذكرته بهذا النحو جلّ مصادر التاريخ . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(*) لم نعثر على هذه الرواية في المصادر المعتبرة . نعم ذكر الشيخ الصدوق في حديث أبي نعيم عن حاجب عبيد الله بن زياد (لعنه الله) قوله : ( ... قالوا : فلمّا دخلنا دمشق اُدخل بالنساء والسبايا بالنهار مكشّفات الوجوه ، فقال أهل الشام الجفاة : ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء ! فمَنْ أنتم ؟ فقالت سكينة ابنة الحسين (عليه السّلام) : نحن سبايا آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ... ) . الأمالي ـ للشيخ الصدوق / 230 . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(6) كما ورد في كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه 2 / 36 .
(7)أي الذي كثُرت عليه البلايا وعظُمت .
(8) لقد ذُكرت الرواية بالمضمون ، وإليك نصّها : ( لمّا اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السّلام) نظر إليه مَنْ كان معه ، فإذا هو بخلافهم ؛ لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم ، وارتعدت فرائصهم ، ووجبت قلوبهم . وكان الحسين (عليه السّلام) وبعض مَنْ معه من خصائصه تشرق ألوانهم ، وتهدأ جوارحهم ، وتسكن نفوسهم ، فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يبالي بالموت ! ... ) . معاني الأخبار ـ للشيخ الصدوق / 288. (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(*)تجدر الإشارة إلى أننا لم نعثر على مثل هكذا حديث في أغلب المصادر الروائية التي بأيدينا ، بل وجدناه مقولة تُنسب للعلاّمة محمد حسين آل كاشف الغطاء (رحمه الله) . (موقع معهد الإمامين الحسنَين) .

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page