• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

العنوان الرابع : في خصائصه من حيث الألطاف الإلهية به ، والاحترامات الربانية له

العنوان الرابع
في خصائصه من حيث الألطاف الإلهية به ، والاحترامات الربانية له
وهي على أقسام :

القسم الأوّل : خصوصيته (عليه السّلام) في التعبير عن اللطف الإلهي بالنسبة إليه
من وجوه :
الأوّل : خصوصيات ما في الروايات المعتبرة المرويّة في كامل الزيارة عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : (( بينما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في منزل فاطمة الزهراء (عليها السّلام) والحسين (عليه السّلام) في حجره ، إذ بكى وخرّ ساجداً ، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : يا فاطمة ، إنّ العلي الأعلى تراءى لي في بيتك هذا ، ساعتي هذه ، في أحسن صورة وأهيأ هيئة ، وقال لي : يا محمّد ، أتحبّ الحسين ؟ قلت : نعم ؛ قرّة عيني ، وريحانتي ، وثمرة فؤادي ، وجلدة ما بين عيني .
فقال لي : يا محمّد ـ ووضع يده على رأس الحسين (عليه السّلام) ـ بورك من مولود ، عليه بركاتي وصلواتي ، ولعنتي وسخطي وعذابي ، وخزيي ونكالي على مَنْ قتله وناصبه ، وناوأه ونازعه .
أما إنّه سيّد الشهداء من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة ، وسيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين ، وأبوه أفضل منه ، فاقرأه منّي السّلام ، وبشّره بأنّه راية الهدى ، ومنار أوليائي ، وحفيظي وشهيدي على خلقي ، وخازن علمي ، وحجّتي على أهل السماوات وأهل الأرضين ، والثقلين والجنّ والإنس )) .
والمراد من الترائي : غاية الظهور العلمي . وبحسن الصورة : ظهور صفات الكمال . ووضع اليد : كناية عن إفاضة الرحمة الخاصّة على الإمام الحسين (صلوات الله تعالى عليه) .
ففي هذه الرواية ستّ عشرة خصوصية للحسين (عليه السّلام) معبّرة عن اللطف الإلهي ، وأخصّها وأفخرها قوله : وضع الله تعالى يده على رأس الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه كناية عن نهاية اللطف بالنسبة إليه بحيث لا يتصوّر فوقه لطف .
وقد عبّر الله تعالى عن نهاية إفاضة
اللطف الكامل على النبي (صلّى الله عليه وآله) بأنّه وضع الله تعالى يده على ظهره ليلة المعراج ، فوضع اليد تعبير عن غاية الإفاضة .
لكن في التفرقة بين كونه على الرأس أو على الظهر حكمة خاصّة لا ترتبط بالأفضلية ، وفي الحقيقة الوضع على ظهر النبي (صلّى الله عليه وآله) هو الوضع على رأس الحسين (عليه السّلام) .
الثاني والثالث : إنّ الله تعالى قد تولّى قبض روحه عند موته وصلّى عليه ، فهذه التعبيرات كلّها ، كنايات عن الألطاف لا يُتصوّر أزيد منها .
وحاصل معناها : أنّه قد أعطى الله تعالى الحسين من الألطاف كلّ ما يمكن أن يُعطى .
ونحن بتوسّلنا به (عليه السّلام) نرجو أن يكون من ألطاف الله تعالى عليه صلاح أمورنا في الدنيا والآخرة .

القسم الثاني : وهو إعطاؤه ما يناسب صفاته
ولا أقول : شبه أو مثل صفاته ، بل أقول : أعطاه أنموذجاً من صفاته ، وخصّها به .
وهي من وجوه :
الأوّل : إنّ من صفات الله تعالى ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) ، ولها خمسة معانٍ ، وقد أعطى الحسين (عليه السّلام) ما يُناسب ذلك ، فإن من شيء إلاّ وقد بكى لمصيبته ، ولكن لا نفقه بكاءهم ، كلّ شيء بحسب حاله ، ولا ينحصر في تقاطر الدمع من العين .
فبكاء السّماء : تقاطر الدم . وبكاء الأرض : أنّ كلّ حجر يُرفع يُرى تحته دماً . وبكاء السمك : خروجه من الماء . وبكاء الهواء : إظلامه . وبكاء الشمس : كسوفها . وبكاء القمر : خسوفه ، كما ورد كلّ ذلك في الروايات .
الثاني : إنّ الإقرار بوجود الصانع الحكيم فطري ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ، فأهل كلّ دين حتّى عبدة الأصنام يقرّون به ، والملاحدة والزنادقة عند إنكارهم باللسان يثبتونه .
وفي الحسين (عليه السّلام) بالنسبة إلى احتراق القلب على مصيبته كذلك حتّى مَنْ لم يعرفه يبكي عليه ويُقيم عزاءه ، كبعض الهنود المخالفين للإسلام ، بل مَنْ عاداه حين إظهار عداوته كان يبكي عليه ، فكان ابن سعد يبكي عليه حين أمر بقتله وكلّمته
زينب (سلام الله تعالى عليها) .
والسالب لفاطمة (عليها السّلام) كان يبكي ، ويزيد قد رقّ لهم حين اُدخلت السّبايا والرؤوس إلى مجلسه كما عن فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) ، وسائر قتلته كانوا يبكون في بعض الحالات ، ويزيد كان يبكي في بعض الليالي .
نعم ، لم أعثر على رقّة وبكاء على حالة من الحالات بالنسبة إلى اللعين ابن زياد ، لكن عثرت على تغيّر حالة له في وقت واحد ، وذلك حين أمر بقتل السجّاد (صلوات الله تعالى عليه) ، فاعتنقته عمّته زينب (عليها السّلام) وقالت : إن قتلته فاقتلني معه . فنظر إلى ذلك وقال : عجباً للرحم ! والله إنّي لأظنها ودّت أنّي قتلتها معه ، دعوه فإنّي أراه لما به .
الثالث : إنّ صفات الله تعالى لا يجري أفعل التفضيل فيها حقيقة وإن جرى ظاهراً ، كما يشهد به جميع فقرات دعاء البهاء ، تقول : (( اللّهمّ إنّي أسألك من بهائك بأبهاه ، وكلّ بهائك بهي )) . وكذلك الأسماء ، فيُقال : الاسم الأعظم . وفي الحقيقة إنّ كلّ أسمائه أعاظم على نهج سواء .
وفي الحسين (عليه السّلام) أيضاً ما يناسب ذلك ؛ فقد يُقال : نريد أن نذكر أعظم مصائبه ، وكلّ مصائبه عظيمة . فإذا تأمّلت أصغر مصائبه وجدتها أكبرها ، وإذا نظرت إلى أسهل مصائبه وجدتها أصعبها .
الرابع : إنّه تعالى جعل وسائل القرب إليه ، والرضا عن العباد والغفران لهم كثيرة ، وجعل لهم طُرقاً في كلّ فعل وصفة ونيّة ، وجعل في إيصاله الفيض إلى العباد عموماً ، وله تسبيبات لا يُدرك ضبطها .
وقد أعطى الحسين (عليه السّلام) ما يُناسب ذلك ، فجعل له تسبيبات كثيرة ، وعمّم فيها وجعل لها أعواضاً كعباداته ، حيث لم يحرم منها أحداً ، وحعل لكلّ عمل عوضاً وبدلاً ، حتّى إنّه جعل لنيّة العمل في بعض الأوقات ثواب العمل .
وكذلك الحال بالنسبة إلى الحسين (عليه السّلام) فجعل لزيارته فضلاً ، وجعل بدلها التجهيز إليها ، وجعل بدلها الزيارة من بُعد ، وكذلك لمّا جعل لبكائه فضلاً وافراً أراد أن لا يُحرم أحد من هذا الخير ؛ فجعل مصائبه مختلفة ، وما يُبكى عليه أنواعاً وأقساماً باختلاف القلوب
واختلاف أسباب رقتها .
فإنّ كلّ قلب لا يرقّ على كلّ مصيبة ، فقلب لا يرقّ على الغريب ، ولكن يرقّ على العطشان الغريب ، وقلب لا يرقّ على الجرح ، ولكن يرقّ على جرح الجرح ، وقلب لا يرقّ على جرح الجرح ، ولكن يرقّ على الرضّ بعد جرح الجرح ، وهذا لا ينتهي الكلام فيه ، فلاحظ كلّ مصيبة ، ولاحظ أعلاها ثمّ لاحظ أشدّ أنواع ذلك الأعلى ، ثمّ أشد ذلك الأشد ، تجده مجتمعاً في الإمام المظلوم ، وجعل أسباب الحصول كثيرة ، ولها فصل مستقل والله تعالى المستعان .
الخامس : إنّ صفاته لا شريك له فيها ، فكلّ ما يُنسب إليه ، ويتعلّق به من جميع ما يُلاحظ خاصة به ، فهو ممتاز فيها لا شريك له في خصوصياتها .
السادس : من الصّفات المنسوبة إليه أنّ محبته لا تشبه محبّة المحبين .
وكذلك محبّة الحسين (عليه السّلام) حتّى إنّها لا تشبه محبّة مَنْ هو مساوٍ معه ، أو أفضل منه ، فهي كما قال النبي (صلّى الله عليه وآله) : ( محبّته مكنونة في بواطن المؤمنين )(1) .
وقد سُئل النبي (صلّى الله عليه وآله) عن هذا أيضاً حين ظهرت منه (صلّى الله عليه وآله) كيفية خاصّة في الملاطفة مع الحسين (عليه السّلام) على ما روى المقداد (رضي الله تعالى عليه) ، حيث قال : خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً في طلب الحسن والحسين (عليهما السّلام) فوجدهما نائمين في حديقة على الأرض ، فبدأ برأس الحسين يعطفه ، وجعل يُرخي لسانه في فمه مراراً حتّى أيقظه ، فقال المقداد : كأن الحسين أكبر ؟ فأجابه (صلّى الله عليه وآله) بما ذكر .
فقد ظهرت خصوصية للحسين (عليه السّلام) ، وانكتامها في باطنه زيادة على أخيه ، مع إنّه في الشرف والمرتبة أفضل أو مساوٍ له ؛ لأنّه بدأ برأسه فرفعه ، وأيقظه بإرخاء لسانه في فمه مراراً .
وهذا هو حال انكتام محبّته في قلوب المؤمنين الخالصين في الإيمان ؛ ففي قلوبهم علامات وخصوصيات وإن كان اللازم أن تكون محبّة جدّه وأبيه أكثر منه ؛ لأنّهما أفضل منه .
لكنّ لمحبّته خصوصيات لا دخل لها بالكثرة .
من تلك الخصوصيات : إنّ أفئدتهم
تهوي إلى زيارته وترقّ وتحنّ إليها إذا سمعوا بها ، أو بزوّاره حين الذهاب أو القدوم ، أزيد ممّا تهوي إلى الحجّ وغيره من الزيارات .
ومنها : إنّ مَنْ توجه إلى زيارة الأئمّة إنّما يسميه فقط ، أي إنّ الزائر الإيراني مثلاً الذي يروم زيارة العتبات المقدّسة في العراق إذا سُئل عن مقصده يجيب بأنّي أروم زيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) مع إنّه قاصد لزيارة باقي الأئمّة (عليهم السّلام) أيضاً .
ومنها : إنّ لاسمه الشّريف تأثيراً في قلوبهم كما ناداه أبوه : (( يا عبرة كلّ مؤمن )) . وكما قال هو (عليه السّلام) : (( أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى )) .
ومنها : إنّ دخول شهره ، يعني المحرّم ، يملأ القلوب همّاً وكمداً وحزناً عميقاً في النفوس .
ومنها : إنّ الرقّة عليه لا يُملّ منها بكثرة التكرار على التكرار ، فإذا سمعوا عزاءه كلّ يوم ألف وألف مرّة فبمجرّد سماعهم أنّه قُتل عطشان مقروحاً وقد حُزّ رأسه ، أو واقفاً على الأرض مستغيثاً ، أو سمعوا حكاية استغاثته ، ارتفعت أصواتهم .

القسم الثالث : من الألطاف الخاصّة به ما أعطاه تبارك وتعالى من كلامه المجيد وتكليماته
أمّا كلامه المجيد ، وهو القرآن ، فلمّا أعطاه منه عنوان مستقل نذكره إن شاء الله تعالى .
وأمّا تكليمه تعالى فقد ذكر مصيبته في تكليم آدم (عليه السّلام) ومَنْ بعده ، وفي تكليم الكليم (عليه السّلام) مكرراً ، وغيره من الأنبياء (عليهم السّلام) ، إلى الخاتم كما ذكرنا تفصيله في عنوان مجالس الرثاء ، وسنذكره بعد ذلك إن شاء الله تعالى .
وأمّا التكليم الخاصّ معه فهو كثير . منه ما قبل شهادته على ما رواه أنس بن مالك حيث إنّه ساير الحسين (عليه السّلام) فأتى قبر خديجة الكبرى (عليها السّلام) فبكى ، ثمّ قال (عليه السّلام) : (( اذهب عنّي )) . قال أنس : فاستخفيت عنه ، فلمّا طال وقوفه في الصّلاة سمعته يقول : ((
يا ربّ يا ربّ أنتَ مولاهُ     فارحم عُبيداً إليك ملجاهُ
يا ذا المعالِ عليكَ معتمدي     طوبى لِمَنْ كنتَ أنتَ مولاهُ
طوبى لِمَنْ كان نادماً أرقاً     يشكو إلى ذي الجلالةِ بلواهُ
وما بهِ علّة ولا سقمٌ     أكثر من حبّهِ لمولاهُ
إذا اشتكى بثه وغصّته     أجابه الله ثمّ لبّاهُ
أذا ابتلى بالظلام مبتهلاً     أكرمه الله ثمّ أدناهُ

فنودي (عليه السّلام) :
لبّيك عبدي وأنتَ في كنفي     وكلّ ما قلتَ قد علمناهُ
صوتك تشتاقهُ ملائكتي     فحسبُكَ الصوت قد سمعناهُ
دُعاك عندي يجولُ في حجب     فحسبُكَ الستر قد سفرناهُ(2)
لو هبّتِ الريحُ من جوانبه     خرّ صريعاً لِما تغشّاهُ
سلني بلا رغبةٍ ولا رهبٍ     ولا تخفْ إنّني أنا اللهُ

ملاحظة : قوله : لو هبت الريح من جوانبه ، الضمير إمّا راجع إلى الدعاء فيكون كناية عن أنّه يجول في مقام لو كان مكانه رجل لغُشي عليه ممّا يغشاه من أنوار الجلال ، ويُحتمل إرجاعه إليه (عليه السّلام) على سبيل الالتفات لبيان غاية خضوعه وولهه في العبادة ، بحيث لو تحرّكت الريح لأسقطته .
ومنها نداءات خاصّة له يوم شهادته ، أشرفها نداؤه بقوله : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) .
القسم الرابع : فيما أعطاه تبارك وتعالى من أفضل مخلوقاته محمداً المصطفى (صلّى الله عليه وآله)
ولبيان ذلك أمور :
الأول : بيان ما أعطاه منه بطريق التعداد والتحديد والتعيين مجملاً
الثاني : بيان كيفية هذا الإعطاء المحدود
الثالث : بيان ما فوق ذلك
أمّا الأمر الأوّل : فنقول : قد أعطاه قلبه الباطني فجعله محلّ علاقة خاصّة له ، وقد أعطاه قلبه الظاهري فقال : (( إنّه مهجة قلبي )) . وقد أعطاه روحه فقال : (( إنّه روحي التي بين جنبي )) . وقد أعطاه فؤاده فجعله له ثمرة . وقد أعطاه عقله فجعله له طمأنينة . وقد أعطاه باصرته فقال : (( إذا نظرت إليه ذهب ما بي من الجوع )) . وقد أعطاه شامّته فقال : (( هو ريحانتي )) . وقد أعطاه
عينيه فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( هو نورهما )) . وقد أعطاه من بين عينيه فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( هو جلدة ما بين عيني )) . وقد أعطاه قوته فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( هو قوتي إذا نظرت إليه ذهب ما بي من الجوع )) . وقد أعطاه كتفه فجعله له مركباً . وقد أعطاه ظهره فجعله له مرتحلاً . وقد أعطاه حجره فجعله له حاضناً . وقد أعطاه لسانه فجعله له راضعاً . وقد أعطاه يده فجعل إبهامه ومسبحته له غاذياً . وقد أعطاه صدره فجعله له مجلساً ومأمناً . وقد أعطاه شفتيه فجعلهما مقبّلاً ولاثماً . وقد أعطاه كلامه فجعله له مادحاً وراثياً وذاكراً له في كلّ حين . وقد أعطاه ابنه فجعله له فادياً ، فكان يقول (صلّى الله عليه وآله) مكرّراً : (( فديت مَنْ فديته بابني إبراهيم ))(3) .
الأمر الثاني : في بيان بعض تفاصيل هذه فنقول : أمّا امتياز علاقته معه فيظهر معه من كيفية لقائه له ، وحضوره عنده ومجيئه له ، وذهابه إليه ، فإنّ العلاقة مع الأولاد خصوصاً في حال طفولتهم والاستئناس معهم ، واللعب معهم ، أمر معتاد لكن تحقّق هذه الكيفية بالنسبة إليه (صلّى الله عليه وآله) مع الحسين (عليه السّلام) خارق للعادة .
فترى النبي (صلّى الله عليه وآله) كأنّه وهو فرد في جلالته ؛ في عسكر حين تلقاه وفي حشم . فكيف بجلالته ووقاره حين هو جالس في أصحابه ، فمع ذلك الوقار الذي علا كلّ وقار ، ومع تلك السكينة التي أنزلها الله تعالى عليه ، ولُقّب بصاحب الوقار والسكينة .
كان إذا رأى الحسين (عليه السّلام) مُقبلاً عليه وهو (صلّى الله عليه وآله) يحدّث أصحابه يقطع حديثه ، ويقوم من مجلسه ويستقبله ، ويحمله على كتفه المبارك ، ويأتي به فيقعده عنده أو في حجره .
وأعجب من ذلك أنّه وهو على المنبر يخطب يقطع خطبته وينزل ويستقبل ويقول كلاماً يقضى منه العجب ، وذلك في رواية ابن عمر أنّه قال (صلّى الله عليه وآله) : (( والذي نفسي بيده ، ما دريت أنّي نزلت من منبري )) .
وكيف يكون هذا الكلام على حقيقته ، بل هو كناية عن شدّة الحبّ والعلاقة بحيث كان كذلك .
وأعجب من كلّ ذلك ما رواه ابن ماجة في السنن ، والزمخشري في الفائق قالا : رأى النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) الحسين
بن علي (عليه السّلام) وهو يلعب مع الصبيان في السكة ، فاستقبل النبي (صلّى الله عليه وآله) أمام القوم ، فبسط إحدى يديه فطفق الصبي يفرّ مرّة من هنا ومرّة من هاهنا ، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) يضاحكه ، ثمّ أخذه فجعل إحدى يديه على ذقنه والأُخرى على فأس رأسه ، وأقنعه وجعل فاه على فيه فقبّله ، وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( أنا من حسين وحسين منّي ، أحبّ الله تعالى مَنْ أحبّ حسيناً ، حسين سبط من الأسباط )) . ورواه غيرهما أيضاً .
توضيح : إنّ فأس الرأس يعني طرف مؤخرة المشرف على القفا .
تنبيه : هذه المحبّة لم تكن للحسين وحده ، بل كانت لمَنْ أحبّه أيضاً ، ويُشهد الله تعالى على ذلك ويقول (صلّى الله عليه وآله) : (( اللّهمّ إنّي أحبّه وأحبّ مَنْ يحبّه )) . وكان يدعو لمحبّه بأنّ يحبّه الله تعالى ، فيقول (صلّى الله عليه وآله) : (( أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً )) .
وقد رأى (صلّى الله عليه وآله) يوماً صبيّاً في الطريق ، فجلس وأخذه وتلاطف معه ، فسُئل عن ذلك فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّي أحبّه لأنّه يحبّ ولدي الحسين (عليه السّلام) ؛ لأنّي رأيت أنّه يرفع التراب من تحت قدميه ويمسح به وجهه وعينيه ، وأخبرني جبرئيل (عليه السّلام) أنّه يكون من أنصاره في وقعة كربلاء )) .
فالآن نحن نرجو إن كنّا محبّين لإمامنا الحسين (عليه السّلام) أن يحبّنا النبي (صلّى الله عليه وآله) ويحبّنا الله تعالى ، بدعائه (صلّى الله عليه وآله) لنا ، وإذا أحبّنا أن يغفر لنا ويعفو عنّا .
وأمّا كون ظهره له مركباً فقد اتّفق كثيراً ، وليس هو من العادات كما يتّفق لكثير من الناس في حقّ أولادهم ، بل خارق للعادات ، وذلك إنّه قد كان يتّفق أنّه يركب ظهر جدّه وهو في السجود في صلاة الجماعة فيُطيل السجود ولا يرفع رأسه المبارك حتّى يقوم هو أي الحسين باختياره .
وقد تعجّب الذين كانوا يصلّون معه ، فسألوه : إنّه هل نزل وحي ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : (( لا ، ولكن ابني ارتحلني )) .
وأمّا كون كتفه محملاً فلقد كان يفعل من ذلك ما لا يفعله الرجل الجليل ، يحمل صبيّاً على كتفه ويمشي في الأسواق والطرق ، وكلّما يريد أصحابه أن يحملوه أو يحملوا أخاه ، يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( نِعْمَ الراكبان أنتما )) . نعم ، قد كان يحمله عنه جبرئيل (عليه السّلام) ، وقد كان يحمله وهو في الصلاة .
وأمّا كون حجره له حضناً ؛ فإنّه (صلّى الله عليه وآله)
قد تولّى من ذلك ما لا يتولاّه إلاّ النساء ، وقد حضنه بمجرّد ولادته المباركة . فنادى : (( يا أسماء ، هلمّي إليّ بابني )) . فقالت : لم ننظفه بعد . فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( أنتِ تنظّفيه ! إنّ الله تعالى قد نظّفه وطهّره )) .
فأخذه وتولّى حضانته ورضعه من إبهامه ، وكان يلاعبه كالنساء ويقرأ له نغوتهنّ ، ويكلّمه بلسان الأطفال ، ونحو ذلك ممّا يُستغرب . حتّى أنكر عليه بعض أزواجه كعائشة ، بل بعض أصحابه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( ما خفي عليك أكثر )) . فعلم أنّ ذلك من أمر إلهي وحكم ربّاني ، وقد صرّح (صلّى الله عليه وآله) معتذراً بذلك فقال : (( إنّ الله تعالى قد أمرني بحبّهما )) .
فعدم قيامه من السجود حين ارتحله بأمر إلهي ، وحمله على كتفه بأمر إلهي ، والركض معه في الطريق بأمر إلهي ، وقيامه واستقباله بأمر إلهي .
والوجه في هذا أمران سنذكرهما إن شاء الله تعالى في محلّهما .
وأمّا كون شفتيه (صلّى الله عليه وآله) لاثمتين ومقبّلتين فلا عجب من ذلك ، ولا من كيفية تقبيلهما ؛ فكان يضمّهما إليه ويشمّهما ويقبّل كلاً منهما لنصف ساعة ، ويقول : (( هما ريحانتاي )) ، وقد يُقبّل أحدهما وهو في الصلاة ويده في يده .
وقد اشتهر أنّه قبّل فم الحسين ونحر الحسين ، فتألمّ الحسين من ذلك ، وأظهره لأُمّه الزهراء (عليها السّلام) ؛ حيث إنّه (صلّى الله عليه وآله) قبّله في نحره وقبّل أخيه الحسن (عليه السّلام) في فمه في يوم ما ، لكن لم أعثر لذلك على رواية ، إنّما الذي عثرت عليه في الروايات المتواترة أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يُقبّل الحسين (عليه السّلام) تارة من نحره ، وتارة من جبينه ، وتارة من جميع بدنه ، وتارة يكشف عن بطنه فيُقبّل فوق سرته على قلبه ، وتارة يُقبّل أسنانه ، وتارة يُقبّل شفتيه ، وكان يُكثر من جميع ذلك ، ولقد كان في تخصيصه لهذه معجزة له .
وكان يذكر سبب البعض ، فيقول عند تقبيل جميع البدن : (( اُقبّل موضع السيوف وأبكي )) .
ولكن لم يذكر السبب في تقبيل الثغر والأسنان ، وتقبيل فوق السرّة حتّى عُلم السبب بعد وقوع ما وقع .
واعلم أنّ تخصيصه للاحترامات الخاصّة لوجوه ثلاثة :
الأوّل : بيان مرتبته وعظم درجته وكرامته .
الثاني : مقابلة كلّ خصوصية احترام بما يقع عليه من هتكها ؛ ليعلم عظم المصيبة فيما يقع عليه ، فإذا لاحظت مَنْ يستقبله الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو طفل تعلم عظم المصيبة .
وإنّه يبلغ به الحال في خذلان الناس له : إنّه كان لا يُنازله أحد فيمَنْ يُصادفه في الطريق لئلاّ يستنصره ، كما في رواية زهير ، وإذا استقبل واحداً في الطريق ليسأل منه يعدل عن الطريق معرضاً عنه وكما في قضية الأسديين .
الثالث : إدخال السرور عليه جبراً لحزنه وكربه وظلمه ، فإذا أراد الجبر لهذا الفرد من الحزن والكرب فلا بدّ أن يكون بهذا المقدار حتّى يقع التلافي ، فهل لكم فيه أُسوة ؟ تجبرون القلب المكسور ، وتفرّجون عن المكروب ؛ ببكاء عليه ، وسلام عليه ، وتحية له ، وزيارة له ، بل وبشكل عامّ وتلبية له .
الأمر الثالث : في بيان أعلى من ذلك وأبلغ ، بأن نقول : إنّه تعالى قد أعطاه نبيّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، فكان النبي (صلّى الله عليه وآله) منه . ولا أقول ذلك مبالغة ولا شططاً ، بل قال هو (صلّى الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا من حسين )) .

القسم الخامس : فيما أعطاه تبارك وتعالى من أعظم المخلوقات ، أعني العرش
ولهذا الإعطاء كيفيات :

الأولى : في خصوصيات من العرش له (عليه السّلام)
فنقول : إنّه قد أعطاه من العرش ظلّه ، فجعله له مجلساً يجلس فيه يوم القيامة ، ومعه زوّاره والباكون عليه ، فيرسل إليهم أزواجهم من الجنّة فيأبون ويختارون مجلسه وحديثه .
وقد أعطاه تعالى وتعالى يمين العرش فجعله مقرّاً له في برزخه ؛ فإنّه عن يمين العرش دائماً ينظر إلى مصرعه وما حلّ فيه ، وينظر إلى زوّاره والباكين عليه ، ويستغفر لهم ويخاطبهم ، ويسأل جدّه وأباه أن يستغفروا لهم .
وقد أعطاه تعالى فوق العرش محلّ حديث لزائره ، وأيّ حديث ! فقد ورد في بعض أقسام زياراته أنّه يكون من محدّثي الله تعالى فوق عرشه .
فالعرش مجلس حديث
لزوّاره ظلّه لمَنْ يحدّثه ، وفوقه لمَنْ يحدّثه الله تعالى ، وقد أعطاه نظير العرش من أصناف الملائكة المحدقين والطائفين ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .

الثانية : كيفية أعلى من ذلك وأبلغ
بأن نقول : إنّه قد أعطاه العرش فكأنّه كلّه له ؛ لأنّه إذا كان مع أخيه (عليهما السّلام) زينة له وقرطا وشنفاً فكلّ شيء بزينته ، فلو تكلّم العرش لقال : أنا من حسين .

القسم السادس : فيما أعطاه من أحسن المخلوقات وهو الجنّة
وله أيضاّ كيفيتان :

الأولى : في الخصوصيات
فنقول : أعطاه من الجنّة شجرة خاصّة ، وقصراً خاصّاً ، وجعل من الحور العين قابلة له ، وجعلهنّ لاطمات عليه ، وخلق حورية مخصوصة له (عليه السّلام) ، وأعطاه منها باب مستقلاً اسمه باب الحسين (عليه السّلام) وهو أكبر أبوابها .

الثانية : في كيفية أعلى من ذلك وأبلغ
فنقول : قد أعطاه الجنّة كلّها ؛ فإنّها خُلقت من نوره المبارك كما في الروايات ، فالجنّة كلّها من الحسين وإنّها تشتاق إلى الحسين (سلام الله تعالى عليه) كما في الروايات الصحيحة ، فلو تكلّمت لقالت بلسان الحقيق : أنا من الحسين .

القسم السابع : فيما أعطاه الله تعالى من باقي مخلوقاته من الخصوصيات
فاستمع لذلك :
فنقول : قد أعطاه من كلّ مخلوق أفضله ، وأجمل ما يمكن أن يعطي منه لواحد ، ولنذكر إجمال ذلك في أبواب ، ثمّ نفصّلها :
باب ما أعطاه الله تبارك وتعالى من الملائكة
باب ما أعطاه من الأنبياء (عليهم السّلام)
باب ما أعطاه من الأزمنة
باب ما أعطاه من السماء
باب ما أعطاه من الهواء والفضاء
باب ما أعطاه من الماء
باب ما أعطاه من الأشجار
باب ما أعطاه من الأنهار
باب ما أعطاه من البحار
باب ما أعطاه من الإنس
باب ما أعطاه من الجن
باب ما أعطاه من الطير والوحش
باب ما أعطاه من الجبال
باب ما أعطاه من الظاهرية في هذه النشأة
هذا مجملها ، وفهرسها فلنشرع في التفصيل فنقول :

باب السّماء
اعلم أنّ الله تعالى قد أعطاه من السماوات خصائص خاصة ، فجعلها مصعداً لجسد الحسين (عليه السّلام) يوم قتله ، وجعلها باكية عليه بالدم والتراب الأحمر والحمر .
ثمّ إنّه أعطى كربلاء من الخصائص الظاهرية والمعنوية خصائص أفضل ممّا أعطى السّماء . ثمّ إنّ للحسين (عليه السّلام) ـ على وفق ما أعطى السماوات السبع وما فوقهنّ ـ أفضلها ، فلاحظ الصفات المعنوية تارة ، وانظر إلى ما فيه من الموجودات الظاهرية الأُخرى ، واستمع لما يُتلى عليك .
ولاحظ التطبيق عند بيان كلّ واحدة ، فلنتكلّم أوّلاً عن الصفات المعنوية للسماء . فنقول : السماء معدن الفيوض الربّانية ، والحسين (عليه السّلام) معدنها ، بنحو أسهل حصولاً ، وأيسر أسباباً ، وأعظم تأثيراً .
السماء محلّ صعود الدعاء واستجابته ، والحسين (عليه السّلام) اسمه محلّ استجابة الدعاء ، كما تحقّق ذلك في دعاء آدم النبي وزكريا ويوسف وغيرهم من الأنبياء (عليهم السّلام) بتوسّلهم إلى الله تعالى بالخمسة أصحاب الكساء .
السماء يصل إليها صراخ المظلوم ، وكربلاء قد ارتفع منها صراخ المظلومين بنحو خاصّ لا مثيل له .
السماء يصل إليها أنين الأيتام ، خصوصاً إذا بكوا ، بل خصوصاً إذا كان بكاءهم ليلاً ، فيهتز لهم العرش ، وكربلاء ارتفع منها أنين أيتامٍ قد اختصّوا بكيفية خاصّة بهم .
السماء فيها البُراق أوصلت راكبها المبارك (صلّى الله عليه وآله) إلى قاب قوسين ، وكربلاء فيها ذو الجناحين ، فرس الإمام الحسين (عليه السّلام) أوصل راكبه المبارك الحسين (عليه السّلام) إلى مرتبة : أنا من حسين ، لكن بسقوطه عنه .
السماء معراج الأنبياء (عليهم السّلام) ، وكربلاء معراج الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء (صلوات الله عليهم) .
السماء فيها أوضاع مؤثرة في الهواء والأرض ، وكربلاء فيها أوضاع أثّرت في السماء والعرش والكون ، بل وجميع المخلوقات بأسرها إلى يوم القيامة .
السماء فيها زجل ، أي الصوت الرفيع العالي . زجل التسبيح والتهليل ، والتكبير والتحميد ، وأصناف من القائمين والراكعين ، والساجدين والقانتين ، وكربلاء قد علا فيها زجل الضجيج والعويل ، والأنين والاستغاثة من : يا أباه ! ويا أخاه ! ويا ولداه ! ووا أباه ! ووا أخاه ! ووا سيداه ! ويا سيداه ! ووا عمّاه ! ... وهي أحبّ إلى الله تعالى في عالم العبودية والتسليم من زجل الملائكة بالتسبيح .
السماء قد سجدت فيها
الملائكة كلّها لآدم (عليه السّلام) ، وكربلاء قد صلّت فيها جميع الملائكة والأنبياء على جسد الحسين المقطّع إرباً إرباً ، المرضوض قبل الموت وبعده ، المضمّخ بدمائه الزاكيات .
السماء قد وصفها الله تعالى بالسقف المحفوظ ، والحسيـن (عليه السّلام) قد جعله تعالى سقفاً حافظاً لمَنْ لاذ به .
السماء قد وصفها الله بالسقف المرفوع ، والحسين المظلوم (عليه السّلام) قد جعله الله تعالى رافعاً لدرجات مَنْ توسّل به (عليه السّلام) .
السماء قال الله تعالى عنها : ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ) ، والحسين (عليه السّلام) قد أنزل الله تعالى به ذلك الماء الطهور إذ به (عليه السّلام) ينزل الغيب ، وقد نزل به أيضاً الغيث عند الاستسقاء فسقى ممّا خلق أنعاماً وزروعاً وأناسي كثيراً ، فقد خصّه بأن أنزل به طهور جميع الأرجاس والبليات المعنوية يذهب به رجز الشيطان ، وبذلك الماء يُطفئ النيران ، وذلك الماء بعينه يكون من مياه الجنان كما ذكرناه وسنذكره .
السماء : قال تعالى بحقّها : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ، فرزق الحياة الزائلة في السماء . والحسين (عليه السّلام) فيه رزق الحياة الدنيا والبرزخ ، بل والآخرة الدائمة ، وما توعدون به من الفوز بالجنان ورفع الدرجات والرضوان والخلود بالنعيم .
ثمّ لنتكلم ثانياً في الحياة الظاهرة ، فنقول : قوله تعالى : ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا ) . ونقول : أفلم ينظروا إلى الحبيب الحسين (عليه السّلام) في أرض كربلاء كيف كان موقفه ومشهده ، ومصابيحه حوله ممّن كان معه ؛ سواء الأنصار ، أو أهل بيته ، أو عياله ونسائه ، وكيف كان رجومه للشياطين ، ونوره وضياؤه ؟!
فارجع البصر ثمّ ارجع البصر كرتين إلى حالة ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ، ودمعه غزير ، انظر إلى الحسين (عليه السّلام) ، وانظر أولاً إلى السماء في أوضاعها وزينتها وتأثيراتها ومَنْ حلّ فيها ، ثمّ انظر إلى الحسين (عليه السّلام) ومدفنه كربلاء .
ففي السماء عرش عظيم ، وفي كربلاء زينة العرش العظيم .
السماء مسكن الملائكة ، والحسين (عليه السّلام) مختلف الملائكة .
السماء معراج الأنبياء (عليهم السّلام) ، وكربلاء معراج الملائكة .
السماء ذات البروج ، والحسين (عليه السّلام) ذو البروج كما في الرواية ، فإنّه إمام [ وابن إمام ] وأخو إمام وأبو التسعة الأئمّة المعصومين .
السماء فيها الصراخ ، كما في الحديث إنّ الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يجعل له بيتاً يسمّى بالصراخ ، قبل البيت المعمور ، يطوف به
كلّ يوم سبعون ألفاً ولا تقع لهم النوبة بعد ، والحسين إمامنا (عليه السّلام) له صريخ ، قد وكّل به سبعون ألفاً لا يُستبدلون كلّ يوم .
السماء فيها الجنة ، والحسين (عليه السّلام) زينة ، وخُلقت من نوره الجنة ، وقبره تُرعة من تُرع الجنة ، وهو سيد شباب أهل الجنة .
والسماء فيها جبرئيل الملك (عليه السّلام) ، وفي كربلاء مخدوم جبرئيل (عليه السّلام) .
السماء اُسري إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلاً ، وكربلاء اُسري إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) نهاراً كما قال (صلّى الله عليه وآله) هو : اُسريت إلى موضع يُقال له : كربلاء .
السماء فيها موسى (عليه السّلام) ، وكربلاء فيها شجرة موسى (عليه السّلام) .
السماء فيها عيسى (عليه السّلام) ، وكربلاء ولد فيها عيسى النبي (عليه السّلام) .
السماء فيها جبرئيل (عليه السّلام) ، وكربلاء فيها مخدوم جبرئيل (عليه السّلام) ونزل في مدفنه جبرئيل (عليه السّلام) .
السماء فيها الشمس ويعرضها الكسوف ، وشمس وجه الحسين (عليه السّلام) ضُحاها حين اشتدّ عليه الأمر ، وكان كلّما قرب الأمر أشرق لونه وازدهرت أنواره بهاء وهيبة .
السماء فيها أقمار ، وكربلاء فيها قمر بني هاشم وقد انخسف حين حيل بينه وبين أخيه في ميدان الحرب ، وهو القمر الذي أوّل ما تُطالب بحقّه الزهراء البتول (عليها السّلام) في المحشر يوم القيامة ، فاعرف مَنْ يكون وما هو قدر هذا القمر الأزهر ؟
السماء فيها كفّ الخضيب ، والحسين (عليه السّلام) له الرأس الخضيب والوجه الخضيب والبدن الخضيب ... ؛ ولذا أثّرت في استجابة الدعاء إلى الله تعالى .
السماء فيها السيارات السبع ، وكربلاء فيها سيارات سبع من أولاد علي (عليه السّلام) ، واثنان وسبعون غيرهم قد ساروا برؤوسهم المباركة .
السماء فيها نجوم ظاهرة ألف وخمسة وعشرون ، وخفيّات لا تعدّ ، ولكلّ واحد تأثير مخصوص ، والحسين (عليه السّلام) في بدنه أربعة آلاف ظاهري من السيف والرمح والسهم ... إلخ ، والخفيّات لا تعدّ ، ولكلّ واحد تأثير خاصّ موجب لألطاف خاصة ، كما لا ننسى الرض على الرض ، والجرح على الجرح ، والضربة فوق الضربة .
السماء فيها القطب وبنات نعش تدور حوله ، وكربلاء فيها بدن قطب الإمامة وبناته يدرنَ حوله وأطفاله ونساءه بالنوح والعويل .
السماء فيها حامل الرأس ، وكربلاء فيها الرؤوس الزاكيات المحمولة .
السماء فيها البيت المعمور
وهو قبال الصراخ ، والكعبة يطوف به كلّ يوم سبعون ألف ملك يُخلقون في ذلك اليوم ، ثمّ لا تقع عليهم النوبة ، والحسين (عليه السّلام) له أيضاً من الملائكة الطوّافين حول قبره نفس هذا العدد ، كما سنذكره في عنوان الملائكة إن شاء الله .
السماء فيها المجرّة ، وهي البياض المعترض في السماء ، يُقال : إنها أثر كبش فداء إسماعيل (عليه السّلام) ، والحسين (عليه السّلام) فيها مجرّة يبقى أثرها حتّى إنّه يُحشر مع ذلك الأثر يوم القيامة من خصائصه وتأثيرات في ذلك لخلاص العاصين بواسطته .

باب الأرض
قد أعطاه الله تعالى منها أرضاً شرّفها بخصوصيات على الأرضين ، كما سيجيء في باب الاحترام لمدفنه ، وقد جعل له صفات الأرض ، وخصوصياتها كلّها فنقول :
الأرض فيها معدن الجواهر والذهب والفضة ، والحسين (عليه السّلام) معدن القصور من اللؤلؤ والياقوت والذهب والفضة .
الأرض قد أنبث الله تعالى فيها من كلّ زوج بهيج للناس ، والحسين (عليه السّلام) قد أنبت له كلّ فرد بهيج ممتاز لا ينال بغيره ، كما سيظهر في العنوان الآتي .
الأرض قد جعلها الله تعالى للناس مهاداً وكفاتاً ، أي المنازل ، يستقرّون عليها أياماً أحياءً وأمواتاً ، والحسين (عليه السّلام) قد جعله الله للاستقرار الدائم مهداً ومهاداً ، وجعل مدفنه المبارك كفاتاً لشيعته أحياءً وأمواتاً .

باب ما أعطاه تعالى من الهواء والفضاء
قد أعطاه الله تعالى من هذين ما بين قبره والسماء ، بل ما بين الحائر والسماء فجعل له أوصافاً :
الأوّل : بأن جعله مختلف الملائكة ، كما ورد : (( ما بين قبر الحسين (عليه السّلام) إلى السماء مختلف الملائكة )) ، ومعراجاً يعرج فيه بأعمال زواره ، وجعل إسماعيل (عليه السّلام) صاحب الهواء يحضر ذلك الفضاء كلّ يوم ويسأل ملائكة الحائر ويسألونه .
الثاني : جعله مصعد عمل لم يصعد مثله .
الثالث : جعله مهبط رحمة خاصة لم يهبط مثلها .
الرابع : إنّه محلّ صعود الفيض من الأرض لأهل السماء ؛ فإنّه معراج الملائكة .

باب ما أعطاه من الماء
اعلم أنّه حيث منع من الماء الذي له فيه حقّ الشرب كسائر الناس قد أعطاه الله تعالى من المياه أربعة أنواع :
الأوّل : الكوثر جعله حقّاً له لعطشه وعطش شهدائه ، أرواهم منه في الطفّ حين وقوعهم على الأرض ، بل قبل خروج أرواحهم كما في رواية علي الأكبر (عليه السّلام) حين وقع طريحاً : يا أبت هذا جدّي (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً .
وجعله حقّاً لِمَنْ بكى عليه يرويه منه يوم العطش الأكبر ، كما في رواية مسمع ، وهذا في كثير من الأعمال الحسنة ، لكنّ خصوصية الحسين (عليه السّلام) أنّ الكوثر ليفرح بشرب الباكي عليه منه .
الثاني : ماء الحيوان في الجنان يُمزج بدموع الباكين عليه فيزيد عذوبته كما في الرواية المعتبرة .
الثالث : ماء الدموع جعله الله تعالى له ؛ فإنّه صريع الدمعة ، وإنّه قتيل العبرة ، فهو على أثر اسمه ، وعلى أثر ما هو باسمه ، وعلى ذكر مصيبته ، وعلى أثر نظره ، وعلى أثر شمّ تربته ، كما ذكر تفصيل ذلك في الفصول السابقة .
الرابع : كلّ ماء بارد عذب يشربه أحبته فإنّ للحسين (عليه السّلام) فيه حقّ الذكر ؛ فإنّه (عليه السّلام) قال : (( شيعتي ، شيعتي ، ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني )) .
وقال الصادق (عليه السّلام) : (( إنّي ما شربت ماء بارداً إلاّ وذكرت الحسين (عليه السّلام) )) .
والحكمة في تربيع الحقوق المتعلّقة بالماء له يمكن أن تكون على أحد وجهين :
فأوّلاً : إنّه مُنع عن حقوق أربعة في الماء :
الأوّل : من حيث الاشتراك مع الناس في حقّ الماء ؛ فإنّ الناس كلّهم في الماء والكلأ ، ولا جاز الشرب من الأنهار المملوكة وإن لم يأذن المالك ، بل لعلّ من ذلك استحباب سقي الكفّار إذا كانوا عُطاشى ، كما في رواية مصادف عن الصادق (عليه السّلام) في طريق مكة .
الثاني : من حيث الاشتراك مع ذوات الأرواح في حقّ الماء ؛ فإنّ لكلّ ذات روح حقّاً فيه ، ولذا يلزم التيمم مع الخوف من العطش على الحيوانات المملوكة وغيرها .
الثالث : من حيث ثبوت حقّ السقي له (عليه السّلام) على أهل الكوفة بالخصوص ؛ فإنّه قد سقاهم ثلاث مرّات ؛ في الكوفة مرّة حين الجدب ، وفي صفين تارة ،
وفي القادسية تارة حين الملاقاة مع عسكر الحرّ . والتفصيل في كتاب المراثي .
الرابع : من حيث ثبوت حقّ له (عليه السّلام) في الفرات بخصوصه ؛ فإنّه من نحلة الله تعالى لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) ، حين تزويجها بعلي (عليه السّلام) .
فلم يرعوا واحداً من هذه الحقوق ، حتّى سألهم عن ذلك قطرة لطفله ، وأراهم الطفل يتلظّى في الرمضاء فلم يرحموه ، ثمّ سألهم ذلك لنفسه فلم يعطوه ، ومات عطشان ومَنْ معه (صلوات الله تعالى عليهم وعلى شيعتهم الصادقون أصحاب الإيمان المستقر لا المستودع) .
ما خلتُ قبلك بحراً مات من ظمأ     كلاّ ولا أسداً ترديه أجمالُ
وثانياً : إنّ عطشه (عليه السّلام) قد أثّر في أربعة أعضاء ؛ فالشفة ذابلة من حرّ الظمأ ، والكبد مفتّت لعدم الماء ، كما قال هو (صلوات الله عليه) حين كان واقفاً وقد يئس من حياته بحيث علِم أنّهم يعلمون أنّه لا يعيش بعد ذلك ، فأظهر عطشه وقال (عليه السّلام) : (( الآن اسقوني قطرة من الماء فقد تفتت كبدي من الظمأ )) . واللسان مجروح من شدّة اللوك ، آه وا إماماه ! وا مظلوماه ! وهو قد جاء في الحديث .
والعين مظلمة من العطش كما في حديث جبرئيل لآدم (عليهما السّلام)(4) : ولو تراه يا آدم وهو يقول : (( وا عطشـاه ! [وا قلّة ناصراه !] )) ، حتّى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان )) . فقد أُعطي الماء لأجل كلّ عضو قد أثّر العطش فيه ، فلا يبخل عليه بالماء الذي هو بأيدينا :
ابكوا شهيـداً بالدماءِ مزمّلاً     بدمٍ بكته أعينُ المدّثرِ
ابكوا لمظلومٍ مدحه لم يُحصَ لو(*)    كانت له جرياً مياهُ الأبحرِ

باب الأشجار
وأفضل الأشجار الشجرة التي نودي منها النبي موسى (عليه السّلام) ( إِنِّي أَنَا اللَّهُ ) ، وقد ورد في الروايات أنّها كانت محلّ قبر الإمام الحسين (عليه السّلام) ، وأفضل النخل نخلة مريم المقدّسة (سلام الله عليها) ، وولد عندها عيسى النبي (عليه السّلام) ، وقد ورد أنّها كانت في كربلاء .

باب البحار
له منها خصوصية وهي أنّه (عليه السّلام) لمّا قُتل نادى ملك البحار على أهلها : يا أهل البحار ، البسوا ثوب الحزن ؛ فإنّ فرخ الرسول المصطفى مذبوح .

باب الجبال
أشرفها طور سيناء ، وقد روي أنّه محلّ قبر الحسين (عليه السّلام) ، وهو الجودي الذي استوت عليه سفينة نجاة العالمين .
فإذا تأمّلت حالنا الآن وجدتها كما قال الأمير علي (عليه السّلام) : (( أُحذّركم الدنيا ؛ تميد بأهلها ميدان السفينة ، تقصفها العواصف في لجج البحار ؛ فمنهم الغرق الوبق ، ومنهم الناجي على بطون الأمواج ، فما غرق منها فليس بمُستدرك ، وما نجا منها فإلى مهلك )) . وما ندري إنّا إذا اُغرقنا أن نكون من الذين اُغرقوا فاُدخلوا ناراً ! فهذه السفينة المائدة ، أي المتحركة المضطربة ، إذا قُضي الأمر ما ندري ما حالها ! لكن إذا استوت على جودي الحسين (عليه السّلام) بأحد وجوه الاستواء رجونا السلامة والنجاة ، يا الله .

باب الجنّ والإنس
أمّا الأنس فقد أعطاه بالخصوص ، منهم أصحاب قد وصفهم هو (عليه السّلام) لا أحد أبّر ولا أوفى منهم ، كما يظهر من ملاحظة حالهم واستيناسهم بالمنية استيناس الطفل لثدي أُمّه . وأعطاه منهم شيعة ، لهم بالنسبة إليه (عليه السّلام) محبّة خاصّة اضطرارية لا تدخل تحت ملاحظة التقرّب إلى الله تعالى أيضاً ، بل لو قلت لهم : إنّ هذا معصية لله لم يصغوا إلى ذلك ، كما يظهر من بعض حالاتهم في اللطم والجرح لأنفسهم في حياتهم وفي عاشوراء خاصة .
بل في الخدمة للأئمّة عموماً وللحسين خصوصاً من بعض الشيعة ممّا يراها غير المحبّ تعباً ونصباً لا داعي له ، ولكن عند الشيعي الصادق لذّة لا يفوقها شيء .
وقد حكى لي بعض مَنْ يوثق به أنّ في بعض بلاد ماجين طائفة من الشيعة ، لهم كيفية خاصة في اللطم والضرب على الصدور في عاشوراء ، وذلك بأنّهم يحفرون أخدوداً يملؤونه حطباً ويضرمون فيه النار ، ثمّ يخوضون فيها عند الضرب على الصدور بالمرور مكرّراً ، ويقولون : إنا لا نحس بحرارة النار .
وهذا واقع ؛ حيث نار الحزن والغمّ لمصاب أهل البيت وحبيب المصطفى (صلوات الله عليه وآله) هو أشدّ من أيّ نار مادية أو معنوية ، وهو لا يتحقّق إلاّ لِمَنْ فُني في حبّهم واتّباع نهجهم فكان وليّاً لله تعالى في السرّ والعلن .
وأمّا الجنّ ، فقد أُعطي منهم الحسين (عليه السّلام) أنصاراً جاؤوا إليه يوم خروجه من المدينة ، فقال لهم (عليه السّلام) : (( الموعد حفرتي وبقعتي ، فإذا وردتها فأتوني زوّراً )) .
ومنهم مَنْ جاؤوا إليه يوم عاشوراء فاختار لقاء الله تعالى ولم يأذن لهم في المحاربة .
ومنهم أنصار جاؤوا إليه ليلة الحادي عشر ، فرأوه قتيلاً ، وكان منهم راثين وناعين عليه رجالهم ونساءهم وبناتهم ، ولهم عليه مراثٍ ونثراً في كربلاء حول جسده ، وفي المدينة وفي البصرة ، وفي الكوفة وفي بيت المقدس ، وتحت العوسجة(5) ، وكان منهم منادون بقتله ، ناعون له في جميع الأقطار والجهات .
وكانت نساء الجنّ نائحات حول جسده المبارك ليلاً حينما كان مطروحاً فسمع منهنّ :
نساء الجنّ يبكينَ     من الحزنِ شجياتِ
ويندبنَ حسينا ع    ـظُمت تلكَ المصيباتِ
ويلبسنَ الثياب السو     دَ بعد القصبيّاتِ

وأيضاً كانت الجنّ تنوح :
مسحَ الرسولُ جبينَه     فلهُ بريقٌ في الخدودِ
أبواه من عُليا قريـ     شٍ جدّهُ خيرُ الجدودِ

باب خصائص الوحوش
قد جعل الله تعالى الوحوش راثية له (عليه السّلام) في كربلاء قبل دفنه ، كما في رواية الظباء التي كلّمت النبي عيسى بن مريم (عليهما السّلام) في كربلاء ، والسبع الذي رآه النبي عيسى (عليه السّلام) كما سيجيء ، وجعلها في ليالي طرحه مادة أعناقها على جسده يبكينه حتّى الصباح .

باب خصائص الطيور
قد جعل الله تبارك وتعالى الطيور نائحة عليه (عليه السّلام) ، وناشرة أجنحتها على جسده المبارك ، ونائحة له في المدينة عند قبر جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، ومخبرة لغيرها من الطيور بشهادته .

باب ما خصّه من الخيل والإبل
قد خصّه الله تعالى بفرس رسوله الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وآله) المرتجز ، ولعلّه المسمّى بذي الجناح ، والذي كان متأسّياً بصاحبه في العطش ، مؤثراً له على نفسه في ذلك ؛ فإنّه لمّا ورد الماء عند التحام القتال وضع ذو الجناح فمه في الماء ، وقال له : (( أنا عطشان وأنت عطشان ، والله لا أشرب حتّى تشرب )) . فرفع رأسه يعني يا مولاي لا أشربه حتّى تشربه ، فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( اشرب فأنا أشرب )) .
ثمّ مدّ يده إلى الماء وصار ما صار ممّا يأتي في محلّه ، وجعله متظلّماً من قتلته ، مناديا : الظليمة الظليمة ! من أمّة قتلت ابن بنت نبيها . وجعله ناعياً له إلى أهله وأطفاله ، مجاهداً عنه بعد قتله كما في الرواية .
وخصّه من الإبل بناقة له قد ركبها صبح عاشوراء ، وخطب عليها ثمّ نزل عنها ، وقال لعقبة بن سمعان : (( اعقلها )) . فظلّت معقولة إلى أن قُتل ، فضربت رأسها على
الأرض حتّى ماتت .

باب ما خصّه سبحانه وتعالى من الأوضاع الدنيوية
لم يرد الله تعالى الدنيا لأوليائه ، ولكن قد خصّ الحسين (عليه السّلام) ـ حيث منعوا عنه الماء والطعام ، وتركوه مطروحاً بلا دفن ـ بإعطاء ثلاثة أشياء من جنس ما منعوه ؛ فجعل الله تعالى له سقاية ، وإطعاماً ، وعمارة متصلة دائمة إلى يوم القيامة .
أمّا السقاية : فإنّه جعل ثواباً خاصّاً للسقي عند قبره ليلة عاشوراء ، فقد ورد : (( أنّ مَنْ سقى الماء ليلة عاشوراء عند قبره كان كمَنْ سقى عسكر الحسين (عليه السّلام) )) .
وقد استنبط من ذلك أنّ معظم أجر سقي الماء الذي هو أوّل أجر يُعطى يوم القيامة إنّما يكون للحسين المظلوم العطشان (عليه السّلام) ؛ ولذا فقد سبّل شيعته الماء في كلّ مكان وجعلوه باسم الحسين ، فقامت السقايات طوال السنة في كلّ مكان ، خصوصاً في عاشوراء باسم الحسين ، أي ثوابه للحسين ، وجعل تسبيل الماء كأنّه مختصّ بما كان للحسين (عليه السّلام) .
وكذلك الإطعام : في تعزيته قد استمر دائماً خصوصاً في شهر محرّم ، فلعلّ أيام السنة إذا لاحظتها يصل مصرف الإطعام في مجالس عزائه ، لو قُسّمت على الأيام كلّ يوم أكراراً الحساب المتعارف ، وأكراراً أي جمع كرّ ، وهو كيل معروف مقداره بالوزن 2160 كغم تقريباً كما يُفهم من أهل اللغة .
وأمّا العمارة : فإنّه حيث طرحوه على الأرض عوضه الله العلي القدير ، كما أخبر به جبرئيل (عليه السّلام) عن الله سبحانه ، وروته زينب (عليها السّلام) عن السجّاد (صلوات الله عليهم)(6) : (( وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يندرس أثره ، ولا يعفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ... )) .
فجعل تبارك وتعالى عوض هذه قبّة عالية تزداد علوّاً ورفعة دائماً ، تزدهر بنور الله تعالى إلى يوم القيامة ، فترى بيت الله والمشاهد كلّها قد تمّت عمارتها لكنّ حرم الحسين (عليه السّلام) من يوم بُني إلى أن هدمه المتوكّل ، ثمّ بناه الهادم بنفسه ، قد اشتغل الخلفاء والسلاطين ببنائه .
ولا ينتهي عمل البنّائين والنقّاشين والمزيّنين بالذهب والبلور ؛ فهم مشغولون دائماً ، وإنّي من أوّل مقامي هناك ـ وأنا عمري خمس سنين ـ إلى الآن ـ وأنا ابن ستين سنة ـ لم أرَ ولم أسمع بعدم الاشتغال فيه ؛ إمّا بالعمارة أو الزينة ولو يوماً واحداً . والظاهر استمرار ذلك إلى يوم القيامة ؛ للنكتة التي ذكرناها .

القسم الثامن : الاحترامات الخاصّة به (عليه السّلام) وبجميع ما يتعلّق به من الحمل إلى يوم القيامة
فأوّلها : الاحترام الخاصّ للزهراء (عليها السّلام) أثناء الحمل به (عليه السّلام) ، وقول النبي (صلوات الله عليه وآله) لها : (( إنّي أرى في مقدّم وجهك نوراً ، وستلدين حجّة لهذا الخلق )) . والقراءة عليها مكرراً ، والقراءة على الماء ورشّه .
وقولها (عليها السّلام) : (( كنت لا أحتاج أيام حملي به في البيت المظلم إلى مصباح )) . وقولها (عليه السّلام) : (( كنت أسمع التقديس والتسبيح منه في بطني )) . وقولها : (( إنّي كلّما نمت رأيت في المنام شخصين نورانيين يقرآن عليّ )) .
وثانيها : الاحترام الخاصّ للتهنئة بولادته ، فقد صدرت خمسة أقسام من الوحي عندها ، فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان : (( أن زخرف الجنة وطيّبها ؛ كرامة لمولود ولد لمحمد (صلّى الله عليه وآله) )) . وأوحى الله إلى الملائكة : (( أن قوموا صفوفاً بالتسبيح والتحميد ، والتمجيد والتكبير ؛ كرامة لمولود ولد لمحمد (صلوات الله عليه وآله) )) .
وأوحى الله تعالى إلى جبرئيل (عليه السّلام) : (( أن اهبط إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) في ألف قبيل ـ والقبيل ألف ألف ملك ـ على خيول بُلق مسرجة ، عليها قباب الدرّ والياقوت ، معهم الروحانيون ، بأيديهم حراب من نور أن هنئوا محمداً (صلّى الله عليه وآله) بمولوده )) . فتأمّل في هذه الكيفية والجمعية الخاصّة لهذه التهنئة .
ثالثها : الاحترام الخاصّ لتسميته ؛ فإنّه قال تعالى لجبرئيل (عليه السّلام) بعد ذلك ، واخبره : (( إنّي سمّيته الحسين )) ، فالتسمية منه تعالى بالخصوص ، وقد سمّاه في كتابه المجيد ووصفه بأوصاف خاصّة ، وجعل تعالى له (عليه السّلام) في السماوات أسماء خاصّة كما في الروايات .
رابعها : الاحترام الخاصّ لتعزيته ؛ فإنّه قال تعالى بعد التسمية بالحسين (عليه السّلام) لجبرئيل (عليه السّلام) بعد التهنئة : (( عزّه وقل له : إنّ أُمّتك ستقتله )) .
خامسها : الاحترام الخاصّ لقابلته ؛ فإنّه تعالى قد أرسل حورية خاصّة ، فائقة على الحور عند ولادته ، فكانت قابلة له هي ومَنْ معها من الحور العين .
سادسها : الاحترام الخاصّ لمهده ؛ فقد عاذ الملك فطرس بمهده (عليه السّلام) .
سابعها : الاحترام الخاصّ لتحريك مهده ، حرّكت مهده الملائكة ، وميكائيل .
ثامنها : احترام خاصّ لمناغاته في المهد ، فجعل يناغيه في المهد جبرئيل (عليه السّلام) .
تاسعها : احترام
خاصّ لرضاعه ؛ فجعله من لسان نبيّه وإبهامه ، مع إنّ لثدي الزهراء (عليها السّلام) شرافة لا أشرف منها . لكن حيث إنّ النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) أشرف وأفضل تحقّق له بالنسبة إليه مصداق ما في زيارة جابر له حين قال : غذّتك يد الرحمة ، ورضعت من ثدي الإيمان ، ورُبيت في حجر الإسلام .
عاشرها : احترام خاصّ للباسه ؛ فأهدى إليه بالخصوص لباساً ، قال فيه النبي (صلّى الله عليه وآله) حين ألبسه : (( هذه هدية أهداها إليّ ربّي تعالى للحسين ، وأنا اُلبسه إيّاها ، وإنّ لحمتها من زغب جناح جبرئيل )) .
حادي عشرها : احترام خاصّ لقبره المبارك ؛ فزاره قبل دفنه كلّ نبي من آدم إلى الخاتم (صلّى الله عليه وآله) ، ولم يُسمع أبداً بقبر قبل دفن صاحبه فيه .
ثاني عشرها : الاحترام الخاصّ لدمعه ، كما في رواية الخشف من الغزالة ، وسنذكرها .
ثالث عشرها : احترام خاصّ لدمه ، فجعل الله تعالى حبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) يجيء فيلتقطه ويجمعه في قارورة خضراء ، قد جاء بها ملك من الملأ الأعلى لأجل ذلك .
رابع عشرها : الاحترام الخاصّ للدمع الجاري عليه ؛ فجعل الملائكة يجمعونه ويدفعونه إلى خزنة الجنان ، ثمّ خزنة يمزجونه بماء الحيوان .
خامس عشرها : الاحترام الخاصّ لمحلّ سيلان الدمع ، فلا يرهقه قتر ولا ذلّة .
سادس عشرها : الاحترام الخاصّ لمجلسه ، كما سيجيء ذكره عند خواص المجلس المبارك .
سابع عشرها : احترام خاصّ من الله تعالى لشفاعته ؛ بأن جعله شفيع الملائكة ، وجعل وقتها يوم ولادته ، وشفاعة غيره إنّما هي للناس يوم القيامة ، فأعطاه هذه علاوة على تلك .
ثامن عشرها : الاحترام الخاصّ للتربة المحيطة بقبره الشريف بتفاوت القرب إليه ؛ من خمسة وعشرين ذراعاً إلى أربعة فراسخ ، فلها فضائل متفاوتة بتفاوت القرب إلى موضع مرقده ، وقد اختارها لمدفنه يوم دحي الأرض كما قال ذلك (عليه السّلام) حين أراد الخروج من المدينة المنورة ، فجعل الله تعالى لها خصوصيات .
الأولى : إنّها شرُفت على الكعبة المكرّمة(7) .
فمِن حديثِ كربلا والكعبهْ     لكربلا بانَ علو الرتبـــهْ
وقد يُقال : إنّها أفضل من أرض الغري وإن لم تكن أفضل من أصل
مرقد أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) .
الثانية : إنّه ورد عن الباقر (عليه السّلام) بأسانيد معتبرة أنّه خلق الله تعالى هذه الأرض قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدّسها وبارك عليها .
الثالثة : روي عنه (عليه السّلام) أيضاً بأسانيد كثيرة أنّه ما زالت كربلاء قبل خلق الله تعالى الخلق مقدّسة مباركة ، ولا تزال كذلك حتّى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة ، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله تعالى فيه أولياءه في الجنة .
الرابعة : إنّه جعل هذه التربة ترعة من ترع الجنة .
الخامسة : عن السجّاد (صلوات الله عليه) : (( أنّه إذا زلزلت الأرض زلزالها وسيّرها ، رفعت كربلاء كما هي بتربتها نورانية صافية ، فجُعلت في أفضل روضة من رياض الجنة ، وإنّها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدريّ بين الكواكب ؛ يغشى نورها أبصار أهل الجنة ، وهي تنادي : أنا أرض الله المقدّسة الطيّبة المباركة التي تضمّنت سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة )) .
السادسة : إنّ التسبيح والاستغفار بحبات صُنعت من تربته موجبان لتضاعف ثواب التسبيح لسبيعين .
السابعة : إنّ إدارة السبحة المباركة من تربة كربلاء بلا تسبيح توجب ثواب التسبيح .
أكرم بها من سبحة لحامل يحملها مسبّحهِ .
الثامنة : إنّه إذا أخذ السبحة منها وقال صباحاً : (( اللّهمّ إنّي أصبحت أُسبّحك واُهللك وأحمدك عدد ما اُدير به سبحتي )) . كتب ذلك ما دامت في يده ، وكذا إذا قال حين نومه ، واضعاً لها تحت رأسه كما في الرواية عن الإمام السجّاد (صلوات الله تعالى عليه) .
التاسعة : إنّ السجود على ترابها يخرق الحجب السبعة ، ومعنى هذا الحديث ؛ إمّا خرق السماوات للصعود ، أو المراد بالحجب المعاصي السبع التي تمنع قبول الأعمال ، على ما في رواية معاذ بن جبل ، وإنّ السجود عليها ينوّر الأرضين السبع .
مسألة : هل الفضل في السجود على التراب منها ، أو يشمل المصنوعة من الطين المتعارفة ؟ روى معاوية بن عمار أنّ الصادق (عليه السّلام) كانت له خريطة ، أي كيس أو هميان ، فيها تراب كان يفرشه ويسجد عليه ، وهذا يدلّ على أفضلية التراب ، ويدلّ عليها غيره من العمومات .
العاشرة : إنّ أكل كلّ طين حرام ، وفي الرواية
عن الصادق (عليه السّلام) : (( إنّه كلحم الخنزير ، ومَنْ أكل فمات فلا يُصلّى عليه )) . إلاّ مَنْ أكل طين قبر الحسين (صلوات الله عليه) للشفاء ، والذي له شروط وآداب بالنسبة إلى مكان أخذه وأخذه ، وموضع إمساكه وأكله ، والنيّة فيه . وعمدة ذلك النيّة .
وفي الحديث عن أبي يعفور بأسانيد كثيرة ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) : يأخذ الإنسان من طين قبر الحسين (عليه السّلام) فينتفع به ، ويأخذه غيره فلا ينتفع به ! قال (عليه السّلام) : (( لا والله الذي لا إله إلاّ هو ، ما يأخذه أحد وهو يرى أنّ الله تعالى ينفعه به إلاّ نفعه الله تعالى به )) . وكذا يذهب أثره عدم الختم عليه فيتمسح به الجنّ والشياطين ويذهب أثره ، كما في الروايات ، وللختم عليه طرق .
الحادية عشرة : إنّ حمل طينه عوذة وحرز للمخاوف إذا حمله بهذه النيّة كما في الحديث .
الثانية عشرة : إنّ جعل طينه في المتاع للتجارة موجب للبركة فيها(8) .
الثالثة عشرة : إنّه ورد : (( حنّكوا أولادكم بتربة قبر الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّها أمان ))(9) .
الرابعة عشرة : إنّه إذا جُعل مع الميّت في قبره كان له أماناً ، كما ورد ، وقد ورد أنّ امرأة كانت تزني وتحرق أولادها ، فلمّا ماتت ودُفنت قذفتها الأرض مراراً ، فجُعل معها بتعليم أحد الأئمّة تربة الحسين (عليه السّلام) ، فلم يقذفها المدفن بعد ذلك .
الخامسة عشرة : إنّه يستحبّ خلط الحنوط بتربة كربلاء(10) .
السادسة عشرة : إنّ الدفن فيها موجب لدخول الجنة بغير حساب .
السابعة عشرة : إنّ الحور العين تستهدي التربة من الملائكة النازلين إلى الأرض للتبرك بها .
الثامنة عشرة : إنّ هذه التربة قد حملها كلّ ملك وأهداها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أخذ النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) منها بنفسه ، وقد أخذ الحسين (عليه السّلام) منها بنفسه أيضاً كما سنذكره .
التاسعة عشرة : إنّه قد دُفن فيها قبل الحسين (عليه السّلام) مئتا نبي ومئتا وصي ومئتا سبط كلّهم شهداء(11) .
العشرون : إنّ شمّها موجب لإراقة الدموع والعبرات ، وقد تحقّق ذلك قبل دفنه أيضاً للنبي (صلّى الله عليه وآله) وبالنسبة إلى الحسين نفسه (عليه السّلام) ، كما سنذكره في بيان أسباب البكاء .
الحادية والعشرون : إنّ هذه
التربة قد انقلبت دماً أينما كانت عند انصباب دم الحسين (صلوات الله عليه) كما يظهر من روايات كثيرة ، منها رواية التربة التي كانت عند أُمّ سلمة والتي رواها العامّة والخاصّة ، وقد أعطاها النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) لها حين أتى بها جبرئيل (عليه السّلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وحين اُسري به (صلّى الله عليه وآله) هناك .
فأتى بها (صلّى الله عليه وآله) بيده الشريفة وأعطاها إلى أُمّ سلمة وهي تربة حمراء ، فقال لها (صلّى الله عليه وآله) : (( احتفظي بها ، فإذا صارت دماً فإنّ ابني قد قُتل )) . قالت : فوضعتها في قارورة ، وكنت أنظر إليها كلّ يوم وأبكي حتّى صار يوم العاشر من المحرّم ، نظرت إليها وقت الصبح فوجدتها على حالها ، ثمّ عُدت إليها بعد الزوال فإذا هي دم عبيط ؛ فصحت وصرخت .
قالت [بنت أو اُخت] أُمّ سلمة : رأيت القارورة بين يديها ودمها يغلي .
وقد روي أنّ أُمّ سلمة (صلوات الله تعالى عليها) ماتت يوم العاشر من المحرّم حزناً على ولدها الحسين (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) ، وذلك بعد أن أقامت العزاء عليه مع جمع من نساء المدينة المنوّرة .
الثانية والعشرون : إنّ دخوله موجب للحزن الشديد كما هو مُشاهد بالوجدان ، خصوصاً إذا دنوت من القبر ، خصوصاً إذا نظرت إلى قبر ابنه عند رجليه . في الرواية إنّه يرحمه مَنْ نظر إلى قبر ابنه عند رجليه(12) ، فهل ترحمه كذلك إذا تصوّرت حالهما .
الثالث والعشرون : إنّ هذه التربة مقبوضة بيد كلّ ملك زار النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، ففي الرواية إنّ كلّ ملك أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) كان معه شيء من تربة كربلاء ، وكلّ نبي زار كربلاء فقد قبض منها وشمّها ومسّ جلده ترابها المبارك ، فهي مقام كلّ الأنبياء (عليهم السّلام) إلى يوم القيامة .
الرابعة والعشرون : من الاحترامات الاحترام الخاصّ الذي قدّره الله تعالى لها مقارناً مع هتك حرمته من كلّ هاتك أراد إذلاله فقرنه بإعزاز واحترام ؛ إمّا من الهاتك نفسه ، وإمّا من غيره مقارناً لهتكه بحيث يغلب على هتكه .
وقد لاحظت هذا المعنى من قضايا عديدة تقرب إلى أربعين قضية ، والحمد لله على إلهامه ذلك ، وإن أردت تصديق ذلك فلاحظ قضايا هاتكي حرمته والمجترئين عليه (صلوات الله تعالى عليه) .
فنقول : إنّ الإذلال والهتك للحرمة عنوان ، والقتل والجرح عنوان آخر ، وحيث إنّ من اللطف الواجب على الله تعالى أن لا يذلّ أولياءه ذلاً ينفر عنهم القلوب ، فقد جعلهم مع
الضعف والفقر والخصاصة الظاهرية يملؤون العيون غنى وصولة ، وهيبة ووقاراً وتمكيناً في القلوب .
وقد جعل لسيدنا المظلوم في ذلك خصوصية ؛ فأوّل مَنْ أحبّ قتله ـ وهو معاوية ـ أمر باحترامه ؛ وذلك عند وصيته ليزيد وقوله له : إنّي أخاف عليك من الحسين ، لكن إذا ظفرت به فراعِ حقّه ؛ فإنّه فلذة كبد رسول الله تعالى (صلّى الله عليه وآله) .
وأوّل مَنْ اُمر بقتله ، وهو الوليد حاكم المدينة ، قال : أعوذ بالله تعالى أن أبتلي بدمه .
وقد احترمه ابن سعد (عليه اللعنة) حين عزم على حربه ، فأنشد أبياتاً منها :
أأتركُ ملكَ الريّ والريّ منيتي     أو أصبح مأثوماً بقتلِ حسينِ
وقي قتلهِ النارُ التي ليسَ دونها     حجابٌ [وملك] الريِّ قرّةُ عينِ

وقد احترمه شمر حين أمر الناس بالهجوم عليه ، فقال : إنّه كفء كريم ، ليس القتل عنده عاراً .
وقد احترمه مَنْ اشتغل بقتله بأقوال ، منها : أقتلك وأعلم أنّ الخصم العليُّ الأعلى .
وقد احترمه حامل رأسه إلى ابن زياد (لعنه الله تعالى) ، فقال :
املأ ركابي فضةً أو ذهبا     إنّي قتلتُ السيدَ المهذبا
قتلتُ خيرَ الناسِ أُمّاً وأبا     وخيرَهم إذا يُنسبون نسبا

فأمر ابن زياد بقتله .
وقد احترمه الراضّون لجسده بأبيات عظّموه فيها(13) .
وقد احترمه يزيد (لعنه الله تعالى) بمدحه له (عليه السّلام) ورأسه المبارك بين يديه .
وإنّ الاحترامات المقارنة للهتك إذا لم تحصل من الهاتك نفسه ففي قضايا كثيرة من الذين هتكوا حرمته بألسنتهم ، منها : قول مَنْ قال له يوم عاشوراء : يا حسين ، أبشر بالنار . فقارنه الله تعالى بأن عثرت فرسه فتعلّقت رجله بالركاب فجرّته الفرس إلى خندق النار في ساعته .
ومنها : قول مَنْ قال له ذلك اليوم : يا حسين ، أي حرمة لك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؟ فابتلى تلك الساعة بأن خرج للحدث فلدغته حيّة وهو يتغوّط ، وتلوّث بحدثه ومات في ساعته .
ومنها : قول مَنْ قال له : انظر إلى الماء حتّى تموت عطشاً . فقال الحسين (عليه السّلام) : (( اللّهمّ أمته عطشاً )) . فعرضت له حالة
كان ينادي : العطش العطش ! فيُسقى قربة ، ثمّ ينادي : العطش العطش ! حتّى انقدّت بطنه ومات عطشاً .
الخامسة والعشرون : الاحترام الخاصّ لأكله . فإنّه قد أُتحف من الجنة بثمرات حين اشتهاها ، وهي في مواضع ، منها : حديث الرطب ، والسفرجلة ، والتفاحة ، وكل طعام أُهدي من الجنة إلى جدّه (صلّى الله عليه وآله) ، وأبيه وأُمّه وأخيه (عليهم السّلام) ، كانت عمدة استدعائه منه أو لأجله .
السادسة والعشرون : التشريفات الخاصّة للباسه . قد خصّ الله تعالى الحسن والحسين (عليهما السّلام) بأن اُهدي إليهما من ألبسة الجنة مراراً ، واختلاف اللونين في لباسهما . والسرّ فيه مشهور ، وعلى كلّ لسان مذكور ، لكن خصّ الله تعالى الحسين (عليه السّلام) بلباس خاصّ به .
قالت أُمّ سلمة : رأيت رسول الله (صلوات الله عليه وآله) يُلبس ثوباً للحسين (عليه السّلام) لم أرَ مثله في الدنيا ، فسألته فقال : (( هذه هدية أهداها ربّي تعالى للحسين ، وأنا اُلبسه إيّاها ، وإنّ لحمتها من زغب جناح جبرئيل (عليه السّلام) )) .
ثمّ ألبسه الله تعالى بعد ذلك عند عرائه ألبسه من حلل الجنة بيد الملائكة كما سيجيء تفصيلها إن شاء الله تعالى .
انتهـى العنوان الرابـع

 


 

(1) أصل الحديث : (( إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة )) (الخرائج والجرائح ـ للراوندي 2 / 842) . (موقع معهد الإمامين الحسنين)
(2)أي إنا كشفنا الستر عنك .
(3) كما ورد في المنتخب ـ للطريحي / 51 .
(4) بحار الأنوار 44 / 244 .
(*) لا يخفى ما في البيت من خللٍ عروضي واضح . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(5)انظر قصّتها في البحار 45 / 233 ـ 234 .
(6)لا يخفى ما في العبارة من لُبسٍ أو خطأ ؛ فإنّ الإمام السجاد (عليه السّلام) هو الذي روى هذا الحديث عن عمّته زينب (عليها السّلام) لا كما ذُكر ، والسياق دالّ عليه . (راجع بحار الأنوار 28 / 57 ح23) . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(7)كما ورد في بحار الأنوار 44 / 331 .
(8) كما في الرواية في كامل الزيارات / 278 .
(9)المصدر نفسه .
(10) كما في تهذيب الأحكام 6 / 76 .
(11) كما في الرواية المعتبرة في كامل الزيارات / 270 .
(12) كما جاء في كامل الزيارات / 61 .
(13)انظر اللهوف / 59 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page