• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

العنوان السادس : في خصوصياته (عليه السّلام) المتعلّقة بالخشوع ؛ لتذكّره ، والرقّة ، والبكاء عليه ، وإقامة مجالس المآتم والرثاء

العنوان السادس
في خصوصياته (عليه السّلام) المتعلّقة بالخشوع ؛
لتذكّره ، والرقّة ، والبكاء عليه ، وإقامة مجالس المآتم والرثاء

وفيه مقدمة ومقاصد :
قال الله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) . يعني بعد ما آتاكم من العقل والتدبير ، وبعد ما شاهدتم الآيات في الأنفس والآفاق ، والسماوات
والأرض ، وفي كلّ ذرّة وورقة ، وبعد ما رأيتم العِبَر والغِيَر في الغافلين ، وبعد ما تُليت عليكم الآيات ، وبعد ما عمّرتم ما يتذكّر فيه مَنْ تذكّر وجاءكم النذير من بين أيديكم ومن خلفكم ، وتكاثرت عليكم الأصوات المنادية الواعظة لكم ، وبعد ما مرّ عليكم دهر في الإسلام وادعائكم وانتحالكم له ، ألم يأنِ أن تخشع قلوبكم لذكر الله تعالى ؟ فإذا ذكرتموه كنتم من المؤمنين ، ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) ، وكففتم عن المعاصي .
ألم يأنِ للذين آمنوا وعرفوا عظمة ربّهم تعالى أن تخشع قلوبهم لذكر الله إذا قاموا بين يديه وخاطبوه ، فيكونوا من المؤمنين ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) ؟ فقد انتهى العمر ولم تصلِّ ركعتين خشوعاً لله تعالى ، فصلَّ لربّك صلاة واحدة ؛ فلعلّها تكون صلاة وداع.
ألم يأنِ للذين آمنوا وعرفوا أن لا نافع إلاّ الله تعالى ، ولا ملجأ إلاّ له تعالى ؟ أن تخشع قلوبهم لذكر الله فلا يكونوا من الذين لا يرون شيئاً إلاّ ويرون الله بعده ، أو الذين لا يرون شيئاً إلاّ ويرون الله تعالى معه ، أو قبله .
ألم يأنِ للذين أمنوا إذا اُفنيت أعمارهم يوماً في البُعد عن الله ولم يذكروه يوماً ولا ساعة ذكراً نافعاً ، أن تخشع قلوبهم لذكر الله آناً واحداً لغلبة خوف واضطراب ؟ فلعلّه يكون توبة إلى ربّهم ورجوعاً إليه بعد انقطاعهم عنه ، فيكون لهم وصل بعد الإعراض والقطع ، ولا يموتون حين هم عن ربّهم محجوبون .
ألم يأنِ للذين آمنوا بالله ورزقهم الله معرفة أوليائه ، أن تخشع قلوبهم لذكر الحسين الشهيد (عليه السّلام) فيبكون عليه ؟ فإنّه من خشوع القلب لذكر الله ، كما إنّ مَنْ والاه فقد والى الله ، ومَنْ عاداه فقد عادى الله ، ومَنْ أحبّه فقد أحبّ الله ، ومَنْ اعتصم به فقد اعتصم بالله ، ومَنْ زاره فقد زار الله ، ومَنْ خشع قلبه لذكره فقد خشع قلبه لذكر الله تعالى ، ومَنْ انكسر قلبه لمصابه ومصاب أولياء الله تعالى فإنّه يكون صاحب قلب يحبّه الله تعالى فيفيض عليه من عنايته الخاصّة .
ألم يأنِ ذلك خصوصاً إذا دخل المحرّم وهلّ عاشوراء ، أما ترى الناس ذوي كربة قد خُنقت منهم القلوب بالبكاء ؟ فيا أيّها الذين آمنوا هذا أوّل خشوع القلب لذكر الإمام الحسين (عليه السّلام) الراجع إلى ذكر الله تعالى ، فاذكروا الله ذكراً كثيراً
بذكر الحسين (عليه السّلام) ، ذكراً راجعاً إلى ذكر الله تعالى ، وإقامة عزائه بما يرجع إلى خشوع القلب لذكر الله تعالى .
والمراد بقولي : الراجع إلى ذكر الله سبحانه ، أنّ خشوع القلب لذكر الحسين (عليه السّلام) له أقسام ، منها ما يرجع إلى ذكر الله ، ويكون لله تعالى ، والفرد الكامل منه لِمَنْ خلص إيمانه ، يكون خشوع قلبه للحسين (عليه السّلام) من القسم الراجع إلى خشوع القلب لذكر الله ، نظير أصل ذكر الله ، والتسبيح بحمده والخضوع له ؛ فإنّ كلّ مخلوق يسبّح بحمد ربّه تبارك وتعالى ، ويخضع له ، ويسجد له سجوداً تكوينياً ، ولكنّ الفضيلة للتكليفي الجامع للشرائط ، وكذلك خشوع القلب له (عليه السّلام) ومسألة بطلان الصّلاة بالبكاء على الحسين (عليه السّلام) وحكمه يتوقفان على تشخيص هذه الأقسام .
فكلّ بكاء على الإمام الحسين (عليه السّلام) يكون من خشوع القلب لذكر الله تعالى لا يبطل الصّلاة ، وما كان لمحض الرقّة البشرية ففيه إشكال فتأمّل .
ولنفصّل الكلام في بيان هذا المطلب الشريف ببيان أقسام خشوع القلب للحسين (عليه السّلام) ، وبيان ما يتعلّق بالرثاء له في ضمن مقاصد بعون الملك الوهاب :
المقصد الأوّل : في المنشأ الباطني للخشوع وسبب حصوله .
المقصد الثاني : في البواعث الخارجية الموجبة للبكاء المختصّة به .
المقصد الثالث : في كيفيات الرقّة والجزع والبكاء عليه .
المقصد الرابع : في المجالس المنعقدة لذكر مصيبته والبكاء عليه .
المقصد الخامس : في صحف الرثاء والكتب التي رثته قبل شهادته وعندها .
المقصد السادس : في خواص مجالس البكاء .
المقصد السابع : في خواص البكاء من حيث الصّفات .
المقصد الثامن : في فضائل البكاء وتأثيره وثوابه .
المقصد التاسع : في خواص البكاء لنيل الأجر والثواب .
المقصد العاشر : في خواص العين الباكية .
المقصد الحادي عشر : في خواص الدمع الجاري .
المقصد الثاني عشر : في خاتمة المقاصد ، والحمد لله .

المقصد الأوّل : في المنشأ الباطني للبكاء وسبب حصوله
اعلم أنّ منشأ البكاء قد يكون سبباً ملحوظاً للباكي ، وقد يكون غير ملحوظ ، فهو نوعان :

النوع الأوّل : ما كان بلحاظ سبب ملحوظ
وأقسام البكاء بالسبب الملحوظ ثمانية :

القسم الأوّل : لعلقة مع صاحب العزاء
وأعظم العلقات الأبوة ؛ ولذا قرن الله تعالى حقّ الوالدين بالتوحيد . قال تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ؛ وذلك لأنّهما علّة الإيجاد الصوري لك .
فإذا كان حقّ علّة الإيجاد الصوري بهذه المرتبة ، فلعلّه الإيجاد الصوري والمعنوي أحقّ بهذا الحق ، فالوالد الحقيقي النبيّ والوصي (سلام الله عليهما) ، وقضى ربّك بالإحسان إليهما ، وكما جاء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي المرتضى (عليه السّلام) : (( يا علي ، أنا وأنت أبَوَا هذه الأُمّة )) .
ولا ريب إنّ إقامة العزاء والبكاء على الحسين (عليه السّلام) إحسان إلى النبي والوصي والزهراء (صلوات الله عليهم) ، بل في بعض الروايات في تفسير قوله تعالى : ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ، أنّ الوالدين الحسـن والحسين (عليهما السّلام) ، فالبكاء عليه إحسان إلى الوالد ابتداءً .
والوجه في أنّ البكاء إحسان : إنّ الإحسان إيصال النفع ، وعمدة النفع الإعزاز والاحترام ، والبكاء إعزاز للأموات والمقتولين ؛ ولذا سأل النبي إبراهيم (عليه السّلام) ربّه تعالى في ابنة تبكيه بعد موته ، ولمّا سمع النبي (صلّى الله عليه وآله) نساء الأنصار يندبنَ قتلى اُحد ، قال (صلوات الله عليه وعلى آله) : (( أمّا حمزة فلا بواكي له )) ؛ فأمر الأنصار نساءهم أن يندبنَ حمزة ، فسمع النبي محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) فدعا لهنّ .
وقد جاء أيضاً : أنّه مرّ النبي (صلّى الله عليه وآله) بنسوة من الأنصار يبكينَ ميّتاً فزجرهن عمر ، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( دعهنّ يا عمر ؛ فإنّ النفس مصابة ، والعين دامعة ، والعهد قريب )) .
ولمّا بكت نساء أهل المدينة على قتلى اُحد قال النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( لكنّ حمزة لا باكية له )) . فسمع ذلك أهل المدينة فلم يقم لهم مأتم بعدها إلى اليوم إلاّ ابتدأ النساء فيه بالبكاء على حمزة .
نكتة : حمزة سيد الشهداء (عليه السّلام) تحقّقت له بعض أجزاء تجهيز الموتى من الكفن والصّلاة والدفن والتشييع وغير ذلك إلاّ النوادب ، فعظم ذلك على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
ولكنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) سيد الشهداء لم يكن له شيء من ذلك إلاّ النوادب ، بل قد زيد في ابتلائه مقابل ابتلاء الحمزة (عليهما السّلام) ، خلاف التمثيل بالجسد باستخراج كبد الحمزة ، فقد زاد بلاء الحسين على الحمزة بالرض قبل وبعد الشهادة ، وتقطيع الجسد المبارك إرباً إرباً ؛ فكان الجرح على الجرح ، والطعنة فوق الطعنة ، وتكسير الضلوع والبدن السليب ، وقطع الأصبع وضرب الجبهة ، والغدر والموت عطشاً ، وتقتيل أهل بيته وأولاده وإخوته ، وأبناء إخوته وأبناء عمومته قبل شهادته ...
حتّى نادت أُخته المباركة زينب الكبرى (عليها السّلام) بصوت حزين ، أخذت تُنادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليشهد الندبة ، لكن قد منعوهنّ فيها ، بل ومن البكاء ، بل ومن إجراء الدمع حتّى أشبعوها ومَنْ معها من الأطفال والنساء ضرباً بالسياط حتّى اسودّت أجسامهم من شدّة الضرب والزجر لهنّ وللأطفال .
فهلم نبكي عليه وعلى مصاب محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطياب (عليهم السّلام) ، بكاءَ قرابةٍ حقيقيةٍ إن كنّا من الموالين بأدنى درجات الولاء والانسجام معهم ومع خطّهم القويم ؛ فمَنْ لا يبكي
كذلك فهو عاق قاطع الرحم .

القسم الثاني : الرقّة لعلقة الالتحام التي هي من أعظم القرابة
نظير العضو من الإنسان إذا عرضه مرض ووجع يكون الوجع في الكلّ ، ومن هذه الجهة بكاء الحور العين ، ولطمهنّ على الإمام الحسين (عليه السّلام) في الجنان التي هي دار السرور ؛ وذلك لأنّ لكلّ من المخلوقات مادة ، وقد خُلقت الحور العين من نور الحسين (عليه السّلام) ، فهي ملتحمة به (عليه السّلام) ومع ذلك كيف يمكن أن يكون واقعاً على الأرض تحت سنابك الخيل ، ورأسه المبارك على الرمح ، ودمه الطاهر مسفوك على الأرض ، وفؤداه مثقوب ، وكبده مقرح ، وقلبه محترق ، ونساءه وأطفاله مسبيّات قد حُرقت خيامهنّ قبل شهادته وسبينَ بعد شهادته ... ، وتبقى الحور في القصور بأنعم بال وأحسن حال ؟!
ومن جملة أقسام البكاء بكاءُ الشيعة عليه ، هذا القسم أيضاً ، وذلك في رواية عن الصادق (عليه السّلام) قال : (( شيعتنا منّا ، وقد خُلقوا من فاضل طينتنا ، وعُجنوا بنور ولايتنا ، ورضوا بنا أئمّة ، ورضينا بهم شيعة ؛ يُصيبهم ما أصابنا ، ويُبكيهم ما أبكانا ، ويُحزنهم حزننا ، ويسّرهم سرورنا ، ونحن أيضا نتألّم بتألّمهم ، ونطّلع على أحوالهم ، فهم معنا لا يُفارقونا ، ونحن لا نُفارقهم )) . ثمّ قال (عليه السّلام) : (( اللّهمّ ، إنّ شيعتنا منّا ، فمَنْ ذكر مصابنا وبكى لأجلنا استحى الله تعالى أن يعذّبه بالنار )) .
وفي حديث الأربعمئة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( إنّ الله تبارك وتعالى اختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا ، أولئك منّا وإلينا )) .
فدّلت هذه الرواية على أنّ مخلصي الشيعة اختارهم الله تعالى كما اختار الشهداء ، بل شهادتهم .
وفي ذلك علامات كما استدل الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من المحبّة الخاصّة للطفل الذي رآه يلعب مع الإمام الحسين (عليه السّلام) على أنّه يكون من أنصاره في واقعة كربلاء .
فلاحظ علاقة الشيعة في نفسك وهلمّ نبكي عليه لذلك ؛ فإنّ مَنْ لا يبكيه ولا يواليه ولو بأدنى درجات الولاء فإنّه يكون لا علاقة له معه ، ومقطوع عنه ، فهلمّ نتألّم لمصابه .
فالحسين (عليه السّلام) يتألّم لآلامنا أيضاً ، وكفى بذلك عزّة لنا وفرجاً ، وأنّه (عليه السّلام) يصلنا أيام تألّمنا في أحلك عواقب حالاتنا ، اللّهمّ صلِّ على محمد حبيبك المصطفى وآله الأطهار المعصومين وعجّل في فرجهم يا الله .

القسم الثالث : الرقّة على المصيبة
كون [لصاحب] المصاب حقّ عليك ، والحقوق كثيرة :
منها : حقّ الإيجاد
وهو حقّ الوالدين والأجداد ، والحسين (عليه السّلام) له علينا هذا الحقّ ؛ فإنّ وجودنا ووجود آبائنا ببركة وجوده .
ومنها : حقّ الإسلام والإيمان
وهو ثابت لكلّ مسلم على كلّ مسلم ، فكيف يكون حقّ مَنْ صار سبباً لهدايتنا إلى الإيمان ؟ فإن الحسين (عليه السّلام) قد فدى نفسه لهذا الدين ، ومعنى هذا أنّه لو لم يتحمّل تلك المصائب والمصاعب لما كان هناك إسلام ولا مسلمين ، ولا نقول إلاّ كما قال المصطفى (صلّى الله عليه وآله) : الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء(1) . وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون دوام الإسلام وحفظه بالحسين (عليه السّلام) ، وكما جاء أيضاً بالحديث المبارك (( إنّ الله تعالى أبى أن بجري الأمور إلاّ بأسبابها ))(2) . والحمد لله (عزّ وجلّ) .
وذلك إنّه لمّا استولت بنو أُميّة (لعنهم الله) على البلاد وأظهروا الفساد ، سعوا جاهدين في إخفاء الحقّ حتّى شبّهوا الأمر على الناس ؛ بحيث جعلوا سبّ الإمام أمير المتقين علي (عليه السّلام) من أجزاء الصلاة ، وأدخلوا في أذهان الناس أنّ بني أُميّة أئمّة الإسلام حقّاً ، ورسخ هذا الباطل في أذهان الناس منذ طفولتهم ، حيث إنّهم أجبروا المعلّمين على أن يُلقّنوا الأطفال والأجيال في مكاتبهم ومدارسهم هذا الأمر فاعتقد الناس أنّ هؤلاء أئمّة الدين ، وأنّ مخالفتهم ضلالة .
فلمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) ومَنْ معه بهذه الكيفية ، وسُبيّ مَنْ سُبيّ بهذه الطريقة المخصوصة ، تنبّه الناس والتفتوا إلى أنّ هؤلاء لو كانوا أئمّة حقّ ما فعلوا ذلك أبداً .
ورأوا أنّ فعلهم هذا لا يُطابق ديناً ولا مذهباً ولا عدلاً ، بل ولا يُطابق جور الجائرين على مرّ التاريخ ؛ فعدلوا عن الاعتقاد بهم ، وتبرؤوا منهم ، وعدل مَنْ هداه الله إلى الحقّ ، وظهرت الشيعة بشكل جليّ وواضح بعد أن كانوا مستضعفين مظلومين .
وأمّا السُنّة فعدلوا عن اعتقاد خلافتهم ، وعلموا أنّهم حكّام جور ، وجوّزوا لعنهم . والحقيقة إنّ الاهتداء إلى الدين الحقّ بعد ذلك الانحراف بدأ من ثورة الحسين (عليه السّلام) .
ومنها : حقّ الزاد والملح
فإنّ به حياة كلّ شيء ، وبه ينزل الغيث وينبت النبات ، فجميع طعامك وشرابك إنّما هو ببركته .
ومنها : حقّ الإحياء .
أوَ ليست حياتنا الحقيقية ، أعني الروحية والإيمانية ، هي ببركة الحسين (عليه السّلام) ؟ أوَ ليست أعمالنا كلّها بهدايته لنا ؟
ومنها : حقّ الإسلام
وسلامتنا الحقيقية مرجوّة من الحسين (عليه السّلام) .
ومنها : حقّ الوداد
فهل يودّ شخص شيعته مثل الحسين (عليه السّلام) ؟! الذي هو إلى يمين العرش ينظر إلى زوّاره والى الباكين عليه ؟ كما جاء في الروايات المعتبرة .
ومنها : حقّ التعب .
فلو أنّ شخصاً أصابه صدع أو جرح يسير بسببك لكنت
خجلاً منه أبداً ، وبصدد تدارك تعبه ، أفلا تكون بصدد تعب الحسين (عليه السّلام) وما أصابه ؟ وليت شعري بأيّ شيء نتدارك تعبه لنا ؟! أبهذه القطرات من الدمع ؟! أم بالسير الاعتقادي والعملي على نهجه المحمدي القويم ؟! وهل نحن صادقين بهذا ؟
فهلّموا نبكي عليه لأداء حقوقه علينا ، فمَنْ لا يبكيه لا عهد له ولا وفاء ، ولا ننسى إنّ البكاء عليه هو أدنى درجات الوفاء لهم .

القسم الرابع : الرقّة على المصاب
لأنّه كبير وجليل ، فإنّ لمصاب الكبير خصوصية توجب رقّة القلوب عليه ولو كان أجنبياً ، بل ولو كان كافراً ، بل ولو كان عدوّاً ، وبذلك جرت سيرة الملوك أيضاً كما في قضية ذي القرنين مع دارا بن دارا .
وقد جرى حكم الشارع أيضاً على ذلك ؛ ولذا رمى النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ثوبه لعدي بن حاتم زمن كفره ليجلس عليه ، وقال : (( أكرموا عزيز قوم ذلّ )) .
ولأجل هذا لم يسلب علي (عليه السّلام) ثياب عمرو بن عبد ود لمّا قتله ، بل ولا نزع درعه ، مع إنّه لم يكن له نظير ، فقيل له في ذلك ، فقال (عليه السّلام) : (( إنّه كبير في قومه ، وما اُحبّ هتك حرمته في بقائه عارياً )) .
ولأجله أيضاً جعل الشارع لبنات ملوك الكفار إذا اُسرن واسترققن حكماً آخر من الاحترام ، فيُخّيرن ولا يُعرضن على البيع في الأسواق .
فهلمّوا نبكي عليه بكاء العبد على سيّده ، وبكاءً له ؛ لأنّه جليل وكبير ، هُتكت حرمته ، وسُلب ثوبه ، ودير بحريمه وأطفاله أُسارى من بلد إلى بلد حتّى طُمِعَ فيهن كالجواري ، فمَنْ لا يبكيه كذلك لا مقام له ، ولا يعرف قدر أحد .

القسم الخامس : الرقّة على مَنْ كان ذا صفات حميدة
فإنّ حسن الصّفات ومحمودها توجب الرقّة على المتّصف بها وإن لم تعرفه ، بل قد ورد عن الشرع احترامه ولو كان كافراً ، كما أوحى الله تعالى إلى موسى النبي (عليه السّلام) : ( لا تقتل السامري فإنّه سخي ) .
وكما نزل جبرئيل (عليه السّلام) من الله تعالى بالنهي عن قتل أحد أسرى الكفار ؛ لكونه يُطعم الطعام .
فمصاب صاحب الصّفات الحسنة يؤثر في القلب أياً كان هذا الشخص ، خصوصاً المصاب بما يُقابل مقتضى هذه الصفات .
فإذا رأيت مَنْ كان يهب الألوف
قد احتاج إلى لقمة خبز يسأل الناس عنها لرقّ قلبك عليه بالخصوص ، كذا مَنْ كان ذا حياء مُهاناً في ملأ من الناس وهكذا .
فإذا لاحظت صفات سيد الشهداء وخصوصياتها ، ونظرت إلى التطابق بينها وبين خصوصيات مصائبه كان ذلك موجباً لرقّة خاصة عليه ، وبكاءً مخصوصاً عليه .
فهلمّوا نبكي عليه بكاءً مقابلاً لصفاته الحميدة العليّة ، فاستمع لمصائب خاصة في مقابلة صفات خاصّة :
الأولى : إنّ لسانه قد ذكر الله تعالى قبل خلق السماوات والأرض ، وهلّل الله فتعلّمت الملائكة منه التسبيح والتحميد ، ثمّ ذكر الله تعالى في عالم النور والأشباح والظِلال ، ثمّ في بطن أُمّه الزهراء (عليها السّلام) والتي كانت تسمع منه التسبيح والتهليل ، ثمّ حين ولادته المباركة ، ثمّ أيام صغره وصباه وكبره ، ثمّ حين شهادته ، ثمّ حين كون رأسه على الرمح ، أفيحق أن يُقرع وجهه الشريف بالخيزران بيد مثل يد يزيد وابن زياد في تلك الحالة ، ويضحكا ويشمتا به بمحضر أهله ؟!
الثانية : إنّه (عليه السّلام) رأى أعرابياً لا يُحسن الوضوء فاتّفق مع أخيه الحسن المظلوم (عليه السّلام) على أن يتوضأ كلّ منهما بمحضره .
فقال الحسين (عليه السّلام) للأعرابي : (( أيُنا يُحسن الوضوء ؟ )) . فقال الأعرابي : كلاكما تُحسنانه ، روحي لكما الفداء ، ولكن أنا الذي لا أُحسنه .
فهو (عليه السّلام) قد تحرّج من أن يقول للجاهل : أنت جاهل ؛ لئلاّ يكسر قلبه مع أنّه جاهل حقيقة ، فكيف حاله هو حين خوطب بخطابات لا تليق إلاّ بأعداء الله تعالى ؟! فقد قال له قائل : تعجّلت بنار الدنيا ، وقال له الحصين بن تميم ـ حين أراد الصلاة ـ : إنّها لا تُقبل منك ، لعن الله أعداء أوليائه .
الثالثة : أعطاه رجل رقعة ، فقال له الإمام (عليه السّلام) فوراً حاجتك مقضية ، فقيل له : لولا قرأتها ، فقال (عليه السّلام) : (( يسألني الله تعالى يوم القيامة عن ذلّ مقامه بين يدي حين أقرأ رقعته )) . يعني أنّه قد يتردد بين الخوف والرجاء حتّى أقرأ الرقعة فيصيبه ذلّ بين يدي ولا اُحبّ ذلك .
فكيف كان حاله حيث وقف بين أيدي أهل الكوفة يسألهم أموراً يعلم أنّهم لا يفعلونها ، فطلب الإنصات لكلامه حينما أراد أن يتكلّم معهم فكانوا يتصايحون ، فقال (عليه السّلام) : (( ويلكم ! ألا تسمعون ؟! ألا تنصتون ؟! )) .
الرابعة : حضر (عليه السّلام) عند أُسامة بن زيد حالة احتضاره ، فتأوّه أُسامة وقال : يا غمّاه ! فقال (عليه السّلام) : (( يا أخي ، لِما تأوّهت ، وما غمّك ؟ )) . قال أُسامة : عليّ دّين مقداره ستون ألف درهم . قال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( عليّ قضاؤه )) . قال : اٌحبّ أن يُقضى وأنا حيّ . فقضاه في مجلسه .
أفيحق لمثل هذا الرحيم الرؤوف ، الإمام المعصوم (عليه السّلام) أن يتأوّه ويتلهّف ، ويلتمس في حالة احتضاره أموراً هيّنة يسيرة ولا يُقضى له منها حتّى قطرة من الماء ؟! وا أسفاه ! ووا غمّاه ! ووا لهفاه ! ووا كرباه عليك يا مولاي وسيدي الحسين !
الخامسة : وقف أعرابي عليه وهو يصلّي فقال :
لم يخب الآن مَنْ رجاك ومَنْ     حرّك من دون بابك الحلقه
فدخل الدار ، وشدّ أربعة آلاف دينار في ردائه ودفعها إليه من رواء الباب ؛ حياءً منه ، وقال :
خذها فإنّي إليكَ معتذرٌ     واعلم بأنّي عليكَ ذو شفقه
لو كانَ في سيرنا الغداةَ عصا     أمست سمانا عليكَ مندفقه

لكنّ ريبَ الزمانِ ذو غِيَرٍ     والكفُ منّي قليلةُ النفقه
فبكى الأعرابي ، فقال له (عليه السّلام) : (( استقللت العطاء ؟ )) . قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك .
فبكاء الأعرابي كان على دفن يده في التراب . ولا ننسى أنّ تلك اليد في حينها لم تكن مدماة قطيعة الأصبع حمراء ، تشخب دماً زاكياً ، ولكن نحن نبكي على الذي كان حياؤه بمرتبة يخجل معها حتّى عند عطائه لمبلغ كثير من المال لسائل غير مضطر .
فكيف يكون خجله إذا سأله أحد المضطرين شيئاً ولم يعطه ؛ لعدم تمكّنه وهو الكريم الرحيم على عباد الله تعالى وعلى خلقه ، أم كيف كان حاله حين سألته ابنته الصغيرة شربة ماء ، وهو يرى حالها من العطش ، وسألته زوجته قطرة ماء لولده الرضيع ، بل ولرضيع ثانٍ ، وأعظم من ذلك أنّه طلب منه ابن أخيه أن يحضر على جسده حال وقوعه ، فجاء ولم يدركه حيّاً ؛ فلذا قال (عليه السّلام) : (( يعزّ على عمّك أن تدعوه فلا يُجيبك ، أو يُجيبك فلا ينفعك )) .
السادسة : وُجد يوم الطفّ في ظهره أثراً ، فسألوا السجّاد (عليه السّلام) عن سببه ، فقال (عليه السّلام) : (( ذلك ممّا كان ينقل على ظهره من الطعام قي الليالي للأرامل والأيتام ، والفقراء والمساكين )) .
فهل من الإنصاف أن يُمنع من سقي طفل له رضيع قطرة من الماء ؟
السابعة : مرّ يوماً على مساكين وقد أخرجوا كسرات من الخبز ليأكلوا فدعوه إلى طعامهم فثّنى وركه وجلس يأكل معهم ، وهو يقول : (( إن الله لا يحب المستكبرين )) . ثمّ قال : (( قد أجبتكم فأجيبوني )) . فقالوا : نعم . فأتوا منزله ، فقال للجارية : (( اخرجي ما كنتِ تدّخرين )) . فجاءت بأطيب الطعام ، فجلس يأكل معهم (سلام الله عليه) ليُطيّب قلوبهم .
وقد سعى (عليه السّلام) كثيراً في أن يُطيّب قلوب نساء وأطفال عطاشى بشربة من الماء فلم يمكّنوه من ذلك .

القسم السادس : البكاء للتبعيّة
فإنّه قد يتحقّق البكاء تبعاً للباكين مع قطع النظر عن المبكي عليه ، فابك تبعاً للنبي (صلّى الله عليه وآله) فلكم فيه أُسوة حسنة ، لا بل تبعاً للأنبياء والأوصياء ، لا بل تبعاً للسماوات والأرضين ، أو الوحوش أو الطيور ، أو الجنة أو النار ، أو ما يُرى وما لا يُرى ، أو الجن أو الملائكة ، أو ابكِ تبعاً للأشجار ، أو تبعاً للحجار .
فأيّ قلب هو أقسى من الحجر ، أو تبعاً للحديد فقد بكى مسمار سفينة نوح النبي (عليه السّلام) دماً ، كما جاء دليل ذلك كلّه في الأحاديث والروايات ، فابك دماً تبعاً له .

القسم السابع : الترحم للجنس
فإنّه يوجب الرقّة مع قطع النظر عن كلّ صفة وحقّ وعلاقة . مثلاً : إذا سمعت أنّ رجلاً بلا تقصير أتى إلى بريّة ومعه أولاد أطفال ونساء وشباب ، وإخوان وأصحاب وأقارب فجرى عليه ما جرى لاحترق قلبك أسىً وألماً عليه . بل لو سمعت أنّ رجلاً مقصّراً ، أو محلّلاً للحرام ، أو محرّماً للحلال ، أو عدوّاً لك ، أو كافراً بالله تعالى صُنع به ما صُنع مع إمامنا الحسين (عليه السّلام) لرحمته ورأفت بحاله ، وقد كان يقول (عليه السّلام) : (( هل تُطالبوني بقتيل قتلته ؟ أو بمال لكم استملكته ؟ أو شريعة بدلّتها ؟ )) .
أقول : فدتك نفسي ! لو كنت كذلك لما كنت مستحقّاً لما وقع عليك ، فليست هناك جناية هذه عقوبتها ، بل إنّه ليس متعارفاً لدى القُساة الفسقة المنافقون في طول تاريخ البشرية جريمة كما فُعل بك يا حسين يا حسين .
فهلمّوا نبكِ عليه بكاء ترحّم عليه ، فمَنْ لا يبكيه كذلك لا مروّة له ، ولا إنسانية سوية .

القسم الثامن : البكاء لهذه الصّفات بأجمعها
بل ولغيرها من صفات حسنة للإمام لم نذكرها ، بل لم يكتبها التاريخ من الصّفات والمواقف الحسنة النورانية .
فالحسين (عليه السّلام) والدك حقيقة وأنت ملتحم به ، وهو كبير في السماوات والأرض ، صاحب كلّ الحقوق عليك ، صاحب الصّفات الحميدة ، بكى عليه جميع الخلق ، وهو من البشر ولا ذنب له ولا جرم ، وقد وقع عليه كلّ ذلك ، فمَنْ لا يبكيه كذلك فهو عاقّ شاقّ بلا وفاء وبلا عهود ، ولا يعرف قدراً ولا مروّة له ، وهو خارج عن الحقيقة الإنسانية .

النوع الثاني : البكاء من غير سبب ملحوظ
وله أفراد :
الأوّل : كلّ خضوع وانكسار ، وخشوع وهمّ وغمّ يعرض للناس فإنّ مرجع الكلّ إلى الحسين (عليه السّلام) ؛ ولهذا المطلب مقدّمات ليس هنا محلّ بيانها .
الثاني : الرقّة عليه بالفطرة التي فُطر الناس عليها من غير اختيار ، مع التفات الباكين إلى أنّه رقّة على المبكي عليهم ، ويكون ذلك في أحبائهم وفي أعدائهم ، مع الغفلة عن بغضهم فيغلب جانب الرقّة بحيث يوجب الغفلة عن البغض .
وذلك كبكاء يزيد حين رأته هند ، وبكاء معاوية على علي (عليه السّلام) ، وهذا القسم لا نحتاج فيه إلى أن نقول : هلمّ وابكِ على أيّ شيء ، بل نقول : اقطع النظر عن كلّ شيء ، فافرض أنّك لا تعرف الحسين الشهيد (عليه السّلام) ، ولا تعرف قرابة ولا حقوقاً ، ولا صفاتاً ولا جلالة ، وافرض أنّه لا ثواب للبكاء عليه ولا أجر ولا تبعية لأحد ، فلاحظ هل يجري الدمع بلا اختيار أم لا ؟
الثالث : فطرة توجب الرقّة بلا اختيار مع الالتفات إلى جهة البغض ، ومنع النفس عن الرقّة وتشجيعها على التصبّر ، فمع ذلك يغلب البكاء كبكاء ابن سعد ، وبكاء أخنس بن زيد ، وبكاء خولي ، وبكاء السالب لحلي فاطمة بنت الحسين (عليهما السّلام) ، وبكاء العسكر كلّه حين عرضت عليهم حالات أبكتهم مع منع أنفسهم عن البكاء ، والتفاتهم إلى جهة بغضهم ، وعدم رغبتهم في البكاء ، ومنافاته لِما هم فيه وبصدّده من مواجهة إمام زمانهم ومعاداته وقتاله ، ولكنّه غلب على كلّ حالاتهم ، حتّى على شقاوتهم وخبث طينتهم ، وفيهم ما فيهم من أولاد زنا وكفر ونفاق وشقاق .
فإذا أردت أن تعرف هذه الحالة المبكية لِمَنْ كان عدوّاً له ، مع التفاته لعداوته ومنع
نفسه عن البكاء ، فاستمع ثمّ امنع نفسك عن البكاء تجد أنّه يغلب عليك البكاء تلو البكاء بلا اختيار .
فلنذكر الآن بعضها ولا نقول : هلمّوا لنبكي ، بل نقول : امنعوا أنفسكم عن البكاء واضبطوها وتجلّدوا ، فانظروا هل تقدرون حقّاً على ذلك حيناً ما ؟
فمِن تلك الحالات ، ما كان فيها واقفاً في الميدان وفي بدنه ألف وخمسمئة إصابة ، الضربة فوق الضربة ، والجرح على الجرح ، والرض على الرض ، والضرب على الضرب ... والرأس مشقوق ، والقلب مقسوم ظاهراً من السهم ، وباطناً من ملاحظة العيال والنساء والأهل ومَنْ معهم من الأرامل والمواليات واليتامى ، بل وابناه الرضيعان .
ومحترق ظاهراً من العطش ، وباطناً من الفراق وضياع الإسلام ، بل ومن هلاك مقاتليه بأن يكون مصيرهم إلى النار بسببه ، وهذه رحمة لا تتوفر عادة إلاّ لدى الأنبياء وأوصياء الأنبياء (عليهم السّلام) ، وما هذا إلاّ لنعلم عظم قدرهم وحكمة الله تعالى في خلقهم .
نعم ، وباطناً من الفراق ، وفي هذه الحالة يُضرب بالسيف على مذبحه ، وهو يستسقي ماء ، فامنع نفسك عن البكاء فقد بكى ابن سعد على هذه الحالة وسالت دموعه على لحيته .
ومنها حالة إدخال النساء والعيال والرؤوس المنصوبة على الرماح على يزيد ، إذ وضِعت الرؤوس ، ووقفت البنات والنساء والأرامل والعليل الإمام المعصوم (عليه السّلام) مقيّدون ، فحصلت هيئة فظيعة أوجبت غلبة الرقّة على يزيد (لعنه الله) حتّى قال : قبّح الله ابن مرجانة .

المقصد الثاني : في البواعث الخارجية والموجبة للبكاء المختصّة به
وهي عشرة :
الأوّل : رؤية شبحه وظِله في عالم الأشباح والظِلال ، بل رؤيته في عالم القُدس ، كما اتّفق ذلك لآدم (عليه السّلام) حين شاهد الذرّ في عالم الذرّ ، فمثّل الله تعالى له قضية كربلاء فبكى لذلك ، ولمّا رأى إبراهيم (عليه السّلام) ملكوت السماوات والأرض ، رأى الأشباح الخمسة تحت العرش فأبكته رؤية الخامس .
الثاني : سماع اسمه ، كما قال (عليه السّلام) : (( ما ذُكرت عند كلّ مؤمن ومؤمنة إلاّ بكى واغتمّ لمصابي )) . فهو سبب بكاء لكلّ مؤمن .
الثالث : النطق باسمه ، كما قال الأنبياء آدم وزكريا (عليهما السّلام) ، في ذكر الحسين (عليه السّلام) ، تسيل عبرتي وينكسر قلبي ، بل ما ذكره نبي أو سمع باسمه إلاّ واعتبر .
الرابع : النظر إليه ، وقد تحقّق هذا بالنسبة إلى جدّه حينما رآه عند ولادته وبعدها ، وقد قال أبوه (عليه السّلام) أيضاً حين نظر إليه وبكى : (( يا عبرة كلّ مؤمن )) . قال : (( أنا يا أبتاه ؟ )) . قال : (( نعم يا بُني )).
فإن كنّا لم ننظر إليه في زمانه ، فهل نظرنا إليه وإلى حالاته في كلّ مراحلها ، بل وإلى بهائه ببصائر قلوبنا ؟ فإن لم ننظر إليه فهو ينظر إلينا ، رحمة من الله تعالى الحكيم والرؤوف ، بل وله (عليه السّلام) نظرات خاصّة إلى شيعته ومواليه ممّن تولّوه بصدق وإقبال مرضي لدى الله تعالى .
ففي الصحيح إنّ الحسين (عليه السّلام) على يمين العرش ينظر إلى مصرعه وإلى زواره ، وإنه لينظر إلى مَنْ يبكي عليه . ولا غرو من أن لا يحجب نظره البعد والجدران والدور .
الخامس : النظر إلى مدفنه ، كما قال الصادق (عليه السّلام) : (( الحسين (عليه السّلام) غريب بأرض غربة ، يبكيه مَنْ زاره ، ويحزن عليه مَنْ لم يزره ، ويحترق له مَنْ لم يشهده ، ويرحمه مَنْ نظر إلى قبر ابنه عند رجليه )) . فهل ترون مدفنه ؟ قال العارف : وكلّ بلدةٍ فيها قبره ، وكربلاءُ كلّ مكانٍ يُرى .
السادس : يمسّ بدنه وتقبيله ؛ فإنّه مبكٍ . ولقد تحقّق هذا بالنسبة إلى جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، وفي مواضع خاصّة ؛ فقد كان (صلّى الله عليه وآله) يُقبّل نحره فيبكي ، ويُقبّل فوق قلبه فيبكي ، وجبهته ويبكي ، ويُقبّل أسنانه فيبكي ، ويُقبّل كلّ بدنه ويبكي ، فيقول (عليه السّلام) : (( يا أبتِ ، لِمَ تبكي ؟ )) . قال (صلّى الله عليه وآله) : (( اُقبّل مواضع السيوف منك وأبكي )) .
ولو سُئل عن بكائه (صلّى الله عليه وآله) عند تقبيل ثناياه ، لقال : أُقبّل موضع نكث الخيزران ، وأُقبّل ما يتبسّم ضاحكاً عند رؤيته ابن زياد ، وأبكي لضحكه ، ولو سُئل (صلّى الله عليه وآله) لم تُقبّل فوق قلبه ؟ لقال : موضع السهم المثلّث .
ولكن قد أرادت أُخته زينب (عليها السّلام) في وقت ما تقبيل المواضع التي كان يُقبّلها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم تتمكّن ؛ لأنّ الأعضاء كانت ممزّقة ، خصوصاً بعد تحقّق الرضّ بالخيول ، بل ولو لم يتحقّق فقد رضّ بالسهام والسيوف ، والرماح والحجر والتقطّع كما قال (عليه السّلام) : (( كأنّي بأوصالي تُقطّعها عسلان الفلوات )) .
ولذا قيل على لسان السيدة زينب (عليها السّلام) بالفارسية :
خاك عالم بسرم كز اثر تير وسنان     جاي يك بوسه من در همه اعضاى تونيست
نعم ، قد قبّلت موضعاً واحداً من بدنه المبارك ، ولم يُقبّله المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، فإنّها قبّلت النحر المنحور ، والودج المقطوع ، أي باطن ما قبّل النبي (صلّى الله عليه وآله) ظاهره . ولذلك نادته حين وضعت وجهها على نحره المبارك ، وأخبرته بأنّ هذا حسين مقطّع
الأعضاء ، ثمّ أخبرته بأنّ هذا الحسين محزوز الرأس من القفا ، ولكن من أين علمت بذلك ؟
فيه وجوه :
الأوّل : أن تكون قد شاهدت ذلك حين ذبحه ، لكنّه خلاف ما يظهر من الروايات الدالة على أنّه (عليه السّلام) أمرها بالرجوع إلى الخيام .
الثاني : أن تكون قد سمعت بذلك من الناس الذين حضروا ونقلوه ، أو نادوه بذلك فسمعته ، وهو بعيد أيضاً.
الثالث : أن تكون قد استنبطت ذلك حين رأت الجسد الشريف ؛ فإنّها رأته مطروحاً بكيفية علمت أنّه قد حزّ رأسه من القفا ، وذلك إنّها رأته مكبوباً على وجهه ، فعظمت مصيبتها بذلك ، وإن كانت مصيبتها بعُريه (عليه السّلام) أعظم من أصل القتل ؛ فلهذا نادت جدّها الحبيب (صلّى الله عليه وآله) مخبرة بقتله وبأنّه محزوز الرأس من القفا .
السابع : الانتساب إليه ؛ فإنّه يورث للحزن والبكاء ، حتّى إنّ مسماره كان له تأثير في البكاء .
وذلك إنّه لمّا أتى جبرئيل (عليه السّلام) بمسامير السفينة كلّ على اسم نبي ، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير لمقدّمة السفينة ، فلمّا أخذ نوح (عليه السّلام) الأوّل بيده أنار وأشرق ، فقال : هذا على اسم خاتم الأنبياء محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وهكذا تحقّق بالنسبة إلى الثلاثة الأخرى والتي كانت باسم علي والزهراء والحسن (عليهم السّلام) ، فلمّا أخذ الخامس بيده ظهر منه دم ، وتلطخت يده به ، فقال جبرئيل (عليه السّلام) : هذا على اسم الحسين (عليه السّلام) .
فإذا كان الحديد الحسيني يُدمى ، فلمَ لا تُدمى القلوب إذا كانت حسينيّة ؟
ثمّ من العجب أن تكون أسباب الفرح والسرور بالنسبة إليه كأسباب البكاء ! فحوريته الخاصّة به في الجنان باكية ، وعيده ولبسه الجديد فيه مبكٍ لجدّه (صلّى الله عليه وآله) ، ولعبه مبكٍ ، وفتحه في الحرب مبكٍ لأبيه (عليه السّلام) ، وأكله طعاماً طيباً مبكٍ ، بل الحمل به مبكٍ ، وولادته مبكية ، والتهنئة بها مبكية كما ورد كلّه في الروايات ، إلى ما غير ذلك .
الثامن : دخول شهر شهادته ، أعني المحرّم ، فإنّه يورث الكربة واختناق العبرة في قلوب مَنْ والاه ، أما ترى التأثير في شهره فغصّ شرب الماء
على مَنْ رعى ، أو غصصت بالماء وشرقت ، أو وقف في حلقك فلم تكد تسيغه ؟
التاسع : ورود أرض مدفنه ، فإنّه باعث كبير على الحزن والبكاء ، وقد تحقّق ذلك بالنسبة إلى كلّ نبي ورد تلك الأرض ، وورد أنّه ما من نبي إلاّ وقد زار كربلاء ، وقال : فيك يُدفن القمر الأزهر .
وكلّ منهم كان إذا ورد اعتلّ وضاق صدره ، وأصابه الغمّ ، وأصابته بليّة حتّى يسأل ربّه تعالى عن ذلك ، فيوحى إليه : إنّ هذه كربلاء ، وإنّ الحسين يُقتل فيها .
وقد تحقّق ذلك أيضاً بالنسبة إلى أهل بيته لمّا وردوا كربلاء ونزلوا ، قالت أُمّ كلثوم (عليها السّلام) : يا أخي ، هذه بادية مهولة ! فقال الحسين (عليه السّلام) : (( إنّ أبي نام في هذه الأرض فاستيقظ باكياً وقال : رأيت ولدي الحسين في بحر من الدم يضطرب ، ثمّ قال : يا أبا عبد الله ، كيف تكون إذا وقعت الواقعة ها هنا ؟ )) .
العاشر : سماع اسم أرض مدفنه ، وقد تحقّق ذلك بالنسبة إليه (عليه السّلام) ؛ فإنّه لمّا ورد أرض كربلاء وسأل عن [اسمها] ، أخبروه بأسماء عديدة ، ثمّ قالوا : إنّها تسمّى كربلاء . فاغرورقت عيناه المباركتان بالدموع وقال : (( اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء . هاهنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومسفك دمائنا ، ومذبح أطفالنا ؛ فيها يُراق دمي ، وفيها تُرى حرمي حواسراً عليهنّ من ثوب الذلّ سربال ، وفيها تُقتل أبطالي وتُذبح ، وتستعبد الأحرارَ أرذالٌ )) .

حطّوا الرحال بها يا قوم وانصرفوا     عنّي فما ليَ عنها قطُّ ترحالُ
الحادي عشر : شرب الماء البارد ، وقد كان هذا من المبكيات دائماً للإمام الصادق وغيره من الأئمّة (عليهم السّلام) ، كما ورد عن داود الرقّي ، قال : كنت عند الصادق (عليه السّلام) فشرب ماء ، واغرورقت عيناه المباركتين بالدموع ، فقال (عليه السّلام) : (( ما أنغص ذكر الحسين للعيش ! إنّي ما شربت ماء بارداً إلاّ وذكرت الحسين (عليه السّلام) )) . إلى آخر الحديث .
وقد نُقل عن الحسين (عليه السّلام) : (( شيعتي ، شيعتي ، ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني ، أو سمعتم بغريب فاندبوني ))(3) .
الثاني عشر : شمّ تربته ، فقد أبكى ذلك جدّه محمّداً (صلّى الله عليه وآله) حين دخل عليه علي (عليه السّلام) فرأى عينيه تفيضان ، فقال : (( دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعيناه تفيضان ، فقلت : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ! ما لعينيك تفيضان ؟! أغضبك أحد ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : لا ، بل كان عندي جبرئيل (عليه السّلام) فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات ، وقال لي : هل اُشِمُكَ من تربته ؟ قلت : نعم . فمدّ يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني أن فاضتا . واسم الأرض كربلاء )) .
وكذلك الإمام الرضا (عليه السّلام) كما ورد عن أبي بكار ، قال : زرت كربلاء وأخذت من عند الرأس طيناً أحمر ، فدخلت على الرضا (عليه السّلام) فعرضته عليه فأخذه في كفّه ، ثمّ شمّه ثمّ بكى حتّى جرت دموعه ، ثمّ قال (عليه السّلام) : (( هذه تربة جدّي )) .
الثالث عشر : سماع مصيبة لشهيد أو غريب أو مظلوم ؛ فإنّه مذكّر بالحسين (عليه السّلام) ، وقد قال (عليه السّلام) :
أو سمعتم بغريب     أو شهيد فاندبوني
الرابع عشر : مصيبة عند سماعها أو تصوّرها والتفكر فيها ، ولتأثير هذا الوجه كيفيات عديدة ، وتختلف باختلاف السامعين ، وتفصيلها في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى .

المقصد الثالث : في كيفيّات الرقّة والجزع والبكاء عليه
وهي أقسام :
الأوّل : بكاء القلب بالهمّ والغمّ ، وهو أوّل المراتب ، وثمرته أنّه يجعل النَفَس تسبيحاً لله تعالى ، كما قال (عليه السّلام) : (( نفس المهموم لظلمنا تسبيح )) .
الثاني : وجع القلب ، وفي الحديث : (( إنّ الموجع قلبه لنا ليفرح عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض )) .
الثالث : دوران الدمع في الحدقة بلا خروج ، وهذه هي التي توجب الرحمة من الله تعالى ، كما في الرواية عن الصادق (عليه السّلام) في الباكي أنّه يرحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه .
الرابع : خروجه من العين مع اتصاله به ، ولو بقدر جناح بعوضة ، وهذا هو الذي ورد فيه أنّه يوجب غفران الذنوب ولو كانت كزبد البحر .
الخامس : تقاطر الدمع من العين ، وهذا هو الذي تظهر فيه خاصّية بيّنها الصادق (عليه السّلام) ، فإذا خرجت الدمعة من عينه فلو أنّ قطرة منها سقطت في جهنم لأطفأت حرّها .
السادس : سيلانه على الوجه والصدر واللحية ، وهذا هو جانب من بكاء الصادق (عليه السّلام) حين سماعه الرثاء ، فقال بعده (عليه السّلام) : (( لقد بكت الملائكة كما بكينا أو أكثر ، ولقد أوجب الله لك الجنّة بأسرها ))(4) .
السابع : الصراخ والنحيب ، والشهقة وإزهاق النفس لذلك .
فالأوّل : قد دعا الصادق (عليه السّلام) لمَنْ عمل ذلك ، وقال في دعائه : (( اللّهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا ... )) . إلى آخر دعائه المبارك .
والثاني : شأن الزهراء (عليها السّلام) كلّ يوم ؛ فإنّها تشهق كلّ يوم شهقة لولدها الحسين (عليه السّلام) حتّى يسكتها أبوها (صلوات الله عليه وآله) ، بل إنّها (عليها السّلام) لتشهق شهقة في أرض المحشر يوم القيامة حينما تنظر إلى ولدها الحسين وهو مضرّجاً بدمائه الزاكية ، فتشهق شهقة يبكي كلّ مَنْ في المحشر لأجلها .
والثالث : قال عنه أبو ذرّ لمّا أخبر الناس بمقتل الحسين (عليه السّلام) ما معناه : إنّه لو علمتم بعظم تلك المصيبة لبكيتم حتّى تزهق أنفسكم .
الثامن : العويل ، ولا أدري كيف أذكر من أمر به ؛ فإنّه من العجائب ، فأقول : إنّ يزيد قاتل الحسين (عليه السّلام) قد أمر بإقامة عزاء للحسين والعويل عليه ، فقال لزوجته هند : اعولي عليه يا هند ، وابكي ؛ فإنّه صريخة قريش ، عجّل عليه ابن زياد (لعنه الله) فقتله (قاتله الله) .
وكان ذلك في وقت خاصّ ، وتفصيله في الروايات الآتية إن شاء الله .
التاسع : الضرب على الرأس والوجه ، وهذا صنعه عبد الله بن عمر لمّا بلغه خبر قتل الحسين (عليه السّلام) ، وكان يُنادي : لا يوم كيوم الحسين ، إلى أن سكّته يزيد بما سكّته .
العاشر : التشبه بالباكي ، وهو التباكي الذي ورد فيه بالخصوص : إنّ مَنْ تباكى فله الجنّة . يعني إذا كان القلب قاسياً لا يحترق عليه ، فليُطأطئ رأسه ، وليتشبه بالمصاب في الانكسار وإظهاره ، وما أدري كيف يقسو القلب ولا يحترق على ذكر المظلوم الغريب الحبيب الذي يبكيه الصابر لو تحقّق الصبر على مصابه ؟!
ومنشأ هذه القساوة أمران :
الأوّل : الخوض في طلب الفضول من الدنيا ؛ فإنّ في ذلك تأثيراً حتّى ورد في الأدعية : (( اللّهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن عين لا تدمع ، ومن بطن لا يشبع )) .
الثاني : كثرة الكلام فيما لا يعني كما في الرواية ، وعلاج هذه القساوة مسح رأس اليتيم ، فقد ورد إنّه يرفع القساوة ، مع ما فيه من الأجر .
الحادي عشر : البكاء بلا دمع ؛ لجمود الدمع من كثرة الخروج ، وقد اتّفق ذلك لنسائه بعد رجوعهنّ إلى المدينة المنوّرة وإقامة العزاء ، فعالجنَ ذلك بما يُجري الدمع من السويق ، كما ورد في بحار الأنوار وأصول الكافي .
الثاني عشر : البكاء بحيث يظهر أثره على الشخص فيمتنع من الطعام والشراب ، أو الالتذاذ بهما ، أو بغيرهما من مظاهر الحياة .
وهذا قد ورد في رواية مسمع بن عبد الملك ، حيث إنّه لمّا أخبر الصادق (عليه السّلام) بعروض هذه الحالة له عند ذكر الحسين (عليه السّلام) ، وتذكّر ما صُنع به ، قال له : (( رحم الله دمعتك )) . ثمّ ذكر له الأجر الحاصل له من أوّل احتضاره إلى انقضاء يوم الجزاء ، على ما سنبين تفصيله عند بيان خواص البكاء إن شاء الله تعالى .

المقصد الرابع : في المجالس المنعقدة لذكر مصيبته والبكاء عليه
وهي خمسة أنواع :
الأوّل : ما انعقد قبل خلق النبي آدم (عليه السّلام) .
الثاني : ما انعقد بعده وقبل ولادة الحسين (عليه السّلام) .
الثالث : ما انعقد بعدها قبل شهادته .
الرابع : ما انعقد بعد شهادته في الدنيا .
الخامس : ما ينعقد بعد فناء الدنيا يوم القيامة .

النوع الأوّل : مجلس ، وإن كان التعبير بالمجلس مجازاً
الأوّل : محلّ تقديره حين قدّره الله تعالى وقضاه ، وكتبه بالقلم على اللوح ، فحزن عليه القلم واللوح .
الثاني : حول العرش قبل خلق آدم (عليه السّلام) ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، على الخلق الذين كانوا قبل النبي آدم (عليه السّلام) ، ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ، ففي بعض التفاسير لأنّهم لاحظوا
في ذلك قتل الحسين (عليه السّلام) ، فقالوا هذا تحزّناً وتحسّراً ، قال الله تعالى : ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

النوع الثاني : وهو ستة عشر مجلساً
المجلس الأوّل : عرفات ، حين نظر آدم (عليه السّلام) إلى ساق العرش ورأى أسماء الخمسة ، ولقّنه جبرئيل (عليه السّلام) أن يقول : ( يا حميد بحقّ محمد ، ويا عالي بحقّ علي ، ويا فاطر بحقّ فاطمة ، ويا محسن بحقّ الحسن ، والحسين ومنك الإحسان ) ، فلمّا ذكر الحسين (عليه السّلام) سالت دموعه [ وانخشع ] قلبه .
فقال : يا أخي ، في ذكر الخامس ينكسر قلبي ، وتسيل عبرتي ! فأخذ جبرئيل (عليه السّلام) في بيان السبب ، راثياً للحسين (عليه السّلام) ، وآدم والملائكة الحاضرون هناك يسمعون ويبكون . فقال : ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب . قال (عليه السّلام) : وما هي ؟ قال جبرئيل (عليه السّلام) : يُقتل عطشانَ غريباً ، وحيداً فريداً ، ليس له ناصر ولا معين ، ولو تراه يا آدم وهو يقول : (( وا عطشاه ! وا قلّة ناصراه ! )) حتّى يحول العطش بينه وبين السماء كالدخان ، فلم يجبه أحد إلاّ بالسيوف ، وشرر الحتوف ، فيُذبح ذبح الشاة من قفاه ، ويُنهب رحله ، وتُشهر رؤوسهم في البلدان ، ومعهم النسوان ، كذلك سبق في علم الواحد المنان .
المجلس الثاني والثالث : الجنة وقد انعقد فيها مجلسان :
الأوّل : الراثي فيه حورية والسامع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والملك جبرئيل (عليه السّلام) .
الثاني : الراثي فيه جبرئيل (عليه السّلام) والسامع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والحور العين .
أمّا الأوّل : فقد روي في البحار عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : (( لمّا أُسري بي أخذ جبرئيل (عليه السّلام) بيدي فأدخلني الجنّة وأنا مسرور ، فإذا أنا بشجرة من نور مكلّلة بالنور ، في أصلها ملكان يطويان الحلي والحلل إلى يوم القيامة ، ثمّ تقدّمت فإذا أنا بتفاح لم أرَ أعظم منه ، فأخذت واحدة ، ففلقتها فخرجت علي منها حورية كأنّ أجفانها مقاديم النسور ، قلت : لِمَنْ أنت ؟ فبكت وقالت : لابنك المقتول ظلماً الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) )) .
وأمّا النوع الثاني : فقد روي أنّ الحسن المجتبى (عليه السّلام) لمّا دنت وفاته جرى السمّ في بدنه ، واخضرّ لونه ، فقال له الحسين (عليه السّلام) : (( ما لي
أرى لونك قد اخضر ؟ )) . فبكى وقال (عليه السّلام) : (( يا أخي ، لقد صدق حديث جدّي فيّ وفيك )) . ثمّ اعتنقه وبكيا كثيراً ، فسأل عن ذلك ، فقال (عليه السّلام) : (( أخبرني جدّي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) قال : لمّا دخلت ليلة المعراج الجنّة ، رأيت قصرين عاليين متجاورين على صفة واحدة ، أحدهما من الزبرجد الأخضر ، والآخر من الياقوت الأحمر ، فسألت جبرئيل لِمَنْ هذان القصران ؟
فقال : أحدهما للحسن والآخر للحسين . فقلت : فلِمَ لم يكونا على لون واحد ؟ فسكت جبرئيل . فقلت : لِمَ لا تتكلّم ؟ قال : حياء منك . فقلت : سألتك بالله تعالى إلاّ ما أخبرتني . فقال : أمّا خضرة قصر الحسن ؛ فإنّه يموت بالسمّ ، ويخضّر لونه ، وأمّا حمرة قصر الحسين ؛ فإنّه يُقتل ، ويحمرّ وجهه بالدم ، فعند ذلك بكيا ، وضجّ الحاضرون بالبكاء والنحيب )) .
المجلس الرابع : مجلس آدم (عليه السّلام) في كربلاء ، وذلك لمّا كان يطوف في الأرض ، فعند وصوله إلى مقتل الحسين (عليه السّلام) عثر برجله ، ووقع وسال الدم من رجله ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي هل حدث ذنب آخر فعاقبتني ؟
فأوحى الله تعالى إليه : (( لا ، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً ؛ فسال دمك موافقة لدمه )) . فقال : مَنْ القاتل له ؟ فأوحى الله تعالى إليه : (( إنّه يزيد فالعنه )) . فلعنه أربعاً ، ومشى خطوات إلى جبل عرفات .
المجلس الخامس : سفينة نوح (عليه السّلام) لمّا وصلت فوق أرض قتل الحسين (عليه السّلام) ، ومحلّ طوفان سفينة أهل البيت أخذتها الأرض ، فخاف نوح الغرق فقال : ( إلهي طفت الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض ) ، فنزل جبرئيل (عليه السّلام) بقضية الحسين (عليه السّلام) ، وقال : يُقتل في هذا الموضع ، فبكى نوح وأصحاب السفينة ولعنوا قاتله ومضوا .
المجلس السادس : مجمع البحرين حين التقى موسى مع الخضر ، فحدّثه عن آل محمد وعن بلائهم ، حتّى إذا بلغ إلى حديث الحسين (عليه السّلام) علت أصواتهم بالبكاء على ما في الرواية .
المجلس السابع : بساط سليمان وجنوده من الجنّ والإنس والطير ؛
وذلك إنّه لمّا كان على البساط في الهواء وصار محاذياً للمقتل ، أدارت الريح البساط ثلاث مرّات ، وانحطّت على الأرض فعاتب الريح ، فأخذت الريح ترثي وتقول : يا نبي الله تعالى إنّ في هذا المكان مقتل الحسين (عليه السّلام) إلى آخر الحديث كما ورد في أكثر من مصدر(5) .
المجلس الثامن : شاطئ حرزان لإبراهيم (عليه السّلام) حين اُري ملكوت السماوات والأرض ، ورأى شبح الحسين (عليه السّلام) فبكى عليه .
المجلس التاسع : مجلس ثانٍ لإبراهيم (عليه السّلام) حين أراد كسر الأصنام ، فقال : إنّي سقيم . يعني لِما يحلّ بالحسين .
المجلس العاشر : مجلس ثالث لإبراهيم (عليه السّلام) حين فدى ولده بالكبش . قال الرضا (عليه السّلام) : (( لمّا أمر الله (عزّ وجلّ) إبراهيم (عليه السّلام) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل (عليه السّلام) الكبش الذي أنزله عليه تمنّى إبراهيم (عليه السّلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل (عليه السّلام) بيده ، وأنّه لم يُؤمر بذبح الكبش مكانه ؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعز ولده عليه بيده ، فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب .
فأوحى الله (عزّ وجلّ) إليه : يا إبراهيم ، مَنْ أحبّ خلقي إليك ؟ فقال (عليه السّلام) : يا ربّ ، ما خلقت خلقاً هو أحبُ إليّ من حبيبك محمد (صلّى الله عليه وآله) . فأوحى الله تعالى إليه : أفهو أحبّ إليك أم نفسك ؟ قال : بل هو أحبّ إليّ من نفسي . قال : فولده أحبّ إليك أم ولدك ؟ قال : بل ولده . قال : فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟ قال : يا ربّ ، بل ذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبي . قال : يا إبراهيم ، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أُمّة محمد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش ، ويستوجبون بذلك سخطي .
فجزع إبراهيم (عليه السّلام) لذلك ، وتوجّع قلبه ، وأقبل يبكي ، فأوحى الله (عزّ وجلّ) إليه : يا إبراهيم ، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب ، وذلك قول الله (عزّ وجلّ) : وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ))(6) .
المجلس الحادي عشر : مجلس رابع لإبراهيم خليل الله (عليه السّلام) في كربلاء حين وصل إلى أهله راكباً ، فعثرت به فرسه ، وسقط عن الفرس ، وشجّ رأسه ، فقال : إلهي ما حدث منّي ؟ فقالت فرسه : عظمت خجلتي منك ، السبب في ذلك أنّه هنا يُقتل سبط خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) ؛ لذا سال دمك موافقة لدمه .
أقول : ولعل محلّ سقوطه عن الفرس هو محلّ سقوط الحسين (عليه السّلام) عن فرسه أيضاً ، فلاحظ الفرق بين السقوطين .
المجلس الثاني عشر : مجلس إسماعيل ذبيح الله تعالى في شريعة الفرات ، وذلك إنّ أغنامه كانت ترعى بشاطئ الفرات ، فأخبره الراعي أنّها لا تشرب من هذا الماء منذ أيام .
فسأل ربّه تعالى عن ذلك ، فأوحى تعالى إليه : سل غنمك ، فسألها : لِمَ لا تشربين من هذا الماء ؟ فقالت بلسان فصيح : قد بلغنا أنّ ولدك الحسين سبط محمد (صلوات الله عليه وآله) يُقتل هنا عطشان ؛ فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزناً عليه .
المجلس الثالث عشر : مجلس لعيسى بن مريم (عليهما السّلام) في كربلاء ، الراثي له الظباء ، والباكي هو والحواريون كما روى ابن عباس وسنذكر الرواية .
المجلس الرابع عشر : في طور سيناء وفي مرّات عديدة ، وذاكر المصيبة الوحي من الله ربّ العالمين ، والسامع موسى النبي (عليه السّلام) ؛ فمِن ذلك إنّ موسى (عليه السّلام) رآه إسرائيلي مستعجلاً ، وقد كسته الصفرة ؛ ترجف فرائصه ، وجسمه مقشعر ، وعينه غائرة ، فعلم أنّه دُعي للمناجاة .
فقال : يا نبي الله ، قد أذنبت ذنباً عظيماً فاسأل ربّك تعالى أن يعفو عنّي .
فلمّا وصل إلى مقامه وناجى ، قال (عليه السّلام) : يا ربّ ، أنت العالم قبل نطقي ، فإنّ فلاناً عبدك أذنب ذنباً ، ويسألك العفو .
قال الله تعالى : (( يا موسى ، أغفر لِمَنْ استغفرني إلاّ قاتل الحسين )) .
قال : يا ربّ ، ومَنْ الحسين ؟
قال تعالى : (( الذي مرّ ذكره عليك بجانب الطور )) .
قال : ومَنْ يقتله ؟
قال تعالى : (( تقتله أُمّة جدّه الباغية الطاغية في أرض كربلاء ، وتنفر فرسه وتصهل ، وتقول في صهيلها : الظليمة الظليمة من أُمّة قتلت ابن بنت نبيّها ! فيبقى ملقى على الرمال بغير غسل ولا كفن ، ويُنهب رحله ، وتُسبى نساؤه في البلدان ، ويُقتل ناصروه ،
وتُشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرماح . يا موسى ، صغيرهم يُميته العطش ، وكبيرهم جلده منكمش ، يستغيثون فلا ناصر ، ويستجيرون فلا فاخر ))(7) . فبكى موسى (عليه السّلام) .
فقال سبحانه : (( يا موسى ، اعلم أنّه مَنْ بكى عليه ، أو أبكى ، أو تباكى حرّمت جسده على النار )) .
أقول : هنيئاً للذين كانوا ثابتين على الإيمان ، مشافهين كليم الرحمن ، كلّما عرضت لهم حاجة أو طلبوا مغفرة سألوا موسى (عليه السّلام) ليعرض ذلك في مقام المناجاة .
لكن أقول : نحن أيضاً لنا كليم لله تعالى صاحب يد بيضاء ، وعصا وآيات ، وهو واقف دائماً في مقام المناجاة على يمين العرش ، لا على جبل سيناء ، وهو يستغفر لنا بلا سؤال منّا . ولكن كليمنا لم تكسه الصفرة ، بل كسته الحمرة ، وليست فرائصه راجفة ، بل هو مقطّع الأوصال والأعضاء ، مرمّل في صحراء كربلاء ، صهرته الشمس ثلاثة أيام ، وبكى عليه كلّ شيء ... إلخ .
المجلس الخامس عشر : بيت المقدس . المشير مجملاً إلى المصيبة هو الله تعالى ، والنادب النبي زكريا (عليه السّلام) ثلاثة أيام .
وذلك في رواية عن إمامنا الحجّة المهدي (عليه السّلام) ، قال : إنّ زكريا سأل ربّه تعالى أن يعلّمه أسماء الخمسة فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها ، وكان زكريا (عليه السّلام) إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن (صلوات الله عليهم أجمعين) ، سُريّ عنه الهمّ ، وانجلى كربه ، وإذا ذكر اسم الحسين (عليه السّلام) خنقته العبرة ، ووقعت عليه البُهرة(8) ، فقال زكريا (عليه السّلام) ذات يوم : إلهي ، ما لي إذا ذكرت أربعة منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين (عليه السّلام) تدمع عيني وتثور زفرتي ؟!
فأنبأه الله تعالى عن قصّته ، فقال : ( كهيعص ) فالكاف اسم كربلاء ، والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد (لعنه الله) ، وهو ظالم الحسين (عليه السّلام) ، والعين عطشه ، والصاد صبره .
فلمّا سمع ذلك زكريا (عليه السّلام) لم يُفارق مسجده ثلاثة
أيام ، ومنع فيهن الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب .
وكان رثاؤه : إلهي ، أتُفجع خير جميع خلقك بولده ؟! إلهي ، أتُنزل بلوى هذه المصيبة الرزية بفنائه ؟! إلهي ، أُتلبس علياً وفاطمة ثياب المصيبة ؟! إلهي ، أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما ؟! ثمّ كان يقول : اللّهمّ ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر ، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه ، ثمّ افجعني بحبّه كما تفجع محمداً (صلّى الله عليه وآله) حبيبك بولده (عليه السّلام) . فرزقه الله تعالى يحيى (عليه السّلام) ستة أشهر ، وحمل الحسين (عليه السّلام) كذلك ستة أشهر .
المجلس السادس عشر : مجلس ثانٍ لعيسى بن مريم (عليهما السّلام) في كربلاء ، ذاكر المصيبة أسد والسامع عيسى والحواريون .
وذلك إنّهم لمّا مروّا بكربلاء ، لا في سياحتهم ، رأوا أسداً كاسراً(9) قد أخذ الطريق ، فأقدم عيسى (عليه السّلام) وقال : لِمَ جلست على طريقنا لا تدعنا نمرّ فيه ؟ قال : إنّي لا أدعكم تمرّون حتّى تلعنوا يزيد قاتل الحسين (عليه السّلام) سبط محمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) النبي الأُميّ وابن علي الولي (سلام الله عليهما) .

النوع الثالث : المجالس المنعقدة لرثائه (عليه السّلام) بعد ولادته قبل شهادته
وهي ثلاثون مجلساً :
الأوّل : فوق السماوات عند سدرة المنتهى ليلة ولادته ، المبيّن للمصيبة هو الله تعالى ، والسامع جبرئيل وألف قبيل من الملائكة ، كلّ قبيل ألف ألف حين أمرهم بالنزول لتهنئة النبي (صلّى الله عليه وآله) بولادته (عليه السّلام) ، فقال تعالى : (( إذا هنأته فعزّه ، وقل له : إنّ ولدك هذا يُقتل مظلوماً )) .
الثاني : حجرة الزهراء فاطمة (عليها السّلام) .
الثالث : حجرات أزواج النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) .
الرابع : مسجد النبي (صلّى الله عليه وآله) الراثي فيها تارة هو ، وتارة جبرئيل (عليه السّلام) ، وتارة ملك القطر ، وتارة اثنا عشر ملكاً أتوا لزيارته بصور مختلفة فرثوا الحسين له ، وتارة كلّ ملك ، ففي الحديث ، أنّه لم يبقَ ملك إلاّ ونزل إلى النبي يعزّيه بالحسين ،
اللّهم صلِّ على محمد حبيبك وآله الأطهار .
وهذه مجالس لا تدخل تحت عدد ، وكلّما أردت عدّاً وضبطاً لهذه المجالس النبويّة حالة ومكاناً وزماناً ، وباكياً وراثياً وهكذا ... لم أقدر . لقد ظهر لي من تتبّع الأحاديث أنّه منذ ولد الحسين (عليه السّلام) ، بل منذ حملت به أُمّه الزهراء (عليه السّلام) كانت مجالس النبي (صلّى الله عليه وآله) رثاءً له ، ليلاً ونهاراً ، في المسجد ، وفي البيوت ، وفي البساتين ، وفي أزقة المدينة ، سفراً وحضراً ، نوماً ويقظة .
وكان رثاؤه تارة ببيانه لأصحابه ، وتارة بإسماعه الملائكة ، وتارة يتذكّر فيتأوه ، وتارة يتصوّر حالاته ، فمرّة يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( كأنّي به يستغيث فلا يُغاث )) ، وتارة يقول : (( كأنّي بالسبايا على أقطاب المطايا )) ، وتارة يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( كأنّي برأسه اُهدي إلى يزيد (لعنه الله) ، فمَنْ نظر إلى رأسه وفرح بذلك خالف الله تعالى بين لسانه وقلبه )) ، وتارة يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( صبراً يا أبا عبد الله )) ، وتارة يرى قاتله فيتغيّر وجهه المبارك .
وكان المبكي له (صلّى الله عليه وآله) مجرّد النظر إليه (عليه السّلام) تارة ، وحمله تارة ، وتقبيله أُخرى ، وإقباله عليه تارة ، وذهابه من عنده أُخرى ، وهكذا فلبّسه لباساً جديداً مبكٍ له (صلّى الله عليه وآله) ، وفرحه بالعيد مبكٍ له ، ولعبه مبكٍ له ، وأكله طعاماً لذيذاً مبكٍ له ، وجوعه مبكٍ له ، وبكاؤه مبكٍ له ، فكان (صلّى الله عليه وآله) كلّما مرّ على بيت فاطمة (عليه السّلام) وسمع بكاءه بكى ، وجاء إليها وقال : (( سكّتيه ؛ أما علمتِ أنّ بكاءه يؤذيني ؟ )) . وشمّ تربته مبكٍ له ، وقد أتاه بها كلّ ملك ، وبكى في كلّ مرّة ، وتارة يذكر قاتله ويبكي . هذا مجمل الكلام في مجالسه .
وأمّا التفصيل فإنّه لما آن الحمل بالحسين (عليه السّلام) ، انعقدت مجالس الرثاء حينئذ عنده (صلوات الله عليه وآله) ، بحيث يتعذّر عدّها إلى يوم وفاته .
بيان ذلك : إنّه لمّا اُخبر بأنّ فاطمة (عليها السّلام) تلد الحسين (عليه السّلام) اُخبر أيضاً بشهادته ، فبكى (صلّى الله عليه وآله) ، فلمّا وضعته واُتي به إليه في تلك الساعة ، وهو ملفوف في خرقة من صوف بيضاء ، أذّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثمّ وضعه في حجره ونظر إليه ورثاه وبكى ، وهو يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( سيكون لك حديث ، اللّهمّ العن قاتله )) . ثمّ لمّا أتى عليه سبعة أيام عقّ عنه كبشاً أملح ، وحلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، وخلّق رأسه
بالخلوق ، أي طيّب مركب متخذ من الزعفران وغيره ، ثمّ وضعه في حجره ورثاه وبكى ، وهو يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( يا أبا عبد الله ، عزيز عليّ )) . ثمّ بكى ، ثمّ قال : (( اللّهمّ إنّي أسألك فيما سألك إبراهيم (عليه السّلام) في ذريته ، اللّهمّ إنّي أُحبّهما وأُحبّ مَنْ يحبّهما )) .
ثمّ لمّا أتت عليه سنة كاملة أخذت الملائكة بالهبوط إليه للتعزية ، فأوّل مَنْ هبط اثنا عشر ملكاً على صور مختلفة ، أحدهم على صورة بني آدم منشورة أجنحتهم وهم يرثونه ويعزونه ، ثمّ نزل ملك القطر فعزّاه ، وبعد ذلك نزلوا حتّى لم يبقَ ملك إلاّ ونزل إليه (صلّى الله عليه وآله) وهو يعزّيه بالحسين (عليه السّلام) ويذكر قتله له كما في الروايات المعتبرة ؛ وذلك ليفوزوا بثواب التعزية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وإلاّ فالإخبار حصل بأوّل مرّة .
ثمّ إنّ الملائكة كانت تحمل تربته إليه ، وأوّل مَنْ حملها إليه جبرئيل (عليه السّلام) ، قال علي (عليه السّلام) : (( دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعيناه تفيضان ، فقلت : بأبي أنت وأُمّي ! ما لعيناك تفيضان ؟ أغضبك أحد ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : لا ، ولكن أخبرني جبرئيل (عليه السّلام) أنّ ولدي الحسين (عليه السّلام) يُقتل في أرض كربلاء ، وأشّمني من تربته ، ولم أملك عينيَّ أن فاضتا ... )).
ولمّا أتت عليه سنتان خرج النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى سفر ، فوقف في بعض الطريق واسترجع ، ودمعت عيناه ، فسُئل عن ذلك ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( هذا جبرئيل يخبرني عن أرض بشط الفرات يُقال لها : كربلاء ، يُقتل بها ولدي الحسين . وكأنّي أنظر إليه وإلى مصرعه ومدفنه بها ، وكأنّي أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا ، وقد اُهدي رأس الحسين (عليه السّلام) إلى يزيد (لعنه الله) ، فوالله ما ينظر أحد إلى رأس الحسين ويفرح إلاّ خالف الله تعالى بين قلبه ولسانه ، وعذّبه الله عذاباً أليماً )) .
ثمّ رجع النبي (صلّى الله عليه وآله) من سفره مغموماً مهموماً ، كئيباً حزيناً ، فصعد المنبر وأصعد معه الحسن والحسين (عليهما السّلام) وخطب ووعظ الناس ، فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن ، ويده اليسرى على رأس الحسين وقال : (( اللّهمّ إنّ محمّداً عبدك ورسولك ، وهذان أطائب عترتي ، وخيار أرومتي ، وأفضل ذريتي ، ومَنْ اُخلّفهما في أُمّتي .
وقد أخبرني جبرئيل أنّ ولدي هذا مقتول بالسمّ ، والآخر شهيد مضرّج بالدم ، اللّهمّ فبارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله ، واصله حرّ نارك ، واحشره في أسفل درك من الجحيم )) .
قال : فضجّ الناس بالبكاء والعويل .
فقال لهم النبي (صلّى الله عليه وآله) : (( أيّها الناس ، أتبكونه ولا تنصرونه ؟! اللّهمّ فكن أنت له وليّاً وناصراً )) . ثمّ قال : (( يا قوم ، إنّي مخلّف فيكم الثقلين ؛ كتاب الله وعترتي وأرومتي ، ومزاج مائي ، وثمرة فؤادي ومهجتي ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض . ألا وإنّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي تعالى أن أسألكم عنه ؛ أسألكم عن المودّة في القربى ، فاحذروا أن تلقوني غداً على الحوض وقد آذيتم عترتي ، وقتلتم أهل بيتي وظلمتموهم )) .
ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) : (( ألا إنّه سيرد عليّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأُمّة :
الأولى : راية سوداء مظلمة ، قد فزعت منها الملائكة ، فتقف عليّ فأقول لهم : مَنْ أنتم ؟ فينسون ذكري ويقولون : نحن أهل التوحيد من العرب . فأقول لهم : أنا أحمد نبي العرب والعجم . فيقولون : نحن من أُمّتك . فأقول : كيف خلفتموني من بعدي في أهل بيتي وعترتي ، وكتاب ربّي تعالى ؟ فيقولون : أمّا الكتاب فضيّعناه ، وأمّا العترة فحرصنا أن نبيدهم من جديد الأرض . فلمّا أسمع منهم ذلك أعرض عنهم بوجهي ، فيصدرون عُطاشى مسودّة وجوههم .
ثمّ ترد عليّ راية أُخرى أشدّ سواداً من الأولى ، فأقول لهم : كيف خلفتموني من بعدي في الثقلين ؛ كتاب الله تعالى وعترتي ؟ فيقولون : أمّا الأكبر فخالفناه ، وأمّا الأصغر فمزّقناهم كلّ ممزق . فأقول : إليكم عنّي . فيصدرون عُطاشى مسودّة وجوههم .
ثمّ ترد عليّ راية تلمع وجوههم نوراً ، فأقول لهم : مَنْ أنتم ؟ فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى من أُمّة محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ، ونحن بقيّة أهل الحقّ ، حملنا كتاب ربّنا تعالى ، وحلّلنا حلاله ، وحرّمنا حرامه ، وأحببنا ذريّة نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، ونصرناهم من كلّ ما نصرنا به أنفسنا ، وقاتلنا معهم مَنْ ناوأهم . فأقول لهم : أبشروا فأنا نبيّكم محمّد المصطفى ، ولقد كنتم في الدنيا كما قلتم . ثمّ أسقيهم من حوضي ،
فيصدرون مروّيين مستبشرين ، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين )) .
والحمد لله ربّ العالمين .
ثمّ بعد ذلك كلّه كثرت مصيبته (صلّى الله عليه وآله) به (عليه السّلام) فكان يرثيه في بيته ومسجده وعلى منبره ، وفي سفره وحضره ، وقيامه وقعوده ، وكانت رؤيته له وحمله له مصيبة ، وتقبيله له موجباً للعبرة ، وإقعاده في حجره مفجعة ، والنظر إليه رثاء ، وأسباب سروره أحزاناً .
وتفصيل ذلك : إنّه لمّا كان يحمله ورأسه متكئ كان يذكر رأسه الذي على الرمح ، فيبكي ويقول لأصحابه : (( كأنّي أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا ، وقد اُهدي رأس ولدي إلى يزيد )) .
ولمّا كان (صلّى الله عليه وآله) يقعده في حجره ينظر إلى وجهه فيبكي ويقول (صلّى الله عليه وآله) : (( يابن عباس ، كأنّي به وقد خضب شيبه من دمه ، فيدعو فلا يُجاب ، ويستنصر فلا يًنصر )) . وكان يراه في العيد لابساً جديداً فيبكي ؛ لأنّه يتذكّر عراءه في طف كربلاء ، بل وأنّه يطلب من أُخته زينب ثوباً عتيقاً ؛ كي لا يطمع به القوم حين يسلبوه يلبسه تحت ثيابه .
وكان يراه جالساً معه ومع أبيه وأُمّه وأخيه ، ثمّ يأخذ في البكاء ؛ لأنّه يتذكّر أو يذكّره جبرئيل ببقائه وبقاء أطفاله وقد اسودّت الدنيا بأعينهم ، ثمّ تفرّقهم بعد ذلك قتلى وأسرى ... مظلومون حيارى .
ولمّا كان يُقبّل نحره يبكي ، وكان يقول لعلي (عليه السّلام) : (( أمسكه يا علي )) . فيمسكه ، فيكشف جسده ويقبّله ويبكي ، فكان يقول (صلّى الله عليه وآله) : (( أُقبّل مواضع السيوف وأبكي )) .
وكان يُقبل شفتيه وأسنانه ويبكي ؛ لأنّه يتذكّر قرعه بالخيزران في مجلس يزيد وابن زياد (لعنهما الله تعالى) ، وكان قد رأى ذلك زيد بن أرقم ، ثمّ حضر يوم الكوفة ، ورأى ابن زياد يُقرع ثنايا الحسين (عليه السّلام) ويطعن في فمه المبارك وأنفه .
فقام وقال : ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين ؛ فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، لقد رأيت ثنايا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ترشف ثناياه .
وكان في يوم جالساً في المسجد ، فدخلت جماعة من قريش معهم عمر بن سعد ، فتغيّر وجهه (صلوات الله عليه وعلى آله) ، فقالوا : يا رسول الله ، ما أصابك ؟ فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( إنّي ذكرت ما يلقى أهل بيتي من قتل وضرب ، وشتم وتطريد وتشريد ، وأنّ أوّل رأس يُحمل
على الرمح رأس ولدي الحسين )) .
فاستمرت هذه الحالة به (صلّى الله عليه وآله) وغيرها من الحالات طول حياته المباركة ، في ليله ونهاره ، حواضره وأسفاره إلى حين احتضاره ، وهو لا تفارقه ذكرى ولده الحسين الغريب الشهيد (عليه السّلام) . وكان احتضاره أيضاً مجلس رثاء لأبي عبد الله (عليه السّلام) ، وذلك أنّه لمّا دنت وفاته (صلّى الله عليه وآله) واشتدّ به المرض ، ضمّ ولده وحبيبه وعزيزه الحسين (عليه السّلام) إلى صدره المبارك ، فسال من عرقه عليه ، وهو يجود بنفسه ويقول : (( ما لي وليزيد ! لا بارك الله تعالى في يزيد ، اللّهمّ العن يزيد )) . ثمّ غُشيّ عليه (صلّى الله عليه وآله) فأفاق ، وجعل يقبّل الحسين (عليه السّلام) وعيناه تذرفان ، ويقول : (( أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله عزّ وجلّ )) . وهذه كلّها في المدينة المنوّرة .
الخامس : مجلس الرسول (صلّى الله عليه وآله) في كربلاء ، قال (صلّى الله عليه وآله) : (( لمّا اُسريّ بي إلى موضع يُقال له : كربلاء ، ورأيت فيه مصرع الحسين (عليه السّلام) وأصحابه )) ، فعقد هناك مجلساً لعزائه .
السادس : مجلسه (صلّى الله عليه وآله) في مجمع المدينة وكربلاء ، وذلك حين انخفضت له الأرض ، ورأى مصرع الحسين (عليه السّلام) ، وأخذ من تربته ، ولعلّ هذه التربة هي التي دفعها إلى أُمّ سلمة ، وقال لها : احتفظي بها فإذا صارت دماً فاعلمي أنّ الحسين قد قُتل .
وقد دفع إليها الحسين (عليه السّلام) مثلها ، وبهذه الكيفية ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى .
السابع : مجلس علي (عليه السّلام) في المدينة والكوفة وغيرهما ، فلقد كان (عليه السّلام) يرثي الحسين (عليه السّلام) على المنبر ، وفي المسجد بعناوين كثيرة مختلفة ، ويبكي كثيراً عند رثائه ، ويذكر حالاته بكيفيات مختلفة نظماً ونثراً ، في بعضها :
كأنّي بنفسي وأعقابهــا     وبكربلاء ومحرابهــا !
فتُخضب منّا اللحى بالدماء     خضابَ العروسِ بأثوابها

ومن تلك المجالس مجلسه في محراب المسجد ، وهو مطروح مشقوق الرأس ، قال (عليه السّلام) : (( يا أبا عبد الله ، أنت شهيد هذه الأُمّة )) . فهو الراثي والحسين (عليه السّلام) الباكي ، والمستمع أهل الكوفة .
وله (عليه السّلام) بعد هذا مجلس هو آخر مجالسه ، الراثي
هو (عليه السّلام) ، والمستمع ابنته زينب (عليها السّلام) ، حيث أخبرها (عليه السّلام) وهو مضطجع على فراشه يوم وفاته ، ومشقوق الرأس مصفرّ اللون ، فقال لها : (( يا بُنية ، كأنّي بك وبنساء أهل بيتك أُسارى في هذا البلد ، أذلاء خاشعين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس ... )) إلى آخر الحديث .
وأمّا مجالسه (عليه السّلام) في المدينة ، فكان كلّما رآه بكى ، وناداه : (( يا عبرة كلّ مؤمن )) . فيقول : (( أنا يا أبتاه ؟ )) . فيقول : (( نعم )) .
الثامن : مجالس ثلاثة له في كربلاء :
الأوّل : ما رواه مجاهد عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين (عليه السّلام) عند خروجه إلى صفين ، فلمّا نزل نينوى وهو بشط الفرات ، قال بأعلى صوته : (( يابن عباس ، أتعرف هذا الموضع ؟ )) . قلت له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين . قال علي (عليه السّلام) : (( لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي )) .
قال : فبكى (عليه السّلام) طويلاً حتّى اخضلّت لحيته(10) ، وبكينا معه وهو يقول : (( أوه أوه ! ما لي ولآل أبي سفيان ! ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ! صبراً يا أبا عبد الله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم )) .
ثمّ دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة ، فصلّى ما شاء الله أن يصلّي ، ثمّ ذكر نحو كلامه الأوّل ، إلاّ أنّه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ، فنام ساعة ثمّ انتبه فقال : (( يابن عباس )) . قلت : ها أنا ذا . فقال (عليه السّلام) : (( ألا أُحدّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي ؟ )) . فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين .
قال (عليه السّلام) : (( رأيت كأنّي برجال قد نزلوا من السماء معهم أعلام بيض ، قد تقلّدوا سيوفهم ، وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة ، ثمّ رأيت كأنّ هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض ، تضطرب بدم عبيط ، وكأنّي بالحسين سخلي(11) وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه ، يستغيث فيه فلا يُغاث ، وكأنّ الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول ؛ فإنّكم تُقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنّة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة .
ثمّ يعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن ، أبشر ؛ فقد أقرّ الله تعالى به عينك يوم يقوم الناس لربّ العالمين . ثمّ انتبهت هكذا . والذي نفس علي بيده ، لقد
حدّثني الصادق المصدّق أبو القاسم (صلّى الله عليه وآله) أنّي سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يُدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من ولدي وولد فاطمة ، وإنّها لفي السماوات معروفة تذكر بأرض كرب وبلاء كما تُذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس )) .
ثمّ قال (عليه السّلام) : (( يابن عباس ، اطلب حولها بعر الظباء(12) ، فوالله ما كذبت ولا كُذّبت ، وهي مصفرّة لونها لون الزعفران )) .
قال ابن عباس : فطلبته فوجدته مجتمعاً ، فناديته : يا أمير المؤمنين ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي . فقال علي (عليه السّلام) : (( صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) )) .
ثمّ قام (عليه السّلام) يهرول إليها فحملها وشمّها وقال : (( هي هي بعينها ، أتعلم يابن عباس ما هذه الأبعار ؟ هذه قد شمّها النبي عيسى (عليه السّلام) ؛ وذلك إنّه مرّ بها ومعه الحواريون ، فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسى (عليه السّلام) وجلس الحواريون معه ، فبكى وبكى الحواريون وهم لا يدرون لِمَ جلس ولمَ بكى .
فقالوا : يا روح الله وكلمته ، ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أي أرض هذه ؟ قالوا : لا . قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول (صلّى الله عليه وآله) أحمد ، وفرخ الحرّة الطاهرة البتول شبيهة أُمّي ، ويُلحد فيها . طينة أطيب من المسك ؛ لأنّها طينة الفرخ المستشهد ، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، فهذه الظباء تكلّمني وتقول : إنّها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض .
ثمّ ضرب بيده هذه البعرات فشمّها ، وقال : هذا بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها ، اللهم فأبقها أبداً حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء وسلوة )) .
قال : (( فبقيت إلى يومنا هذا ، وقد اصفرّت لطول زمانها ، وهذه أرض كرب وبلاء )) .
ثمّ قال بأعلى صوته : (( يا ربّ عيسى بن مريم ، لا تُبارك في قاتله ، والمعين عليه ، والخاذل له )) . ثمّ بكى بكاءً طويلاً ، وبكينا معه حتّى سقط لوجهه وغُشيّ عليه طويلاً ، ثمّ أفاق وأخذ البعر فصرّه في ردائه وأمرني أن أصرّه كذلك .
ثمّ قال (عليه السّلام) : (( يابن عباس ، إذا رأيتها تنفجّر دماً عبيطاً ، ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أنّ أبا عبد الله قد قُتل بها ودُفن )) .
قال ابن عباس : فوالله ، لقد كنت أحفظها أشدّ من حفظي لبعض ما افترض الله تعالى عليّ وأنا لا أحلّها من طرف كُمّي ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً ، وكان كمي قد امتلأت دم عبيط ، فجلست وأنا باكٍ .
وقلت : قد قُتل والله الحسين ، والله ما كذبني علي (عليه السّلام) قطّ في حديث حدّثني ، ولا أخبرني بشيء قطّ أنّه يكون إلاّ كان كذلك ؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يُخبره بأشياء لا يُخبر بها غيره .
ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنّها ضباب لا يستبين منها أثر عين ، ثمّ طلعت الشمس فرأيت كأنّها منكسفة ، ورأيت كأنّ حيطان المدينة عليها دم عبيط ، فجلست وأنا باكٍ ، فقلت : قد قُتل والله الحسين ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
اصبـروا يا آل الرسول     قُتل فرخُ البتول
نزلَ الروحُ الأميـــن     ببكاءٍ وعويــل

ثمّ بكى بأعلى صوته وبكيت ، فأثبتُ عندي تلك الساعة ، وكان شهر المحرّم يوم عاشوراء ، لعشر مضين منه ، فوجدته قُتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك ، فحدّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه ، فقالوا : والله ، لقد سمعنا ما سمعنا ونحن في المعركة ولا ندري ما هو ، فكنّا نرى أنّه الخضر (عليه السّلام) .
الثاني : ما عن هرثمة بن أبي مسلم ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب (عليه السّلام) صفّين ، فلمّا انصرفنا نزل كربلاء فصلّى بها الغداة ، ثمّ رفع إليه من تربتها فشمّها ، ثمّ قال (عليه السّلام) : (( واهاً لك أيتها التربة ! ليُحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنّة بغير حساب )) .
فرجع هرثمة إلى زوجته وكانت شيعة لعلي (عليه السّلام) فقال : ألا أحدّثك عن وليّك أبي الحسن (عليه السّلام) نزل كربلاء فصلّى ، ثمّ رفع إليه من تربتها فقال : (( واهاً لك أيتها التربة ! ليُحشرن منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب )) . فقالت : أيّها الرجل ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) لم يقل إلاّ حقاً .
فلمّا قدم الحسين (عليه السّلام) قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم إليه عبيد الله بن زياد (لعنهما الله) ،
فلمّا رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث ، فجلست على بعيري ثمّ صرت إلى الحسين (عليه السّلام) فسلّمت عليه وأخبرته بما سمعت من أبيه (عليه السّلام) في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين (عليه السّلام) فقال : (( معنا أنت أم علينا ؟ )) .
فقلت : لا معك ولا عليك ، خلّفت صبية أخاف عليهم عبيد الله بن زياد . قال (عليه السّلام) : (( فامض حيث لا ترى لنا مقتلاً ، ولا تسمع لنا صوتاً ؛ فوالذي نفس الحسين بيده ، لا يسمع اليوم واعيتنا أحد إلاّ أكبه الله تعالى في نار جهنم )) .
الثالث : ما روي عن الباقر (عليه السّلام) ، قال : (( مرّ علي (عليه السّلام) بكربلاء في اثنين من أصحابه ، فلمّا مرّ بها ترقرقت عيناه بالبكاء ، ثمّ قال : هذا والله مناخ ركابهم ، هذا ملقى رحالهم ، وهاهنا تهراق دماؤهم ، طوبى لكِ من تربة عليك تهراق دماء الأحبّة )).
التاسع : مجالس الزهراء (عليها السّلام) في المدينة ، وهي لا تُعدّ لكثرتها ؛ فإنّها كلّما اُخبرت بذلك لجهات عديدة عقدت مجلس بكاء ورثاء له (عليه السّلام) .
العاشر : مجلس أُمّ أيمن في المدينة ، وهي الراثية ، والمستمعة زينب العقيلة (عليها السّلام) ، حين ذكرت لها الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) .
وهو حديث طويل فيه بيان مقتل الإمام الحسين (عليه السّلام) ، ومصرعه وكيفية تجهيزه ، وهذا هو الحديث الذي ذكرته زينب للسجّاد (عليهما السّلام) في المقتل لتسليته حين بقيت الأجساد المباركة مطروحة فأخذوهم إلى الكوفة .
الحادي عشر : مجلس الحسن المجتبى المظلوم (عليه السّلام) لرثاء الحسين أخيه (سلام الله عليه) في المدينة ، هو الراثي والحسين وأهل بيته المستمعون . وذلك حين حضره الموت ، وظهر السمّ في جميع أعضائه ، وخرج كبده مقطّعاً ، فأتى إليه الحسين (عليه السّلام) واعتنقه ، وجعل يبكي ، فقال له الحسن (عليه السّلام) : (( ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ )) .
قال (عليه السّلام) : (( أبكي لما صُنع بك )) . فقال الإمام الحسن (عليه السّلام) : (( لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ؛ يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أُمّة جدّنا (صلّى الله عليه وآله) ، وينتحلون دين الإسلام ، ويجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك
ونسائك ، فعندها تمطر السماء دماً ورماداً ، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار )) .
الثاني عشر : مجلس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) على قبره الشريف ، الراثي هو (صلّى الله عليه وآله) ، والسامع الحسين (عليه السّلام) ، وذلك لمّا أراد الخروج من المدينة بعدما أصر عليه الوليد بالبيعة ليزيد ، فخرج من منزله ذات ليلة (سلام الله تعالى عليه) ، وأقبل إلى قبر جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) فقال : (( السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلّفتني في أُمّتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني ، وضيّعوني ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك )) .
اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمد وعجّل في فرجهم يا الله .
ثمّ قام (عليه السّلام) فصفّ قدميه ، ولم يزل راكعاً ساجداً ، وأرسل الوليد إلى منزل الحسين (عليه السّلام) لينظر أخرج من المدينة أم لا ، فلم يصبه في منزله ، [ فقال : ] الحمد لله خرج ولم يبتلني بدمه ، ورجع الحسين (عليه السّلام) إلى منزله عند الصبح .
فلمّا كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضاً وصلّى ركعات ، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول : (( اللّهمّ هذا قبر نبيّك محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا ابن بنت نبيّك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت . اللّهمّ إنّي أحبّ المعروف وأُنكر المنكر ، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَنْ فيه إلاّ اخترت لي ما هو لك رضاً ولرسولك رضاً )) .
ثمّ جعل يبكي عند القبر حتّى إذا كان قريباً من الصبح ، وضع رأسه المبارك على القبر فأغفى . فإذا هو برسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وعن شماله وبين يديه حتّى ضمّ الحسين (عليه السّلام) إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال (صلّى الله عليه وآله) : (( حبيبي يا حسين ، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك ، وأنت مع ذلك عطشان لا تُسقى ، وظمآن لا تُروى ، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي ، لا أنالهم الله تعالى شفاعتي يوم القيامة . حبيبي يا حسين ، إنّ أباك وأُمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك ، وإنّ لك في الجنان
لدرجات لن تنالها إلاّ بالشهادة )) .
قال فجعل الحسين (عليه السّلام) في منامه ينظر إلى جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) .
ويقول : (( يا جدّاه ، لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك )) . فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة ، وما كتب الله تعالى لك فيها من الثواب العظيم ، فإنّك وأباك وأخاك وعمّ أبيك تُحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنّة )) .
قال فانتبه الحسين (عليه السّلام) من نومته فزعاً مرعوباً فقصّ رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب ، فلم يكن في ذلك اليوم في مشرق ولا مغرب قوم أشدّ غماً من أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولا أكثر باكٍ وباكية منهم (صلوات الله عليهم أجمعين).
الثالث عشر : مجلس أُمّ سلمة خارج المدينة ، هي الراثية والمستمع الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ كان الراثي الحسين (عليه السّلام) والمستمع هي ، وهو مجلس عجيب ، فيه تصوير وإراءة لقضية كربلاء ، وإنّ كربلاء مجمع للمدينة وكربلاء .
وهو إنّ الحسين لمّا عزم على الخروج من المدينة أتته أُمّ سلمة (رضي الله عنها) ، وقالت : يا بُني ، لا تحزنّي بخروجك إلى العراق ؛ فإنّي سمعت جدّك المصطفى (صلّى الله عليه وآله) يقول : (( يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يُقال لها : كربلاء )) . فقال لها الحسين (عليه السّلام) : (( يا أُمّاه ، وأنا والله أعلم بذلك ، وإنّي مقتول لا محالة ، وليس لي من هذا بدٌّ . وإنّي والله لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه ، وأعرف مَنْ يقتلني ، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها ، وإنّي أعرف مَنْ يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي ، وإذا أردت يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي )) .
ثمّ أشار (عليه السّلام) إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتّى أراها مضجعه ومدفنه ، وموضع عسكره ، وموقفه ومشهده ، فعند ذلك بكت بكاءً شديداً وسلّمت أمره إلى الله ، فقال لها : (( يا أُمّاه ، قد شاء الله تعالى أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً ، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين ، وأطفالي مذبوحين مظلومين ، مأسورين مقيّدين ، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً )) .
وفي رواية أُخرى : قالت أُمّ سلمة : عندي تربة دفعها إليّ جدّك (صلّى الله عليه وآله) في قارورة . فقال الإمام الحسين (عليه السّلام) : (( والله إنّي مقتول
كذلك ، وإن لم أخرج إلى العراق يقتلوني أيضاً )) . ثمّ أخذ تربة فجعلها في قارورة وأعطاها إيّاها ، وقال : (( اجعليها مع قارورة جدّي ، فإذا فاضتا دماً فاعلمي أنّي قد قُتلت )) .
الرابع عشر : مجلس عمّات الحسين (عليه السّلام) خارج المدينة ، وهو أنّه (عليه السّلام) لمّا همّ بالشخوص إلى المدينة أقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة حتّى مشى فيهن الحسين (عليه السّلام) . فقال : (( أُنشدكنَّ الله تعالى أن تبدين في هذا الأمر معصية لله ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) )) .
قالت له نساء بني عبد المطلب : فلِمَنْ نستبقي النياحة والبكاء ؟ فهو عندنا كيوم مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي (عليه السّلام) ، وفاطمة الزهراء (عليه السّلام) ورقية وزينب وأُمّ كلثوم (عليه السّلام) ، فننشدك الله ، جعلنا الله فداك من الموت ، فيا حبيب الأبرار من أهل القبور ، وأقلبت بعض عمّاته تبكي وتقول : أشهد يا حسين لقد سمعت الجنّ ينوحون بموتك ، وهم يقولون :
وإنّ قتيلَ الطفّ من آلِ هاشـــم     أذلّ رقاباً من قريشٍ فذلّتِ
حبيبُ رسولِ اللهِ لم يكُ فاحشاً     أبانت مصيبتـــكَ الاُنوفَ وجلّتِ

وقالوا أيضاً :
ابكوا حسيناً سيد    ولقتلهِ شابَ الشعر
ولقتلهِ زُلزلتمُ     ولقتلهِ انكسفَ القمر
واحمّرت آفاقُ السما     في العشيّة والسحر!
وتغيّرت شمسُ البل    د بهمُ وأظلتِ الكور!
ذاك ابنُ فاطمة المص    ب بهِ الخلائقُ والبشر
أورثتنا ذلاً به     جدعَ الأُنوفَ مع الغرر

تبيان : معنى الكور : كالغرف ، جمع الكورة كالغرفة ، وهي المدائن والنواحي .
المجلس الخامس عشر : مجلس الحسين (عليه السّلام) لمّا سار من المدينة ، والمستمع الملائكة ، وهو أنّه (عليه السّلام) لمّا سار من المدينة لقيته أفواج من الملائكة
المسوّمة ، في أيديهم الحراب ، على نُجب من نُجب الجنّة فسلّموا عليه . وقالوا : يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إنّ الله سبحانه أمدّ جدّك بنا في مواطن كثيرة ، وإنّ الله أمدّك بنا .
فقال لهم : (( الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها ، وهي كربلاء ، فإذا أوردتها فأتوني )) . فقالوا : يا حجّة الله ، مُرنا نسمع ونُطع ، فهل تخشى من عدوٍ يلقاك فنكون معك ؟ فقال : (( لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي )) .
السادس عشر : مجلس الحسين (عليه السّلام) لمّا سار إلى المدينة ، والمستمع الجنّ ، وهو أنّه (عليه السّلام) لمّا سار إلى المدينة أتته أفواج مسلمي الجنّ .
فقالوا : يا سيدنا ، نحن شيعتك وأنصارك ، فمُرنا بأمرك وما تشاء ، ولو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك .
فجزّاهم الحسين (عليه السّلام) خيراً ، وقال لهم : (( أوَ ما قرأتم كتاب الله تعالى على جدّي (صلّى الله عليه وآله) في قوله تعالى : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) . وقال سبحانه : ( لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) . وإذا أقمت بمكاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس(1) ؟ ، وبماذا يُختبرون ؟ ومَنْ ذا يكون ساكن حفرتي بكربلاء وقد اختارها الله تعالى يوم دحا الأرض وجعلها معقلاً لشيعتنا(2) ، ويكون لهم أمان في الدنيا والآخرة ؟ ولكن تحضرون يوم السبت ، وهو يوم عاشوراء الذي آخره اُقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهل بيتي ، وتُسبى أخواتي وأهل بيتي ، ويُسار برأسي إلى يزيد (لعنه الله) )) .
فقالت الجنّ : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه ، لولا أنّ أمرك طاعة ، وأنّه لا يجوز لنا مخالفتك ، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك .
فقال (صلوات الله عليه) : (( نحن والله أقدر عليهم منكم ، ولكن لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )) .
السابع عشر : مجلس في المسجد الحرام ، المستمع الحِجّاج ، والراثي الإمام الحسين (عليه السّلام) ، يرثي فيه أعضاءه المقطّعة.
فإنّه (صلوات الله تعالى عليه) لمّا عزم
على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال : (( الحمد لله وما شاء الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله وسلّم . خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخيّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله تعالى رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين .
لن تشذّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لحمته ، وهي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده ، مَنْ كان فينا باذلاً مهجته ، موطّناً على لقاء الله تعالى نفسه فليرحل معنا ؛ فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى )) .
الثامن عشر : مجلس خارج مكة ، المستمع محمّد بن الحنفيّة ، والراثي هو الحسين (عليه السّلام) ، وهو أنّه جاء محمّد بن الحنفيّة إلى أخيه الحسين (عليه السّلام) ، في الليلة التي أراد الحسين (عليه السّلام) الخروج في صبيحتها عن مكّة المكرّمة فقال له : يا أخي ، إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك (عليهما السّلام) ، وقد خفت أن يكون حالك كحال مَنْ مضى ، فإن رأيت أن تُقيم فإنّك أعزّ مَنْ بالحرم وأمنعه .
فقال (عليه السّلام) : (( يا أخي ، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون بذلك أوّل مَنْ تُستباح به حرمة البيت )) .
فقال له ابن الحنفيّة : فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البرّ ؛ فإنّك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد .
فقال (عليه السّلام) : (( أنظر فيما قلت )) .
فلمّا كان السحر ، ارتحل الحسين (عليه السّلام) فبلغ ذلك ابن الحنفيّة فأتاه وأخذ بزمام ناقته ، وقد ركبها ، وقال : يا أخي ، ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟
قال (عليه السّلام) : (( بلى )) .
قال : فما حداك على الخروج عاجلاً .
قال : (( أتاني رسول الله (صلوات الله عليه وآله) بعدما فارقتك ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : يا حسين ، اخرج فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً )) .
فقال ابن الحنفيّة :
إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال ؟
فقال (عليه السّلام) : (( قال لي (صلّى الله عليه وآله) : إنّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا )) . فسلّم عليه ومضى .
التاسع عشر : مجلس أيضاً خارج مكّة المكرّمة ، الراثي الحسين (عليه السّلام) والمستمع عبد الله بن عمر تارة ، وعبد الله بن الزبير تارة أُخرى ، هو أنّه لمّا خرج الحسين (عليه السّلام) من مكّة جاء عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير فأشار عليه بالإمساك .
فقال لهما : (( إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه )) . فخرج ابن عباس وهو يقول : وا حسيناه !
ثمّ جاء عبد الله بن عمر وأشار إليه بصلح أهل الضلال ، وحذّره من القتل والقتال ، فقال (عليه السّلام) : (( يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله تعالى أنّ رأس يحيى بن زكريا (عليه السّلام) اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل ؟ أما تعلم أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ، ثمّ يجلسون في أسواقهم ، كأن لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجّل الله تعالى عليهم ، بل أخذهم أخذ عزيز ذي انتقام ؟ اتق الله يا أبا عبد الرحمن ، ولا تدع نصرتي )) .
العشرون : مجلس في الخزيمية ، الراثي الجنّ ، والمستمع زينب الكبرى (سلام الله عليها) ، وهو أنّه لمّا نزل الحسين (عليه السّلام) الخزيمية أقام بها يوماً ، فلمّا أصبح أقبلت إليه أُخته زينب (عليها السّلام) ، فقالت : يا أخي ، ألا أُخبرك بشيء سمعته البارحة ؟
فقال الحسين (عليه السّلام) : (( وما ذاك ؟ )) .
فقالت (عليها السّلام) : خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف ، وهو يقول :
ألا يا عين فاحتفلي بجهدي     ومَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي
على قومٍ تسوقهمُ المناي   بمقدارٍ إلى إنجازِ وعدِ

فقال الحسين (عليه السّلام) : (( يا أُختاه ، كلّ الذي قُضي فهو كائن )) .
الحادي والعشرون : مجلس الثعلبية ، الراثي عبد الله بن سليمان ، والمنذر بن المشمعل الأسديان ، لمسلم بن عقيل ، والسامع الحسين (عليه السّلام) ، ثمّ الراثي الحسين (عليه السّلام) والسامع أهل بيته (عليهم السّلام) وأصحابه (سلام الله عليهم أجمعين) .
وهو أنّهما قالا : لمّا قضينا حجّتنا لم تكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين (عليه السّلام) في الطريق ؛ لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل(1) بنا نياقاً مسرعين حتّى لحقناه بزرود(2) ، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة وقد عدل عن الطريق حتّى رأى الحسين (عليه السّلام) كأنّه يريده ، ثمّ تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله فإنّ عنده خبر الكوفة .
فمضينا إليه ، فقلنا : السّلام عليك . فقال : وعليكما السّلام . قلنا : ممّن الرجل ؟ قال : أسدي . قلنا له : ونحن أسديان فمَنْ أنت ؟ قال : أنا بكر بن فلان ، فانتسبنا له ، ثمّ قلنا له : أخبرنا عن الناس وراءك . قال : نعم ، لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ورأيتهما يُجران بأرجلهما في السوق .
فأقبلنا حتّى لحقنا بالحسين (عليه السّلام) فسايرناه حتّى نزل الثعلبية ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلّمنا عليه ، فردّ علينا السّلام ، فقلنا له : يرحمك الله تعالى ، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية ، وإن شئت سرّاً .
فنظر إلينا وإلى أصحابه ، ثمّ قال : (( ما دون هؤلاء ستر )) .
فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشيّ أمس ؟
فقال : (( نعم ، قد أردت مسألته )) .
فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره ، وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم وهانئ ، ورآهما يُجران في السوق بأرجلهما .
فقال (عليه السّلام) : (( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما )) . يردد ذلك مراراً .
قلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا ؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا
شيعة ، بل نتخوف أن يكونوا عليك .
فنظر إلى بني عقيل ، فقال : (( ما ترون وقد قُتل مسلم ؟ )) .
فقالوا : والله ما نرجع حتّى نُصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق .
فأقبل الحسين (عليه السّلام) فقال : (( لا خير في العيش بعد هؤلاء )) . فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير .
فقال له أصحابه : إنّك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس أسرع إليك .
فسكت ، ثمّ انتظر حتّى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : (( أكثروا من الماء )) . فاستسقوا وأكثروا ثمّ ارتحلوا .
وقال السيد (رحمه الله) : أتاه خبر مسلم في (زبالة) ، ثمّ إنّه سار فلقيه الفرزدق فسلّم عليه ، ثمّ قال : يابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته ؟
قال : فاستعبر الحسين (عليه السّلام) باكياً ، ثمّ قال : (( رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى روح الله وريحانه ، وتحيته ورضوانه . أما إنّه قد قضي ما عليه ، وبقي ما علينا )) . ثمّ انشأ :
فإن تكن الدنيا تُعدّ نفيسة     فدارُ ثوابِ اللهِ أعلى وأنبلُ
وإن تكن الأبدانُ للموتِ أُنشئت     فقتلُ امرئ بالسيفِ في اللهِ أفضلُ
وإن تكن الأرزاقُ قسماً مقدّراً     فقلّةُ حرصِ المرءِ للرزقِ أجملُ
وإن تكن الأموالُ للتركِ جمعها    فما بالُ متروكٍ بهِ الحرُّ يبخلُ

الثاني والعشرون : مجلس في بطن العقبة الراثي الحسين (عليه السّلام) والمستمع عمرو بن لوذان ، كيفيته أنّه لقى الحسين (عليه السّلام) في بطن العقبة . وقال له : أين تريد يا أبا عبد الله ؟
قال له الحسين (عليه السّلام) : (( الكوفة )) .
فقال له عمرو : أُنشدك الله لما انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنة ، وحدّ السيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل .
فقال له : (( يا عبد الله ، ليس يخفى عليّ الرأي ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره )) .
ثمّ إنّه (عليه السّلام) شرع في هذا المجلس وبعده إلى الثلاثين في رثاء نفسه ، وكلّ مجلس في هذه المجالس لمصيبة خاصّة يرثي نفسه فيها .
فرثى نفسه في مكّة المكرّمة ، بالنسبة إلى أعضائه المقطّعة ، وقد مرّ ،
ورثى نفسه في هذا المجلس لما يجري عليه في مهجته ـ أي دم قلبه ـ فقال (عليه السّلام) بعد كلامه المذكور : (( والله ، لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي )) .
ومراده من العلقة الإشارة إلى انقلاب القلب دماً ، لما يجري عليه من المصائب (صلوات الله تعالى عليه) .
ومراده من استخراج العلقة جريان دم القلب ؛ لعلمه بورود سهم ذي ثلاث شعب عليه وسيلان دمه وامتلاء يده المباركة من دمه المبارك مرّات ، حين أخذه بكفّه ولطخ بكفّه ولطخ به الوجه والرأس .
بأبي أنت وأُمّي ! قد أحرقت مُهج شيعتك بقولك هذا ، وأقرحت أكبادهم ، فجرت الدموع من عيونهم ، فيا له من كلام مفجع ، خاصّة قولك : (( يستخرجوا هذه العلقة من جوفي )) .
الثالث والعشرون : مجلس المنازل عند الحل والترحال ، فكان يرثي نفسه بالنظر إلى ما يجري عليه في رأسه الشريف وإهدائه .
فكان يذكر يحيى (عليه السّلام) ويقول : من هوان الدنيا أن رأس يحيى اُهدي إلى زانية ، ويبكي عند ذلك(17) .
الرابع والعشرون : مجلس خاص له قرب كربلاء قبل ورودها ، فقد رثى نفسه فيه بالنسبة إلى أهل بيته وولده خاصة بمرثية عجيبة .
وكيفية هذا المجلس : أنّه لمّا نزل آخر منزل ونصبوا الخيام جمع ولده وإخوته وأهل بيته في مكان خاصّ ، فنظر إليهم وبكى ساعة وما يجري عليهم ؛ فإنّه لم يبقَ لهم مأمن ، وقد اُزعجوا عن موطنهم ، وعن كلّ مأمن ، حتّى حرم الله تعالى الذي هو مأمن للمسلمين ، بل للكفّار والحيوانات والأشجار والنباتات .
فلذا بكى ، وشكا ذلك إلى الله تعالى فقال : (( اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله) قد طُردونا واُزعجونا ، وتعدّت بنو أُميّة علينا ، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين )) .
الخامس والعشرون : مجلس له خارج الخيام عصر تاسوعاء ، إذ كان جالساً أمام بيته محتبئاً ـ أي جامعاً بين ظهره ورجليه بالسيف ليستند ـ ، نعم كان محتبئاً بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه ، وسمعت أُخته الصيحة فدنت من أخيها وقالت : يا أخي ، أما تسمع هذه الأصوات
قد اقتربت ؟
فرفع الحسين رأسه (عليه السّلام) ، فقال : (( إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الساعة في المنام وهو يقول : إنّك مقبل علينا )) . فلطمت أُخته وجهها ، ونادت بالويل .
فقال لها الحسين (عليه السّلام) : (( ليس لك الويل يا أُختاه ، اسكتي رحمك الله )) .
وفي رواية السيد قال : (( يا أُختاه ، إنّي رأيت الساعة جدّي محمداً (صلّى الله عليه وآله) ، وأبي وأُمّي وأخي الحسن (عليهم السّلام) وهم يقولون : يا حسين ، إنّك مُقبل علينا من قريب )) .
وفي بعض الروايات (غدا) ، قال : فلطمت زينب على وجهها وصاحت ، فقال لها الحسين (عليه السّلام) : (( مهلاّ ! لا تشمتي القوم بنا )) .
السادس والعشرون : مجلس له في خباء له ، وقد اعتزل فيه ليلة عاشوراء ليرثي نفسه ، ويتذكّر مصائبه وقتله ، ويصلح أسلحته ، ولم يكن هناك سامع ، بل سمعه زين العابدين (عليه السّلام) ، وأُخته العقيلة زينب (عليها السّلام) ، كما يأتي .
نعم ، هو (عليه السّلام) لم يقصد مخاطبتهما ظاهراً لهذا الرثاء ، فكان يخاطب الدهر تارة فيقول :
يا دهرُ أف لكَ من خليلِ    كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ
من صاحبٍ أو طالب قتيلِ     والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ
وإنّما الأمر إلى الجليلِ     وكلّ حيّ سالكٌ سبيلي

قال سيّد الساجدين (عليه السّلام) : (( فلمّا أعادها مرّتين أو ثلاثاً فهمتها وعرفت ما أراد ، فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أنّ البلاء قد نزل .
وأمّا عمّتي زينب (عليها السّلام) فإنّها سمعت ما سمعت وهي امرأة ، ومن شأن النساء الرقّة والجزع ، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لحاسرة . حتّى انتهت إليه (عليه السّلام) فقالت : وا ثكلاه ! ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أُمّي فاطمة ، وعلي ، وأخي الحسن (عليهم السّلام) . يا خليفة الماضين ، وثمال الباقين ! فنظر إليها الحسين (عليه السّلام) ، وقال لها : يا أُختاه ، لا يُذهبنَّ بحلمك الشيطان . وترقرقت عيناه بالدموع ، وقال : لو تُرك القطا لنام .
ويُقال أنّ القطا هو طائر لا يكون سهراناً إلاّ إذا كان هناك خطر عليه .
فقالت : يا ويلتاه ! أفتغتصب نفسك اغتصاباً ؟! فذلك أقرح لقلبي ، وأشدّ على نفسي . ثمّ لطمت وجهها ، وأهوت إلى جيبها وشقّته وخرّت مغشياً عليها (سلام الله عليها) .
فقام إليها الحسين (عليه السّلام) فصبّ على وجهها الماء ، وقال لها : يا أُختاه ، اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله ، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لا يبقون ، وأنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجه الله تعالى الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده . جدّي خير منّي ، وأبي خير منّي ، وأُمّي خير منّي ، وأخي خير منّي ، ولي ولهم ولكلّ مسلم برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أُسوة .
فعزّاها بهذا ونحوه ، وقال لها : يا اُختاه ، إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي ؛ لا تشقي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت . ثمّ جاء بها حتّى أجلسها عندي )) .
أقول : إنّ إمامنا الحسين (عليه السّلام) لم يعهد من قبل أنّ أُخته العقيلة (عليها السّلام) تتمنى الموت ، ولم تعهد زينب (عليها السّلام) أنّ أخاها ينعى نفسه ، أو تشهد بنفسها هذا الموقف منه (فصلوات الله تعالى عليكم يا أهل بيت النبوّة) .
السابع والعشرون : مجلس له في خيمة جمع فيها أصحابه ليلة عاشوراء وخطب فيهم راثياً نفسه وجميع أصحابه ، ثمّ أذن لهم فبايعوه البيعة الثانية في هذا المجلس ، على أن يُقتلوا . بل بايعه بعضهم على القتل ألف مرّة بعد الحرق وإذراء الرماد ، وقال : لو كانت الدنيا باقية لاخترت ذلك أيضاً .
الثامن والعشرون : مجلس له بين الخيام والمقتل ، رثى فيه نفسه لابنته الصغيرة سكينة (عليهما السّلام) ، بأبيات منها :
سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلمي     منكَ البكاءُ إذا الحمامُ دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً     ما دام منّي الروحُ في جثماني

التاسع والعشرون : مجلس له في المقتل ، رثى فيه بعض أصحابه تارة ، وابنه تارة ، وابن أخيه تارة ، وجميعهم تارة ، وأهل بيته تارة ، ورضيعه تارة ، ورضيع له آخر تارة ، جالساً تارة ، وواقفاً تارة ، وسيجيء تفاصيله في بيان الوقائع .
الثلاثون : مجلس له في الخيام ، وقت السحر من يوم عاشوراء ، رثى فيه نفسه بما رثاه به في ذلك الوقت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ففي المناقب : فلمّا كان وقت السحر خفق الحسين (عليه السّلام) برأسه خفقة ثمّ استيقظ فقال : (( أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة ؟ )) . فقالوا : وما الذي رأيت يابن رسول الله ؟ فقال (عليه السّلام) : (( رأيت كأنّ
كلاباً قد شدّت عليّ لتنهشني ، وفيها كلب أبقع ، رأيته أشدّها عليّ ، وأظن أن الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء القوم . ثمّ إنّي رأيت بعد ذلك جدّي (صلّى الله عليه وآله) المصطفى ، ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي : يا بُني أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الرفيق الأعلى ، فليكن إفطارك عندي الليلة . عجّل ولا تؤخّر ، فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء . فهذا ما رأيت وقد أزف الأمر ، واقترب الرحيل من هذه الدنيا ، لا شك في ذلك )) .
خاتم هذه المجالس : مجلس متوحد في الراثي والحلّة والتفجّع ، والسامع له هو الله ربّ العالمين ، فقد سمع الله تعالى لهذا الرثاء ، وهو مجلس له (عليه السّلام) في المقتل ، وهو مطروح مقطّع الأعضاء ، قد سكنت حواسه ، وخمدت أنفاسه ، رثى فيها حالته وحالة أهل بيته في ذلك الوقت ، فنادى ربّه (عزّ وجلّ) : (( اللّهمّ متعالي المكان ، عظيم الجبروت ، شديد الكبرياء ، إنّا عترة نبيّك ، وولد حبيبك محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، قد خذلونا وطردونا وغدروا بنا ، وقتلونا ... )) إلى آخر الحديث ، وهذا آخر مجالس الرثاء والحمد لله والشكر .

النوع الرابع : المجالس المنعقدة بعد شهادته
وهي أقسام :
الأوّل : مجلس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المدينة ، وهو الراثي بهيئة خاصة ، والمستمع أُمّ سلمة .
وذلك في رواية عن ابن عباس قال : بينما أنا راقد في منزلي إذ سمعت صراخاً عظيماً عالياً من بيت أُمّ سلمة ، زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فخرجت متوجّهاً إلى منزلها ، حيث أقبل أهل المدينة إليها رجالاً ونساءً ، فلمّا انتهينا إليها قلت : يا أُمّ المؤمنين ، ما لكِ تصرخين وتغوثين ؟! فلم تجبني ، وأقبلت على النسوة الهاشميات ، وقالت : يا بنات عبد المطلب ، اسعدنني وابكين معي ؛ فقد قُتل والله سيدكنّ وسيد شباب أهل الجنّة ، فقد والله قُتل سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله)
وريحانته الحسين (عليه السّلام) . فقلت : يا أُمّ المؤمنين ، ومن أين علمتِ ذلك ؟
قالت : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام الساعة شعثاً مذعوراً ، فسألته عن شأنه هذا ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : (( قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم ، فدفنتهم الساعة وفرغت من دفنهم )) .
وفي رواية ، قالت : رأيته (صلّى الله عليه وآله) وأثر التراب على رأسه ولحيته ، فقلت : ما لك ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : (( وثب الناس على ابني فقتلوه الساعة ، وقد شهدته قتيلاً )) . قالت : فاقشعرّ جلدي ، فقمت حتّى دخلت البيت وأنا لا أكاد أن أعقل ، فنظرت فإذا بتربة الحسين (عليه السّلام) التي أتى بها جبرئيل (عليه السّلام) من كربلاء إلى النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وقال لها : (( إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنك )) . وأعطانيها النبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقال : (( اجعلي هذه التربة في زجاجة ، أو قال : في قارورة ، ولتكن عندك ، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قتل الحسين (عليه السّلام) )) . فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً يفور .
قال : فأخذت أُمّ سلمة من ذلك الدم فلطخت به وجهها ، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين (عليه السّلام) ، فجاءت الركبان بخبره وأنّه قُتل في ذلك اليوم .
الثاني : مجلس عام ، وهو العالم كلّه لكلّ متمكن في كلّ مكان مع المكين ، وبغير مكين ولجميع الخلق في جميع الأمكنة ، وللأمكنة بنفسها ولأهل الزمان ولنفس الزمان ، ولِما يُرى ولِما لا يُرى ، فهو مجلس لِما سوى الله من جميع أصناف المخلوقات ، من السماء وسكنتها ، والعرش العظيم وحملته ، والسماوات السبع وملائكتها ، ونجومها وكواكبها ، وما فيهنّ وما بينهنّ وما تحتهنّ ، والعناصر والأرضين ومواليدها ، والجنة ورضوان وسكنتها ، وحورها وقصورها ، وأشجارها وأنهارها وثمارها ، والنار وخزنتها ومَنْ يتقلّب فيها.
فهذا مجلس في زمان خاص حصل الانقلاب فيه لما سوى الله في مأتم الحسين إمامنا (عليه السّلام) بتغير الأحوال ، وبحصول التأثير في كلّ شيء بحسب حاله .
فأهل العيون بالدموع ، والسماء بالموج وبمطر الدم والحمرة ،
والشمس بالانكساف وبالحمرة ، والملائكة باختلال الصفوف والكفّ عن عبادتهم .
أقول : بل بكائهم وكربهم على الحسين (عليه السّلام) وحزنهم هو عبادة وأيّ عبادة .
والأشجار بخروج الدم منها ، والفضاء بظلمته ، والأرض بالتزلزل ، والجبال بالميد والاضطراب ، والطيور في الهواء بالوقوع ، والسمك بالخروج من الماء ، والبحار بالانشقاق ودخول بعضها في بعض ، والجنّ بالنوح في الأقطار ، والإنس باضطراب الأحوال ، وكلٌ جاء من الروايات المعتبرة .
وهذا المجلس العام والخاصّ قد اتّفق في زمان خاص ، وهو أنّه وكما عبّره الصادق (عليه السّلام) حين ضُرب الحسين (عليه السّلام) بالسيف ثمّ ابتُدر إليه ليُقطع رأسه .
بيان هذا : إنّه ضُرب (عليه السّلام) بالسيوف في حالات ثلاث ، حين كان راكباً ضُرب بسيف واحد ، ولمّا كان جالساً ضُرب بعدّة سيوف ، وحينما كان مطروحاً (صلوات الله عليه) ومكبوباً ضُرب بسيف واحد مراراً على مذبحه ، ثمّ أرادوا قطع الرأس فارتفعت نداءات ، وتقارنت صيحات ، فنادى هو (عليه السّلام) : (( أاُقتل عطشان وجدّي محمد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ؟! )) .
ونادى بأمر الله ملك من بطنان العرش : يا أيتها الأُمّة المتحيّرة الضالة بعد نبيّها لا وفّقتم لفطر ولا أضحى .
ونادى ملك من ملائكة الفردوس الأعلى ناشراً أجنحته على البحار : يا أهل البحار ، البسوا أثواب الحزن ؛ فإنّ فرخ الرسول مذبوح .
ونادى جبرئيل (عليه السّلام) صارخاً : قد قُتل الحسين (عليه السّلام) بكربلاء .
وضجّت الملائكة دفعة واحدة إلهنا وسيدنا يُفعل هذا بالحسين صفيك وابن صفيك !
ونادت زينب (عليها السّلام) متوجّهة من الخيام إلى المقتل : يا أخاه ! يا سيداه !
ونادى ذو الجناح متوجّهاً من المقتل إلى الخيام : الظليمة الظليمة ! من أُمّة قتلت ابن بنت نبيّها .
فعند ارتفاع هذا الضجيج ، المتقارن وقع الانقلاب في العالم ، وحصل التأثير في أجواء الموجودات كلّها .
أفلا تنقلب أحوالكم عند هذا الذكر بنوع من الانقلاب ، وتغيّر الاحوال ، فقد قال أبو ذرّ بعد بيان ذلك : إنّكم لو تعلمون بما دخل على أهل العالم عند ذلك لبكيتم حتّى تزهق أنفسكم .
أفلا إذلال وإزهاق لأنفسكم ، أفلا صراخ ؟ أفلا ضجيج ؟ أفلا دمعة تفيض على خدّ ؟ أفلا دمعة تدور في عين ؟ أفلا تأثّر في قلب حي ؟ أفلا تباكٍ لِمَنْ قسا قلبه ؟ اللّهمّ إنّي أعوذ بك من قلب لا يخشع ، وعين لا تدمع ، عند هذا المجلس العام الخاص ، يا الله .
الثالث : مجلس الطيور ، الراثي طير أبيض(18) .
الخامس : مجلس الوحوش ليلة الحادي عشر حينما كانت مادة أعناقها على جسده المبارك ترثيه إلى الصباح .
السادس : مجلس الجنّ ، حول جسده المبارك .
السابع : مجلس نساء الجنّ حول جسده المبارك .
الثامن : مجلس الجنّي في قرية شاهي ، والسامع خمسة من أهل الكوفة جاؤوا لنصرة الحسين (عليه السّلام) فلم يدركوه .
التاسع : مجلس الجنّ ، كلّهم في جميع الأماكن في كلّ مكان بمراث خاصّة ، وسنذكر تفصيل كلّ واحد من هذه المجالس في محلّه الخاصّ .
العاشر : مجلس أزقة الكوفة حول الرؤوس والأُسارى ، الذاكر للمصيبة أربعة ؛ زينب ، وأُمّ كلثوم ، وفاطمة الصغرى ، والإمام السجّاد (عليهم السّلام) ، والباكون أهل الكوفة كلّهم رجالاً ونساءً .
وقد أخذوا بالصياح والعويل والضرب على الصدور ، ونثر التراب على الرؤوس ونتف اللحى ، والشعور من النساء ، وقد قيل إنّه لم يُرَ أكثر من ذلك اليوم باكٍ ولا باكية ، وسنذكر تفصيله في محلّه .
الحادي عشر : مجلس أهل بيت الحسين (عليهم السّلام) كلّهم ، في كلّ وقت ، وفي كلّ مكان من كربلاء إلى الشام ، ومن الشام إلى كربلاء ، ومن كربلاء إلى المدينة ، وفي المدينة ، طول أعمارهم المباركة .
وكانت مدّة مجلس الإمام السجّاد (صلوات الله تعالى عليه) أربعين سنة ، فكان يبكي فيه ويفيض دمعه حينما يأكل الطعام أو يشرب الماء ، فيقول : (( قُتل ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) جائعاً عطشانَ )) .
الثاني عشر : مجلس يزيد لرثاء الحسين (عليه السّلام) ، والراثي ذلك اللعين نفسه ، والسامع جميع رؤساء عسكره .
فقال (لعنه الله تعالى) لزوجته هند : ياهند ابكي على الحسين بن فاطمة ، واعولي عليه ؛ فإنّه صرخة قريش عجّل عليه ابن زياد (قاتله الله) ، ونحن نقول (قاتلهم الله) أعني يزيد وابن زياد وجميع أعداء الله تعالى من الأوّلين والآخرين ، وسنذكر تفصيل هذا المجلس في محلّه إنّ شاء الله تعالى .
الثالث عشر : مجلس في الجامع الأموي بالشام ، الراثي سيد الساجدين (عليه السّلام) ، بعد أن استأذن وصعد المنبر ، والمستمع فيه يزيد وجميع رؤساء بني أُميّة وأهل الشام .
فخطب (عليه السّلام) خطبة حمد الله تعالى فيها ، ثمّ ذكر النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ووصفه وأثنى عليه ، ثمّ ذكر فضائل جدّه علي بن أبي طالب (عليهما السّلام) ، ثمّ أخذ في رثاء أبيه المظلوم الغريب (صلوات الله عليه) ، وذكر ما جرى عليه .
فلمّا قال : (( أنا ابن المحزوز من القفا ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ... أنا ... )) إلى آخر خطبته المباركة .
ضجّ أهل الشام وبنو أُميّة كلّهم بالبكاء حتّى قطع المؤذّن كلامه بإشارة من يزيد ، فقال : الله أكبر ؛ رغبة في كفّ الناس عن البكاء الشديد . فإذا كانت بنو أُميّة وأهل الشام يضجّون بالبكاء بسماع ذبح الحسين (عليه السّلام) من القفا ، وسلب العمامة من رأسه والرداء من جسده ، فماذا ينبغي ويجب لشيعته ومحبّوه وموالوه فعله إذا سمعوا ذلك ، وتصوّروا كيفية سلب العمامة من رأسه ، وفي أيّ حالة كانت وأيّ وقت ؟
هذا مع عدم نسيان مدى ارتباط شيعته به وولائهم له ومتابعته ، ونصبهم أيام دهرهم لنصرته ، وهو كلّ بحسبه ودرجته وصدقه ، فعلى ذلك فليضجّ الضاجون ، وليعجّ العاجون ، وليصرخ الصارخون ، اللّهمّ ارزقنا الصدق بطاعتك يا كريم .
الرابع عشر : مجلس النساء في بيت يزيد ، الراثيات والنادبات زينب وأُمّ كلثوم وبنات الحسين (عليهم السّلام) ، والصارخات واللاطمات على الخدود زوجة يزيد وبناته وبنات بنو أُميّة ، بعد أن أذن لهم يزيد في ذلك ، فأقاموا المأتم وذلك في سبعة أيام .
الخامس عشر : مجلس نساء في البرية قرب المدينة ، في فسطاط ضُرب
لسيد الساجدين (عليه السّلام) ، وهو على كرسي ودموعه جارية ، وبيده ما يمسح به دموعه ، وهو لا يتمالك العبرة ، فلمّا نظر إليه أهل المدينة من الرجال والنساء الخارجين للاستقبال ضجّوا ضجّة واحدة ، فكان النظر إليه رثاء ، والناس من كلّ ناحية يعزّون ، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة ، فأومأ (عليه السّلام) أن اسكتوا ، فسكنت فورتهم .
فقال (عليه السّلام) : (( الحمد لله ربّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلق أجمعين ، الذي بعُد فارتفع في السماوات العلى ، وقرُب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة ، الفادحة الجائحة .
أيّها الناس ، إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصائب ، وثُلم الإسلام ثلمة عظيمة ، قُتل أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) وعترته ، وسُبيت نساءه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه رزية التي لا مثلها رزية .
أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم تسرّون بعد قتله ؟ أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ؟ أُمّ أيّ عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ؟! فقد بكت السبع الشدائد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون ، وأهل السماوات أجمعون .
أيّها الناس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه ؟ أمّ أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يصم ؟
أيّها الناس ، أصبحنا مطرودين مشرّدين ، مذودين (مطرودين) شاسعين عن الأمصار ، كأنّا أولاد ترك أو كابل ، من غير
جرم اجترمنا ، ولا مكروه ارتكبنا ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين ، إن هذا إلاّ اختلاق .
والله ، لو أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) المصطفى تقدّم إليهم قي قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها ، وأكظّها وأمظّها ، وأمرّها وأفدحها ! فعند الله نحتسب فيما أُصابنا وما بلغ بنا ، إنّه عزيز ذو انتقام )) .
آه يا زين العابدين (صلوات الله عليكم) يا مظلوم ! يا علي يا علي يا علي !
السادس عشر : مجلس قرب المدينة عند تبّين سوادها لأُمّ كلثوم ، هي الراثية نظماً ، والمستمع سيد الساجدين وباقي أهل بيته والأطفال (عليهم السّلام) .
فخاطبت المدينة أوّلاً ، ثمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، [ ثمّ أمير المؤمنين ] ، ثمّ الزهراء ، ثمّ الحسن المجتبى (عليهم السّلام) ، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى .
السابع عشر : مجلس الملائكة ، كلّ يوم عند قبره إلى يوم القيامة ، ولهم في ذلك كيفيات مذكورة في عنوان ما يتعلّق بالملائكة .
الثامن عشر : مجلس في السماوات ، لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) ، كلّ يوم إلى يوم القيامة ، فيه رثاءً وبكاءً وشهقةً وصيحةً .
ويُستفاد من ذلك أنّ كلّ يوم من أيام السنة يُناسب إقامة عزاء الحسين (عليه السّلام) ، ولا يُستثنى منه عيد ولا غيره .
وكيفية هذا المجلس مجملاً : إنّها تنظر كلّ يوم إلى مصرع الحسين (عليه السّلام) فتشهق شهقة يضطرب لها أركان الموجودات من السماوات والأرض والبحار والملائكة حتّى يجيء النبي (صلّى الله عليه وآله) فيسكتها ، ثمّ تدعو بعد ذلك لزوار ولدها .
التاسع عشر : مجلس الأئمّة (عليهم السّلام) ، وهي كثيرة منها : ما كان الراثي والناظم فيها الصادق (عليه السّلام) .
ومنها: ما كان الناظم فيها جعفر بن عفان ، ومن رثائه :
ليبكِ على الإسلامِ مَنْ كان باكيا     فقد ضُيّعت أحكامُهُ واستحلّتِ
غداةَ حسين للرماحِ [دريئةٌ]     فقد نهلت منهُ السيوفُ وعلّتِ

وهذا رثاء لكثرة ما ضُرب بالسيوف وعددها بضع وسبعون ضربة .
ومنها : مجلس آخر له (عليه السّلام) الناظم والراثي فيه عبد الله بن غالب ، ومن رثائه :
لبليةٍ تسفي حسيناً     بمسفاةِ الثرى غبر الترابِ
وكلمة سفت : أي سفت الريح التراب ذرّته أو حملته .
ومنها : مجلس آخر له (عليه السّلام) ، الراثي والناظم أبو هارون المكفوف ، قال (عليه السّلام) : (( أنشدني كما تنشدون )) . فأنشد له :
اُمرر على جدثِ الحسيـ     ـنِ وقل لأعظمهِ الزكيه
فبكى (عليه السّلام) ، وامسك الراثي ، ثمّ قال : (( زدني )) . فقرأ له قصيدة :
مريمُ قومي واندبي مولاكِ     وعلى الحسينِ فأسهدي ببكاكِ
إلى آخر قصيدته المباركة
فبكى ، وتهايج بكاء حرمه .
ومنها : مجلس للرضا (عليه السّلام) ، الناظم والراثي فيه دعبل الخزاعي ، وصاحب المجلس هو (عليه السّلام) ، فقام من مكانه وضرب ستراً ، وقال للنساء : (( اجلسن وراء الستر )) . فأمر دعبل بالقراءة .
وقال : (( مَنْ ذرفت عيناه على مصاب جدّي حشره الله تعالى معنا وفي زمرتنا يوم القيامة )) .
فقال دعبل :
أفاطمُ لو خلتِ الحسين مجدلا     وقد ماتَ عطشاناً بشطِّ فراتِ
إذاً للطمتِ الخدَّ فاطمُ عنده     وأجريتِ دمعَ العـينِ في الوجناتِ

إلى آخر القصيدة المباركة ، فكان الرضا (عليه السّلام) يبكي والنساء تعلوا أصواتهنّ بالندبة والبكاء .
العشرون : مجالس الملائكة ، كلّ يوم بطريق خاص مذكور في عنوان الملائكة .
الواحد والعشرون : مجالس شيعته لعزائه .
وهي دائمة إلى يوم القيامة ، ومن خصوصياتها : أنّه ومع عدم الملل من هذه المجالس
يزداد رواجها وعزّتها وبهاؤها ، ويتحسّن حالها كلّ سنة ، وهذا من عجائب خواصّه .
حتى إنّه لا يوجد بلد من بلاد المنافقين والمخالفين والإسلام والكفر إلاّ ويُقام فيه مجلس عزاء الحسين (عليه السّلام) ، حتّى إنّه في هذه السنين قد شاع التجاهر بهذه المجالس في بغداد وقسطنطينية ومصر والشام .

النوع الخامس : مجلس أهل المحشر يوم القيامة
الراثية الزهراء البتول (صلوات الله تعالى عليها) ، وبيدها المباركة قميص الحسين (عليه السّلام) ، والصارخ هي ، ثمّ المصطفى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ثمّ جميع الملائكة .
والحاضر في المجلس الحسين (عليه السّلام) ، والباكي جميع الملائكة والأنبياء والمؤمنين من الأوّلين والآخرين ، وسيجيء تفصيل ذلك كلّه إن شاء الله تعالى .

المقصد الخامس : في صحف الرثاء والكتب التي رثته قبل شهادته وعندها
وهي عشرة كاملة :
الأوّل : اللوح المحفوظ حين كتب بحكم الجبّار ما قدّر على الحسين (عليه السّلام) ، وقد جرى القلم بلعن قاتليه قبل الإذن كما في الرواية(19) .
الثاني : القرآن المجيد وفيه آيات قد ذكرناها في عنوان القرآن .
الثالث : التوراة في بعض أسفارها .
الرابع : كتاب إرميا باسوق من السيمان السادس والأربعون وفيه : كي ذبح لدوناي الوهيم صواووث بأرض صافون آل نهر برات ، ( يعني : يُذبح ويُضحى لربّ العالمين شخص جليل في أرض الشمال بشاطئ الفرات ) .
الخامس : كتاب لخمان.
السادس : مصحف شيث وفيهما إشارات إلى واقعة كربلاء .
السابع : صحيفة كُتبت له (عليه السّلام) خاصة ، وفيها : يا حسين اشرِ نفسك لله تعالى ، واخرج بقوم لا شهادة لهم إلاّ معك ، وقاتل حتّى تُقتل .
الثامن : كنيسة للنصارى ، وجِدت فيها كتابة يعود تاريخها إلى ما قبل بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله) المصطفى ، بثلاثمئة عام ، وهي :
أترجو أُمّة قتلت حسيناً     شفاعةَ جدّه يومَ الحسابِ
فلا واللهِ ليسَ لهم شفيـعٌ     وهم يومَ القيامةِ في العذابِ

وكذلك كُتب هذه الأبيات على حائط دير بقلم من حديد في طريق الشام حين نصبوا الرأس هناك وأحاطوا به .
التاسع : درّ النثار الذي وُجد في مسجد الكوفة ، وكان فيه :
أنا درٌّ من السماءِ نثروني     يومَ تزويجِ والدِ السبطينِ
كنتُ أصفى من اللجينِ بياضاً     صبغتني دماءُ نحرِ الحسينِ

وكذلك الحصى وُجد فيها رثاؤه بلون أحمر كالدم في مواضع كثيرة .
المجلس العاشر : قلوب أحبائه وخالص شيعته ، فإنّهم كما كُتب في قلوبهم الأحزان والأشجان ، فكأنّ سوداوات قلوبهم لوح نُقشت فيه قضاياه ومصائبه ؛ ولذا تستعبر بمجرّد ذكر اسمه أو سماعه .

المقصد السادس : في خواص مجالس البكاء
وهي ثمان :
الأولى : أنّه (عليه السّلام) قال : (( مَنْ جلس مجلساً يُحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب )) .
الثانية : أنّ المجلس مصعد التسبيح فإنّ نفس المهموم لهم عليهم السّلام تسبيح .
الثالثة : أنّه محبوب للصادق (عليه السّلام) ، فهو محبوب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وبالتالي محبوب لله تعالى .
الرابعة : أنّ المجلس منظر الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه عن يمين العرش ينظر إلى موضع معسكره ، ومَنْ حل به من الشهداء وزواره ، ومَنْ بكى عليه (سلام الله تعالى عليه) .
الخامسة : أنّه مشهد ملائكة الله تعالى المقرّبين ، وذلك لما روى من أنّ جعفر بن عفّان لمّا دخل على الإمام الصادق (عليه السّلام) قرّبه وأدناه ، ثمّ قال : (( يا جعفر )) . قال : لبيك جعلني الله فداك . قال : (( بلغني أنّك تقول في الحسين (عليه السّلام) وتجيد )) . قال له : نعم جعلني الله فداك . قال (عليه السّلام) : (( قُل )) . فأنشده حتّى بكى (صلوات الله عليه) ومَنْ حوله ، وحتى سالت الدموع على وجهه ولحيته .
ثمّ قال : (( يا جعفر ، والله لقد شهدت ملائكة الله المقرّبون هاهنا ليسمعوا قولك في الحسين (عليه السّلام) ، ولقد بكوا كما بكينا
أو أكثر ، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك هذه الجنّة بأسرها ، وغفر الله لك )) . ثمّ قال : (( يا جعفر ، ألا أزيدك ؟ )) . قال : نعم يا سيدي . قال : (( ما من أحد قال في الحسين (عليه السّلام) فبكى أو أبكى إلاّ وأوجب الله تعالى له الجنّة وغفر له )) .  
السادسة : أنّ مجلس العزاء قبّة الحسين (عليه السّلام) ، وذلك لأنّ قبّته ليست مختصّة بالبنيان الخاصّ ، بل قبّة الحسين (عليه السّلام) الخضوع والخشوع أيضاً ، فكلّ مجلس خضوع ، خصوصاً لذكر الحسين (عليه السّلام) هو قبّة الحسين ؛ ولذا قال بعض العرفاء :
وكلّ بلدةٍ يُرى قبره    وكربلا كلّ مكانٍ يُرى
فللمجالس تأثير قبّة الحسين (عليه السّلام) في إجابة الدعاء .
السابعة : أنّه معراج للباكي ، فإنّه محلّ نزول صلوات الله تعالى ، والرحمة الخاصة من الله تعالى بمغفرة الذنوب ، ورفع الدرجات .
فإذا تحقّق ذلك لباك واحد أو لمتباك واحد من أهل مجلس عام لرجونا السراية للجميع من حيث إنّ المجلس كصفقة واحدة .
الثامنة : أنّه قال لمجالس شريفة لا مجلس واحد أقدم منها ، ولا أفخر ولا أخصّ منها ، ولا أجلّ منها ، ولا أعزّ منها ، فحبّذا مجلس يكون معطوفاً على تلك المجالس وداخلاً في عدادها ، وسنذكرها مفصّلة .

المقصد السابع : في خواص البكاء من حيث الصفات
وهي ثمان :
الأولى : أنّه صلة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) .
الثانية : أنّه إسعاد للزهراء (سلام الله تعالى عليها) ؛ فإنّها تبكيه كلّ يوم ، وقد قال الصادق (عليه السّلام) : (( أما تحبّ أن تكون فيمَنْ يسعد فاطمة (عليها السّلام) ؟ )) .
الثالثة : أنّه أداء لحقّ الرسول المصطفى (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (عليهم السّلام) . ففي الرواية أنّ الباكي قد أدّى حقّنا.
الرابعة : أنّه نصرة للحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّ النصرة في كلّ وقت بحسبه .
الخامسة : أنّه أُسوة حسنة بالأنبياء (صلوات الله تعالى عليهم) ، والملائكة
وجميع عباد الله تعالى المخلصين .
السادسة : أنّه أجر الرسالة ؛ فإنّه من المودّة في القربى .
السابعة : أنّ تركه جفاء للحسين (عليه السّلام) .
الثامنة : أنّه يُسلّي عن البكاء في كلّ مصيبة واقعة على أيّ شخص كيفما كان ، قال الرضا (عليه السّلام) : (( يابن شبيب ، إن كنت باكياً لشيء فابكِ الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش ، وقُتل معه ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته (عليهم السّلام) ما لهم في الأرض من شبيه )) .
والنكتة في جعل الإمام الحسين (عليه السّلام) مذبوحاً ، وجعل سائر أهل بيته (عليه السّلام) مقتولين : إنّهم إنّما ماتوا بعد الوقوع على الأرض بسبب الجراح .
وأمّا الحسين (عليه السّلام) فهو وإن وقع على الأرض وهو يجود بنفسه بسبب الجراح التي كانت تكفي لقتله إلاّ إنّهم لم يكتفوا بذلك ، بل ذبحوه كما يُذبح الكبش .

المقصد الثامن : في فضائل البكاء وتأثيره وثوابه
أي الأمور التي فُضّل بها على غيره من الأعمال وزاد عليها ، وهي خمسة :
الأوّل : أنّه يصحّ أن يُقال للمتّصف بها : صلّى الله عليك ، وصلوات الله عليك .
ففي الرواية النبويّة ، قال (صلّى الله عليه وآله) : (( ألا وصلّى الله على الباكين على الحسين رحمة وشفقة )) . وهذا يحتمل الإخبار والدعاء ، وأي ما كان فالمطلوب ثابت .
الثاني : أنّه قد يبلغ فضله إلى فضل أصعب الأعمال وأحمزها .
وهو ذبح الولد قرباناً لله تعالى ، ويظهر ذلك من رواية عن الرضا (عليه السّلام) ، وفيها : إنّ إبراهيم النبي (عليه السّلام) لمّا ذبح الكبش فداء تمنّى أن يذبح ولده لينال أرفع الدرجات ، فأوحى الله تعالى إليه بواقعة الحسين (عليه السّلام) في كربلاء ، فجزع وجعل يبكي ، فأوحى الله تعالى إليه : (( قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب )) .
ومعنى قولنا : قد يبلغ ، أنّ كلّ واحد لا يبلغ بذلك هذه المرتبة العظيمة
إلاّ مَنْ كان إعزاز الحسين (عليه السّلام) عنده كإعزازه عند إبراهيم (عليه السّلام) .
والوجه في هذا القيد أنّ في تلك الرواية : (( يا إبراهيم مَنْ أحبّ خلقي إليك ؟ قال : يا ربّ ، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّد (صلواتك عليه وآله) . فأوحى الله تعالى إليه : يا إبراهيم هو أحبّ إليك أم نفسك ؟ قال : بل هو أحبّ إليّ من نفسي . قال تعالى : فولده أحبّ إليك أم ولدك ؟ قال : بل ولده . قال الله سبحانه : فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟ قال : ذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبي . فأوحى الله تعالى إليه عند ذلك بواقعة الطفّ فجزع لها ، فأوحى الله تعالى إليه : قد فديت بمقدار إعزازك إيّاه )) .
فافهموا يا أيّها الذين يجدون في أنفسهم أنّ الحسين (عليه السّلام) أعزّ من ولدهم ، وأنّ ذبحه على ما حكاه الله لخليله من أنّه يُذبح كما يُذبح الكبش ظلماً أوجع لقلوبهم من ذبح أعز أولادهم قرباناً لله تعالى . فابشروا لأنّكم إذا جزعتم على الحسين (عليه السّلام) فلكلّ جزع ثواب ذبح ولد قرباناً لله تعالى .
الثالث : أنّه لا حدّ له من حيث القلّة ، ولكلّ عمل أقل مسمّى لا يتحقّق بدونه ، ولا حدّ لثوابه من حيث الكثرة .
الرابع : وهو من العجائب ، إنّه إذا لم يتحقّق في الخارج ، ولكنّ تشبّه به حصل ثوابه ، يعني إذا لم يتحقّق البكاء عنده فليتباك : أي يشبّه نفسه بمَنْ يبكي .
فلينكّس رأسه مثلاً ، ويظهر صوت البكاء ، وعلامات الرقّة والتأثّر فيحصل له الثواب ، وذلك حين يتحقّق التباكي لله تعالى ، لا أن يفعل ذلك ليرائي به الناس ، فالتباكي هو عمل يشترط فيه الخلوص أيضاً .
الخامس : أنّه فائق على جميع أقسام الإيمان والأعمال الصالحات من جهات عديدة ، قد ذكرنا بعضها وسنبيّن بعضها في العناوين الآتية إن شاء الله تعالى .

المقصد التاسع : في خواص البكاء لنيل الأجر والثواب
وهي على أنواع :

النوع الأوّل : ما يتعلّق بالنجاة من العقاب والأهوال
وتفصيله في أمور :
الأمر الأوّل : خروج الروح عقبة عظيمة وهول شديد وعذاب أليم
قال الإمام علي (عليه السّلام) : (( وإنّ للموت لغمرات هي أفظع من أن تُستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا )) . والبكاء على الحسين (عليه السّلام) يُنجي منه ؛ فإنّ الصادق (عليه السّلام) قال لمسمع بن عبد الملك : (( يا مسمع ، أنت من أهل العراق ، أما تأتي قبر الحسين (عليه السّلام) ؟ )) . قلت : لا ؛ لأنّ أعدائي النواصب كثيرون ، فأخاف أن يرفعوا حالي عند الوالي فيمثّلون بي .
قال (عليه السّلام) : (( أفما تذكر ما صُنع بالحسين (عليه السّلام) ؟ )) . قلت : نعم . قال (عليه السّلام) : (( أفتجزع ؟ )) . قلت : أي والله وأستعبر ، ويرى أهلي أثر ذلك عليّ ، وامتنع من الطعام . قال (عليه السّلام) : (( أما إنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك ، ووصيّتهم ملك الموت بك ما تقرّ به عينك )) .
آه ! يا الله ، فارزقنا ذلك ، وهنّئنا يا الله ربّنا .
الأمر الثاني : مشاهدة ملك الموت هول شديد ، وعقبة عظيمة مخوفة موحشة ، خصوصاً لأهل المعصية .
والبكاء على الحسين (عليه السّلام) يُنجي من هذا ؛ فإنّ الصادق (عليه السّلام) قال ، بعد ذلك القول لمسمع ، : (( فملك الموت أرق عليك [ وأشدّ رحمة لك ] من الأُمّ الشفيقة على ولدها )) . فهل تكون رؤية الأُمّ الشفيقة موحشة ؟
الأمر الثالث : النزول في القبر عذاب أليم ، ومصيبة عظيمة ، وعقبة مهولة ؛ ولذا يستحبّ أن ينقل الميت بثلاث دفعات ليأخذ اُهبته .
والبكاء على الحسين (عليه السّلام) يُنجي من ذلك ؛ لأنّه قد ورد في الروايات الكثيرة أنّ السرور الذي تدخله في قلب المؤمن يخلق الله تعالى منه مثالاً حسناً ليتقدم على الشخص في القبر ويتلقاه ، فيقول له : أبشر يا ولي الله بكرامة من الله تعالى ورضوان . ويؤمنه ويؤنسه حتّى ينقضي الحساب .
فإذا أدخلنا السرور على قلب نبي المؤمنين (صلوات الله تعالى عليه وآله) ، وعلى قلب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وعلى قلب الزهراء فاطمة (عليها السّلام) ، وعلى قلب المجتبى الحسن (عليه السّلام) ، وعلى قلب سيد الشهداء الحسين (عليه السّلام) ببكائنا ، وسررناهم بذلك فإنّهم قد قالوا : إنّ ذلك صلّة منكم
لنا وإحسان وإسعاد ، فكيف يكون حسن صورة المعاد الذي يُخلق من سرورهم ؟! وكيف يكون جمال صورة خُلقت من صفاتهم تلقانا عند دخول قبرنا وتؤنسنا ؟!
الأمر الرابع : البقاء في القبر والبرزخ عذاب أليم ، ومصيبة عظيمة ، وعقبة مهولة ، أوَ ما سمعت ما نقله أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن لسان حال أهل القبور ، كلّ آن : (( ... وَتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ ، وَتَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا ، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا ، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا ، وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً ، وَلا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً ... )) إلخ ؟
والبكاء على الإمام الحسين (عليه السّلام) يُفرح الباكي عند الموت فرحة تبقى في قلبه إلى يوم القيامة .
الأمر الخامس : الخروج من القبر مصيبة عظيمة ، وهول عظيم ، وعقبة مهولة ، قد أبكى سيّد الساجدين (عليه السّلام) .
فكان يبكي (عليه السّلام) ويقول : (( أبكي لخروجي من قبري عريانَ ذليلاً ، حاملاً ثقلي على ظهري ، أنظر مرّة عن يميني ، وأُخرى عن شمالي ، إذ الخلائق في شأن غير شأني ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غَبَرة ، ترهقها قَتَرة وذلّة )) .
والبكاء على الإمام الحسين الشهيد (صلوات الله تعالى عليه) ، يوجب الستر والعفّة ، وخفّة الظهر من الثقل ، فإذا كان الخوف من كون الوجه عليه غَبَرة ، ترهقه قَترة وذلّة . فقد ورد في الباكي على الحسين (عليه السّلام) أنّه يخرج من قبره والسرور على وجهه ، والملائكة تتلقّاه بالبشارة لِما أعدّ الله تعالى له .
الأمر السادس : ( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ، وهي الداهية العظمى ، ولها مواطن ومواقف وحالات وشدائد ، ولها أسماء عدّة على حسب الحالات التي فيها .
فهي القيامة في حالة ، والغاشية في أُخرى ، والساعة في حالة ، والزلزلة في أُخرى ، والحاقّة في صفة ، والقارعة في أُخرى ، وهي يوم الفصل في حالة ، ويوم الدين في أُخرى ، ويوم العرض الأكبر ، ويوم الحساب ، وهي الطامة الكبرى ، وهي الصاخة ، وهي الواقعة ، وهي يوم
الفرار ، وهي يوم البكاء ، ويوم التناد ، ويوم التغابن ، وهي يوم الآزفة ، وهي يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، ولا يسأل حميم حميماً .
والخلاص من كلّ هذه العقبات والمواقف يحتاج إلى أعمال وصفات ، وأحوال وأخلاق ومجاهدات صعبة ، وبذل للنفوس والأموال ، وتهجّدات وعبادات ، وترك للراحة ، وزهد في الدنيا .
والبكاء على الحسين (عليه السّلام) يجيء بكلّ هذا ، فإنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال لفاطمة الزهراء (عليها السّلام) لمّا سألته عمّن يبكي على ولدها الإمام الحسين (عليه السّلام) ومَنْ يُقيم عزاء له فأخبرها (صلّى الله عليه وآله) فقال لها : (( إنّه إذا كان يوم القيامة فكلّ مَنْ بكى على مصائب الحسين (عليه السّلام) أخذنا بيده وأدخلناه الجنّة )) .
فمَنْ أخذ بيد رسول الله المصطفى (صلّى الله عليه وآله) لا تقرعه القارعة ، ولا تطّمه الطامة ، ولا تجري عليه تلك الصفات ، فهو ضاحك ولا تكون القيامة يوم بكائه .
وهو مستبشر بنعيم الجنّة ليست القيامة يوم حزنه أو خوفه ، وهو آمن في يوم الفزع الأكبر ، وهو مرتاح في يوم التغابن ، وهو في مجمع الحسين (عليه السّلام) فلا يكون كالفراش المبثوث .
والحسين (عليه السّلام) يتفقّد حاله فهو ذلك الحامي الحميم يسأل عن الباكي عليه والموالي ، والمتّبع له والمحبّ والصادق معه ، والمتعب نفسه لأجله قربة لله تعالى ، والخادم له (عليه السّلام) ... إلخ . فهو (عليه السّلام) يسأل عليه وعن أحواله ؛ رحمة من ربّ العالمين .
الأمر السابع : قراءة الكتب عند الحساب هول عظيم ؛ فإنّ إمام المتقين وسيد الصدّيقين علياً (عليه السّلام) كان يخرج إلى البراري في نصف الليل فينوح ويبكي عند تصوّر هذه الحالة ، ويقول : (( آه ! إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنت محصيها وأنا ناسيها ، فتقول : خذوه . فيا له من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته ! )) . فيبكي ويتململ تململ السليم(20) حتّى يقع مغشياً عليه (صلوات الله تعالى عليه) كالخشبة اليابسة .
والبكاء على الحسين (عليه السّلام) ينفع عند قراءة الصحف ، ونداء اقرأ كتابك ؛ فإنّ الباكين عليه (عليه السّلام) يكونون في ظلّ العرش مشغولين بحديث إمامهم الحسين (عليه السّلام) ، والناس في الحساب .
الأمر الثامن : العبور على الصراط هول عظيم ، ولا بدّ من المرور عليه ؛ فإنّه ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ) ، والناس يمرّون عليه مختلفين . فمنهم كالبرق ، ومنهم حبواً سالماً ، ومنهم الواقع في النار عند العبور عليه ، والناس يتهافتون
فيه كتهافت الفراش(21) ، مع أنّ النبي المصطفى (صلوات الله تعالى عليه وآله) واقف يستغيث بالله (عزّ وجلّ) : (( يا ربّ سلّم سلّم )) . لكن الباكي على الحسين (عليه السّلام) يأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله) بيده فيعبره وينجيه من عقباته كما في الروايات المعتبرة .  
الأمر التاسع : الأخذ إلى جهنم أعظم الأهوال ، وأشدّ أفراد العقبات ، وهو الفزع الأكبر . والبكاء على الحسين (عليه السّلام) يدفعه ، كما في الروايات المعتبرة .
الأمر العاشر : الوقوع في النار أعظم البليات ، وأفظع العقوبات ، وهو ممّا لا تقوم له السماوات والأرض . لكن البكاء على الإمام الحسين الشهيد (عليه السّلام) يُنجي منه ، والقطرة منه مطفئة لحرّها ، كما في الرواية . وهو كناية عن خروج الباكي المستحق للنار منها .

النوع الثاني : ما يتعلّق بتكفير الخطيئات .
وفي الروايات الكثيرة : أنّ القطرة تكفّر ما كان بقدر زبد البحر وعدد النجوم .

النوع الثالث : ما يتعلق بحسن الحالات .
ولا حالة أحسن من أن يُنال دعاء النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ، والوصي المرتضى علي ، والزهراء البتول ، والحسن والحسين (عليهم السّلام أجمعين) ، وهذه حالة تحصل بالبكاء على الحسين الغريب الشهيد (عليه السّلام) .

النوع الرابع : ما يتعلّق بحصول أجر الجنّات .
وقد ورد في الروايات أنّ أجر كلّ قطرة أن يبوئه الله تعالى بها الجنّة حقباً ، كناية عن الدوام والخلود .

النوع الخامس : ما يتعلّق برفع الدرجات .
ولا درجة أعلى من درجة أفضل المخلوقات ، وأهل بيته الأئمّة الهداة (صلوات الله تعالى عليهم أجمعين) .
وقد ورد في الباكي على الإمام الحسين (عليه السّلام) أنّه يكون معهم في درجتهم ، وإلى مثل ذلك فليرغب الراغبون ، وليتنافس المتنافسون ، ولنستبق إلى الخيرات هذه الواضحة الطريق .
ولنختم المقصد بالأمور التي تُنال به ؛ فإنّه لا مقصد أعلى منه ، وهو غاية المسؤول ، ونهاية المأمول .

المقصد العاشر : في خواص العين الباكية التي جرى منها الدمع
وهي أمور تظهر من الروايات :
الأوّل : أنّها أحبُ العيون إلى الله تبارك وتعالى .
الثاني : أنّ كلّ عين باكية يوم القيامة لشدّة من الشدائد إلاّ عين بكت على الإمام الحسين (عليه السّلام) ؛ فإنّها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنّة .
الثالث : أنّ تلك العين لا بدّ أن تنعم بالنظر إلى الكوثر ، لا أن تنظر فحسب وإلاّ فكلّ شخص ينظر إلى الكوثر.
الرابع : أنّ العين تصير محلّ مسّ الملائكة ؛ فإنّهم يأخذون الدمع منها كما جاء في الأحاديث .

المقصد الحادي عشر : في خواص الدمع الجاري في عزاء الحسين الشهيد (عليه السّلام)
وهي خمس ، مجموعة من الروايات :
الأولى : أنّها أحبّ القطرات إلى الله تعالى كما في الرواية .
الثانية : أنّ قطرة منها لو سقطت في جهنم لأطفأت حرّها .
الثالثة : أنّ الملائكة لتلقى تلك الدموع وتجمعها في قارورة .
الرابعة : أنّها تُدفع إلى خزنة الجنان فيمزجونها بماء الحيوان الذي هو من الجنّة في عذوبته ألف ضعف .
الخامسة : أنّه لا تقدير لثوابها ، فكلّ شيء له تقدير خاصّ إلاّ أجر الدمعة .

المقصد الثاني عشر : في خاتمة المقاصد
و‘ذا سمعت هذه الكيفيات والخواص العجيبة مع العلاوة التي وردت في الرواية : من أنّ لكلّ شيء ثواباً إلاّ الدمعة فينا .
أي لم يُبيّن بعد ثوابها إذ لا حدّ يذكر لها ، فلا تتعجّب ولا تستكثر هذا المقدار الكثير من الثواب والخواصّ والفضائل على هذا العمل القليل ؛ فإنّ هذا في الحقيقة ليس عطاءً لهذا الباكي على هذه القطرة من حيث هي هي ، بل عطاء للحسين (عليه السّلام) على ما بذله .
ولا تستكثر منه ذلك (عليه السّلام) ؛ فإنّك قد سمعت في أخبار أسخياء الملوك أنّهم بذلوا على خدمة جزئية ، أو على مدحهم بقصيدة ما بقي أعجوبة الدهر .
فقد أعطى معن بن زائدة مئة ألف درهم لِمَنْ مدحه ببيت واحد ، وهو قوله :
أيا جودُ معنٍ ناج معناً بحاجتي     فمالي إلى معنٍ سواك شفيعُ(*)
ثمّ ضعّفه في اليوم الثاني ، ثمّ ضعّفه في اليوم الثالث ، ثمّ أرسل إليه في اليوم الرابع ، فقالوا : إنّه فرّ خوفاً من أن تستردّ عطيتك .
فقال : لو بقي لصرفت جميع خزائني في عطائه ، فإذا أعطى معن بن زائدة خزائنه كلّها التي لا يملك سواها ، وهو فقير إليها لِمَنْ مدحه ببيت شعر لساناً لا قلباً ، فكيف لا يُعطي مَنْ لا تنفذ خزائنه ، ولا تزيده كثرة العطاء إلاّ كرماً وجوداً مثل ذلك لِمَنْ بذل فيه روحه وجسده ، ويده ورأسه وجميع جوارحه ، وأوصاله وأعضاءه ، وأولاده وراحته وحياته ؟ وهو مع ذلك مكروب عطشان ، ومتحيّر في أمور عياله وأطفاله ونسائه ، والجروح متواترة عليه من السنان واللسان ، والسهام والشتم والسيوف ، والسبّ والأحجار ، والرضّ والطعن ، والغدر والضرب ، وانتهاك حرمه وحرق خيامه .
وحكي أيضاً أنّ معشوقة هشام واسمها خالصة أعطت جميع حليّها والجواهر المتزيّنة بها لشاعر بدّل حرفاً من حروف الهجاء ، فبدّل هجائها بمدحها في قوله : كما ضاع درّ على خالصة
فقال قلت : كما ضاء درّ على خالصة
فإذا أعطت خالصة جميع ما تملك وأعز أموالها لتبديل حرف ، فكيف عطاء خالق الخلق والسماوات والأرض ؟! وهو الأجود من كلّ جواد لِمَنْ بذل جميع وجوده في سبيله تبارك وتعالى ؟
فإذا أعطى الله تعالى الحسين (عليه السّلام) خاصّة كلّ ما يُتصور ، وكلّ ما يمكن أن يُعطيه لأحد ، فلا غلوّ ولا عجب ولا تنكر شيئاً مثل ذلك من عطاء الله (عزّ وجلّ) ؛ فإنّ في ذلك تبخيلاً للجواد ، وكسراً لقلب الزهراء البتول (عليها السّلام) كما يظهر من الرؤيا التي رآها السيد علي الحسيني ورواها المجلسي وغيره(22) .
وفي ذلك تنقيص لقدر الحسين (عليه السّلام) ، وتقليل لأجر الحسين (صلوات الله تعالى عليه) ، فكلّ ذلك من أجر الحسين الشهيد الغريب (عليه السّلام) ؛ فإنّك إذا تأثر قلبك ، وجرت دمعة من عينك لأنّ الحسين إمامك قد اُزعج من وطنه ، فالأجر الذي يُعطى لك على ما وصفناه ليس أجراً لدمعتك حتّى تستكثر ، إنّما هو أجر لكيفية إزعاجه التي اختصّ بها (عليه السّلام) حيث اُزعج وشُرّد من كلّ مكان في الدنيا ، حتّى إنّهم لم يدعوا رأسه المقطوع ولا جسده المطروح أن يستقرّا .
وإذا تأثر قلبك لأنّه عطشان وجرت دمعة من عينك فالأجر الذي يُعطى لك ليس أجر جريان دمعة ، ولا أجر عطشه وإنّما هو أجر تفتت كبده ، وجرح لسانه من اللوك ، وذبول شفتين طالما قبّلهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وللحيلولة بينه وبين الماء فكانت السماء كالدخان من العطش .
مضافاً إلى نار أحرقت قلبه حين قالوا : لا نسقيك حتّى ترد الحامية وتشرب من حميمها .
وهذا هو حال ما روي من أنّ الدمعة لو سقطت في جهنم لأطفأت حرّها ، فإنّ الأجر إنّما هو على احتراقه لا على دمعتك .
كذا إذا تأثر قلبك على كثرة الجروح في أعضائه فدارت دمعة في عينك ، فإنّ الأجر الذي يحصل لك إنّما أجر الجروح الواردة على جروح سابقة .
بل الجرح على الجرح والطعنة على الطعنة ، والضربة على الضربة ، والرضّ بعد الرضّ .... إلخ ، فإنّ بدناً طوله سبعة أشبار إذا صار صدره هدفاً لأربعة آلاف سهم وبضعة وسبعين رمحاً ، لا يكون إلاّ كذلك ، فلتجرِ الدماء بدل الدموع ، ولتُقرح العيون حرى على الحسين الشهيد (عليه السّلام) .
كما إنّ أجر تأثر قلبك على قتله صبراً ، وأجر فيض الدموع من عينك ، إنّما هو أجر له لا لمجرد قتله ولا لأجل أنّه ذُبح كما يُذبح الكبش ، بل لأنّه (عليه السّلام) ذُبح بالضرب بالسيف كما يُذبح الكبش بالجر على نحره ، فيا لها من مصيبة ما أعظمها في السماوات والأرضين ، يا الله .
وأخيراً هناك ملاحظة من اللازم تبيانها وهو أنّه قد مرّ أنّ أعداء الإمام (عليه السّلام) بكوا عليه وجرت منهم الدموع ، ولكن ليس هذا بنافعهم في شيء ، أو منجيهم من عذاب محتوم ، وليس مجال كلامي الآن ما هو منشأ تلك الدموع وهم القساة الطغاة .
ولكن أقول : إنّ القران الكريم وهو الثقل الأكبر يخبرنا أنّه لا يزيد الظالمين أو المكذّبين أو ما شابه إلاّ خسارة وبعداً عن الله تعالى وضلالاً ، وهكذا أيضاً الحال مع دموع وبكاء هؤلاء المنافقين العتاة ، والحمد لله ربّ العالمين .
انتهى العنوان السادس

 



(1)لقد أشرنا فيما سبق أنّ هذا ليس حديثاً ، وإنّما هو قول يُنسب إلى العلامة الشيخ آل كاشف الغطاء (رحمه الله) . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(2) لم نعثر في موسوعاتنا الرواية على مثل هكذا حديث ، ولكن ورد عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال : (( إنّ الله سبحانه يجري الأمور على ما يقضيه لا على ما ترتضيه )) . (ميزان الحكمة ـ للريشهري 2 / 1095) . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(3)لم نعثر في موسوعاتنا الروائية على هذا النص ، ولكن ورد عن سكينة بنت الحسين (عليها السّلام) أنها قالت : لمّا قُتل الحسين (عليه السّلام) اعتنقته ، فاُغمي عليَّ ، فسمعته يقول :
شيعتي ما إن شربـتم     ريّ عذبٍ فاذكروني
أو سمعتم بغريبٍ    أو شهيد فاندبوني
(مستدرك الوسائل ـ للميرزا النوري 17 / 26 ب22 ح1) . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(4)يبدو أنّ المؤلّف قد اعتمد في نقل هذه الرواية على حافظته أو بعض مسموعاته ؛ إذ هي مروّية عن (زيد الشحّام) ، والمُخاطب فيها هو (جعفر بن عفّان الطائي) الذي قال له الإمام الصادق (عليه السّلام) : (( بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين (عليه السّلام) وتجيد )) . قال : نعم . فأنشده فبكى ومَنْ حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته ، ثم قال : (( يا جعفر ، والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون هاهنا يسمعون قولك في الحسين (عليه السّلام) ، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ، ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنة بأسرها وغفر لك )) . فقال : (( ألا أزيدك ؟ )) . قال : نعم يا سيدي . قال : (( ما من أحد قال في الحسين (عليه السّلام) شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له )) . (وسائل الشيعة ـ للحر العاملي 14 / 594 ب104 ح1) . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(5) كالمنتخب ـ للطريحي / 50 .
(6)تجدر الإشارة إلى أننا جئنا بهذه الرواية من كتاب الخصال ـ للشيخ الصدوق / 58 ح79 ؛ تفادياً لبعض الهنات والسقط اللَذين غلبا على رواية الأصل والتي ذكرها المؤلِّف . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(7) أي لا مجير .
(8) أي تتابع النفس وانقطاعه من شدّة الإعياء .
(9) أي يكسر ما يصيده .
(10)أي نديت حتّى ترشش نداها وابتلّت ، وسالت الدموع على صدره .
(11) والسخل : هو المولود المحبب إلى أبويه .
(12) أي رجيعها .
(13) أي المكبوب على وجهه .
(14) أي ملجأ لهم .
(15)ترقل : يعني تسرع .
(16)وهو موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية .
(17)يبدو أنّ المؤلِّف قد ذكر هذا الخبر مضموناً ؛ وذلك لأنّنا لم نعثر عليه في الموسوعات الروائية التي بين أيدينا . (موقع معهد الإمامين الحسنَين)
(18) كما جاء في اللهوف / 58 وغيره .
(19)انظر كتاب العوالم 17 / 102 ، ونقله العلاّمة المجلسي في البحار 44 / 243 روي مرسلاً .
(20) أي الملدوغ .
(21) الفَرَاش (بالفتح) : جمع فراشة ، وهو صغار البق يتهافت على النار .
(*)ورد البيت هنا بغير هذا النحو ، وفيه خلل عروضي ، وما أثبتناه من ثمرات الأوراق في المحاضرات ـ لابن حجة الحموي . (موقع معهد الإمامين الحسنين) .
(22)في منتخب الطريحي / 366 ، وبحار الأنوار 44 / 293 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

اللطميات

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page